کتاب الطهاره النجاسات و احکامها: من کتاب تفصیل الشریعه فی شرح تحریر الوسیله

اشارة

سرشناسه : فاضل موحدی لنکرانی، محمد، - 1310

عنوان و نام پديدآور : کتاب الطهاره النجاسات و احکامها: من کتاب تفصیل الشریعه فی شرح تحریر الوسیله/ بقلم محمد الموحدی اللنکرانی

مشخصات نشر : [قم]: محمد الموحدی اللنکرانی، 1409ق. = 1368.

مشخصات ظاهری : ص 492

شابک : بها:1500ریال

يادداشت : عنوان روی جلد: تفصیل الشریعه فی شرح تحریر الوسیله: النجاسات و احکامها.

یادداشت : کتابنامه بصورت زیرنویس

عنوان روی جلد : تفصیل الشریعه فی شرح تحریر الوسیله: النجاسات و احکامها.

عنوان دیگر : تفصیل الشریعه

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع : طهارت

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1279. تحریر الوسیله -- برگزیده

شناسه افزوده : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1280. تحریر الوسیله. شرح

رده بندی کنگره : BP183/9/خ8ت3023724 1368

رده بندی دیویی : 3422/297

شماره کتابشناسی ملی : م 68-950

[القول في النجاسات]

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

فصل في النجاسات و الكلام فيها و في أحكامها و كيفية التنجيس بها و ما يعفىٰ عنه منها

[مسألة 1 النجاسات إحدىٰ عشر]

اشارة

مسألة 1 النجاسات إحدىٰ عشر:

[الأوّل و الثاني: البول و الخرء من الحيوان ذي النفس السائلة غير مأكول اللحم]

اشارة

الأوّل و الثاني: البول و الخرء من الحيوان ذي النفس السائلة غير مأكول اللحم و لو بالعارض، كالجلال و موطوء الإنسان، امّا ما كان من المأكول فإنّهما طاهران، و كذا غير ذي النفس ممّا ليس له لحكم كالذباب و البق و أشباههما، و أمّا ما له لحم منه فمحلّ إشكال، و إن كانت الطهارة لا تخلو من وجه خصوصاً في الخرء كما انّ الأقوىٰ نجاسة الخرء و البول من الطير غير المأكول (1).

______________________________

(1) ينبغي قبل الورود في البحث عن الأعيان النجسة و تعدادها تقديم مقدّمة و هي:

انّ الظاهر كون النجاسة و القذارة في النجاسات العرفية و القذارات العقلائية أمر وجودي مرجعه إلى ثبوت خصوصية موجبة لاستكراه العقلاء و استقذارهم و تنفّرهم و انزجارهم كالبول و الغائط و النخامة، و أمّا الطهارة في غير القذارات العرفية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 4

..........

______________________________

الحجر و المدر فلا تكون أمراً وجودياً مضادّاً للنجاسة و القذارة، بل مرجعها إلى خلوّ الشي ء عن تلك الخصوصية و نقاوته عن تلك الجهة الموجبة للاستكراه فليست الطهارة أمراً وجودياً قائماً بذات الأشياء الطاهرة وراء أوصافها و أعراضها الذاتية بحيث لو صار شي ء بسبب الملاقاة مع القذر قذراً ثمّ زالت القذارة بمثل الغسل لحدث فيه أمر وجودي مسمّى بالطهارة و يؤيّد ما ذكرنا تفسير النظافة بالنقاوة في أكثر الكتب اللغوية، و من الواضح انّ معنى النقاوة هو انتفاء تلك الخصوصية المذكورة.

كما انّ الظاهر على ما حقّقه سيّدنا العلّامة الأستاد الماتن دام ظلّه في «رسالة النجاسات» عدم كون النجاسة من الأحكام الوضعية الشرعية للأعيان النجسة حتّى فيما هو قذر عند العرف كالبول و الغائط،

و عدم كونه أمراً انتزاعياً من الأحكام الشرعية المترتّبة عليها كوجوب الغسل و الاجتناب عنها في الصلاة، و عدم كونه أمراً واقعياً غير ما يعرفه الناس. غاية الأمر أنّه كشف الشارع عنها و رتّب عليها أحكاماً بل لها مصداقان: أحدهما حقيقي و هو الذي يستقذره العرف فإنّه لم يجعل الشارع له القذارة و لا يكون له اصطلاح خاص في القذر و النجس بل رتّب عليها أحكاماً، و ثانيهما اعتباري جعلي كالنجاسات الشرعية التي لا يستقذرها العرف فإنّه قد جعل الشارع لها النجاسة و اعتبرها لها و رتب عليها أحكاماً بعد جعل النجاسة و الإلحاق الموضوعي. غاية الأمر انّ الملاك في جعل القذارة لهذه الطائفة لا يكون واحداً فإنّ الظاهر انّ جعل القذارة لمثل الخمر انّما هو لأجل ثبوت المفسدة المهمة التي تكون في شربها فجعلها نجسة ليجتنب الناس عنها غاية الاجتناب، كما انّ الظاهر انّ جعل النجاسة للكفارة انّما هي لمصلحة سياسية هي تجنّب المسلمين عن معاشرتهم و مؤاكلتهم لا لقذارة فيهم و هكذا.

و يدلّ على ما استظهره دام ظلّه عدم التعبير عن القذارات العرفية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 5

..........

______________________________

بالنجس و مثله في شي ء من الأدلّة الشرعية و التعبير عن النجاسات الشرعية غير العرفية به فيها كما في المشركين المعبّر عنهم في الكريمة ب «نجس» أو لحم الخنزير المعبّر عنه فيها ب «رجس» و كذا في الرواية، و كما في الخمر المعبّر عنها في الرواية بالرجس و هكذا الكلب فإنّ التأمّل فيها يرشدنا إلى عدم افتقار الطائفة الاولى إلىٰ جعل النجاسة بعد ثبوتها لها عند العقلاء و ثبوت هذا الجعل في الطائفة الثانية من دون أن يقتصر

فيها على مجرّد ترتيب الأحكام من غير جعل النجاسة فتدبّر.

إذا عرفت ما ذكرنا يقع الكلام بعد ذلك في أنواع النجاسات و أجناسها فنقول:

الأوّل و الثاني: البول و الخرء في الجملة و نجاستهما من كل حيوان غير مأكول اللحم مع ثبوت النفس السائلة له ممّا لا خلاف فيه بل كادت أن تكون ضرورية عند المسلمين في الجملة بحيث إذا سُئل كل مسلم عن كل واحد من أبوال ما لا يؤكل لحمه يحكم بنجاسته و إن كان من الممكن أن يتردّد في الحكم الكلّي لو سُئل عنه و مع ذلك فلا بأس بنقل الروايات الواردة في المقام فنقول: امّا ما ورد منها في البول.

فمنها: رواية عبد اللّٰه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه. و في روايته الأُخرىٰ: اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه. و الظاهر انّهما رواية واحدة لاتحاد الراوي و المروي و المروي عنه و لذا لم ينقل الثانية في الحدائق بل اكتفى بذكر الاولىٰ، و تقريب الاستدلال انّ الأمر بغسل الثوب من تلك الأبوال يدلّ بالملازمة العرفية على نجاستها حيث إنّ إطلاق الأمر بغسل الثوب يدلّ علىٰ وجوبه و لو بعد زوال العين و جفافه، و لو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 6

..........

______________________________

لم يكن الأمر لأجل النجاسة بل لأجل المانعية عن الصلاة مستقلّة كعرق الجنب عن الحرام على قول قوي لما كان إطلاق الأمر بالغسل وجيهاً.

و منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن البول يصيب الثوب قال: اغسله مرّتين. و المراد من البول فيها امّا بول الإنسان فلا دلالة

لها حينئذٍ على نجاسة مطلق البول التي نحن بصدد إثباتها و أمّا طبيعة البول فتدلّ على المدّعى. غاية الأمر أنّه خرجت منها الأبوال الطاهرة و قد ورد بهذا المضمون روايات متعدّدة مذكورة في الوسائل في الباب الأوّل من أبواب النجاسات.

و أمّا ما وردت في الغائط:

فمنها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه أو موثقته قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يصلّي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أ يعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد. و دلالتها على نجاسة العذرة في الموارد المذكورة فيها بل و كونها مفروغاً عنها و مورد الشكّ هو الإعادة و عدمها واضحة لكن لا يثبت بها العموم المدعى كما لا يخفىٰ.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السّلام) إذ مرّ على عذرة يابسة فوطئ عليها فأصابت ثوبه، فقلت: جعلت فداك قد وطئت على عذرة فأصابت ثوبك فقال: أ ليس هي يابسة؟ فقلت: بلى، قال: لا بأس انّ الأرض يطهِّر بعضهاً بعضاً. و الاستدلال بها على عموم الحكم يتوقّف على أن يكون العذرة مدفوع مطلق الحيوان إنساناً أو غيره، طائراً أو غيره كما هو الظاهر من كلمات كثير من اللغويين حيث يستفاد منها عدم الفرق بين العذرة و الغائط و الخرء،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 7

..........

______________________________

و يؤيّده ما يظهر من جمع من الفقهاء في المكاسب المحرّمة من الجمع بين الروايات المختلفة الواردة في بيع العذرة بحمل الناهية منها علىٰ عذرة غير مأكول اللحم أو خصوص الإنسان و حمل المجوزة على غيرها فانّ ظاهرهم صحّة إطلاق العذرة على مطلق خرء الحيوان.

و

لكن يمكن الإيراد على ذلك أوّلًا بعدم ثبوت كون العذرة لغة بمعنى مطلق الخرء فإنّه يظهر من جماعة منهم الاختصاص بفضلة الآدمي مضافاً إلى قرب احتمال انصرافها إليها لو فرض كونها أعمّ لغة، و ثانياً انّه لا دلالة في الرواية على نجاسة مطلق العذرة فإنّ السؤال فيها دليل على كون مورده هي العذرة النجسة ضرورة انّه لا معنى للسؤال عن وطي العذرة الطاهرة و إصابتها الثوب كما هو ظاهر.

و منها: رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الرجل يطأ في العذرة أو البول أ يعيد الوضوء؟ قال: لا، و لكن يغسل ما أصابه. و الكلام فيها هو الكلام في الصحيحة المتقدّمة.

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن الفأرة و الدجاجة و الحمام و أشباهها تطأ العذرة ثمّ تطأ الثوب أ يغسل؟ قال: إن كان استبان من أثره شي ء فاغسله و إلّا فلا بأس. و نظيرها ما رواه أيضاً عن أخيه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة ثمّ تدخل في الماء يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا إلّا أن يكون الماء كثيراً قدر كرّ من ماء.

و قد انقدح من ذلك عدم تمامية الاستدلال بالروايات لعموم المدعى لكن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 8

..........

______________________________

الإجماع المحكي على ذلك بضميمة ارتكاز المتشرّعة على عدم الفرق بين البول و الغائط يكفي في ذلك و يؤيّده تعليق الحكم بعدم البأس بما يخرج من الحيوان في بعض الروايات على مأكولية اللحم و بعض المؤيّدات الأُخر. هذا في غير الطير.

و أمّا الطيور المحرّمة الأكل ففيها أقوال مختلفة:

أحدها: ما ذهب إليه

المشهور من نجاسة بولها و خرئها.

ثانيها: ما ذهب إليه العماني و الجعفي و الصدوق و جملة من المتوسطين و المتأخّرين كالعلّامة و صاحب الحدائق من طهارة مدفوعها مطلقاً.

ثالثها: ما ذهب إليه المجلسي و صاحب المدارك على ما حكى من التفصيل و الحكم بطهارة خرئها و التردّد في نجاسة بولها. و لا بدّ من ملاحظة الروايات الواردة في المقام فنقول:

منها: رواية عبد اللّٰه بن سنان المتقدّمة الدالّة على وجوب غسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه فإنّها بعمومها تدلّ علىٰ نجاسة أبوال الطيور المحرّمة أيضاً و بضميمة عدم القول بالفصل تثبت نجاسة خرئها أيضاً.

و منها: موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كلّ شي ء يطير فلا بأس ببوله و خرئه. و النسبة بين هذه الرواية و الرواية المتقدّمة عموم من وجه لأنّها أخصّ منها من جهة اختصاصها بالطير و عمومها لكل ما لا يؤكل طيراً كان أم غيره، و أعمّ منها من جهة عمومها لكل طير محللًا كان لحمه أم محرّماً فيقع بينهما التعارض في مادّة الاجتماع التي هي محل البحث في المقام و هو الطير الذي يكون أكل لحمه حراماً. نعم قد أفاد الماتن دام ظلّه في رسالة النجاسات انّه لا تعارض بينهما لثبوت الجمع العقلائي لأنّ الأمر بالغسل من بول

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 9

..........

______________________________

ما لا يؤكل من الطير الذي هو مقتضى الإطلاق الثابت في رواية عبد اللّٰه بن سنان أو العموم الثابت في روايته الأُخرى المشتملة على لفظة «كل» و إن كان فيها إرسال لعدم كون الراوي عن ابن سنان ممّن يمكن له النقل عنه حجّة على الإلزام و الوجوب ما

لم يرد الترخيص و نفي البأس ترخيص، و لو سلم ظهوره في الوجوب لغة يجمع بينهما بحمل الظاهر على النص، و التفكيك في مفاد الهيئة ممّا لا مانع منه سواء قلنا بأنّ مفادها هو البعث و الإغراء كما هو الحق أو قلنا بأنّ مدلولها هو الوجوب لأنّه بناءً على الأوّل قد استعملت في مفادها و على الثاني في مطلق الرجحان مع انّه يحتمل أن يكون المراد ممّا لا يؤكل لحمه في رواية ابن سنان ما لا يعد للأكل و لا يكون أكله متعارفاً لا ما يحرم أكله شرعاً بل لا يبعد دعوى ظهورها في ذلك فيضعف ظهورها في الوجوب حتّى يستفاد منها النجاسة و يؤيّد هذا الاحتمال بل يشهد له بعض الروايات كالروايات الآمرة بالغسل عن أبوال البهائم الثلاث مع معلومية عدم نجاستها من الصدر الأوّل خصوصاً في زمان الصادقين (عليهما السّلام) مع انّه لو أغمض عن ذلك و قيل بتعارض الروايتين و عدم شمول أدلّة العلاج للعامين من وجه كما هو الأقرب فالقاعدة تقتضي سقوطهما و الرجوع إلى أصالة الطهارة إلّا أن يقال بإطلاق الروايات الواردة في البول كصحيحة ابن مسلم المتقدّمة الدالّة على وجوب الغسل في مطلق البول و كذا إطلاق ما وردت في العذرة.

أقول: منشأ اختلاف الأقوال هو الاختلاف في المتقدّم من هاتين الروايتين فذهب القائلون بعدم الفرق بين الطيور و غيرها و هو القول المشهور على ما عرفت إلى ترجيح الاولى على الثانية بدعوى أنّها أشهر و أصحّ سنداً بل حكى عن العلّامة في التذكرة انّ أحداً لم يعمل برواية أبي بصير و عليه فلا محيص عن الأخذ بعموم الرواية الأُولى أو إطلاقها.

و أمّا القائلون بالطهارة فقد ذكروا انّه لا وجه

لتقديم الاولى على الثانية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 10

..........

______________________________

أمّا أوّلًا فلأنّ الشهرة الفتوائية لا تصلح للمرجحيّة إذ لم يعلم بل و لم يظنّ باستنادهم إليها في فتواهم حتّى يرجح بذلك سندها، و أمّا ثانياً فلأنّ الثانية صريحة في نفي البأس و كالصريحة في العموم أي عموم كل شي ء يطير بل يتعذّر ارتكاب التخصيص فيها بحملها على خصوص مأكول اللحم من الطير لأنّ تقييد الموضوع بوصف الطيران من غير أن يكون له مدخلية في الحكم و لا في إحراز موضوعه لكون المناط حلّية الأكل من غير فرق في ذلك بين الطير و غيره مستهجن عند العقلاء لأنّ الطير إن أُخذ مستقلا عنواناً للموضوع في مقام إعطاء القاعدة، و أمّا تخصيص الاولى فلا استهجان فيه عند العرف لأنّ مرجعه إلى وجوب غسل الثوب من جميع أبوال ما لا يؤكل لحمه إلّا الطيور، و التخصيص غير الموجب للاستهجان العرفي شائع حتّى قيل ما من عامّ إلّا و قد خصّ.

و استدلّ القائل بالتفصيل بين الخرء و البول في الطيور المحرّمة بالحكم بالطهارة في الأوّل و التردّد في الثاني بأنّ نجاسة الخرء في مطلق الحيوان غير المأكول إنّما ثبتت بعدم القول بالفصل و هو غير متحقّق في الطيور لوجود القول بالفصل فيها و عليه فلا مدرك لنجاسة خرء الطيور، مع انّ تعارض الروايتين انّما هو في البول لعدم اشتمال الاولى على حكم الخرء و المفروض صراحة الثانية في نفي البأس به فلا تعارض بينهما في الخرء أصلًا فلا موجب لرفع اليد عن الثانية الدالّة على طهارته، و أمّا التردّد في البول فللتردّد في تقديم إحدى الروايتين على الأُخرىٰ.

و الحقّ تقديم الثانية على

الاولى امّا لما أفاده دام ظلّه من صراحتها في عدم البأس و ظهور الاولى في الوجوب مطلقاً أو عند عدم الدليل على الترخيص كما عرفت من الرسالة، و أمّا لما ذكرنا من انّ تقديم الثانية على الاولى لا يوجب التخصيص المستهجن، و أمّا العكس فهو يوجب الاستهجان و لغويّة أخذ قيد الطيران

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 11

..........

______________________________

في موضوع الحكم. نعم رواية عمّار الآتية بظاهرها تعارض الرواية الثانية إلّا انّه حيث تدلّ هذه الرواية على عدم البأس بخرء مطلق الطير صريحاً و تلك الرواية تدلّ على ثبوت البأس في خرء ما لا يؤكل لحمه لا يبقى مجال لتقديمها عليها أيضاً لأنّ نفي البأس صريح في الطهارة و ثبوته ليس بصريح في النجاسة لملائمته مع استحباب الاجتناب أيضاً فلا إشكال في ترجيح الرواية الثانية إلّا انّ الكلام في إعراض الأصحاب عنها و عدمه و منشأ توهّم الإعراض عدم تحقّق الفتوى على طبقها من قدماء أصحابنا الإمامية رض و ما أفاده مثل العلّامة ممّا تقدّم و لكن الظاهر انّ عدم تحقّق الفتوى على طبقها لم يعلم كون الوجه فيه اطلاعهم على ثبوت خلل في الرواية فمن الممكن أن يكون الوجه ترجيحهم للرواية الأُولى عليها للأشهرية أو شبهها و لا شهادة في كلام العلّامة (قدّس سرّه) أيضاً على الإعراض و طرحهم للرواية فتدبّر فالإنصاف بعد ذلك كلّه انّ القول بالطهارة قوي.

نعم هنا رواية أشرنا إليها و هي ما نقله العلّامة في «المختلف» من كتاب عمّار بن موسى عن الصادق (عليه السّلام) قال: خرء الخطاف لا بأس به هو ممّا يؤكل لحمه و لكن كره أكله لأنّه استجار بك و آوى إلى

منزلك و كل طير يستجير بك فأجره. و قد استدلّ بها الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) بتقريب انّه (عليه السّلام) علّل عدم البأس بخرء الخطاف بأنّه ممّا يؤكل لحمه، و ظاهره انّ الخطاف لو لم يكن محلّل الأكل كان في خرئه بأس فالمناط في الحكم بطهارة الخرء هو حلية الأكل من دون فرق في ذلك بين الطيور و الحيوانات.

و أورد على الاستدلال بالرواية بعض الأعلام بأنّها ممّا لا يمكن الاعتماد عليه، امّا أوّلًا فلأنّ الشيخ نقلها بإسقاط كلمة «خرء» فمدلولها حينئذٍ انّ الخطاف لا بأس به و لا دلالة لها على حكم بوله و خرئه، و أمّا ثانياً فلأنّها على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 12

..........

______________________________

تقدير الاشتمال على كلمة الخرء لا تقتضي ما ذهب إليه لأنّه لم يثبت انّ قوله: «هو ممّا يؤكل لحمه» علّة للحكم المتقدّم عليه أعني عدم البأس بخرء الخطاف و من المحتمل أن يكون قوله هذا و ما تقدّمه حكمين بيّنهما الإمام (عليه السّلام) من غير صلة بينهما، ثمّ قال: «بل الظاهر انّه علّة للحكم المتأخّر عنه أعني كراهة أكله أي الخطاف يكره أكله لأنّه و إن كان ممّا يؤكل لحمه إلّا انّه يكره أكله لأنّه استجار بك و في جملة: «و لكن كره أكله ..» شهادة على انّ قوله: «هو ممّا يؤكل لحمه» مقدّمة لبيان الحكم الثاني».

أقول: أمّا الإشكال الأوّل فقد أوضحه سيّدنا الأستاذ دام ظلّه بعد حكايته عن الشيخ في باب المطاعم نقل الرواية من غير كلمة «خرء» بانّ احتمال كونها رواية أُخرى نقلها العلّامة و أهملها الشيخ في غاية البعد بل مقطوع الفساد. نعم يحتمل اختلاف النسخ فدار الأمر بين الزيادة و

النقيصة فإن قلنا بتقدّم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لدى العقلاء خصوصاً في المقام ممّا يظنّ لأجل بعض المناسبات وجود لفظ الخرء صحّ الاستدلال بها لكن إثبات بنائهم علىٰ ذلك مشكل بل إثبات بنائهم على العمل بمثل الرواية أيضاً مشكل و قد حرّر في محلّه انّه لا دليل على حجّية خبر الثقة إلّا بنائهم المشفوع بإمضاء الشارع.

و مع الغضّ عن الإشكال الأوّل لا مجال للإشكال الثاني بوجه لأنّ المتفاهم عند العرف من الرواية انّ جملة: «هو ممّا يؤكل لحمه» علّة لنفي البأس عن خرء الخطاف و لو كانت جملة مستقلّة لكان الأنسب أن يقال: «و هو ممّا يؤكل لحمه» مع الواو كما انّ جملة «لأنّه استجار بك» علّة لكراهة أكله، و ما أفاده من كون العلّة لكراهة الأكل هي جملة «ممّا يؤكل لحمه» غير صحيح لأنّ ما يلائم أن يكون علّة للكراهة في المقام هو استجارته به لا مأكولية لحمه ضرورة أنّ مأكولية اللحم يمكن أن يتوهّم كونها مانعة عن كراهة أكله و لذا قد دفعه الإمام (عليه السّلام) بذكر علّة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 13

..........

______________________________

الكراهة بأنّه استجار بك و آوى إلى منزلك فتدبّر.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا انّ الأقوى بحسب الأدلّة هو القول بالطهارة و إن كان الاجتناب هو مقتضى الاحتياط و لا بأس بذكر كلام المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) في المقام فإنّه بعد تقوية القول بالطهارة قال: لكن الذي أوقعنا في الريبة من هذا القول وضوح ضعف مستند المشهور و عدم صلاحيته للمعارضة مع الأصل فضلًا عن النص الخاصّ فيظنّ بذلك انّ استدلالهم بمثل هذه الأدلّة لم يكن إلّا من باب تطبيق الدليل

على المدعى لا استفادة المدعى من الدليل فالذي يغلب على الظنّ معهودية الكلّية أعني نجاسة البول و الخرء من كل ما لا يؤكل لحمه، لديهم و وصولها إليهم يداً بيد على سبيل الإجمال كجملة من أحكام النجاسات فلمّا أرادوا إثباتها بالبرهان تشبّثوا بمثل هذه الأدلّة القاصرة، و من خالفهم نظر إلى قصور الأدلّة لا إلى معهودية المدّعى التي ألجأهم إلى الاستدلال بها. انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

و أنت خبير بأنّ ما أفاده من وصول الحكم بالنجاسة إليهم يداً بيد و عدم استنادهم فيه إلى الأدلّة الواردة إلّا من باب تطبيق الدليل على المدعى لا استفادة المدعى من الدليل لا يكاد يتجاوز عن مجرّد الاحتمال و على تقدير بلوغه إلى مرتبة الظنّ بل الغالب عليه لا دليل على اعتباره بعد وجود النصّ الخاصّ الدالّ على الطهارة و ثبوت الأُصول المعتبرة إلّا أن يثبت الإعراض أوّلًا و كون الإعراض موهناً ثانياً و الأوّل غير ثابت و لو سلمنا الثاني.

بقي في هذه المسألة أُمور:

الأمر الأوّل: قد صرّح في المتن بشمول الحكم بنجاسة البول و الخرء لغير المأكول بالعارض أيضاً كالجلال و موطوء الإنسان و المرتضع من لبن الخنزيرة إلى أن يشتدّ عظمه و منشأ التعميم أحد أُمور:

الأوّل: دعوى الإجماع على النجاسة من جماعة الفقهاء رضوان اللّٰه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 14

..........

______________________________

تعالى عليهم أجمعين كصاحب الغنية حيث ادّعى الإجماع على ما حكي عنه على نجاسة خرء مطلق الجلال و بوله، و عن المختلف و التنقيح و المدارك و الذخيرة الإجماع على نجاسة ذرق الدجاج الجلال، و عن التذكرة و المفاتيح نفي الخلاف عن إلحاق الجلال من كل

حيوان و الموطوء بغير المأكول في نجاسة البول و العذرة.

و أنت خبير بعدم تمامية هذا الوجه لعدم اتصاف الإجماع على تقدير ثبوته بالأصالة بل من المحتمل لولا الظاهر كون مستندهم هو الأدلّة اللفظية الآتية لأنّه من البعيد وصول شي ء آخر إليهم غير ما وصل إلينا.

الثاني: دعوى كون المراد من عنوان «ما لا يؤكل لحمه» في مثل رواية عبد اللّٰه بن سنان المتقدّمة هو كون الموضوع نفس هذا العنوان فهو علّة للحكم بوجوب الغسل و من الواضح شموله لما لا يؤكل بالعارض أيضاً.

و فيه انّ الظاهر كون هذا العنوان مشيراً إلى الذوات الخارجية و الأنواع المحرّمة بالأصل فهو عنوان انتزاعي جامع بينها و ليس له مدخلية في الحكم بل الموضوع هو ذوات تلك الأنواع و عناوينها و يشهد لذلك مضافاً إلى الظهور العرفي أولًا و إلى انّ عدم الظهور في الخلاف يكفي لسقوط الاستدلال ثانياً رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل يمسّه بعض أبوال البهائم أ يغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار و الفرس و البغل فأمّا الشاة و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله. فإنّه يظهر منها انّ الموضوع في الطرفين هي العناوين الأوّلية الثابتة للأنواع لا العنوان العام الانتزاعي كما هو غير خفي. و قد وقع نظير هذا الكلام في موثقة ابن بكير المعروفة الواردة في الصلاة الدالّة على النهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 15

..........

______________________________

الثالث: ما ورد ممّا يدلّ على غسل عرق الجلال بضميمة أولوية البول و الخرء من العرق فإذا كان عرقه نجساً فنجاستهما بطريق أولىٰ.

و

فيه مضافاً إلى انّ نجاسة عرق الجلال بنحو العموم محلّ إشكال و سيأتي الكلام فيه انّ الأولوية ممنوعة و القياس محرم.

الرابع: إطلاق صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة الظاهرة في نجاسة مطلق البول و القدر المتيقّن من الخروج هو بول المأكول بالفعل، و أمّا المأكول الذي عرض له وصف التحريم فلا دليل علىٰ خروجه من إطلاق الصحيحة أصلًا.

و فيه انّ الدليل على الخروج هي إطلاق الأدلّة الآتية الظاهرة في طهارة بول العناوين المحلّلة و الأنواع التي تكون بالذات كذلك فلا وجه للاقتصار على القدر المتيقّن، مع انّك عرفت قوّة احتمال كون المراد من البول في مثلها هو بول الإنسان للانصراف إليه فتدبّر.

نعم لا وجه للاستشهاد على الطهارة بتعارض دليل النجاسة الظاهر في ثبوتها لعنوان غير المأكول أصلياً كان أم عارضيا مع دليل طهارة البول و الخرء في مثل الغنم و البقر تعارض العموم من وجه فيرجع بعد التساقط إلى استصحاب الطهارة أو قاعدتها.

فإنّه يرد عليه وضوح عدم التعارض و تقدّم الأوّل على الثاني بنحو الحكومة لتقدّم الدليل الوارد في العنوان الانتزاعي الزائد على الذات على الدليل الوارد في العنوان الأوّلي كما هو ظاهر.

و يؤيّد ما ذكر من عدم الوجه لتعميم النجاسة انّ اللازم بناءً عليه خصوصاً على الوجه الثاني من الوجه الأربعة الالتزام بطهارة البول و الخرء من الحيوان المحرم بالذات المحلّل بالعرض كما إذا صار حلالًا بسبب الاضطرار و نحوه مع انّه مشكل جدّاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 16

..........

______________________________

و يمكن دفع هذا الإشكال بما دفع به عكس مورد الفرض و هو ما إذا كان الحيوان حراماً للضرر أو الغصب أو النذر أو نحو ذلك فإنّه لا مجال لتوهّم

النجاسة في أمثال ذلك مع أنّها محرّمة الأكل بالعنوان الثانوي نظير عنوان الجلل و الموطوئية للإنسان، و دفع الإشكال هو ثبوت الفرق فإنّ هذه العناوين لا توجب صيرورة الحيوان محرماً بنحو تكون الحيوانية دخيلة في الموضوع ضرورة انّ التصرّف في المغصوب بما هو مغصوب حرام لا بما انّه حيوان و هذا بخلاف مثل الجلل فانّ الموضوع للحكم بالحرمة هو الحيوان الجلال و الحيوان الذي صار موطوء الإنسان، و في المقام يقال إنّ الاضطرار لا يوجب حلّية الحيوان بل موضوعها هو عنوان ما اضطرّوا إليه بلا دخل للحيوانية فيه أصلًا فلا مجال للإشكال أصلًا لكن الكلام في أصل الدليل على النجاسة و إن شيئاً من الوجوه المذكورة غير تامّ يبقى على حاله.

الأمر الثاني: لا ينبغي الإشكال في طهارة البول و الغائط من حلال اللحم للإجماع بل الضرورة في الجملة و يدلّ عليه أيضاً روايات كثيرة.

منها: موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كلّما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه.

و منها: صحيحة زرارة أو حسنته انّهما قالا: لا تغسل ثوبك من بول شي ء يؤكل لحمه. و النهي عن الغسل إرشاد إلى عدم النجاسة.

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه المتقدّمة. الدالّة على انّ الشاة و كل ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 17

..........

______________________________

و منها: رواية أبي البختري عن جعفر عن أبيه انّ النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) قال: لا بأس ببول ما أُكل لحمه.

و بالجملة: الطهارة في مثل الشاة و نحوها ممّا يكون معدّاً للأكل و يتعارف أكله ممّا لا ينبغي الإشكال فيه. نعم في خصوص خرء الدجاجة حكى عن

المفيد و الشيخ القول بنجاسته و لعلّه للاستناد إلى رواية فارس قال: كتبت إليه: رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب: لا. مع وضوح انّه لو كان خرء الدجاجة نجساً لصار من الضروري بعد شدّة الابتلاء به في جميع الأزمنة و الأمكنة، و أمّا الرواية فمردودة إلى راويها فارس الذي وصِف بأنّه الكذّاب اللعين المختلط الحديث و شاذه و قد قتل بأمر أبي الحسن (عليه السّلام) كما هو المروي.

و أمّا الحيوانات المحلّلة التي لا يتعارف أكل لحومها كالخيل و البغال و الحمير فقد ذهب المشهور إلى طهارة أبوالها و أرواثها و خالفهم في ذلك من المتقدّمين ابن الجنيد و الشيخ في بعض كتبه و من المتأخّرين الأردبيلي فذهبوا إلى نجاستهما منه» و اختار صاحب الحدائق نجاسة أبوالها دون أرواثها.

و منشأ الاختلاف هو اختلاف الأخبار الواردة فيها؛ ففي صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة قد أمر بالغسل من بول الحمار و الفرس و البغل، و مقتضى الفهم العرفي انّ الأمر بالغسل إرشاد إلى النجاسة.

و في موثقة سماعة قال: سألته عن أبوال السنور و الكلب و الحمار و الفرس قال: كأبوال الإنسان.

و في رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا بأس بروث الحمير و اغسل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 18

..........

______________________________

أبوالها. و هذه الرواية صريحة في التفصيل بين الروث و البول، و أمّا السابقتان فلا تعرض فيهما لحكم الروث أصلًا لو لم نقل باحتمال كون ذكر البول من باب المثال و المقصود مطلق ما يخرج منها و في مقابل هذه الأخبار وردت روايتان تدلّان على طهارتهما:

إحداهما: رواية أبي الأغر النخاس قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام):

إنّي أعالج الدواب فربّما خرجت بالليل و قد بالت و راثت فيضرب أحدها برجله، أو يده فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه؟ فقال: ليس عليك شي ء. و الظاهر انّ المراد بالدابة عند الإطلاق الخيل و أخواتها.

ثانيتهما: رواية معلى بن خنيس و عبد اللّٰه بن أبي يعفور قالا: كنّا في جنازة و قدامنا حمار فقال فجاءت الريح ببوله حتّى صكّت وجوهنا و ثيابنا و دخلنا على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) فأخبرناه؟ فقال: ليس عليكم بأس.

و هاتان الروايتان و إن قيل بضعفهما إلّا انّه ينجبر بعمل الأصحاب و اعتماد المشهور عليهما فتعارضان مع الأخبار الدالّة على النجاسة بالنسبة إلى الأبوال، و أمّا الأرواث فلا دلالة لشي ء من الأخبار على نجاستها بل قد صرّح في رواية الحلبي المتقدّمة بنفي البأس عن روث الحمير فمورد المعارضة هي الأبوال فقط. فحينئذٍ نقول: يمكن الجمع بين الطائفتين بحمل الأخبار الآمرة بالغسل عن أبوالها على حكم استحبابي لكونها ظاهرة في الحكم الوجوبي و صراحة أخبار الطهارة فيها فهي قرينة على التصرّف في تلك الأخبار و حملها على خلاف ظاهرها سيّما على مبنى الماتن دام ظلّه من كون ظهور الأمر في الإلزام و الوجوب معلّقاً على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 19

..........

______________________________

عدم الترخيص في الترك، و نتيجة هذا الحمل هو التفصيل بين البول و الروث بالحكم باستحباب الغسل في الأوّل دون الثاني، هذا بالنسبة إلى غير الموثقة من أخبار النجاسة، و أمّا هي فتكون صريحة في النجاسة للتشبيه بأبوال الإنسان فيها أولًا و جعلها في رديف بول الكلب و السنّور ثانياً فيشكل الأمر في الموثّقة لمعارضتها مع أخبار الطهارة و الحق تقديم أخبار الطهارة

عليها للشهرة الفتوائية على طبقها التي تكون أوّل المرجحات في باب التعارض و تأيّدها بذيل موثقة ابن بكير حيث قال (عليه السّلام): يا زرارة هذا عن رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) فاحفظ ذلك يا زرارة فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شي ء منه جائز إلى أن قال: و إن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله و حرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شي ء منه فاسد ذكاه الذبح أو لم يذكه.

و الذي يسهل الخطب و يوجب الاطمئنان بالطهارة أنّها مع هذا الابتلاء الكثير المشاهد بها خصوصاً في بلاد الأعراب و لا سيما في تلك الأعصار لو كانت نجسة لصارت من الضروريات و الواضحات لدى المسلمين بحيث لم يشكّ أحد فيها و لم ينحصر المخالف في طهارتها بابن الجنيد و الشيخ كما هو ظاهر.

الأمر الثالث: قد وقع الخلاف بين الأصحاب في نجاسة الأبوال و الأرواث ممّا لا يؤكل لحمه إذا لم تكن له نفس سائلة كالأسماك المحرّمة و نحوها فذهب المشهور إلى طهارة بوله و خرئه، و نقل عن العلّامة انّه تردّد في بعض كتبه و قد أفتىٰ في المتن بالطهارة إذا لم يكن له لحم كالبق و الذباب و استشكل فيما إذا كان له لحم و إن مال إلى الطهارة خصوصاً في خرئه.

و الكلام في مستند المشهور لأنّ مقتضى عموم ما دلّ على نجاسة بول غير المأكول أو إطلاقه انّه لا فرق فيما لا يؤكل لحمه بين ما له نفس سائلة و بين ما

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 20

..........

______________________________

ليس له نفس كذلك فلا بدّ

في إخراج ما لا نفس له من ذلك العموم أو الإطلاق من إقامة الدليل عليه، نعم طهارة خرء ما لا نفس له ممّا لا يحتاج إلى الدليل لعدم عموم أو إطلاق يدلّ على نجاسة خرء ما لا يؤكل لحمه بخلاف البول لقيام الدليل على نجاسته كذلك و هو روايات أظهرها رواية عبد اللّٰه بن سنان المتقدّمة، و حينئذٍ لا بدّ لنا من إقامة الدليل على خروج البول فيما لا نفس له فنقول:

قد يتمسّك في ذلك بالانصراف بدعوى انّ لفظة «البول» منصرفة عمّا يخرج من الحيوان الذي لا نفس له فإنّ ما يخرج من مثله مجرّد مائع يترشّح منه و لا يطلق عليه عنوان البول.

و فيه انّ سيلان الدم و عدمه لا مدخلية له في إطلاق اسم البول على ما يخرج منه و عدمه كما هو غير خفي.

و قد يتمسّك في ذلك بموثقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السّلام) قال: لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة. بتقريب انّ الرواية تدلّ بإطلاقها على عدم تنجّس الماء ببول ما لا نفس له كذلك و لا بدمه و لا بميتته و لا بغيرها ممّا يوجب نجاسة الماء إذا كانت له نفس سائلة.

و فيه أنّها منصرفة إلى الميتة ممّا لا نفس له و لذا ذكرها الأصحاب في باب عدم نجاسة الميتة ممّا لا نفس له، و يرشدك إلى اختصاصها بالميتة مضافاً إلى الانصراف إضافة الإفساد و عدمه إلى ذات ما كانت له نفس سائلة لا إلى مثل ما يخرج منه فتأمّل.

و التحقيق انّ ما لا نفس له من الحيوانات المحرّمة على قسمين: الأوّل ما لا لحم له أصلًا كالذباب و النملة و

البق، الثاني ما كان له لحم معتدّ به. غاية الأمر انّه يحرم أكله، و ما يدلّ على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه منصرف عن القسم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 21

..........

______________________________

الأوّل لأنّ المفروض عدم وجود لحم له حتّى يحرم و قد فرض في موضوع تلك الأدلّة وجود حيوان له لحم غاية الأمر اتصافه بالحرمة، فما ليس له لحم أصلًا لا يكون مشمولًا لتلك الأدلّة بوجه، و أمّا القسم الثاني فقد عرفت انّ طهارة الخرء فيه لا تحتاج إلى الدليل لعدم عموم أو إطلاق يدلّ على نجاسة خرء ما لا يؤكل لحمه و أمّا البول فمقتضى عموم الدليل الشمول و إن كانت دعوى الانصراف غير بعيدة فتدبّر جيّداً.

الأمر الرابع: قد حكى الخلاف في نجاسة بول الرضيع عن ابن الجنيد فإنّه قال: «بول البالغ و غير البالغ من الناس نجس إلّا أن يكون غير البالغ صبياً ذكراً فإنّ بوله و لبنه ما لم يأكل اللحم ليس بنجس» و الظاهر منه نجاسة لبنه إذا أكل اللحم مع انّه غريب جدّاً كما انّ التقييد بأكل اللحم أيضاً كذلك لكن عن المدارك حكاية «الطعام» بدل «اللحم» عنه.

و كيف كان إن كان مراد القائل بعدم النجاسة عدم كونه نجساً بوجه بحيث لا يحتاج إلى الغسل و إلى الصبّ أصلًا فيرده مضافاً إلى الروايات الكثيرة المتقدّمة الواردة في البول الدالّة على وجوب الغسل فإنّها و إن كانت منصرفة احتمالًا عن بول غير الإنسان إلّا انّ دعوى الانصراف عن بول الطفل سيّما الذكر منه كما هو المدعى ممنوعة جدّاً. نعم لا بأس بدعوى الانصراف عن مطلق الإنسان في الروايات الآمرة بغسل بول ما لا يؤكل

لحمه كما هو غير خفي الروايات الخاصة الآمرة بالغسل تارة كموثقة سماعة قال: سألته عن بول الصبي يصيب الثوب؟ فقال: اغسله، قلت: فإن لم أجد مكانه؟ قال: اغسل الثوب كلّه. و بالصبّ و العصر أُخرى كصحيحة الحسين بن أبي العلاء في حديث قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الصبي يبول على الثوب؟ قال: تصبّ عليه الماء قليلًا ثمّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 22

..........

______________________________

تعصره. و المفصلة ثالثة كصحيحة الحلبي أو حسنته قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن بول الصبي؟ قال: تصبّ عليه الماء فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلًا و الغلام و الجارية في ذلك شرع سواء.

و إن كان مراد القائل بعدم النجاسة عدم كونه كسائر النجاسات بحيث يحتاج إلى الغسل بل يكفي فيه الصبّ فقط فإن كان المراد انّ الصبّ كاشف عن عدم النجاسة رأساً خصوصاً بعد عدم وجوب العصر مطلقاً أو في خصوص المقام كما يأتي في محلّه فالجواب منع الكشف و الصبّ دليل على النجاسة و لا يكون حكماً تعبّدياً غير مرتبط بباب التطهير و التغسيل.

و إن كان المراد ثبوت النجاسة غاية الأمر كفاية الصبّ و عدم لزوم الغسل فنقول لا مانع منه بعد حمل الرواية الدالّة على لزوم الغسل على الصبّ بقرينة الرواية الدالّة على كفاية الصبّ فإنّ الصبّ أيضاً نوع من الغسل و إن أبيت إلّا عن المباينة بينهما فاللازم التفصيل على طبق الرواية المفصّلة و لا يبقى فرق حينئذٍ بين الغلام و الجارية.

و أمّا ما ورد في قضية الحسنين (عليهما السّلام) في رواية الراوندي و الجعفريات عن علي (عليه السّلام) من عدم غسل رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه

عليه و آله) ثوبه من بولهما قبل أن يطعما فلا تنافي ما دلّ على وجوب الصبّ لانصراف الغسل إلى ما يتعارف من انفصال الغسالة و الشاهد عليه ما رواه الصدوق في معاني الأخبار من انّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) أتى بالحسن بن علي فوضع في حجره فبال، فقال: لا تزرموا ابني ثمّ دعا بماء فصبّ عليه. و لا يبعد أن تكون القضية واحدة بل ورد في مولانا الحسين (عليه السّلام) شبه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 23

[مسألة 2 لو شكّ في خرء حيوان انّه من مأكول اللحم أو محرمة]

مسألة 2 لو شكّ في خرء حيوان انّه من مأكول اللحم أو محرمة امّا من جهة الشكّ في ذلك الحيوان الذي هو خرئه، و أمّا من جهة الشكّ في انّ هذا الخرء من الحيوان الفلاني الذي يكون خرئه نجساً أو من الذي يكون طاهراً كما إذا رأى شيئاً لا يدري انّه بعرة فأرة أو خنفساء فيحكم بالطهارة، و كذا لو شكّ في خرء حيوان انّه ممّا له نفس سائلة أو من غيره ممّا ليس له لحم كالمثال المتقدّم، و أمّا لو شكّ في انّه ممّا له نفس أو من غيره ممّا له لحم بعد إحراز عدم المأكولية ففيه إشكال كما تقدّم و إن كانت الطهارة لا تخلو من وجه (1).

______________________________

القضية فقال: مهلًا يا أُمّ الفضل فهذا ثوبي يغسل و قد أوجعت ابني. و في رواية: «فقال (صلّى اللّٰه عليه و آله): مهلًا يا أُمّ الفضل انّ هذه الإراقة، الماء يطهّرها فأيّ شي ء يزيل هذا الغبار عن قلب الحسين» مع ظهور كون هذه الروايات غير قابلة للركون عليها في إثبات الحكم.

و أمّا رواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما

السّلام) انّ عليّاً (عليه السّلام) قال: لبن الجارية و بولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم لأنّ لبنها يخرج من مثانة أُمّها و لبن الغلام لا يغسل منه الثوب و لا من بوله قبل أن يطعم لأنّ لبن الغلام يخرج من العضدين و المنكبين. فمضافاً إلى مخالفتها للإجماع من جهة الحكم بنجاسة لبن الجارية و للاعتبار معارضة لصحيحة الحلبي المتقدّمة الدالّة بالصراحة على التسوية بين الغلام و الجارية، مع انّ عدم وجوب الغسل في الغلام لا ينافي وجوب الصبّ لدلالة الدليل عليه كما هو غير خفي.

فانقدح من جميع ذلك عدم إمكان إقامة الدليل على مدعى ابن الجنيد بوجه.

(1) في هذه المسألة فروع:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 24

..........

______________________________

الأوّل: لو شكّ في خرء حيوان انّه من مأكول اللحم أو محرمة من جهة الشكّ في ذلك الحيوان الذي هو خرؤه و له صورتان:

الاولى: كون الشكّ في ذلك الحيوان من قبيل الشبهة الحكمية كالمتولِّد من المأكول و غيره مع عدم شباهته بواحد منهما و عدم صدق شي ء من الاسمين عليه.

الثانية: كون ذلك الشكّ من قبيل الشبهة الموضوعية كما إذا شككنا في انّ الحيوان الموجود الذي نشكّ في خرئه غنم أو كلب و لم يعلم عنوانه لظلمة و نحوها و الحكم في الصورتين هي طهارة الخرء لجريان قاعدة الطهارة بعد عدم شمول دليل النجاسة لكونها ثابتة على عنوان «ما لا يؤكل لحمه شرعاً» و هو غير محرز في المقام على ما هو المفروض، نعم لو كان الشكّ من قبيل الشبهة الحكمية يكون الحكم بالطهارة متوقّفاً على الفحص عن حال الحيوان و حكمه كما هو الشأن في جميع الأُصول الجارية في الشبهات الحكمية. و

أمّا الصورة الثانية فلا يحتاج إلى البحث و الفحص أصلًا بل تجري القاعدة من دون توقّف على شي ء.

نعم هنا إشكال قد أورد على من جمع بين الحكم بالطهارة في هذا الفرع و بين عدم جواز أكل اللحم فيه كالسيّد (قدّس سرّه) في «العروة» بتقريب انّه كيف يمكن الجمع بين الأمرين مع انّ النجاسة قد رتّبت على حرمة الأكل فمع ثبوتها لا مجال للحكم بالطهارة.

و الجواب ظاهر فانّ المراد من الحرمة المعلّقة عليها النجاسة هي خصوص الحرمة الواقعية الثابتة على بعض الحيوانات بعناوينها و في نفسه لا الأعمّ منها و من الحرمة الظاهرية الثابتة بالاستصحاب و نحوه كما في المقام ضرورة انّ الحرمة على تقدير ثبوتها انّما يكون منشأها استصحاب الحرمة الثابتة في حال حياة الحيوان و أين هي من الحرمة الواقعية الثابتة بعد الموت المتفرّعة عليها نجاسة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 25

..........

______________________________

البول و الخرء كما هو واضح.

إن قلت: الروايات الدالّة بعمومها على نجاسة مطلق البول و إن خصّصت ببول ما يؤكل لحمه إلّا انّ استصحاب عدم جعل الحلّية للحيوان المذكور يقتضي كونه من الافراد الباقية تحت العام لأنّ الخارج و هو الحيوان المحلّل يحرز عدمه بالاستصحاب فهذا الحيوان ممّا لا يؤكل لحمه بمقتضى الاستصحاب المذكور فيحكم بدخوله تحت العمومات الواردة و مقتضاها نجاسة بوله و خرئه.

قلت: ليس لنا عموم يدلّ على نجاسة جميع الأبوال و قد خصّصت ببول ما لا يؤكل لحمه. نعم هناك مطلقات واردة في ذلك و التمسّك بها لإثبات نجاسة مطلق البول مخدوش: من جهة قوّة احتمال انصرافها إلى بول الإنسان أوّلًا، و من جهة كونها في مقام بيان شي ء آخر دون أصل النجاسة

كوقوعها في مقام الجواب عن السؤال عن كيفية تطهير الثوب الذي أصابه البول بعد الفراغ عن أصل نجاسته ثانياً فلا مجال لدعوى وجود الإطلاق أيضاً، و على ما ذكرنا لا حاجة إلى ما ذكره بعض الأعلام في مقام الجواب عن الإشكال من انّ الحلية لا تكون من المجعولات الشرعية حتّى يجري فيها الاستصحاب مع إمكان المناقشة فيه بعدم الفرق بين الحلّية الظاهرية و الواقعية فكما انّ الاولى مجعولة بمقتضى قاعدة الحلّية كذلك الثانية مع ظهور الأدلّة في جعلها أيضاً كقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ «1»، و قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ «2»، و قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ «3»، و دعوى اختصاص جريان مثل الاستصحاب بالمجعولات

______________________________

(1) المائدة: 96.

(2) المائدة: 5.

(3) المائدة: 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 26

..........

______________________________

الإلزامية و عدم جريانها في المجعولات الترخيصية قد حقّق في محلّه بطلانها، هذا مضافاً إلى انّ ذلك على فرض التمامية يجري في البول دون الخرء لعدم وجود عموم أو إطلاق فيه أصلًا كما عرفت.

نعم يبقى الكلام في وجه الحكم بعدم جواز أكل اللحم مع طهارة الخرء و كذا البول و قد عرفت انّ الشكّ تارة من جهة الشبهة الحكمية و أُخرى من جهة الشبهة الموضوعية و على التقديرين قد يعلم كون الحيوان قابلًا للتذكية و قد يشكّ في ذلك فالصور أربعة:

الأُولى: ما إذا كانت الشبهة حكمية مع العلم بكون الحيوان قابلًا للتذكية كالشكّ في حرمة لحم الأرنب مثلًا.

الثانية: ما إذا كانت الشبهة موضوعية مع العلم باتّصاف الحيوان بالقابلية لها كالشكّ في كون الحيوان شاةً أو ذئباً مثلًا لاشتباه حاله، و في هاتين الصورتين قد ذهب جماعة

من المحقّقين إلى حرمة أكل اللحم و الظاهر انّ مستندها استصحاب الحرمة الثابتة على الحيوان حال الحياة و قبل ذبحه.

و الحقّ عدم جريان هذا الاستصحاب.

امّا أوّلًا: فلأنّه يتوقّف على ثبوت حرمة لحمه في حال الحياة مع انّه لا دليل عليها، و حرمة القطعة المبانة من الحيّ انّما هي لأجل كونها ميتة و الكلام في أكل الحيوان حيّاً كابتلاع السمكة الصغيرة الحيّة.

و أمّا ثانياً: فلأنّ الحرمة على تقدير ثبوتها حال الحياة يكون منشأها انّ الحيوان غير مذكّى، و بعد وقوع التذكية عليه كما هو المفروض يتبدّل عنوان غير المذكّى إلى المذكّى فلا وجه لبقاء ذلك الحكم، و بعبارة اخرىٰ: القضية المتيقّنة يكون موضوعها الحيوان الحيّ بحيث يكون قيد الحياة داخلًا في الموضوع، و أمّا القضيّة المشكوكة فموضوعها الحيوان المذكّى و عليه فشرط

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 27

..........

______________________________

جريان الاستصحاب و هو اتحاد القضيتين غير متحقّق فلا مجال له أصلًا.

الثالثة: ما إذا كانت الشبهة حكمية مع الشكّ في كون الحيوان قابلًا للتذكية، و الحق فيها أيضاً عدم جريان الاستصحاب أي استصحاب عدم التذكية، لأنّ التذكية كما قال به المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) عبارة عن فري الأوداج مع سائر الشرائط عن خصوصية في الحيوان، غاية الأمر انّه لا يجوز استصحاب عدم تلك الخصوصية لعدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية خلافاً للمحقّق المذكور لعدم اتّحاد القضيتين و اختلافهما بالسلب بانتفاء الموضوع و السلب بانتفاء المحمول و وضوح المغايرة بين السالبتين، و تفصيل الكلام موكول إلى محلّه و عليه فالمرجع أيضاً قاعدة الحلّية.

الرابعة: ما إذا كانت الشبهة موضوعية مع الشكّ في كونه قابلًا للتذكية كما إذا وجدت قطعة لحم في محل و لا

يعلم كونها مذكاة أم لا، و الحق فيها جريان استصحاب عدم التذكية و الحكم بالحرمة و انّه لا إشكال فيه.

إن قلت: الحرمة قد علقت على كون الحيوان ميتة لا كونه غير مذكّى لقوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ .. «1» فلا يثبت باستصحاب عدم التذكية حرمة الأكل لعدم ثبوت عنوان «الميتة» به.

قلت: الدليل لا يكون منحصراً بالآية الشريفة فإنّ الإجماع قائم على حرمة أكل الحيوان غير المذكّى كما هو ظاهر فلا مانع من جريان الاستصحاب و الحكم بالحرمة. هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل.

الفرع الثاني: لو شكّ في خرء حيوان انّه من مأكول اللحم أو محرمة من جهة الشكّ في انّ هذا الخرء من الحيوان الفلاني الذي يكون خرؤه نجساً أو من الذي يكون طاهراً كما إذا رأى شيئاً لا يدري انّه بعرة فأر أو خنفساء،

______________________________

(1) المائدة: 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 28

..........

______________________________

و الحكم فيه الطهارة لقاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية بلا إشكال.

الفرع الثالث: لو شكّ في خرء حيوان انّه ممّا له نفس سائلة أو من غيره ممّا ليس له لحم كالمثال المتقدّم و الحكم فيه أيضاً الطهارة لما ذكر و قد عرفت انّه لا حاجة في إجراء قاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعية إلى الفحص كما هو المشهور و لكن يظهر من صاحب الجواهر (قدّس سرّه) نوع ترديد في ذلك قال: «بقي شي ء بناء على اعتبار هذا القيد أي كونه من ذي النفس و هو انّ مجهول الحال من الحيوان الذي لم يدر أنّه من ذي النفس أم لا يحكم بطهارة فضلته حتّى يعلم انّه من ذي النفس للأصل و استصحاب طهارة الملاقي

و نحوه، أو يتوقّف الحكم بالطهارة على اختباره بالذبح و نحوه لتوقّف امتثال الأمر بالاجتناب عليه و لأنّه كسائر الموضوعات التي علّق الشارع عليها أحكاماً كالصلاة للوقت و القبلة و نحوهما، أو يفرق بين الحكم بطهارته و بين عدم تنجيسه للغير فلا يحكم بالأوّل إلّا بعد الاختبار بخلاف الثاني للاستصحاب فيه من غير معارض و لأنّه حينئذٍ كما لو أصابه رطوبة متردّدة بين البول و الماء؟ وجوه لم أعثر على تنقيح منها في كلمات الأصحاب».

و فيه انّه لا فرق بين هذه الشبهة و سائر الشبهات الموضوعية في عدم لزوم الفحص لإطلاق الدليل أعني قوله (عليه السّلام): «كل شي ء نظيف ..» و قياس المقام بالقبلة و الوقت قياس مع الفارق لأنّهما من قيود المأمور به و مع الإتيان بالصلاة بهذه الكيفية التي يشكّ في تحقّق بعض قيودها لم يحرز إتيان المأمور به مع كون التكليف معلوماً أوّلًا و واحداً ثانياً و هذا بخلاف المقام فإنّ نجاسة فضلة كلّ ما لا يؤكل لحمه فلها حكم مستقلّ و مانعية كذلك فإذا وجد في الخارج شي ء و صدق عليه انّه بول ما لا يؤكل لحمه مثلًا يترتّب عليه حكمه و إذا شككنا في ذلك فلا محالة نشكّ في نجاسته في توجه أصل التكليف بالاجتناب إلينا و الأصل الجاري في المقام الطهارة بلحاظ حكمه الوضعي و البراءة بالإضافة إلى الحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 29

[الثالث: المني من كل حيوان ذي نفس]

الثالث: المني من كل حيوان ذي نفس حلّ أكله أو حرم دون غير ذي النفس فإنّه منه طاهر 1.

______________________________

التكليفي. نعم لو قلنا بشرطية الطهارة أو عدم النجاسة يصير من جهة الأصل العقلي كالقبلة و الوقت و أمّا

من جهة الأصل الشرعي فيتفرّق عنهما أيضاً لحكومة أصالة الطهارة على دليل اشتراطها كما لا يخفى.

نعم ربّما يستشكل في جريانها في الموارد التي يزول الشكّ بأدنى شي ء كمجرّد النظر بدعوى انصراف أدلّة الأُصول عن مثلها و اختصاصها بما إذا كان ارتفاع الشكّ متوقّفاً على الاختبار و الفحص و الدقّة لكن الأقوى تبعاً لما أفاده الماتن دام ظلّه خلاف ذلك سيّما في باب النجاسات لصحيحة زرارة المعروفة في باب الاستصحاب و فيها: «قلت: فهل عليَّ إن شككت في انّه أصابه شي ء أن أنظر فيه؟ قال: لا، و لكنّك انّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك»، بل لا يبعد دعوى ظهورها في انّ عدم لزوم الفحص انّما هو للاتّكال على الاستصحاب من دون خصوصية للنجاسة، و لمنع الانصراف.

الفرع الرابع: لو شكّ في خرء حيوان انّه ممّا له نفس أو من غيره ممّا له لحم محرم و قد استشكل فيه في المتن كما تقدّم في المسألة الأُولى و لكنّك عرفت انّ طهارة الخرء في الحيوان الذي له لحم محرم و ليس له نفس سائلة لا يحتاج إلى الدليل و لا تبعد دعوى الانصراف في بوله أيضاً و عليه فالحكم في مورد الشكّ أيضاً الطهارة لما عرفت في الفرعين السابقين.

(1) الكلام فيه يقع في أربع مسائل:

المسألة الأُولى: في نجاسة المني من الإنسان و لا ينبغي الإشكال فيها و قد انعقد عليها الإجماع بل و تدلّ عليها الضرورة و لم يخالف فيه أحد من أصحابنا الإمامية رضوان اللّٰه تعالى عليهم أجمعين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 30

..........

______________________________

و عن السيّد المرتضى (قدّس سرّه) الاستدلال عليها في الناصريّات مضافاً إلى الإجماع بقوله تعالى وَ

يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ «1» حيث إنّها نزلت في بدر بعد احتلام جمع من المسلمين و عدم وجدانهم الماء ثمّ نزول المطر عليهم، قال: «دلّت الآية على نجاسة المني من وجهين: أحدهما قوله تعالى وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ، و الرجز و النجس بمعنى واحد، إلى أن قال: و الثاني من دلالة الآية انّه تعالى أطلق عليه اسم التطهير و التطهير لا يطلق في الشرع إلّا لإزالة النجاسة أو غسل الأعضاء الأربعة».

و فيه مضافاً إلى توقّفه على إحراز عدم تنجّس أبدانهم بمثل البول مدّة توقّفهم في البدر مع فقدان الماء و لا يكاد يحرز ذلك بوجه انّ الظاهر من عطفه قوله تعالى «يُذْهِبَ عَنْكُمْ» على قوله تعالى «لِيُطَهِّرَكُمْ ..» بالواو الظاهر في المغايرة بين الأمرين انّ التطهير بالماء غير إذهاب الرجز. و عليه فالمراد من التطهير امّا التطهير من الخبث أو الأعمّ منه و من رفع الحدث، و المراد من إذهاب الرجز رفع الجنابة على الأوّل و أخذها بوسوسة الشيطان على الثاني كما عن ابن عبّاس لأنّه قد حكى انّ الكفّار في وقعة بدر قد سبقوا المسلمين إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل فأصبحوا محدثين و مجنبين و أصابهم الظماء و وسوس إليهم الشيطان فقال: إنّ عدوّكم قد سبقكم إلى الماء و أنتم تصلّون مع الجنابة و الحدث و تسوخ أقدامكم في الرمل فمطّرهم اللّٰه حتّى اغتسلوا به من الجنابة و تطهّروا به من الحدث و تلبدت به أرضهم و أوحلت أرض عدوّهم، و عليه فالاستدلال بالآية الشريفة ممّا لا يتمّ أصلًا.

نعم تدلّ على النجاسة مضافاً إلى الإجماع طوائف من الأخبار:

منها: ما أمر فيها بغسله كصحيحة محمد

بن مسلم عن أحدهما (عليهما السّلام)

______________________________

(1) الأنفال: 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 31

..........

______________________________

قال: سألته عن المذي يصيب الثوب فقال: ينضحه بالماء إن شاء، و قال في المني يصيب الثوب؟ قال: إن عرفت مكانه فاغسله و إن خفي عليك فاغسله كلّه. «1» و رواية عنبسة بن مصعب قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المني يصيب الثوب فلا يدرى أين مكانه؟ قال: يغسله كلّه «2». فإنّ إطلاق الأمر بالغسل في مثلهما دليل على النجاسة و يدفع احتمال كونه مانعاً عن الصلاة من غير كونه نجساً مع انّ المتفاهم عند العرف من مثل هذا التعبير هي النجاسة.

و منها: ما أمر فيها بإعادة الصلاة التي صلّيت فيه كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: ذكر المني و شدّده و جعله أشدّ من البول ثمّ قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة، فعليك إعادة الصلاة و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد فلا إعادة عليك و كذا البول «3». فإنّ إيجاب الإعادة و إن لم يكن بمجرّده دليلًا على النجاسة إلّا ان الإرداف بالبول و جعله أشدّ منه قرينة واضحة عليها كما لا يخفىٰ.

و منها: ما أمر فيها بالصلاة عرياناً مع انحصار الثوب بما فيه الجنابة كموثّقة سماعة قال: سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض فأجنب و ليس عليه إلّا ثوب أجنب فيه و ليس يجد الماء قال: يتيمّم و يصلّي عرياناً قائماً يومي إيماء. «4» و إطلاق وجوب التيمّم دليل على النجاسة فتدبّر.

و منها: ما دلّ على جواز الصلاة فيه في حال الاضطرار

كصحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره (آخر) قال:

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس عشر ح 1

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس عشر ح 3

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس عشر ح 2

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس عشر و الأربعون ح 3

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 32

..........

______________________________

يصلّي فيه فإذا وجد الماء غسله. قال الصدوق و في خبر آخر: و أعاد الصلاة. «1» و رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه انّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب في ثوبه ليس معه غيره و لا يقدر على غسله؟ قال: يصلّي فيه «2». و رواية محمد الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره؟ قال: يصلّي فيه إذا اضطرّ إليه «3». و التعارض بين هاتين الطائفتين من جهة الصلاة في الثوب أو عرياناً أو إمكان الجمع بينهما لا يقدح فيما نحن بصدده من الاستدلال على نجاسة مني الإنسان كما هو ظاهر، و هنا روايات أُخر تدلّ على هذا الأمر بحيث لا يبقى الإشكال فيه أصلًا.

و في مقابل هذه الأخبار قد وردت روايات يتوهّم ظهورها في الطهارة:

منها: صحيحة أبي أُسامة زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): تصيبني السماء و عليَّ ثوب فتبلّه و أنا جنب، فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أ فأُصلّي فيه؟ قال: نعم. «4» و منها: موثّقة ابن بكير عن أبي أُسامة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يكون فيه الجنابة فتصيبني

السماء حتّى يبتل عليّ؟ قال: لا بأس. «5» فانّ الظاهر منهما طهارة ملاقي المني و لازمها طهارة نفسه.

و فيه بعد كونهما رواية واحدة رواها أبو أُسامة و الاختلاف فيهما من جهة العبارة قد نشأ عن اختلاف نقله أو النقل عنه و إن جعلهما في الوسائل روايتين انّ الظاهر منهما انّ السؤال انّما يكون عن أمر بعد الفراغ عن نجاسة المني

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 1

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 4

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 7

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و العشرون ح 3

(5) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و العشرون ح 6

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 33

..........

______________________________

و ثبوتها عند السائل و لا يكون محطّ النظر في السؤال هو أصل نجاسة المني أصلًا و ذلك الأمر هو انّ إصابة الثوب المبتل بالمطر بعض ما أصاب الجسد من المني هل توجب نجاسة الثوب أم لا؟ أو انّ إصابة الجسد و ملاقاته مع الثوب المتلوّث بالمني المبتل بالمطر هل توجب نجاسة الجسد أم لا؟ فأجاب الإمام (عليه السّلام) بعدم البأس و جواز الصلاة و منشأه عدم العلم بالسراية و عدم حصول الاطمئنان فضلًا عن القطع بوصول أثر المني إلى الثوب لاحتمال كون ما أصابه غير مورد البلة أو كونها بمقدار لا يوجب السراية.

و الحاصل: انّ سؤال السائل يكون عن حكم الشبهة الموضوعية و انّه إذا شكّ في سراية النجس إلى شي ء هل يحكم بنجاسة ذلك الشي ء أم لا؟ فأجاب (عليه السّلام) بما أجاب. و عليه فهاتان الروايتان من أدلّة نجاسة المني لا طهارته.

و منها: رواية علي بن

حمزة قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟ فقال: ما أرىٰ به بأساً قال: إنّه يعرق حتّى لو شاء أن يعصره عصره؟ قال: فقطب أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) في وجه الرجل فقال: إنّ أبيتم فشي ء من ماء فانضحه به. «1» و فيه: انّ السؤال فيها أيضاً عن الشبهة الموضوعية و انّ الجنابة الموجودة في الثوب مع كثرة العرق فيه بحيث لو شاء أن يعصره عصره هل تسري إلى بدنه أم لا؟ فأجاب (عليه السّلام) بعدم البأس لعدم العلم بالسراية، و يؤيّد ذلك أمر الإمام (عليه السّلام) بنضح الماء عليه الذي ورد في غير مورد من الشبهات الموضوعية.

و منها: صحيحة زرارة قال: سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أ يتجفّف فيه من غسله؟ فقال: نعم لا بأس به إلّا أن تكون النطفة فيه رطبة فإن كانت جافّة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و العشرون ح 4

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 34

..........

______________________________

فلا بأس. «1» و ظاهرها التفصيل بين الرطب و الجاف كما نسب إلى أبي حنيفة.

و لكن الحقّ عدم دلالتها على الطهارة أيضاً لأنّ الحكم بعدم البأس في الجاف يكون لعدم العلم بسراية المني إلى البدن لاحتمال سبق الموضع الطاهر بالبدن و تجفيفه و حكمه بثبوت البأس في الرطب منه يكون لحصول العلم عادةً بتحقّق السراية في هذه الصورة، و إن أبيت فلا محيص من حملها على التقية بعد معارضتها مع الروايات الكثيرة الدالّة على النجاسة لكونها موافقة لمذهب أبي حنيفة كما ذكرنا بل و لكونها مخالفة للضرورة. فانقدح انّ نجاسة مني الإنسان ممّا لا ارتياب فيها أصلًا

و إن حكي عن الشافعي طهارة المني مطلقاً و عن الحنابلة طهارته من الإنسان و من الحيوانات المحلّلة.

المسألة الثانية: في مني الحيوانات المحرّمة التي لها نفس سائلة و قد ادّعى الإجماع على نجاسته و انّه لا إشكال فيها أيضاً، و الكلام في انّه هل يمكن استفادة ذلك من الأدلّة أم لا و بعبارة اخرىٰ هل يوجد في الأدلّة ما يدلّ بعمومها أو إطلاقها على نجاسة المني في هذا المورد أم لا؟ فلا بدّ من ملاحظة الروايات فنقول:

منها: صحيحة محمد بن مسلم و رواية عنبسة المتقدّمتان في المسألة الأُولى و مثلهما من الروايات الآمرة بغسل الثوب الذي أصابه المني من دون تقييد و يظهر من بعض استفادة الإطلاق منها كما عن المعتبر و المنتهى أيضاً و لكنّه أنكره صاحب الجواهر (قدّس سرّه) بدعوى تبادر الإنسان من الأدلّة قال: «و لعلّه لاشتمالها أو أكثرها على إصابة الثوب و نحوه ممّا يندر غاية الندرة حصوله من غير الإنسان».

و قد أورد عليه الماتن دام ظلّه بأنّ منشأ دعوى التبادر و الانصراف

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و العشرون ح 7

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 35

..........

______________________________

توهّم ندرة الوجود مع انّها غير مسلمة في المحيط الذي وردت الروايات فيه ضرورة انّه محل تربية الحيوانات و استنتاجها و استفحالها و غير خفي على من رأى كيفية استفحال البهائم شدّة الابتلاء بمنيّها و كثرته و إن اصابة منيّها خصوصاً البهائم الثلاثة بالثوب و غيره ممّا يحتاج إليه الإنسان و يبتلى به كثيرة لا يمكن معها دعوى الانصراف، و دعوى الانصراف و التبادر انّما صدرت ممّن لا يبتلى به و نشأ في بيت أو محيط كان

الابتلاء به نادراً أو مفقوداً رأساً فقاس به سائر الأمكنة و الأشخاص و إلّا فلا قصور في الإطلاقات أصلًا.

و كلامه دام ظلّه في غاية الجودة و المتانة لأنّ دعوى الإطلاق في هذه المسألة لا تقصر عن دعواه في كثير من الموارد التي قد التزموا به كما أفاده في آخر كلامه و لكن الأظهر في الإطلاق صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المتقدّمة أيضاً قال: ذكر المني و شدّده و جعله أشدّ من البول، ثمّ قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة لبعد أن يكون اللام في كل من المني و البول للعهد الخارجي و ظهور كونها في كليهما للجنس فتدلّ حينئذٍ على انّ طبيعة المني أشدّ من طبيعة البول و قد ذكر في وجه أشدّية المني من البول احتمالات:

1 كون المني أشدّ لاحتياج إزالته إلى الدلك و الفرك دون البول. و يرده مضافاً إلى وضوحه و عدم احتياجه إلى الذكر فإنّه شي ء يعرفه كل من غسل ثوباً متنجّساً بالمني انّ إفادة ذلك ممّا لا يلائم شأن الإمام (عليه السّلام) من جهة بيانه للأحكام كما هو ظاهر.

2 كون الأشدّ بمعنى الأنجس. و فيه انّ الأمر بالعكس على حسب تصريح بعض الروايات الواردة في البول الدالّة على أنجسيته للزوم غسله مرّتين دون المني.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 36

..........

______________________________

3 كون الأشدّية باعتبار وجوب غسل الجنابة للمنيّ دون البول. و فيه انّ وجوب غسل الجنابة انّما هو لأجل خروج المني من المجرى و حصول الجنابة للإنسان و ليس حكماً لطبيعة المني و مرتبطاً به.

4 كون الأشدّية بمعنى سعة دائرة نجاسة المني

حيث إنّه نجس من كل حيوان ذي نفس سائلة محرّماً كان أم محلّلًا بخلاف البول. و هذا الاحتمال خال عن المناقشة و يقرب دعوى الإطلاق في الصحيحة.

و ما أفاده بعض الأعلام من انّ الأشدّية لو كان بلحاظ نجاسة المني من الحيوانات المحلّلة مع طهارة أبوالها لوجب أن يقول نجاسة المني أوسع من نجاسة البول و لا يناسبه التعبير بالأشدّية الظاهرة في اشتراك المني مع البول في النجاسة و كون الأوّل أشدّ من الثاني.

مدفوع بأنّه بعد فرض كون اللام في كلا الأمرين للجنس لا بدّ من ملاحظة الطبيعة في كل واحد منهما و لا وجه للحاظ مني كل حيوان مع البول منه و عليه فلا بدّ من استكشاف وجه كون طبيعة المني أشدّ من طبيعة البول و لا يعلم وجه لذلك إلّا سعة دائرة نجاسته بخلاف البول.

و كيف كان دلالة الصحيحة على نجاسة المني في الحيوانات المحرّمة ممّا لا ينبغي الإشكال فيها أصلًا كما لا يخفىٰ.

المسألة الثالثة: في مني الحيوانات المحلّلة التي لها نفس سائلة و نجاسته أيضاً من المسائل المجمع عليها و يدلّ عليها الإطلاقات بالتقريب المتقدّم بل يمكن دعوى كون التمسّك بالإطلاق في هذه المسألة أسهل لأنّ الابتلاء بالحيوانات المحلّلة أكثر من الابتلاء بالحيوانات المحرّمة و يدلّ عليها أيضاً صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة الدالّة على أشدّية المني من البول بناءً على ما اخترناه من معنى الأشدّية فإنّ مرجعها إلى سعة دائرة نجاسة المني و شمولها للحيوانات المحلّلة أيضاً دون

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 37

..........

______________________________

البول لاختصاص نجاسته بالحيوانات المحرّمة كما مرّ في بحثه.

و على ما ذكرنا فلا يبقى مجال لما أفاده بعض الأعلام من انّه لا

دلالة في شي ء من الأخبار على نجاسة المني في هذه المسألة لانصراف المطلقات إلى مني الإنسان و اختصاص الصحيحة بما إذا كان البول نجساً لاقتضاء الأشدّية ذلك.

نعم في مقابل أدلّة النجاسة موثقتان توهم دلالتهما على طهارة المني من الحيوانات المحلّلة:

إحداهما: موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه. «1» فانّ الموصول عام للمنيّ لأنّه أيضاً خارج منه.

ثانيتهما: موثقة ابن بكير المعروفة حيث ورد في ذيلها: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شي ء منه جائز. «2» فإنّ قوله «كلّ شي ء» يشمل المني أيضاً.

و الإنصاف عدم ثبوت الإطلاق لهما بحيث يشمل المني لأنّ الأُولى منصرفة إلى البول و الروث اللذين كثر التعرّض لهما في الروايات و لهذا أوردها صاحب الوسائل (قدّس سرّه) مع تبحّره في تبويب الروايات في باب حكم البول و الروث و يؤيّده انّه هل يمكن استفادة حكم الدم أيضاً منها مع ثبوت وصف الخروج له أيضاً و ليس ذلك إلّا لأجل اختصاصها بالاخبثين.

و أمّا الثانية فلا تكون في مقام بيان الطهارة و النجاسة بل تكون ناظرة إلى جهة بيان صحّة الصلاة في أجزاء ما يؤكل لحمه من ناحية عدم كونها ممّا لا يؤكل لا من جهة الطهارة و النجاسة و يدلّ على ذلك ذكر الوبر و الشعر و الألبان فيها أيضاً فلا دلالة للموثقة على طهارة مني الحيوان المأكول بوجه.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع ح 12

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع ح 6

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 38

[الرابع: ميتة ذي النفس من الحيوان ممّا تحلّه الحياة]

اشارة

الرابع: ميتة ذي النفس من الحيوان

ممّا تحلّه الحياة و ما يقطع من جسده حيّاً ممّا تحلّه الحياة عدا ما ينفصل من بدنه من الأجزاء الصغار كالبثور و الثالول و ما يعلو الشفة و القروح و غيرها عند البرء و قشور الجرب و نحوه، و ما لا تحلّه الحياة كالعظم و القرن و السن و المنقار و الظفر و الحافر و الشعر و الصوف و الوبر و الريش طاهر، و كذا البيض من الميتة الذي اكتسى القشر الأعلى من مأكول اللحم بل و غيره، و يلحق بما ذكر الأنفحة و هي الشي ء الأصفر الذي يجبن به و يكون منجمداً في جوف كرش الحمل و الجدي قبل الأكل، و كذا اللبن في الضرع، و لا ينجسان بمحلهما، و الأحوط الذي لا يترك اختصاص الحكم بلبن مأكول اللحم (1).

______________________________

و الذي يستهل الخطب ما عرفت من قيام الإجماع القطعي على النجاسة في هذه المسألة أيضاً.

المسألة الرابعة: في مني الحيوانات المحلّلة التي ليست لها نفس سائلة و لا يبعد بعد عدم قيام الإجماع فيها و عدم وجود دليل خاص على النجاسة دعوى انصراف الأدلّة عنها فيصير مقتضى الأصل الطهارة و أشدّية المني من البول بالتقريب الذي ذكرنا لا تقتضي ثبوت النجاسة في هذه المسألة أيضاً بعد الشكّ في أصل ثبوت المني لها أوّلًا و قوّة احتمال الانصراف ثانياً.

(1) و فيها ثلاث مسائل:

المسألة الأُولى: في ميتة ذي النفس غير الآدمي.

المسألة الثانية: في ميتة الآدمي.

المسألة الثالثة: في ميتة غير ذي النفس.

و قد استفيض نقل الإجماع على النجاسة في الأوّلتين، و عن المعالم انّه قد تكرّر في كلام الأصحاب ادّعاء الإجماع على هذا الحكم و هو الحجّة إذ النصوص لا تنهض بإثباته. و عن المدارك المناقشة في أصل

الحكم لفقدان النص على نجاستها و عدم دلالة ما أمر فيها بالغسل و نهى عن الأكل على النجاسة ثمّ ذكر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 39

..........

______________________________

مرسلة الصدوق (قدّس سرّه) في «الفقيه» النافية للبأس عن جعل الماء و نحوه في جلود الميتة مع تصريحه في ديباجته بأنّ ما أورده فيه هو ما أفتى به و حكم بصحّته و اعتقد كونه حجّة بينه و بين ربّه، ثمّ قال صاحب المدارك: و المسألة قوية الإشكال.

و كيف كان فقد استدلّ على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الآدمي بعد الإجماع عليها بقوله تعالى قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ الآية «1» فإنّ الظاهر انّ الضمير في قوله «فإنّه» يرجع إلى جميع المذكورات لا إلى الأخير فقط لظهوره في كونه تعليلًا للاستثناء من الحلية فيشمل الجميع.

و فيه انّه و إن كان الظاهر رجوع الضمير إلى جميع المذكورات في المستثنى إلّا انّ الاستدلال بالآية يتوقّف مضافاً إلى ذلك على كون «الرجس» فيها بمعنى النجس الذي هو محل البحث في المقام مع انّه خلاف الظاهر لأنّ الرجس قد استعمل في الكتاب العزيز في موارد كثيرة و المقصود منه فيها هي القذارة المعنوية التي يعبّر عنها بالفارسية ب «پليدى» و لم يستعمل في شي ء منها بمعنى النجس أصلًا، و لا أقلّ من احتمال كون المراد به في هذه الآية هو المراد في سائر الآيات فلا يتمّ الاستدلال بوجه.

نعم قد استدل من السنّة بروايات:

منها: صحيحة حريز بن عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كلّما غلب الماء على

ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب. فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم فلا تتوضّأ منه و لا تشرب. «2» و منها: رواية أبي خالد القماط انّه سمع أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول في الماء

______________________________

(1) الأنعام: 145.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثالث ح- 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 40

..........

______________________________

يمرّ به الرجل و هو نقيع فيه الميتة و الجيفة فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضّأ منه، و إن لم يتغيّر ريحه و طعمه فاشرب و توضّأ. «1» و منها: موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء و فيه دابة ميتة قد أنتنت قال: إذا كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ و لا تشرب. «2» و منها: موثقة عبد اللّٰه بن سنان قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهراً و لا توجد منه الريح فتوضأ. «3» و منها: رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرز أو صعوة ميتة، قال: أخذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها و لا تتوضّأ و صبّها، و إن كان غير متفسّخ فاشرب منه و توضّأ و اطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، و كذلك الجرة و حب الماء و القربة و أشباه ذلك من أوعية الماء «4».

و هل المستفاد من هذه الأخبار المذكورة و غيرها ممّا ورد في الميتة نجاستها مطلقاً كما قال به المشهور أو

انّه لا يستفاد منها إلّا النجاسة في الجملة كما عن صاحب المعالم أو انّه لا يستفاد منها النجاسة أصلًا كما عن المدارك على ما عرفت؟

الحقّ هو الثاني: امّا استفادة النجاسة فللتصريح في بعضها بها كذيل رواية

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثالث ح- 4.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثالث ح- 6.

(3) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثالث ح- 11.

(4) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثالث ح- 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 41

..........

______________________________

زرارة المتقدّمة المشتملة على قول أبي جعفر (عليه السّلام): إذا كان الماء أكثر من راوية لا ينجسه شي ء تفسخ فيه أو لم يتفسخ فيه إلّا أن يجي ء ريح فغلب على ريح الماء. فانّ هذا القول الشريف مفسّر لصدر الرواية و كاشف عن انّ النهي عن الشرب و التوضّي انّما هو لأجل النجاسة الطارئة عليه من قبل الميتة و عليه فلا يبقى مجال لما أفاده صاحب المدارك مع انّ الأمر بالغسل فيها و النهي عن الشرب و التوضّي يكون المتفاهم منه عرفاً هو النجاسة.

و أمّا عدم دلالتها على نجاسة الميتة مطلقاً فلأنّ محط نظر السائل في الأخبار المذكورة هي الميتة النجسة كما هو ظاهر لمن أمعن النظر فيها فإنّه قد سُئل فيها عن حكم الماء الذي تقع فيه الميتة لا عن حكم الميتة نفسها و دعوى كون مثل هذا السؤال قرينة على مفروغية نجاسة الميتة ضرورة انّه مع عدم المفروغية لا مجال له أصلًا مدفوعة بأنّه قرينة على مفروغية النجاسة في الجملة لا بنحو الإطلاق، و دعوى انّه على هذا التقدير لا بدّ من التقييد بقيد النجاسة مدفوعة أيضاً بأنّ نفس السؤال شاهدة على التقييد من

دون حاجة إلى التصريح به و عليه فما أفاده سيّدنا العلّامة الأستاذ دام ظلّه من انّ توهّم عدم الإطلاق في الروايات وسوسة مخالفة لفهم العرف لا يخلو عن مناقشة بل منع.

و ممّا ذكرنا يظهر النظر في استدلاله بصحيحة شهاب من جهة عدم الاستفصال قال: أتيت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) أسأله فابتدأني فقال: إن شئت فسل يا شهاب و إن شئت أخبرناك بما جئت له قلت: أخبرني قال: جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضّأ منه أو لا؟ قال: نعم، قال: توضّأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن و جئت تسأل عن الماء الراكد من الكرّ ممّا لم يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة قلت: فما التغيّر قال: الصفرة فتوضّأ منه و كلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر «1».

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب التاسع ح- 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 42

..........

______________________________

فإنّ نفس السؤال قرينة على كون المراد بالجيفة هي النجسة منها ضرورة انّه لا معنى للسؤال في مثل ذلك عن الجيفة الطاهرة و في مثله لا مجال للاستدلال بعدم الاستفصال، و يؤيّد ما ذكرنا من عدم ثبوت الإطلاق انّه لا ينبغي أن يقال بدلالة الروايات بإطلاقها على نجاسة الميتة من غير ذي النفس كالسمك و نحوه حتّى يحتاج في إخراجها إلى دعوى الانصراف أو إقامة الدليل الخاص عليه كما لا يخفىٰ.

بقي الكلام فيما نسبه صاحب المدارك إلى الصدوق (قدّس سرّه) من القول بالطهارة استظهاراً له من نقل المرسلة مع تصريحه فيه بأنّ ما أورده فيه حجّة بينه و بين ربّه فلا بدّ من ذكر المرسلة أولًا ثمّ بيان مراده من كونها حجّة

بينه و بين ربّه فنقول.

امّا الرواية فهي ما رواه الصدوق قال: سُئل الصادق (عليه السّلام) عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن و الماء و السمن ما ترى فيه؟ فقال: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن و تتوضّأ منه و تشرب و لكن لا تصلّي فيها. «1» و أمّا بيان مراده ممّا ذكره في الديباجة فنقول بعد ضعف احتمال العدول عمّا التزم به في أوّل الكتاب خصوصاً بعد ملاحظة كون الرواية مذكورة في أوائل الكتاب الظاهر انّ مراده من كونها حجّة بينه و بين اللّٰه انّها حجّة معتبرة عنده لكنّه لا يفتي علىٰ طبق كلّ حجّة معتبرة لإمكان معارضتها مع حجّة معتبرة أخرى و لم يظهر منه انّ مراده من ذلك هو ما يفتي على طبقه فعلًا و الدليل على ذلك نقل الروايات المتعارضة في كتابه بل في باب واحد منه. و قد نقل فيه رواية عبد اللّٰه بن سنان المتقدّمة الدالّة سؤالًا و جواباً-

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الرابع و الثلاثون ح- 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 43

..........

______________________________

على مفروغية نجاسة الميتة غاية الأمر انّه نقلها بنحو الإرسال و عليه فكيف يفتي الصدوق بكل من المرسلتين مع وضوح التعارض و عدم إمكان الفتوى بالمتناقضين. فالظاهر انّ الصدوق حيث اعتقد بكونهما حجّتين معتبرتين بينه و بين اللّٰه تعالىٰ يرىٰ بينهما المعارضة و الترجيح مع أخبار النجاسة لموافقتها للشهرة الفتوائية و مخالفتها للعامّة.

مع انّ المرسلة التي استظهر من نقلها صاحب المدارك القول بالطهارة قد وردت في جلد الميتة و لعل الصدوق (قدّس سرّه) يرى طهارة جلد الميتة بالدباغة كما هو أحد الأقوال فيه.

كما

يحتمل أن تكون الجلود المسئول عنها في المرسلة جلود الحيوانات التي لا نفس لها خصوصاً بملاحظة ما أفاده بعض الأعلام من انّها تستعمل في صنع ظروف السمن و الماء فلا يبقى لها ارتباط بالمقام أصلًا.

المسألة الثانية: في نجاسة الميت من الإنسان و الكلام فيها يقع في جهات:

الجهة الاولى: في أصل النجاسة في مقابل ع دمها و ثبوت الطهارة و قد استفيض نقل الإجماع عليها بالخصوص و يشملها العموم أو الإطلاق في بعض ما تقدّم و قد وردت فيها روايات خاصّة أيضاً.

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت فقال: يغسل ما أصاب الثوب. «1» و منها: رواية إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل يقع ثوبه على جسد الميّت قال: إن كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، و إن كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه. يعني إذا برد الميت. «2»

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الرابع و الثلاثون ح- 2.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الرابع و الثلاثون ح- 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 44

..........

______________________________

و الظاهر كونه تفسيراً من الراوي.

و منها: رواية الاحتجاج قال: ممّا خرج عن صاحب الزمان (عج) إلى محمد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري حيث كتب إليه: روى لنا عن العالم (عليه السّلام) انّه سُئل عن إمام قوم يصلّي بهم بعض صلاتهم و حدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخّر و يتقدّم بعضهم و يتمّ صلاتهم و يغتسل من مسّه، التوقيع: ليس على من مسّه إلّا غسل اليد، و إذا لم تحدث حادثة

تقطع الصلاة تمّم صلاته عن القوم. «1» و منها: ما عنه أيضاً: و كتب إليه: و روى عن العالم انّ من مسّ ميّتاً بحرارته غسل يده و من مسّه و قد برد فعليه الغسل و هذا الميّت في هذه الحال لا يكون إلّا بحرارته فالعمل في ذلك على ما هو و لعلّه ينحيه بثيابه و لا يمسّه فكيف يجب عليه الغسل، التوقيع: إذا مسّه على (في) هذه الحال لم يكن على إلّا غسل يده «2».

و منها: موثقة عمّار الساباطي قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل ذبح طيراً فوقع بدمه في البئر، فقال: ينزح دلاء هذا إذا كان ذكيا فهو هكذا و ما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلواً، و أقلّه العصفور ينزح منها دلو واحد، و ما سوى ذلك فيما بين هذين «3» فإنّ المراد من أكبرية الإنسان ليس أكبرية جسمه و لا أكبرية شأنه بل الأنجسية و الأقذرية من سائر الميتات لكنّه ربّما يقال بأنّه لا يبعد أن تكون أكثرية النزح حكماً تعبّدياً غير ناشٍ من نجاسته و إلّا فكيف يمكن أن يقال إنّ المؤمن الذي له تلك المنزلة الرفيعة عند اللّٰه حيّاً و ميّتاً يكون أنجس من سائر الميتان

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء غسل المس الباب الثالث ح- 4.

(2) الوسائل أبواب الماء غسل المس الباب الثالث ح- 5.

(3) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الواحد و العشرون ح- 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 45

..........

______________________________

و لكنّه مخدوش خصوصاً بعد ملاحظة اختصاص وجوب الغسل في مسّه دون مسّ سائر الميتات و بعد ملاحظة طهارة بعضها.

الجهة الثانية: في

أنّ نجاسته هل تكون عينية كنجاسة الميتة من الحيوان و سائر الأعيان النجسة أو حكمية و معناها عدم كونها نجسة كسائر النجاسات بل اللازم مجرّد ترتّب آثار النجاسة تعبّداً فاشتراكها معها في الآثار لا في أصل الاتصاف بالنجاسة بل و لا في جميع الآثار بل في بعضها؟ ظاهر الإصحار (رض) هي النجاسة العينية كما انّها هي الظاهر من الروايات المتقدّمة و قد افيدت النجاسة في كثير من الأعيان النجسة بمثل التعبير الواقع في هذه الروايات مضافاً إلى انّ المتفاهم العرفي منها أيضاً ذلك لكنّه ربّما يستشكل في ذلك:

تارة من جهة العقل نظراً إلى انّ عين النجاسة لا يعقل رفعها و زوالها بالاغتسال مع انّ الميت بعد الغسل طاهر بلا إشكال و بعبارة اخرى: النجاسة العينية لا تكاد ترتفع إلّا بانعدام الموضوع رأساً أو الاستحالة و لا معنى لزوالها مع بقاء موضوعها بمجرّد الاغتسال.

و الجواب عنه مضافاً إلى النقض بالكافر فإنّه من الأعيان النجسة يرتفع نجاسته بالإسلام و دعوى الفرق بين المقامين بانعدام عنوان الموضوع في الكافر بمجرّد الإسلام ضرورة تبدّل العنوان فيه بخلاف المقام فإنّه لا يرتفع عنوان «الميت» بالاغتسال مدفوعة بأنّ النجاسة تعرض الجسم و العنوان واسطة في الثبوت و المفروض بقائه بعد الإسلام فتدبّر انّ هذا الإشكال موجه لو كانت النجاسات أُموراً تكوينية و يكون الميت كالمني و العذرة قذراً ذاتاً و كان الحكم بنجاسته شرعاً تصويباً لما هو الثابت عند العقلاء لكنّه ليس كذلك لما عرفت في أوّل بحث النجاسات من أنّه من القذارات الشرعية ما لا يكون قذراً عرفاً كالكافر و الخمر و من الممكن أن يكون الميّت من الإنسان مثلهما من دون أن يكون فيه قذارة، و دعوى وجود

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 46

..........

______________________________

الاستقذار العرفي في الميت أيضاً مدفوعة بأنّ لازمها بقاء النجاسة بعد الغسل أيضاً لعدم ارتفاع الاستقذار بالغسل فهذا الإشكال مندفع.

و أُخرى من جهة دلالة الروايات المتعدّدة أو إشعارها بالطهارة:

منها: ما وردت في علّة غسل الميت كرواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السّلام) قال: إنّما أمر بغسل الميت، لأنّه إذا مات كان الغالب عليه النجاسة و الآفة و الأذىٰ فأحبّ أن يكون طاهراً إذا باشر أهل الطهارة من الملائكة الذين يلونه و يماسونه فيما سهم نظيفاً موجهاً به إلى اللّٰه عزّ و جلّ. «1» و رواية محمد بن سنان عن الرضا (عليه السّلام) الدالّة على انّه كتب إليه في جواب مسائله علّة غسل الميت انّه يغسل لأنّه يطهر و ينظف من أدناس أمراضه و ما أصابه من صنوف علله. «2» فإنّ ظاهرهما انّ علّة الغسل رفع القذارات العرضية و لو كان الميت نجس العين و الغسل مطهّره لكان الأولى بل المتعيّن التعليل به كما لا يخفى.

و منها: ما يدلّ على انّ غسل الميّت انّما هو لأجل الجنابة الحاصلة له كرواية الديلمي عن أبيه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال في حديث-: إنّ رجلًا سأل أبا جعفر (عليه السّلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة قال: إذا خرجت الروح من البدن خرجت النطفة التي خلق منها بعينها منه كائناً ما كان صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أُنثى فلذلك يغسل غسل الجنابة «3». و غير ذلك من الروايات الواردة بهذا المضمون مع انّه لو كان الميت نجس العين و الغسل مزيلًا للنجاسة كان الأنسب التعليل به لا بأمر عرضي.

و منها: الروايات الكثيرة الواردة في غسل

الميت «4» و موردها الغسل بالماء

______________________________

(1) الوسائل أبواب غسل الميت الباب الأول ح- 4.

(2) الوسائل أبواب غسل الميت الباب الأول ح- 3.

(3) الوسائل أبواب غسل الميت الباب الثالث ح- 2.

(4) المروية في الوسائل في الباب الثاني من أبواب غسل الميت.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 47

..........

______________________________

القليل و لم يقع في شي ء منها التعرّض على نجاسة الملاقيات، و كذا ما ورد في تجهيزه من حال خروج الروح إلى ما بعد الغسل «1» من غير تعرّض لتطهير ما يلاقيه، فإنّها و إن كانت في مقام بيان أحكام أُخر لكن كان اللازم التنبيه لهذا الأمر الكثير الابتلاء المغفول عنه لدى العامّة، و الالتزام بصيرورة يد الغاسل و آلات الغسل المتعارفة طاهرة بالتبع و إن كان ممكناً إلّا انّه مضافاً إلى اختصاصه بحال و لا يشم الملاقيات قبله من حال النزع إلى حال الغسل لا مانع منه بعد ثبوت النجاسة و الكلام انّما هو فيها فلم لا يكون مثلها دليلًا على الطهارة خصوصاً بعد كون حصول الطهارة بالتبعية أمراً بعيداً عن الأذهان مخالفاً للقواعد كما هو ظاهر.

و منها: ما يدلّ على رجحان توضّي الميت قبل الغسل «2» مع انّ شرطه طهارة الأعضاء.

و منها: مكاتبة الصفار الصحيحة: قال كتبت إليه: رجل أصاب يده أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل، هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقّع (عليه السّلام) إذا أصاب يدك جسد الميّت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل. «3» بتقريب انّ الظاهر كون «الغسل» بالضمّ و معناه الاغتسال فيرجع إلى انّ ملاقات الجسد موجبة لثبوت التكليف بالغسل فقط فيدلّ على انّه لا شي ء غيره في ملاقات

الجسد و لا شي ء أصلًا في ملاقات الثوب فتدبّر و غير ذلك من الشواهد و القرائن على عدم ثبوت النجاسة العينية لبدن المؤمن الميّت كالكافر و الكلب و الخنزير مع ما يعلم من منزلته في الشريعة و مرتبته عند اللّٰه تعالى خصوصاً مع انّه لو كان

______________________________

(1) المروية في الوسائل في الباب الرابع و الأربعين من أبواب الاحتضار.

(2) المروية في الوسائل في الباب السادس من أبواب غسل الميت.

(3) الوسائل أبواب غسل المس الباب الأول ح- 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 48

..........

______________________________

كذلك لكان ينبغي الاشتهار بين الناس و لم يكن فيه شكّ و لا ارتياب أصلًا كما لا يخفىٰ.

هذا و الإنصاف انّه لا موقع لهذا الاستشكال أيضاً فإنّ الروايات المتقدّمة التي هي محطّ نظر الاستشكال قاصرة عن إثبات الطهارة و سلب النجاسة العينيّة لأنّه مضافاً إلى ما عرفت من دلالة روايات كثيرة على نجاستها بحيث لا ينبغي الارتياب فيها و لا تصلح هذه الطائفة لمعارضتها نقول إنّ الروايات الواردة في علّة تغسيل الميّت مع الاختلاف بينها مجهولة المراد و لا يكاد يتبيّن المنظور منها فإنّه لو كانت علّة الغسل هي غلبة النجاسة عليه لم يكن يحتاج إزالة النجاسة إلى الغسل خصوصاً بالترتيب المعهود و الكيفية المقرّرة المشتملة على قصد القربة بل يكفي في زوالها مجرّد الغسل بالفتح كما انّه لم يظهر وجه كون العلّة هي الجنابة خصوصاً مع تصريح بعضها بخروج المني من عينيه أو من فِيه فانّ أصل خروج المني و كذا خروجه من أحد المخرجين ممّا لا يعلم و كذا كون الخروج منه موجباً لحصول الجنابة مع انّ اللازم بناءً على ذلك أن يقصد غسل الجنابة فمثل

هذه الروايات لا يمكن الاتّكال عليها في إثبات حكم شرعي.

و أمّا السكوت عن غسل يد الغاسل و آلات الغسل و الملاقيات فقد اعترف المستشكل بأنّ حصول الطهارة التبعية انّما هي على تقدير قيام الدليل على النجاسة و نحن نقول بقيامه عليها و هي الروايات المتقدّمة الدالّة بالوضوح على النجاسة كسائر الأعيان النجسة، و أمّا الملاقيات قبل الغسل فقد وقع التعرّض لحكمها في الروايات المتعدّدة الدالّة على غسل الثوب و اليد الملاقيين لجسد الميّت و قد استفدنا منها النجاسة فلا موقع لدعوى عدم التعرّض.

و أمّا الروايات الدالّة على استحباب توضّي الميّت قبل غسله فلا دلالة بل و لا إشعار فيها على الطهارة لعدم الدليل على كون وضوئه مشروطاً بالطهارة.

و أمّا مكاتبة الصفار فمضافاً إلى انّ عدم التعرّض فيها لا يقاوم الروايات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 49

..........

______________________________

الكثيرة الدالّة على النجاسة و إلى انّ نفس السؤال يدلّ على مفروغية نجاسة بدن الميّت نقول لِمَ لا يكون تلك الروايات قرينة على كون المراد هو الغسل بالفتح خصوصاً مع كون العدول في الجواب عمّا هو مقصود السائل إلى شي ء آخر لا يكون له وجه.

و أمّا الاستبعاد فلا يكون موجباً لرفع اليد عمّا هو مقتضى الأدلّة كما انّ دعوى انّه على تقدير النجاسة لكان اللازم الاشتهار مدفوعة لأنّ الابتلاء بملاقاة جسد الميّت مع الرطوبة أمر يتّفق نادراً.

فالإنصاف انّ رفع اليد عمّا هو ظاهر الروايات من النجاسة العينية كسائر الأعيان النجسة ممّا لا سبيل إليه و لا مانع من الأخذ به وفاقاً لجلّ الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم و منه يظهر الخلل فيما هو لازم كلام الحلّي من دعوى عدم الخلاف في عدم النجاسة العينية

قال فيما حكى عنه في مقام الاستدلال على عدم السراية مع الرطوبة أيضاً: «لأنّ هذه النجاسات حكميات و ليست عينيات و لا خلاف بين الأُمّة كافّة انّ المساجد يجب أن تجنب النجاسات العينية، و أجمعنا بغير خلاف انّ من غسل ميتاً له أن يدخل المسجد و يجلس فيه فلو كان نجس العين لما جاز ذلك، و لأنّ الماء المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر بغير خلاف و من جملة الأغسال غسل من مسّ ميّتاً و لو كان ما لاقى الميت نجساً لما كان الماء الذي يغتسل به طاهراً».

و الظاهر انّ مراده من نفي النجاسة العينية انّما هو بالإضافة إلى الملاقي بالنسبة إلى جسد الميت بمعنى انّ الميّت من الأعيان النجسة و لكنّه لا يؤثر في اتّصاف الملاقي له أيضاً بذلك بل الملاقي متّصف بالنجاسة الحكمية و غرضه منها عدم تأثير الملاقي في تنجيس ملاقيه أيضاً فلا يؤثر في نجاسة المسجد و لا في نجاسة الماء المستعمل في غسل المسّ و عليه فيرتبط كلامه بالجهة الثالثة الآتية لا بهذه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 50

..........

______________________________

الجهة كما هو غير مخفي.

الجهة الثالثة: في انّ نجاسة الميّت الآدمي هل تكون كسائر النجاسات العينية مؤثرة في تنجيس ملاقيه مع وجود عامل السراية و هي الرطوبة و في كون حكم الملاقي له حكم الملاقي لسائر الأعيان النجسة من جهة التأثير في نجاسة الشي ء الثالث، أو انّه تكون مثلها في تحقّق نجاسة الملاقي و لكنّه لا يتجاوز عن الملاقي إلى شي ء آخر كما هو الظاهر من عبارة الحلّي المتقدّمة أو انّها لا تؤثّر في نجاسة الملاقي أصلًا فيكون الميّت نجساً غير منجس كما ربّما نسب إلى

الحلّي أو انّها يمتاز عن سائر النجاسات بتأثيرها في نجاسة ملاقية و لو بدون الرطوبة أيضاً كما قد حكى القول به عن غير واحد بل عن ظاهر بعض الالتزام بذلك في مطلق الميتة؟ وجوه و احتمالات.

و الأظهر هو الوجه الأوّل لما عرفت في الجهة الثانية من انّ التعبير الذي استكشفنا منه النجاسة في المقام لا يغاير التعبير الواقع في كثير من النجاسات فلا فرق بين قوله (عليه السّلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» و بين قوله (عليه السّلام) في المقام: «فاغسل ما أصاب ثوبك منه» نعم ربّما يحتمل في المقام أن يكون الثوب بالضمّ على أن يكون فاعلًا لقوله: أصاب، و يكون الموصول كناية عن موضع الإصابة و الضمير المجرور راجعاً إلى الميّت مع حذف العائد فيكون المعنى: اغسل موضع إصابة الثوب من الميّت و عليه فلا دلالة له على اختصاص حصول النجاسة للثوب بصورة السراية لأنّ ما هو المرتكز عند العرف أو المتشرّعة أنّ ملاقي النجس لا ينجس أخلّا مع وجود الرطوبة و تحقّق السراية، و أمّا انّ الأمر بغسل ملاقي كلّ شي ء فإنّما هو للسراية فغير معلومة فإن علم انّ الكلب نجس و قيل اغسل ثوبك إذا أصاب الكلب يفهم منه انّ الغسل لدى السراية و أمّا لو احتمل عدم نجاسة شي ء و لزوم تطهير ملاقيه تعبّداً فلم يثبت ارتكاز بعدم لزوم الغسل إلّا بالسراية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 51

..........

______________________________

و لكن هذا الاحتمال مضافاً إلى عدم صحّته على طبق القواعد الأدبية لخلوّه حينئذٍ عن العائد، و إلى انّه على كلا التقديرين لا خفاء في كون المراد هو غسل الثوب لا غسل ملاقيه من

جسد الميّت فإن كان إيجاب غسل الملاقي بالكسر دليلًا على نجاسة الملاقي بالفتح لا يبقى فرق بين الاحتمالين و يستفاد منه مع ذلك اعتبار السراية و الرطوبة، و إن لم يكن دليلًا عليها لا يكون فرق أيضاً بينهما و لا يستفاد أصل نجاسة الملاقي بالفتح يدفعه انّ المدعى عدم الفرق بين المقام و بين التعبير الوارد في الأبوال، و دعوى انّ عامل السراية موجودة في الأبوال دائماً بخلاف المقام مدفوعة بأنّ الكلام فيما هو المتفاهم عند العرف و المتشرّعة و لا خفاء في انّ المتفاهم هي النجاسة للملاقى بالفتح أولًا و للملاقي بالكسر ثانياً مع وجود الرطوبة المسرية بل ربّما يقال بأنّ المتبادر منه إنّما هو إرادة غسل ما أصاب الثوب من الرطوبات الحاصلة إليه من الميت و لذا نزّله المحدِّث الكاشاني (قدّس سرّه) القائل بعدم نجاسة الميت على إرادة الرطوبات النجسة الخارجة منه من بول و دم و نحوهما و هذا التنزيل و إن كان تأويلًا بلا مقتض لكن غاية ما يستفاد من إطلاق العبارة وجوب غسل ما لاقاه برطوبة متعدية خصوصاً بضميمة ما هو المركوز في الأذهان من اعتبار الرطوبة في السراية.

و بمثل ذلك قد يجاب عن إطلاق الأمر بغسل اليد في التوقيعين المتقدّمين بل يمكن أن يقال بعدم ثبوت الإطلاق لهما بالإضافة إلى العقد الإيجابي خصوصاً مع دلالة موثقة ابن بكير على انّ كل يابس زكي و لكن الذي يوهن ما ذكر انّك عرفت انّ الملاقاة مع الرطوبة قد تتّفق نادراً فكيف يمكن حمل الإطلاقات عليها و لأجل ذلك ينفتح باب المناقشة بالإضافة إلى الجهة الأُولى المتعرّضة لأصل النجاسة بتقريب انّه لو كان جسد الميّت نجساً لكان اللازم حسب ما هو المركوز

في الأذهان تخصيص نجاسة الملاقي بصورة وجود الرطوبة و حيث لا يمكن حمل المطلقات مع تكثّرها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 52

..........

______________________________

على الافراد النادرة فلا بدّ أن يقال بعدم كون الميّت نجساً و انّ نجاسة الملاقي مطلقاً حكم تعبّدي غير مرتبط بالنجاسة و السراية أصلًا كما التزم به جملة من القائلين بوجوب غسل اليد مع الجفاف.

و لكن المناقشة في تلك الجهة مندفعة بما ذكرنا فيها من وضوح دلالة الروايات على نجاسة الميت كسائر الأعيان النجسة و عليه فلِمَ لا يكون الارتكاز العرفي في اعتبار الرطوبة في السراية قرينة صارفة للمطلقات خصوصاً مع ملاحظة الموثقة الدالّة على طهارة كل يابس و لكن لا ينبغي مع ذلك ترك الاحتياط. و قد انقدح ممّا ذكرنا منشأ سائر الاحتمالات و الجواب عنها فتدبّر جيّداً خصوصاً ما أفاده الحلّي في العبارة المحكية فإنّ الإجماعين على تقدير الثبوت لا يثبتان عدم نجاسة من مسّ الميّت أصلًا فمن الممكن الالتزام بحصول الطهارة التبعية له كما مرّ، مع عدم ثبوتهما أصلًا خصوصاً بعد ملاحظة انّه قد ورد الأمر بغسل يديه قبل التكفين في الروايات.

بقي الكلام في هذه المسألة في انّه هل تتحقّق النجاسة بمجرّد الموت كما عليه جماعة من المحقّقين، أو يتوقّف على حصول البرد فبعد الموت و قبل البرد لم تحدث النجاسة كما عليه جماعة أُخرى منهم؟ قولان:

و الظاهر هو القول الأوّل لإطلاق أدلّة النجاسة المتقدّمة و التفسير في رواية ابن ميمون بما إذا برد الميّت قد عرفت انّه من الراوي و من المعلوم انّ تفسيره لا يكون حجّة بحيث يرفع اليد بسببه عن الإطلاق فيها فضلًا عن إطلاق غيرها من الروايات.

و ما يمكن أن

يكون مقيّداً لها هي صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: مسّ الميّت عند موته و بعد غسله و القبلة ليس بها بأس «1». و رواه الصدوق مرسلًا. قال المحدّث الكاشاني على ما حكي عنه-: «ربّما يوجد

______________________________

(1) الوسائل أبواب غسل المس الباب الثالث ح- 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 53

..........

______________________________

في بعض النسخ: بعد موته، و هو تصحيف» و في بعض النسخ: «به» بدل «بها» و في النسخة المطبوعة من الفقيه أخيراً: «و قال أبو جعفر (عليه السّلام): من مسّ الميّت بعد موته و بعد غسله و القبلة ليس بها بأس» لكن جعل علامة بدل النسخة: «عند موته و عند غسله».

و كيف كان فإن كانت الرواية مروية بالكيفية الأُولى الدالّة على نفي البأس عن مسّ الميّت عند موته و مسّه بعد غسله و القبلة أي في إحدى الحالتين فلا بدّ من ملاحظة المراد من كلمة «عند» و انّه هل يكون المقصود منها هو قبيل الموت كما في نظائره أو انّ المقصود منها التقارن بمعنى وقوع الموت و المسّ في آن واحد أو انّه يراد بها بعد الموت أي الآنات الأوّلية المتّصلة بالموت، و الاستشهاد بالرواية للتقييد انّما يتوقّف على إثبات الاحتمال الثالث مع انّه خلاف الظاهر لأنّه لا يطلق كلمة «عند» على ما يقع بعد المضاف إليه لها فلا يقال: عند الزوال لما بعد الزوال و هكذا و الاحتمال الأوّل و إن كان ملائماً لمعنى الكلمة إلّا انّه لا يجتمع مع إضافة المسّ إلى الميّت الظاهرة في وقوع الموت قبل المسّ فلا بدّ من التصرّف في إحداهما أو القول بالإجمال، و أمّا الاحتمال الثاني فهو

و إن كان في نفسه ممّا لا مانع منه و به يتحقّق الجمع بين إطلاق تلك الكلمة و إضافة المسّ إلى الميّت إلّا انّه يبعده عدم وجود المورد له إلّا نادراً فإنّه قلّما يتّفق التقارن بين الأمرين كما لا يخفىٰ.

ثمّ لو فرض كون المراد هو الاحتمال الثالث لكنّه لم يظهر انّ المراد بنفي البأس هو نفيه بالنظر إلى الطهارة و النجاسة فمن الممكن أن يكون ناظراً إلى غسل المسّ لأنّه هو مورد الشبهة غالباً، كما انّه يحتمل قويّاً أن يكون المراد نفيه بالنظر إلى الحكم النفسي و ناظراً إلى عدم ثبوت الحزازة النفسية و يؤيّده مضافاً إلى عطف القبلة على المسّ فتدبّر رواية تقبيل أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) ابنه إسماعيل الآتية. فانقدح انّ الرواية بهذه الكيفية غير صالحة لتقييد المطلقات المتقدّمة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 54

..........

______________________________

و أمّا بالكيفية الأخيرة المروية في النسخة المطبوعة من الفقيه أخيراً المشتملة على كلمة «بعد» قبل الموت و قبل الغسل فتارة يكون المقصود اشتراط كلا الأمرين و هما البعدية بعد الموت و البعدية بعد الغسل في نفي البأس و أُخرى يكون المراد نفي البأس بعد كل واحد من الأمرين مستقلا من دون مدخلية الاجتماع فإن كان المراد هو الاحتمال الأوّل فالرواية مشعرة بل ظاهرة في حصول النجاسة بمجرّد الموت كما هو غير خفي. و إن كان المراد هو الاحتمال الثاني فدلالتها على كون المراد حينئذٍ عدم البأس النفسي واضحة و إلّا يلزم عدم وجوب الغسل بالضم و الفتح في المس بعد البرد و قبل الغسل و تقييد إطلاقها بما دلّ على إيجابهما في غاية البعد.

و كيف كان لا يمكن رفع اليد عن

المطلقات بمثل هذه الصحيحة التي عرفت حالها من جهة اختلاف النسخ و من الجهات الأُخر.

و منه يظهر الكلام في صحيحة إسماعيل بن جابر قال: دخلت على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) حين مات ابنه إسماعيل الأكبر فجعله يقبّله و هو ميّت فقلت: جعلت فداك: أ ليس لا ينبغي أن يمسّ الميّت بعد ما يموت و من مسّه فعليه الغسل؟ فقال: امّا بحرارته فلا بأس إنّما ذاك إذا برد «1». فإنّ الظاهر من نفي البأس هو نفي إيجاب الغسل أو مع حزازته النفسية كما هو ظاهر.

و قد انقدح ممّا ذكرنا الجواب عن الاستدلال للقول الآخر بمثل الصحيحتين كما انّه ظهر الجواب عن التشبّث بالأصل موضوعاً للشكّ في الموت قبل البرد أو حكماً، و عمّا ذكره صاحب الحدائق من الجزم بعدم رفع جميع آثار الحياة و عمّا ادّعى من ملازمة الغسل بالفتح و الضم مع انّ مضمومة لا يكون إلّا بعد البرد فانّ التمسّك بالأصل الموضوعي ممنوع بعد العلم بحصول الموت بمجرّد زهاق الروح و إن لم يتحقّق البرد و بالأصل الحكمي لا مجال له مع وجود الدليل اللفظي

______________________________

(1) الوسائل أبواب غسل المس الباب الأول ح- 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 55

..........

______________________________

و هي الإطلاقات المتقدّمة، و الجزم بعدم رفع جميع آثار الحياة لا يدلّ على بقاء الطهارة أيضاً و دعوى الملازمة ممنوعة جدّاً بل ربّما استشهد على عدمها بمرسلة أيّوب بن نوح عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسّه الإنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسّه الغسل فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه «1». بناء

على انجبار سندها بالشهرة فإنّ القطعة المبانة من الحي نجسة سواء اشتملت على العظم أم لا و يجب فيها غسل اليد مطلقاً كما يأتي و لكن وجوب الغسل بالضم يختصّ بما إذا كانت مشتملة على العظم على ما هو مقتضى المرسلة المنجبرة.

المسألة الثالثة: في ميتة الحيوان الذي ليست له نفس سائلة و كان طاهراً حال الحياة و قد ادّعى الإجماع على طهارتها في محكي الخلاف و الغنية و السرائر و المعتبر و المنتهى و يدلّ عليها مضافاً إلى الإجماع روايات:

منها: موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سُئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البر، و الزيت و السمن و شبهه؟ قال: كلّ ما ليس له دم فلا بأس «2».

و منها: موثّقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السّلام) قال: لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة «3». فإنّ القدر المتيقّن منها هي الميتة و الحصر فيها إضافي فيصير المعنى انّه لا يفسد الماء من الميتة إلّا ما كانت له نفس سائلة.

و منها: صحيحة ابن مسكان قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): كلّ

______________________________

(1) الوسائل أبواب غسل المس الباب الثاني ح- 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الثلاثون ح 1.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الثلاثون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 56

..........

______________________________

شي ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس. «1» و نظيرها: ما عن أبي بصير في حديث قال: و كلّ شي ء وقع في البئر ليس له دم مثل

العقرب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس «2». و من الواضح انّ نفي البأس في الروايتين ليس لأجل كون البئر معتصماً لا يفسده شي ء ضرورة انّه بناء عليه لا فرق بين ما له نفس سائلة و غيره.

و بالجملة: أصل الحكم في الجملة لا ينبغي الإشكال فيه و انّما الإشكال في بعض المصاديق كالعقرب حيث وردت فيها روايات ظاهرة في النجاسة: كموثقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن جرّة وجد فيها خنفساء قد مات؟ قال: ألقه و توضّأ منه، و إن كان عقرباً فارق الماء و توضّأ من ماء غيره. «3» و يمكن أن يقال: بأنّه حيث كان العقرب من ذوي السموم يكون الأمر بالإراقة لأجل سمّه و لا دلالة له على كون الإراقة لأجل النجاسة فلا تعارض الروايات الدالّة على طهارته.

و رواية منهال: قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): العقرب تخرج من البئر ميتة قال: استق منها عشرة دلاء، قال قلت: فغيرها من الجيف؟ قال: الجيف كلّها سواء إلّا جيفة قد أجيفت فإن كانت جيفة قد أُجيفت فاستق منها مأة دلو فإن غلب عليها الريح بعد مأة دلو فانزحها كلّها «4». فإنّ الأمر بالاستقاء و التسوية بين العقرب و بين غيرها من الجيف يدلّ على نجاسته، و لكنّها مضافاً إلى ضعف سندها و إلى عدم تحقّق النجاسة للبئر فلا يكون الأمر بالاستقاء دليلًا على نجاسته حتّى تكون

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الثلاثون ح 3.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب السابع ح 11.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الثلاثون ح 4.

(4) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثاني و العشرون ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

النجاسات و أحكامها، ص: 57

..........

______________________________

دليلًا على نجاسة العقرب، و إلى دلالة الروايات المتعدّدة الواردة في النزح على عدم التسوية بين الجيف معارضة في خصوص موردها مع صحيحة ابن مسكان و رواية أبي بصير المتقدّمتين و غيرهما ممّا يدلّ على نفي البأس بوقوع العقرب في البئر و جواز التوضّي منه مثل رواية علي بن جعفر انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) عن العقرب و الخنفساء و أشباههما تموت في الجرّة أو الدن يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس «1».

و على تقدير عدم إمكان الجمع العرفي بينهما بحمل الأمر بالاستقاء على احتمال الضر لأنّه من ذوي السموم فلا يعارض ما دلّ على الطهارة نقول: إنّه على تقدير التعارض يكون الترجيح مع أخبار الطهارة للشهرة الفتوائية على طبقها هذا في العقرب.

و قد اختلف الأصحاب في الوزغ أيضاً بعد مفروغية انّه ممّا لا نفس له فإنّه قد ذهب جماعة إلى نجاسته كالكلب و هو المنقول عن الوسيلة، و يظهر من بعضهم نجاسة ميتته و اعتمدوا في ذلك على روايات يظهر من بعضها نجاسته حيّاً و ميّتاً و من بعضها الآخر نجاسته ميتاً فقط.

منها: رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الفأرة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّاً هل يشرب من ذلك الماء و يتوضّأ منه؟ قال: يسكب منه ثلاث مرّات و قليله و كثيره بمنزلة واحدة ثمّ يشرب منه و يتوضّأ منه، غير الوزغ فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه «2». بدعوى انّ عدم جواز الانتفاع بما يقع فيه يكون منشأه نجاسة الوزغ و نجاسة الماء الذي وقع فيه.

و منها: رواية يعقوب بن عيثم قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): سام أبرص

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الثلاثون ح 6.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب التاسع عشر ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 58

..........

______________________________

وجدنا قد تفسّخ في البئر؟ قال: إنّما عليك أن تنزح منها سبع دلاء «1». و الظاهر انّ السام أبرص نوع من الوزغ.

و منها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الفأرة و الوزغة تقع في البئر؟ قال: ينزح منها ثلاث دلاء «2». بتقريب انّ الأمر بالنزح في الروايتين ظاهر في وجوبه و إيجاب النزح ظاهر في الإرشاد إلى نجاسة الماء و هي تدلّ على نجاسة الوزغ كما هو ظاهر.

و منها: رواية الفقه الرضوي: فإن وقع في الماء وزغ أهريق ذلك الماء «3».

و الحقّ انّه لا يمكن المساعدة علىٰ شي ء ممّا استدلّ به على النجاسة لثبوت التعارض بين نفس هذه الروايات حيث إنّ الاولى منها تدلّ علىٰ عدم قابلية الانتفاع بما وقع فيه الوزغ سواء كان حيّاً أو ميّتاً، و الثانية تدلّ على جواز الانتفاع بعد نزح سبعة دلاء مع فرض تفسّخ الوزغ في البئر و لا مجال لدعوى كون الثانية مقيّدة للأُولى بحمل عدم الجواز على ما إذا لم يتحقّق النزح لأنّ سياق الاولى يدلّ علىٰ عدم جواز الانتفاع بوجه و لا يقبل التقييد و الثانية أيضاً تتعارض مع الثالثة لأنّها تدلّ على وجوب نزح سبع دلاء و هي تدلّ على وجوب نزح ثلاث دلاء، و هذا الاختلاف و التعارض قرينة على عدم كونها في مقام بيان الحكم الإلزامي بل هي مسوقة لإفادة حكم استحبابي كما هو مقتضى الجمع بينها و بين

الروايات الدالّة على طهارة الوزغ:

كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن العظاية و الحيّة و الوزغ يقع في الماء فلا يموت أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال:

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب التاسع عشر ح 7.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب التاسع عشر ح 2.

(3) الفقه الرضوي.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 59

..........

______________________________

لا بأس به «1».

و رواية جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن السام أبرص يقع في البئر فقال: ليس بشي ء حرّك الماء بالدلو في البئر. «2» و مرسلة ابن المغيرة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت: بئر يخرج من مائها قطع جلود؟ قال: ليس بشي ء انّ الوزغ ربّما طرح جلده و قال: يكفيك دلو من ماء. «3» و موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث انّه سُئل عن العظاية يقع في اللبن، قال: يحرم اللبن قال: إنّ فيها السمّ. «4» و لو كانت العظاية نوعاً من الوزغ كما قال سيّدنا الأستاذ دام ظلّه تكون هذه الرواية مفسِّرة للروايات الدالّة على وجوب النزح فيما وقع الوزغ فيه و مبيّنة للوجه في ذلك و انّ العلّة هي كونها ذات سمّ لا النجاسة.

و بالجملة لا يبقى ارتياب بعد ما ذكرنا في طهارة الوزغ. نعم هنا اختلافات في كون الحيوان الفلاني كالحية و التمساح هل تكون ممّا له نفس أم لا و لكن الورود في هذا البحث لا يكون من شأن الفقيه و حكم الشبهة الموضوعية واضح فتدبّر جيّداً.

بقي في مبحث نجاسة الميتة فروع وقع التعرّض لها في المتن:

الفرع الأوّل: القطعة المبانة من الحي و قد

حكم عليها بالنجاسة و لا بدّ من ملاحظة دليلها فنقول: ربما يستند في ذلك إلى أدلّة نجاسة الميتة فإنّها تشملها

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و الثلاثون ح 1.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب التاسع عشر ح 8.

(3) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب التاسع عشر ح 9.

(4) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب السادس و الأربعون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 60

..........

______________________________

امّا لكونها ميتة حقيقة لأنّ الميتة بحسب اللغة هو ما ذهب روحه و هذه القطعة قد انقطع عنها الروح بعد صيرورتها مبانة فهي ميتة حقيقة، و أمّا لوجود مناط نجاسة الميتة و هو الموت فيها و إن لم يصدق عليها عنوان الميتة.

و يرد عليه انّ العناوين المأخوذة موضوعاً في الأدلّة الشرعية لا بدّ و أن تؤخذ من العرف و العقلاء و من المعلوم انّ إطلاق الميتة على الجزء المبان من الحي بعيد عن الأنظار العرفية و إن كان موافقاً للمعنى اللغوي.

و أمّا حديث تنقيح المناط و كشف الحكم بالملاك ففيه انّ إثبات الحكم التعبّدي الذي لم يعلم مناطه بمجرّد الظنّ بالملاك مشكل لأنّ الظنّ لا يسمن و لا يُغني فاستفادة النجاسة في المقام من أدلّة نجاسة الميتة لا مجال لها أصلًا. نعم هنا روايات خاصّة يمكن التمسّك بها:

منها: صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلًا فذروه فإنّه ميت، وكلوا ممّا أدركتم حيّاً و ذكرتم اسم اللّٰه عليه «1». فإنّه يستفاد من قوله: «فذروه» عدم جواز الانتفاع به مطلقاً و هو لا يتمّ إلّا مع كونه نجساً كما لا

يخفى، مع انّ ظاهر التعليل بأنّه ميّت مع عدم إطلاق عنوان الميّت عليه عرفاً هو التنزيل منزلة الميّت و ظاهره انّه كالميّت امّا في جميع الآثار و الأحكام و أمّا في خصوص الأحكام الظاهرة و الآثار البارزة التي منها النجاسة بلا إشكال.

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئاً فهو ميّت، و ما أدركت من سائر جسده حيّاً فذكه ثمّ كُل منه. «2» و منها: رواية عبد اللّٰه بن سليمان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: ما أخذت

______________________________

(1) الوسائل أبواب الصيد الباب الرابع و العشرون ح 1.

(2) الوسائل أبواب الصيد الباب الرابع و العشرون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 61

..........

______________________________

الحبالة فانقطع منه شي ء فهو ميتة «1». فإنّ إطلاق التنزيل فيهما أيضاً يقتضي النجاسة و دعوى انّ المتبادر من التنزيل هو التنزيل من حيث حرمة الأكل و يؤيّده تجويز أكل ما أدرك حيّاً مع التذكية في الروايتين الأولتين مدفوعة بأنّ التنزيل قد وقع في مرتبة العلّة و الحكم بوجوب الرفض متفرّع عليه فكيف يمكن أن تكون العلّة للحكم المذكور هو التنزيل في نفس ذلك الحكم كما هو ظاهر.

و منها: صحيحة عبد اللّٰه بن يحيى الكاهلي بطريق الصدوق بل الكليني أيضاً بناءً على وثاقة سهل بن زياد الواقع في طريقه قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا عنده عن قطع أليات الغنم، فقال: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح به مالك ثمّ قال: إنّ في كتاب علي (عليه السّلام) انّ ما قطع منها ميّت لا ينتفع به «2». و استشهاد الإمام (عليه السّلام) بكتاب

عليّ (عليه السّلام) دليل على كون إطلاق عنوان الميتة انّما هو بنحو التنزيل لا حقيقة و عرفاً و إطلاق التنزيل مقتض للنجاسة كما عرفت.

و منها: رواية الحسن بن علي قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) فقلت: جعلت فداك انّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ قال: هي حرام، قلت: فيستصبح بها؟ قال: أما تعلم انّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام. «3» و قد اختلف في معنى الحرمة في قوله (عليه السّلام) في ذيل الرواية «و هو حرام» فقال بعض: إنّ معناها النجاسة أي و هو نجس. و فيه انّ إرادة النجس من الحرام بعيدة لا دليل عليها.

و قال سيّدنا الأستاذ دام ظلّه-: «الظاهر عدم إرادة النجس من الحرام بل الظاهر منها معروفية الملازمة بين حرمة الأكل في العضو المقطوع و بين

______________________________

(1) الوسائل أبواب الصيد الباب الرابع و العشرون ح 3.

(2) الوسائل أبواب الذبائح الباب الثلاثون ح 1.

(3) الوسائل أبواب الذبائح الباب الثلاثون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 62

..........

______________________________

النجاسة في عصر الصدور».

و فيه انّ التلازم بينهما انّما هو بحسب الخارج لا بحسب الاستعمال و لا دليل على جواز استعمال أحد المتلازمين في معناه و إرادة الآخر منه كما هو ظاهر. و الذي يسهّل الخطب انّه لو كان الحرام فيها بمعنى النجس لا يرتفع الإشكال عن الرواية أيضاً لأنّ ظاهرها عدم جواز الاستصباح و لا يلائمه التعليل بنجاسة اليد و الثوب لعدم الدليل على حرمة تنجيسهما بإصابة النجس إلّا أن يقال: إنّه بناءً على ذلك يكون النهي عن الاستصباح المستفاد من الجواب نهياً إرشادياً لا مولويّاً موجباً لاستحقاق العقوبة عل بالمخالفة.

و منها: موثقة أبي بصير

عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) انّه قال في أليات الضأن تقطع و هي أحياء: انّها ميتة «1». و إطلاق التنزيل فيها أيضاً يقتضي النجاسة كما مرّ. هذا في الجزء المبان من الحيوان الحيّ غير الإنسان.

و أمّا الجزء المبان من الإنسان فقد عمّم الفقهاء البحث بحيث يشمله أيضاً مع انّه من الظاهر عدم إمكان إلغاء الخصوصية من الروايات الواردة في الأجزاء المبانة من الحيوان و تعميمها للجزء المبان من الإنسان أيضاً إذ كيف تمكن استفادة حكم اليد المبانة من الإنسان من الرواية الواردة في الألية المبانة من الضأن مثلًا و قد عرفت انّ الأدلّة الواردة في أصل نجاسة الميتة قاصرة عن إثبات الحكم للجزء المبان من الحي بعد عدم صدق عنوان الميتة عليه عند العرف.

نعم وردت في المقام رواية نقلها المشايخ الثلاثة في كتبهم و هي ما رواه أيّوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسّه إنسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على

______________________________

(1) الوسائل أبواب الذبائح الباب الثلاثون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 63

..........

______________________________

من يمسّه الغسل فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه «1». فإنّه يستفاد من تنزيل القطعة المبانة من الإنسان منزلة الميت كونها كذلك في جميع الآثار و الأحكام أو في خصوص الآثار البارزة التي منها النجاسة بل لا وجه لتنزيل ما لا عظم له أيضاً منزلة الميت إلّا في النجاسة لعدم وجوب غسل المسّ فيه على ما هو صريح ذيل الرواية.

و بالجملة: لا ينبغي الإشكال في أنّ الرواية في مقام بيان حكمين: أحدهما التنزيل منزلة الميتة

مطلقاً، و ثانيهما التفصيل في وجوب غسل المسّ بين ما كان فيه عظم و ما لم يكن فيه عظم و ليس الحكم الثاني قرينة على كون التنزيل في خصوص ما فيه عظم ضرورة انّه إن كان المراد هو التنزيل في خصوصه بالإضافة إلى وجوب غسل المسّ فمن الواضح إيجاب ذلك للاستهجان فإنّه من المستهجن إفادة حكم واحد بهذه الكيفية كما هو ظاهر، و إن كان المراد هو التنزيل في خصوصه في ترتّب النجاسة عليه فيردّ عليه مضافاً إلى منع كون الذيل قرينة على الاختصاص انّه لا يضرّ فيما نحن بصدده لأنّه بعد ثبوت النجاسة لما فيه عظم تثبت لما ليس فيه بعدم القول بالفصل من هذه الجهة فتدبّر. نعم الرواية مرسلة و الظاهر انجبارها باستناد المشهور إليها و الفتوى علىٰ طبقها فلا يبقىٰ خلل فيها لا من حيث السند و لا من حيث الدلالة.

بقي الكلام في هذا الفرع فيما استثنى من الأجزاء المبانة من الإنسان بل مطلق الحيوان و هي عبارة عن الأجزاء الصغار كالبثور و الثالول و ما يعلو الشفة و القروح عند البرء و قشور الجرب التي تنفصل من بدن الأجرب عند الحكّ و نحو ذلك فقد حكم في المتن بطهارتها، و قد عرفت انّ الروايات الواردة في الاجزاء المبانة من الحي لا يمكن إلغاء الخصوصية عنها و تعميمها بحيث تشمل الأجزاء

______________________________

(1) الوسائل أبواب غسل المس الباب الثاني ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 64

..........

______________________________

المبانة من الإنسان إلّا انّ الكلام هنا في انّه على فرض شمولها لها فهل تشمل الأجزاء الصغار أيضاً أم لا؟ قد يقال بأنّه يستفاد من كلمات العلّامة (قدّس سرّه) في المنتهي

انّ الأدلّة شاملة لها لتمسّكه لطهارتها بدليل الحرج الظاهر في انّه لولا دليله لكان مقتضى الأدلّة النجاسة.

و قال سيّدنا الأستاذ دام ظلّه في مقام بيان محتملات الروايات المتقدّمة خصوصاً صحيحة محمد بن قيس، ما حاصله:

«انّ في قوله (عليه السّلام): ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلًا فذروه فإنّه ميت، احتمالات:

أحدها: أن يكون المراد من قوله (عليه السّلام): فإنّه ميت، انّه ميّت حكماً على معنى ان مصحح الادعاء بعد عدم الصدق على نحو الحقيقة هو محكومية الجزء بأحكام الميت كقوله: الطواف بالبيت صلاة فيكون مفاده انّ وجوب الرفض انّما هو لأجل كونه ميتة حكماً، إلى أن قال: لكن لا يكون هذا التعليل معمّماً كسائر التعليلات.

الثاني: انّ المصحّح لدعوى انّه ميّت هو مشابهة الجزء للكلّ في زهاق الروح فكأنه قال فذروه لأنّه زهق روحه، و عليه فيكون العلّة للحكم برفضه هي زهاق روحه و العلّة تعمّم فتشمل الأجزاء المتّصلة إذا زهق روحها و ذهبت إلى الفساد و النتن.

الثالث: أن يقال: إنّ المراد بقوله: فإنّه ميّت انّه غير مذكّى لإفادة انّ الحيوان بأجزائه إذا لم يكن مذكّى بما جعله الشارع سبباً للتذكية فهو ميّت، فالميتة مقابلة المذكّى في الشرع كما يظهر بالرجوع إلى الروايات و موارد الاستعمالات، و ليست التذكية في لسان الشارع و عرف المتشرّعة عبارة عمّا في عرف اللغة فانّ الذكوة لغة عبارة عن الذبح، و لا كذلك في الشرع إذ التذكية ذبح بخصوصيات معتبرة في الشرع إلى أن قال: فدعوى أنّ التذكية حقيقة شرعية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 65

..........

______________________________

قريبة جدّاً، و كذا للميتة التي هي في مقابلها، فالمذبوح بغير ما قرّر شرعاً ميتة و

إن قلنا بعدم صدقها عرفاً إلّا على ما مات حتف أنفه أو بغير الذبح و كذا الاجزاء المبانة من الحيوان ميتة و إن لم تصدق عليها في العرف و اللغة، ثمّ قال دام ظلّه-: انّ الاحتمالات المتقدّمة إنّما تأتي في صحيحة محمد بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) ما أخذت .. لو خليت و نفسها، و أمّا مع لحاظ سائر الروايات فيسقط الاحتمال الثاني جزماً لعدم تأتيه في غيرها و بعد عدم صحّة الاحتمال الثاني في غير الصحيحة يسقط فيها أيضاً للجزم بوحدة مفاد الجميع فبقي الاحتمالان، و الأقرب الأخير منهما لما عرفت من كثرة استعمال الميتة قبال المذكى بحيث صارت كحقيقة شرعية أو متشرعية أو نفسهما بل لو ادّعاها أحد ليس بمجازف فاتّضح ممّا مرّ قوّة التفصيل بين الأجزاء الصغار التي زالت حياتها بالقطع و غيرها كالثؤلول و البثور» انتهى ملخّص كلامه دام بقاه.

و غير خفي انّ ما أفاده من القول بالحقيقة الشرعية و نحوها في الميتة و المذكّى صحيح جدّاً و سيأتي البحث عن معنى الميتة إن شاء اللّٰه تعالى إلّا انّه بالإضافة إلى الحيوانات غير الإنسان فإنّه لا يتصوّر للإنسان عنوان الميتة مقابل المذكى و كذا العكس و عليه فلا يمكن أن يستفاد حكم الأجزاء الصغار للإنسان عن مثل صحيحة محمد بن قيس التي تجري فيها الاحتمالات المتقدّمة، و قد استفدنا حكم الاجزاء الكبار له من مرسلة أيّوب بن نوح المتقدّمة. و من الظاهر انّ التنزيل فيها منزلة الميتة ليس بحيث يعمّ الأجزاء الصغيرة أيضاً ضرورة انّ مورده هي القطعة و هي غير شاملة لها و عليه فتبقى الأجزاء الصغار من دون دليل على النجاسة و هو يكفي في الحكم بطهارتها

و لا حاجة بعد عدم وجود الدليل على النجاسة إلى رواية علي بن جعفر انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) عن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثؤلول و هو في صلاته أو ينتف بعض

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 66

..........

______________________________

لحمه من ذلك الجرح و يطرحه؟ قال: إن لم يتخوّف أن يسيل الدم فلا بأس، و إن تخوّف أن يسيل الدم فلا يفعله «1». و إن استدلّ بها الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) لأنّه إذا لم يكن دليل على نجاستها تصل النوبة إلى الأصل و هو يقتضي الطهارة و لا حاجة إلى الاستدلال بالرواية حتّى يقال إنّها لا تكون ناظرة إلى عدم قادحية الفعل المذكور أي قطع الثؤلول من جميع الجهات فيستدلّ به على الطهارة لأنّه قد يقطعه بيده و هو في صلاته ثمّ يطرحه فلو كان الثؤلول ميتة كان حمله في الصلاة و لو آناً ما مبطلًا لها و يؤيّده اشتراط عدم سيلان الدم بل هي ناظرة إلى عدم قادحيته في الصلاة من جهة كونه فعلًا يسيراً لا يقطع الصلاة، و اشتراط عدم سيلان الدم مستند إلى ان قطع الثؤلول و نتف بعض اللحم يستلزم سيلانه غالباً فكأنّها تدلّ على انّ مثل القطع لا يمنع عن الصلاة في نفسه لو لم ينجر إلى ما يكون ملازماً له غالباً و هو سيلان الدم فتدبّر فإنّ الرواية مع ذلك لا تخلو عن الدلالة على الطهارة خصوصاً بعد كون القطع بسبب اليد نوعاً و وجود الرطوبة غالباً خصوصاً مع كون بلد السؤال ممّا يعرق فيه الأبدان كثيراً فإنّ عدم التعرّض لذلك في الرواية دليل

على عدم النجاسة كما لا يخفى.

الفرع الثاني: في أجزاء الميتة و هي على قسمين: قسم تحلّه الحياة كاللحم و قسم لا تحلّه كالعظم و القرن و السنّ و المنقار و الظفر و الحافر و الشعر و الصوف و الوبر و الريش و قد حكم في المتن بنجاسة القسم الأوّل و طهارة القسم الثاني.

امّا نجاسة القسم الأوّل الذي يكون المراد به هي الأجزاء المبانة من الميتة التي تحلّها الحياة ضرورة انّه مع عدم الانفصال لا يكون البحث فيه بحثاً مستقلا عن بحث نجاسة الميتة الذي قد تقدّم مفصّلًا فيدلّ عليها أُمور:

الأوّل: الأدلّة المثبتة للحكم بالنجاسة على الميتة فإنّ معروض النجاسة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و الستون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 67

..........

______________________________

العارضة بسبب الموت هي أجزاء الميتة على ما يقتضيه نظر العرف من غير فرق عندهم بين صورتي الاتصال و الانفصال خصوصاً إذا كان حصول عنوان الميتة بنفس الانفصال كما إذا قطعنا الحيوان نصفين، و بالجملة لا إشكال عند العرف بعد قيام الدليل على نجاسة الميتة في انّ انفصال الجزء لا يكون مغيّراً لحكمه و موجباً لزوال النجاسة على ما هو ظاهر.

الثاني: ما روى من الأمر بالاجتناب عن ظروف أهل الكتاب معلّلًا بأنّهم يأكلون فيها لحم الخنزير و الدم و الميتة، مع وضوح انّ ما يقع في الإناء من الميتة ليس إلّا أجزائها غالباً لا مجموعها.

الثالث: الاستصحاب أي استصحاب نجاسة الجزء حال الاتصال فإنّه لا مانع من جريانه و إن كان غير محتاج إليه لمكان الدليل الاجتهادي على النجاسة.

و خالف فيما ذكر صاحب المدارك (قدّس سرّه) فإنّه بعد تضعيفه الحكم بنجاسة الأجزاء المبانة من الميتة بأنّ

غاية ما يستفاد من الأخبار هي نجاسة جسد الميّت و هو لا يصدق على الأجزاء قطعاً، قال: «نعم يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميّت استصحاباً لحكمها حال الاتصال و لا يخفى ما فيه».

و لعل نظره (قدّس سرّه) من المناقشة في جريان الاستصحاب إلى تبدّل عنوان الموضوع فانّ الموضوع في القضية المتيقّنة هو عنوان الميتة و هو لا يصدق على الجزء بعد الانفصال كالماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره من قبل نفسه فإنّه لا يصحّ إجراء الاستصحاب فيه لكون الموضوع الذي ثبت له النجاسة هو الماء الموصوف بوصف التغيّر و المفروض عدم بقائه فعلًا فلا مجال لاستصحاب حكمه.

و الحقّ هو جريان الاستصحاب و إنّ منشأ المناقشة فيه هو الخلط بين موضوع الدليل الاجتهادي و بين موضوع الاستصحاب، بيان ذلك:

انّ الدليل الاجتهادي مثل «الماء المتغيّر بالنجاسة نجس» قد رتّب الحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 68

..........

______________________________

فيه على العنوان المأخوذ فيه كالماء المتغيّر في المثال و مع الشكّ في ثبوت هذا العنوان لا مجال للتمسّك بالدليل فضلًا عمّا إذا قطع بزواله بانتفاء بعض قيوده و لذا لو شكّ ابتداء في حصول التغيّر و عدمه لا يجوز التمسّك بالدليل للزوم إحراز الموضوع في شمول الدليل الاجتهادي و جريانه.

و لكن فيما إذا تحقّق العنوان خارجاً و أُحرز الموضوع حقيقة و صار الماء في المثال متغيّراً بالنجاسة قطعاً يصير المصداق الخارجي معروضاً للحكم بالنجاسة الذي هو مفاد الدليل الاجتهادي فإذا تبدّل بعض حالاته و زال التغيّر من قبل نفسه و شككنا في بقاء النجاسة و عدمه من جهة احتمال كون التغيّر دخيلًا في ترتّب الحكم حدوثاً من غير اعتباره في البقاء و المفروض

قصور الدليل الاجتهادي عن إفادة حكمه نفياً أو إثباتاً فلا مانع من الاستمداد من قوله: لا تنقض اليقين بالشكّ و استفادة بقاء حكم النجاسة بمعاونته نظراً إلى انّ هذا الماء كان في السابق نجساً و إن كانت العلّة هي التغيّر و الآن نشكّ في بقائها و المفروض عدم كونه شخصاً آخر و فرداً ثانياً فأيّ مانع من جريان الاستصحاب فيه، و في المقام نقول: إنّ موضوع النجاسة في الدليل الاجتهادي و إن كان هو عنوان الميتة و هو لا يصدق على الأجزاء بناءً على قول صاحب المدارك إلّا انّه لا إشكال في انّ معروض النجاسة سابقاً هي نفس هذه الأجزاء و بعد انفصال الجزء نشكّ في انّ هذا الجزء الذي كان في السابق نجساً هل يكون باقياً على ما كان أم لا و لا محيص في مثله من الرجوع إلى الاستصحاب بعد فرض قصور الدليل الاجتهادي. فانقدح انّه إذا وصلت النوبة إلى الأصل يكون مقتضاه بقاء النجاسة أيضاً.

القسم الثاني: الأجزاء التي لا تحلّها الحياة من الميتة كالأمثلة المذكورة و لا إشكال في طهارتها و مغايرتها لسائر الأجزاء انّما الإشكال في انّه هل لا تكون هذه الأجزاء مشمولة لأدلّة نجاسة الميتة فلا تحتاج إلى دليل على الاستثناء بل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 69

..........

______________________________

يكفي في إثبات طهارتها القاعدة أو انّها تشملها و تحتاج إليه؟ قولان ذهب إلى الأوّل سيّدنا الأستاذ دام ظلّه بدعوى انّ ما دلّ على نجاسة الميتة على كثرتها انّما علق فيها الحكم على عنوان الجيفة و الميتة و هما بما لهما من المعنى الوضعي لا تشملان ما لا تحلّه الحياة فإنّ الجيفة هي الجثّة المنتنة من

الميتة و النتن وصف لما تحلّه الحياة، و لا ينتن الشعر و الظفر و غيرهما من غير ما تحلّه الحياة، و دعوى انّ الجيفة و إن كانت معنًى وصفياً و لكنّها صارت اسماً للمجموع الذي من جملته ما لا تحلّه الحياة، في غير محلّها لعدم ثبوت ذلك بل الظاهر من اللغة انّ الجيفة اسم للجثّة المنتنة فتكون تلك الأجزاء خارجة عن مسمّاها، ففي القاموس و الصحاح «الجيفة: جثّة الميّت و قد أراح أي: أنتن» و في المنجد: «الجيفة: جثّة الميّت المنتنة» و فيه «جافت الجيفة أي: أنتنت» و الميتة ما زال عنها الروح في مقابل الحي و لا تطلق على الأجزاء التي لم تحلّها الحياة و لو بتأوّل كما تطلق كذلك على ما تحلّها، و صيرورتهما اسماً للمجموع الداخل فيه تلك الأجزاء غير ثابت فالحكم بنجاسة الجيفة و الميتة لا يشمل تلك الأجزاء لا لفظاً و لا بمدد الارتكاز أي ارتكاز العقلاء باسراء النجاسة إلى الأجزاء فأصالة الطهارة بالنسبة إليها محكمة. انتهى كلامه.

و لكن الحقّ هو الثاني لأنّ العرف يستفيد من أدلّة نجاسة الميتة نجاستها بجميع أجزائها حتّى ما لا تحلّه الحياة فإنّ أهل العرف يطلقون الميتة على مجموعها و الظاهر انّه لا يكون من باب التغليب و المسامحة.

إن قلت: لا فرق فيما لا تحلّه الحياة بين حال حياة الحيوان و مماته فكيف يكون في حال حياته محكوماً بالطهارة و بعدها بالنجاسة؟!.

قلت: الفرق موجود لنموّه حال حياة الحيوان و عدم نموّه بعد مماته و المراد من عدم حلول الحياة فيه هو عدم حلول الحياة الحيوانية فيه و إلّا فالحياة النباتية موجودة في حال حياة الحيوان مرتفعة بموته مع انّه إذا أطلق العرف عليه عنوان

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 70

..........

______________________________

الميتة فلا مانع من شمول الدليل له و لا تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة إلّا انّ كثيراً من النصوص الواردة في المقام قد دلّت على طهارتها:

ففي الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، انّ الصوف ليس فيه روح. «1» و معنى: ليس فيه روح انّه ليس من شأنه أن يكون فيه روح حتّى حال حياة الحيوان، و هذه الرواية و إن وقع التصريح فيها بحكم الصوف إلّا انّ العلّة و هي قوله: إنّ الصوف ليس فيه روح تعمّم نفي البأس بالإضافة إلى كلّ ما ليس فيه روح في حال حياة الحيوان.

و في موثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أبي يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة من الميتة و أنفحة الميتة؟ فقال: كلّ هذا ذكى و قال أي الكليني راوي الحديث-: و زاد فيه علي بن عقبة و علي بن الحسن بن رباط قال: و الشعر و الصوف كلّه ذكي. «4» و في رواية صفوان على ما قال الكليني عن الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: الشعر و الصوف و الريش و كل نابت لا يكون ميتاً قال: و سألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال: يأكلها. «2» و في قبال هذه الروايات قد وردت روايات أُخر مشعرة بل ظاهرة في نجاسة المذكورات:

منها: رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه قال: قال جابر بن عبد اللّٰه: انّ دباغة الصوف و الشعر غسله بالماء، و أي شي ء يكون أطهر من

الماء «3». فانّ ظاهرها

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الستون ح 1.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الستون ح 2- 3.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الستون ح 4.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الستون ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 71

..........

______________________________

احتياج الصوف و الشعر إلى الدباغة أي التطهير، و التعبير بالدباغة مكان التطهير لعلّه بمناسبة قول العامّة بأنّ دباغة جلد الميتة مطهرة له، و بالجملة تكون هذه الرواية ظاهرة في انّ الشعر و الصوف لا يكونان طاهرين بل محتاجين إلى الدباغة لحصول الطهارة و دباغتهما غسلهما بالماء.

و في الاستدلال بها نظر لكونها مع وهنها بالنقل عن جابر إذ لا وجه لنقل الإمام (عليه السّلام) عن جابر و مع عدم وجه للتعبير عن التطهير بالدباغة مخالفة لفتوى الأصحاب و الأخبار الكثيرة الدالّة على انّ المذكورات ذكية فلا بدّ من أن تحمل الرواية على غسل موضع الملاقاة للميتة فيما إذا نتفا منها كما لا يخفى.

و منها: ما روا يونس عنهم (عليهم السّلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق: الأنفحة و البيض و الصوف و الشعر و الوبر. و الظاهر منها انحصار الذكية و ما فيه منافع الخلق في الخمسة المذكورة في الرواية و إن لم نقل بثبوت المفهوم للعدد لأنّ الإمام (عليه السّلام) في مقام تعداد الأشياء الذكية الكذائية قد اكتفى بالمذكورات خصوصاً مع التصريح بعنوان الخمس فالظاهر الانحصار مع انّك قد عرفت انّ كل ما ليس فيه روح ذكي و من المعلوم ثبوت المنافع لجلّها لولا كلّها.

و قد أجاب عنها سيّدنا الأستاذ دام ظلّه بأنّه من الممكن أن يكون قوله (عليه

السّلام): «ذكية» صفة لخمسة و خبرها بعدها فيكون المراد الاخبار بأنّ في بعض المستثنيات منافع للناس.

و احتماله و إن كان صحيحاً في نفسه إلّا انّ مضمون الرواية يصير على هذا أمراً غير مرتبط بشأن الإمام (عليه السّلام) و لعلّه لذلك أمر بالتأمّل في آخر كلامه و الصحيح في الجواب أن يقال: إنّها لا تصلح لمعارضة سائر النصوص الواردة في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 72

..........

______________________________

المقام الدالّة على طهارة كلّ ما ليس فيه روح.

و منها: رواية الفتح بن زيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا، فكتب (عليه السّلام): لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب و كلّما كان من السخال، الصوف إن جز و الشعر و الوبر و الإنفحة و القرن و لا يتعدّى إلى غيرها إن شاء اللّٰه تعالى «1». و الظاهر منها انّ جواز الانتفاع في الصوف مشروط بالجز و إنّ ما ينتفع من الميتة منحصر في المذكورات و لا يتعدّى إلى غيرها.

و الجواب عنها أوّلًا ضعف سندها و ثانياً وهن متنها فإنّها تكون في مقام بيان ما لا ينتفع من الميتة ثمّ تنتقل إلى بيان ما ينتفع بدون ذكر كلمة: «و ينتفع منها» و ثالثاً مخالفتها للنصوص المعتبرة الصريحة و فتوى الأصحاب.

ثمّ انّه قد نسب إلى الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) التفصيل في الصوف و الشعر و الوبر بين ما إذا أخذ ذلك بجزّ و بين ما إذا أخذ بنتف بطهارة الأوّل و نجاسة الثاني و الظاهر انّ مراده عدم طهارة أُصولها المتّصلة بجلد الميتة و نجاستها نجاسة الميتة و الوجه في ذلك أحد أمرين:

أحدهما:

انّ الشعر و الصوف و نحوهما يستصحب عند انفصاله بالنتف جزء من أجزاء الميتة ممّا تحلّه الحياة و هو غير مستثنى عن نجاسة الميتة.

ثانيهما: رواية فتح بن زيد الجرجاني المتقدّمة آنفاً الدالّة على اشتراط الانتفاع بالصوف بما إذا جز.

و لا يخفى ما في كلا الأمرين:

امّا الأوّل فلأنّ محلّ الكلام ما إذا كان الصوف و الشعر و الوبر مجرّداً عن أجزاء الميتة لا ما إذا كان مستصحباً لشي ء من أجزائها.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثاني و الثلاثون ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 73

..........

______________________________

و أمّا الثاني فلما عرفت فيها من ضعف السند و اضطراب المتن و المخالفة لفتوى الأصحاب حيث إنّهم قد تعدّوا عن المذكورات فيها مضافاً إلى انّ مقتضاها اشتراط الجزّ في خصوص الصوف من السخال لا الصوف و الشعر و الوبر من كلّ حيوان فلا تنطبق على المدّعى.

و الدليل على عدم الفرق بين الجزّ و النتف مضافاً إلى ما عرفت من عدم وجود الدليل على الفرق رواية حريز قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) لزرارة و محمد بن مسلم: اللبن و اللباء و البيضة و الشعر و الصوف و القرن و الناب و الحافر وكل شي ء يفصل من الشاة و الدابّة فهو ذكي و إن أخذته منه بعد أن تموت فاغسله وصل فيه. فإنّها تدلّ على عدم نجاسة أُصول الشعر و الصوف و نحوهما في صورة النتف بالنجاسة العينية المبحوث عنها في المقام و لزوم الغسل للنجاسة العرضية التي حصلت لأُصولها بالاتصال بجلد الميتة.

إن قلت: قد أمر في الرواية بغسل مطلق ما أُخذ من الحيوان بعد أن يموت سواء كان بالجزّ أو بالنتف، و في

صورة الجزّ لم يتّصل ما أخذ منه بالجلد حتّى يغسل للنجاسة العرضية.

قلت: حيث إنّ الأخذ أي أخذ الصوف و الشعر من الحيوان بعد أن مات يكون بالنتف غالباً فالرواية ناظرة إلى خصوص هذه الصورة و محمولة عليه.

الفرع الثالث: البيض من الميتة الذي اكتسى القشر الأعلى و المراد من القشر الأعلى هو الجلد الغليظ الأبيض نوعاً و قد حكم في المتن بطهارته مشروطاً بالشرط المذكور فيه و هو كونه مكتسياً لذلك القشر و هل الطهارة فيه على طبق القاعدة من دون حاجة إلى مثل رواية خاصّة أو انّ مقتضى القاعدة النجاسة؟ قال بعض الأعلام على ما في تقريراته-: إنّ مقتضى القاعدة الطهارة من دون فرق بين صورة الاكتساء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 74

..........

______________________________

لذلك القشر و عدمه لقصور ما دلّ على نجاسة الميتة عن شمول بيضتها لأنّ أجزاء الميتة و إن كانت نجسة كنفسها إلّا انّ أدلّة نجاستها غير شاملة لما هو خارج عن الميتة و إن كانت ظرفاً لوجوده من غير أن تتّصل بشي ء من أجزاء الميتة فالحكم بطهارة البيضة على وفق القاعدة في كلتا الصورتين.

و لا يخفى ما فيه من المناقشة لأنّ البيضية قبل الانفصال يكون جزء من الحيوان و إن لم تكن متّصلة بشي ء من أجزائه كبوله و فضلته و نحوهما، فالأدلّة الدالّة على نجاسة الميتة تشمل البيضة لكونها جزء منها و عليه فيكون مقتضى القاعدة نجاستها مطلقاً.

سلمنا انّ العمومات الدالّة على نجاسة الميتة لا تشمل البيضة لعدم كونها جزء منها و لكنّه لا بدّ أن يفصل في ما هو مقتضى القاعدة بين ما إذا كانت البيضة على حالة تسري النجاسة من الميتة إلى باطنها و

بين ما إذا لم تكن كذلك إلّا أن يقال بأنّ البيضة في تلك الحالة لا يطلق عليها عنوانها أو يقال بأنّ الكلام في النجاسة العينية لا النجاسة العرضية الحاصلة من السراية فتدبّر.

و كيف كان فقد وردت في البيضة الخارجة من الميتة طوائف ثلاث من الروايات:

منها: ما دلّ على طهارتها مطلقاً كموثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أبي يسأله عن السنّ من الميتة و البيضة من الميتة و أنفحة الميتة، فقال: كلّ هذا ذكي. «1» و هذه الرواية ناظرة إلى خصوص الطهارة و النجاسة بقرينة إرداف البيضة في السؤال من السنّ.

و منها: ما دلّ على جواز أكلها كذلك كرواية صفوان عن الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: الشعر و الصوف و الريش و كل نابت لا يكون ميتاً و قال: و سألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة فقال: تأكلها «2».

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 4.

(2) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 75

..........

______________________________

و منها: ما فصل فيه بين حالتي الاكتساء و عدمه كموثقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة قال: إن كانت اكتست الجلد الغليظ فلا بأس بها. «1» و ناقش في سندها صاحبا المعالم و المدارك (قدّس سرّهما) نظراً إلى انّ غياث بن إبراهيم زيدي و الراوي عنه و هو محمد بن يحيى مردّد بين محمد بن يحيى الخزاز و محمد بن يحيى الخثعمي و الثاني ممّن لم يذك بعدلين.

و هذه المناقشة انّما

تتمّ على مذهبهما من عدم حجّية غير الصحاح من الروايات و اعتبار تذكية الرواة بعدلين، و أمّا بناء على حجّية خبر الثقة كما هو الحقّ فلا مجال للمناقشة في سندها لأنّ غياث بن إبراهيم سواء كان هو غياث بن إبراهيم الزيدي أو غياث بن إبراهيم التميمي ثقة كما انّ محمد بن يحيى ثقة سواء كان هو محمد بن يحيى الخزاز المذكى بتذكية عدلين أو محمد بن يحيى الخثعمي لأنّ الثاني أيضاً ثقة فلا إشكال في سند الرواية.

و أمّا دلالتها الظاهر انّ السؤال فيها يكون عن الحلّية و الحرمة لا عن النجاسة و الطهارة لكون المنفعة المقصودة من البيضة هي الأكل و لا يتبادر من السؤال عن البيضة إلّا كون المقصود السؤال عن جواز الأكل و عدمه فنفي البأس في الجواب مشروطاً بالاكتساء للجلد الغليظ لا يكون ناظراً إلّا إلى جهة الأكل و عليه فالرواية المفصّلة في المقام خارجة عمّا هو محل البحث فيه من الطهارة و النجاسة و دعوى الملازمة بين الأمرين مدفوعة بأنّ جواز الأكل و إن كان ملازماً لثبوت الطهارة أخلّا انّ عدم الجواز لا يكشف عن ثبوت النجاسة كما هو ظاهر و عليه فلا دليل على تقييد موثقة حسين بن زرارة الدالّة على طهارة البيضة الخارجة من الميتة مطلقاً و التفصيل في الحلّية و الحرمة لا ينافي إطلاق الطهارة

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 76

..........

______________________________

على ما هو مقتضى الرواية في المسألتين اللهمّ إلّا أن يقال انّها قبل اكتسائها الجلد الغليظ تسري نجاسة الميتة إلى باطنها و لكنّه على تقدير صحّته لا يرتبط بالمقام لأنّ الكلام

في النجاسة العينية المتحقّقة بعنوان الجزئية للميتة و عدمها لا النجاسة العرضية الناشئة من السراية كما مرّ.

إن قلت: مقتضى رواية صفوان المتقدّمة جواز الأكل مطلقاً.

قلت: نعم لكنّه لا مانع من تقييدها بمفهوم رواية غياث بناء على ثبوت المفهوم و صلاحيته للتقييد.

ثمّ انّه قد فصل العلّامة (قدّس سرّه) في الحكم بطهارة البيضة الخارجة من الميتة بين الحيوان الحلال و غيره و اشترط في الحكم بها حلّية الحيوان مستنداً في ذلك إلى ورود جملة من الروايات في البيضة الخارجة من الدجاجة و هي ممّا يؤكل لحمه، و انصراف غيرها من الأخبار المطلقة إلى الحيوانات المحلّلة لأنّه قد سُئل فيها عن جواز أكل البيضة و لا يجوز أكل شي ء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

و الحقّ وفاقاً للمتن عدم الفرق بين الحيوان الحلال و غيره لا لما أفاده بعض الأعلام من انّ الحكم بطهارتها لا يتوقّف على ورود رواية أصلًا لأنّه على طبق القاعدة لما عرفت من المناقشة فيه بل لعدم صحّة دعوى انصراف الأخبار المطلقة إلى الحيوانات المحلّلة لعدم معقولية كون السؤال في جميعها عن جواز الأكل و عدمه فهل يمكن حمل موثقة ابن زرارة الدالّة على الطهارة مطلقاً و على كون البيضة في رديف السنّ على جواز الأكل ضرورة انّه لا يعقل السؤال عن جواز أكل السن فالرواية ناظرة إلى خصوص الطهارة و النجاسة، و لكن ما ذكرنا انّما يبتني على كون مورد السؤال الأوّل هو السن كما في الوسائل المطبوعة أخيراً و أمّا بناء على أن يكون هو اللبن كما يدل عليه الاستشهاد بالرواية على طهارة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 77

..........

______________________________

لبن الميتة كما سيأتي فهذه الرواية أيضاً

ظاهرة في كون السؤال فيها عن جواز الأكل و عليه فيسري الإشكال إلى ما ذكرنا من إطلاق الطهارة و عدم اختصاصها بصورة الاكتساء أيضاً فتدبّر جيّداً.

الفرع الرابع: الأنفحة من الميتة و فيها بحثان: الأوّل في حكمها. و الثاني في موضوعها و معناها.

أمّا الأوّل: فالظاهر انّه لا إشكال في طهارتها فتوى كما نقل عن الغنية و المنتهى و المدارك و غيرها و أمّا نصّاً فقد اختلف فيها النصوص:

فمنها: ما يدلّ على الطهارة كصحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الأنفحة تخرج من الجدي الميت، قال: لا بأس به «1». و موثقة حسين بن زرارة المتقدّمة قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أبي يسأله عن السن (اللبن) من الميتة و البيضة من الميتة و أنفحة الميتة فقال: كلّ هذا ذكي. «2» و رواية يونس عنهم (عليهم السّلام) المتقدّمة أيضاً قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق: الأنفحة و البيض و الصوف و الشعر و الوبر. «3» و منها: ما يظهر منه خلاف ذلك كرواية بكر بن حبيب قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجبن و انّه توضع فيه الأنفحة من الميتة قال: لا تصلح، ثمّ أرسل بدرهم فقال: اشتر من رجل مسلم و لا تسأله عن شي ء. «4» و رواية عبد اللّٰه بن سليمان عنه (عليه السّلام) في الجبن قال: كل شي ء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان انّ فيه ميتة. «5» و من المعلوم انّ الميتة التي

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 10.

(2) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 4.

(3) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون

ح 2.

(4) الوسائل أبواب الأطعمة المباحة الباب الواحد و الستون ح 4.

(5) الوسائل أبواب الأطعمة المباحة الباب الواحد و الستون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 78

..........

______________________________

يمكن أن تقع في الجبن عادة ليست إلّا الإنفحة من الميتة.

و رواية أخرى لعبد اللّٰه بن سليمان قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الجبن إلى أن قال: قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أ و لَم ترني آكله؟ قلت: بلى و لكني أحبّ أن أسمعه منك، فقال: سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه «1». و الظاهر منها أيضاً انّ الجبن الحرام ما وقعت فيه الأنفحة من الميتة.

و رواية أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الجبن فقلت له: أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل، و اللّٰه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن و اللّٰه ما أظن كلّهم يسمون هذه البربر و هذه السودان؟!. «2» و الظاهر منها انّه لو علم انّ فيه الميتة أي الانفحة منها يكون حراماً.

كما انّ الظاهر انّه لا يكاد يمكن الجمع الدلالي بين الطائفتين من الأخبار بل بينهما المعارضة و اللازم الرجوع إلى المرجحات و أوّلها الشهرة الفتوائية و هي في جانب الطهارة كما انّها مخالفة لمذهب العامّة.

و لا يخفى انّ الأخبار الدالّة على النجاسة و إن كانت مطروحة للمعارضة إلّا انّ مطروحيتها من هذه الجهة فقط أي

من جهة دلالتها على نجاسة الإنفحة من الميتة لا من جميع الجهات فلا تنافي دلالتها على حجّية البيّنة و اعتبارها كما استشهد بها عليها أو على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الموضوعية كما هو ظاهر.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، در يك جلد، مؤلف، قم - ايران، اول، 1409 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها؛ ص: 78

و أمّا البحث الثاني فقد اختلف كلام اللغويين في معناها: فعن الصحاح:

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المباحة الباب الواحد و الستون ح 1.

(2) الوسائل أبواب الأطعمة المباحة الباب الواحد و الستون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 79

..........

______________________________

«الأنفحة بكسر الهمزة و فتح الفاء مخفّفة كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش» و عن القاموس: «أنّها شي ء يستخرج من بطن الجدي الراضع أصفر فيعصر في جوفه فيغلظ كالجبن فإذا أكل الجدي فهو كرش و تفسير الجوهري «الإنفحة بالكرش سهو».

و الظاهر اتفاق أهل اللغة على انّ الإنفحة في الجدي أو الحمل قبل الأكل هي ما يعبّر عنه بالكرش بعد الأكل، و الكرش عبارة عن الجلدة التي يقع فيها ما يؤكل يقوى في النظر أن تكون الأنفحة اسماً للجلدة أو هي مع المادة المتمايلة إلى الصفرة التي تكون فيها، و يؤيّده انّه لو لم تكن موضوعة كذلك و قلنا باختصاصها بالمظروف فحسب فما هو اللفظ الذي وضع في لغة العرب بإزاء ظرفه و من البعيد جدّاً أن لا يكون له اسم مع توسع هذه اللغة بحيث لم ير لها نظير في سائر اللغات أصلًا كما يظهر بمراجعة كتب

اللغة سيما مثل «فقه اللغة» للثعالبي.

و لكنّه قد استظهر من رواية أبي حمزة الثمالي (قدّس سرّه) انّها هي المادّة التي تكون في الجلدة فإنّه نقل عن أبي جعفر (عليه السّلام) في حديث انّ قتادة قال له: أخبرني عن الجبن، فقال: لا بأس به فقال: إنّه ربّما جعلت فيه إنفحة الميتة فقال: ليس به بأس انّ الإنفحة ليس لها عروق و لا فيها دم و لا لها عظم انّما تخرج من بين فرث و دم و انّما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أُخرجت منها بيضة فهل تأكل تلك البيضة. الحديث. فانّ ما ليس له عروق و لا فيه دم و انّما يخرج من بين فرث و دم ليس إلّا المادّة الموجودة في الجلدة، و لكنّه يظهر من قوله (عليه السّلام): «إنّما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة ..» خلاف ذلك فإنّه (عليه السّلام) قد نزل الانفحة منزلة البيضة التي تخرج من بطن الدجاجة الميتة و من المعلوم انّ ما

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 80

..........

______________________________

يخرج من بطن الجدي أو الحمل عبارة عن الظرف و المظروف كالبيضة التي هي عبارة عن ظرف و هو قشرها و مظروف و هو مادّتها و تخرج من بطن الدجاجة، و الحاصل انّ ما يصلح أن ينزل منزلة البيضة ليس إلّا مجموع الجلدة و المادة معاً فهذه الرواية مع قوّة سندها لا تصرفها عن المعنى الذي يستفاد من كلام اللغة من مدخلية الظرف في معناه.

و كيف كان فلا إشكال في طهارة المظروف امّا لطهارة ظرفه إن كان دخيلًا في معنى الانفحة، و أمّا لعدم انفعاله منه إن كان المظروف عبارة عن الانفحة و هو امّا لعدم نجاسة باطن

الظرف حتى يكون منجساً أو لعدم منجسيته.

و لو شكّ في أنّها ظرف أو مظروف فيمكن أن يقال بوقوع التعارض بين أصالة الإطلاق في أدلّة نجاسة أجزاء الميتة بأجمعها، و أصالة الإطلاق في دليل منجسية النجس للعلم بطهارة المظروف على أي حال فيرجع إلى أصالة الطهارة في الظرف بعد تساقط الأصلين بالمعارضة.

و قد خالف فيه سيّدنا الأستاذ دام ظلّه نظراً إلى أنّه لا بدّ و أن يؤخذ بإطلاق دليل نجاسة الميتة و لا تعارض أصالة الإطلاق فيه مع أصالة الإطلاق في دليل منجسية النجس لعدم جريانها فيما علم الطهارة و شكّ في انّه من باب التخصيص أو التخصص نظير أصالة الحقيقة فيما إذا دار الأمر بينها و بين المجاز فإنّها جارية مع الشكّ في المراد لا مع الشكّ في كيفية الاستعمال بعد العلم بالمراد.

و فيه انّه لم يظهر المراد ممّا علم طهارته و شكّ في انّه من باب التخصيص أو التخصيص هل هو المظروف فإنّه لا كلام فيه أو الظرف فمن أين علم طهارته و الكلام فيما إذا شكّ في طهارة الظرف و نجاسته فلا مناص من أن يرجع بعد التعارض إلى القاعدة و من الواضح انّ مورد التعارض انّما هو السطح الداخل من الجلد الذي يعبّر عنه بالباطن لأنّه هو الذي ينجس المادّة على فرض نجاسته و أمّا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 81

..........

______________________________

السطح الخارج الظاهر فلا يكون مورداً للتعارض لعدم تماسه مع المادّة و عليه فيشمله عموم دليل نجاسة الميتة بلا معارض فلا محيص عن الحكم بها في صورة الشكّ.

و ليعلم انّ المراد من طهارة الإنفحة طهارتها الذاتية كالشعر و الوبر و الصوف فلا ينافيها لزوم غسل

ظاهرها الملاقي للميتة برطوبة. نعم لو كانت الأنفحة بمعنى المظروف و فرضنا كونه مائعاً كما هو الظاهر فلا يحتاج إلى تطهير ظاهرها كاللبن، كما انّ الظاهر اختصاص الحكم بالانفحة المتعارفة التي تجعل في الجبن كانفحة الجدي و الحمل على فرض صحّة إطلاق الانفحة على ما يؤخذ من غيرهما على خلاف ما يظهر من كلام اللغويين من الاختصاص بهما فتدبّر.

الفرع الخامس اللبن من الميتة الواقع في ضرعها و قد اختلف كلمات الأصحاب فيه، فعن الصدوق و الشيخ و صاحب الغنية و الشهيد (قدّس سرّهم) القول بالطهارة بل عن الخلاف دعوى الإجماع عليها، و ذهب جماعة آخرون منهم العلّامة و المحقّق و ابن إدريس إلى النجاسة بل عن الحلّي انّه قال: لا خلاف فيه بين المحصلين من أصحابنا و يظهر من ذلك انّه لا إجماع بل و لا شهرة في أحد طرفي المسألة فلا بدّ من ملاحظة الروايات ليظهر انّها هل تدل على الطهارة أم لا إذ الحكم بالنجاسة لا يتوقّف على دلالتها عليه ضرورة انّ إطلاق أدلّة نجاسة الميتة و شمولها للضرع بضميمة ما دلّ على منجسية كل نجس يقتضي نجاسة اللبن بل يمكن أن يقال بشمول إطلاق أدلّة نجاسة الميتة له من دون حاجة إلى ضمّ دليل آخر لأنّ اللبن الواقع في ضرع الميتة يكون من أجزائها كالبول و الروث و البيض على ما تقدّم و عليه فتكون نجاسته عينية و إن كانت العينية لا يترتّب عليها أثر في مثل اللبن كما لا يخفى و كيف كان فالروايات الواردة في المقام:

منها: صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت قال: لا بأس به، قلت: اللبن يكون في

ضرع الشاة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 82

..........

______________________________

و قد ماتت؟ قال: لا بأس به، قلت: و الصوف و الشعر و عظام الفيل و الجلد و البيض يخرج من الدجاجة؟ فقال: كل هذا لا بأس به «1». و رواه الصدوق مثله إلّا انّه أسقط لفظ الجلد قال صاحب الوسائل: و هو الصواب.

و ربما يناقش فيها بدلالتها على طهارة جلد الميتة مع انّ نجاستها مجمع عليها في المذهب فالرواية غير صالحة للاعتماد عليها.

و الجواب عنها:

أوّلًا: ما عرفت من انّها في رواية الصدوق لا تكون مشتملة على لفظ الجلد و استصوبه صاحب الوسائل.

و ثانياً: من الممكن أن يكون ذكر الجلد في رديف الأشياء الطاهرة ناشياً عن التقية لاهتمام العامة به و كونه محلا للكلام في تلك الأعصار و معركة للآراء بين المسلمين.

و ثالثاً: انّه لم يقم دليل على كون السؤالات المتعدّدة الواقعة في الرواية واقعة في مجلس واحد و يؤيّده تعدّد الأجوبة و عليه فلا يقدح الاشتمال على الجلد في الاستدلال.

و منها: موثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أبي يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة من الميتة و أنفحة الميتة فقال: كلّ هذا ذكي الحديث. «2» هكذا نقل في بعض نسخ الوسائل و كذا في مرآة العقول للمجلسي (قدّس سرّه) و لذا استشهد بها الأعلام في اللبن مع انّ التناسب في السؤال أيضاً يقتضي أن يكون عن اللبن لا عن السن كما في الوسائل المطبوعة أخيراً.

و منها: صحيحة حريز قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) لزرارة و محمد بن

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 10.

(2) الوسائل أبواب

الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 83

..........

______________________________

مسلم: اللبن و اللباء و البيضة و الشعر و الصوف و القرن و الناب و الحافر وكل شي ء يفصل من الشاة و الدابة فهو ذكي و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسل وصل فيه «1». و ليس قوله (عليه السّلام) في الذيل: «و إن أخذته بعد أن يموت ..» دليلًا على انّ صدر الرواية ناظر إلى الحي بحيث يكون الحكم بالطهارة في مورده فينتج انّه بعد الموت يحتاج إلى الغسل فيما يمكن تطهيره به و اللبن و اللباء غير قابلين لذلك فهما نجسان إن أُخذا من الميتة بل الذيل شاهد على إطلاق الحكم في الصدر و انّ الطهارة للأشياء المذكورة فيها ثابتة مطلقاً فتدبّر.

و منها: مرسلة الصدوق قال: قال الصادق (عليه السّلام): عشرة أشياء من الميتة ذكية و عدّ منها اللبن. «2» و الرواية و إن كانت مرسلة إلّا انّ هذا النحو من الإرسال الذي يرجع إلى النسبة إلى الإمام (عليه السّلام) بصورة الجزم و القطع لا يقدح في الاعتماد عليها لكونه يكشف عن وثاقة الرواة عند المرسل بالكسر و اعتماده عليها و هذا في الحقيقة توثيق منه للرواة الواقعين في السند و توثيقه لا يقصر عن توثيق مثل الكشي و النجاشي اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الصدوق في الفقيه قال في ذيلها: «و قد ذكرت ذلك مسنداً في كتاب الخصال في العشرات» و بعد المراجعة إلى الخصال ظهر أنّ في سند الرواية على بن أحمد بن عبد اللّٰه و أباه و هما مجهولان.

و فيه مضافاً إلى ما عرفت من انّ الإرسال بهذه الكيفية توثيق

لرواة الرواية فلا مجال لدعوى المجهولية انّ المحكي عن العلّامة تصحيح بعض الروايات الواقع في طريقها علي بن أحمد و نقل عن المجلسي الأوّل انّه قد وثق أباه فالرواية معتبرة و لا مجال للخدشة فيها من حيث السند.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 3.

(2) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 84

..........

______________________________

و في مقابل هذه الروايات رواية وهب عن جعفر عن أبيه (عليهما السّلام) انّ علياً (عليه السّلام) سُئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن فقال علي (عليه السّلام): ذلك الحرام محضاً. «1» و منها: رواية الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا فكتب (عليه السّلام): لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب و كلّما كان من السخال الصوف ان جزّ و الشعر و الوبر و الإنفحة و القرن و لا يتعدّى إلى غيرها إن شاء اللّٰه. «2» و منها: رواية يونس عنهم (عليهم السّلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق الانفحة و البيض و الصوف و الشعر و الوبر الحديث. «3» و لا يخفى ما في هذه الروايات من المناقشة:

أمّا الأُولى: فلضعفها بوهب فقد عبّر عنه في بعض الموارد بأنّه أكذب البرية و أمّا ما أفاده بعض الأعلام في مقام الجواب عن الرواية من انّ الحرمة غير النجاسة فيمكن أن يكون اللبن من الميت حراماً غير نجس فلا ينافي أدلّة النجاسة بوجه فغير تامّ ظاهراً لأنّ حرمة لبن الميت لا يكون لها وجه إلّا نجاسته و توهّم النجاسة صار منشأً

لسؤال السائل عن لبن الميتة.

و أمّا رواية ابن يزيد فقد عرفت المناقشات المتعدّدة فيها من جهة ضعف السند و اضطراب المتن و المخالفة للنصوص المعتبرة.

و أمّا رواية يونس فقد عرفت أيضاً ما فيها فكيف يمكن أن تعارض الروايات الدالّة على الطهارة مع انّها بين صحيحة و موثّقة أو مثلهما و من حيث الدلالة ظاهرة.

و أمّا ما أفاده الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) من انّ رواية وهب لا بدّ و أن

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 11.

(2) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 7.

(3) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الثلاثون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 85

..........

______________________________

يؤخذ بها و يطرح غيرها و إن كانت صحيحة لكون رواية وهب موافقة للقواعد و أُصول المذهب و طرح الأخبار الصحيحة المخالفة لأُصول المذهب غير عزيز فممّا لا يكاد يتمّ لعدم كون قاعدة منجسية كل نجس من القواعد المعدودة من أُصول المذهب بحيث لا تكون قابلة للتخصيص أصلًا حتّى بالرواية الصحيحة فضلًا عن الروايات الصحيحة المتعدّدة المعتضدة بفتوى جماعة من الأعاظم خصوصاً مع انّه لا دليل لفظياً لهذه القاعدة فإنّها منسبكة عن الموارد المتعدّدة و الأدلّة المختلفة و تكون قاعدة اصطيادية اللهمّ إلّا أن لا يكون مراده من القاعدة قاعدة منجسية كل نجس بل كان مراده منها ما هو مقتضى أدلّة نجاسة الميتة من ثبوت النجاسة لها بجميع أجزائها و اللبن أيضاً يكون معدوداً منها و يرد عليه حينئذٍ انّ هذا الدليل أيضاً ليس بحيث لا يكون قابلًا للتخصيص فقد خصّص بمثل البيضة و الإنفحة و لا يكون في اللبن خصوصية أصلًا.

و ثانياً: لا

دليل على انّ مجرّد موافقة الرواية للقاعدة تكون جابرة لضعفها.

و ثالثاً: سلّمنا أنّ الموافقة موجبة لانجبار ضعفها بها و لكنّه لو كان لنا عموم و في قباله روايتان: إحداهما ضعيفة و لكنّها موافقة للعموم، و الأُخرى قوية و مخالفة للعموم فهل لا يخصّص ذلك العام بالرواية المعتبرة؟! و هل يكون وجود رواية ضعيفة مخالفة لها مانعاً عن صلاحيتها لتخصيص العام بها؟! فما أفاده الشيخ (قدّس سرّه) ممّا لا يمكن المساعدة عليه. نعم يمكن أن يقال بعد عدم احتياج إثبات النجاسة إلى دليل خاص و كفاية أدلّة نجاسة الميتة لإثبات نجاسة لبنها امّا بدون الضميمة أو معها أنّه لا بدّ في إثبات الطهارة من إقامة دليل خاص معتبر عليها و أدلّة الطهارة كلّها قابلة للمناقشة لاشتمال صحيحة زرارة على طهارة جلد الميتة و عدم ثبوت كون السؤال في رواية ابنه عن اللبن و عدم ثبوت اعتبار مرسلة الصدوق بعد التصريح برواتها في الخصال و عدم ثبوت وثاقة اثنين منهم و عليه فلا تصلح للمقاومة في قبال أدلّة نجاسة الميتة و يشكل الفتوى بالطهارة حينئذٍ فالأحوط بمقتضى ما ذكرنا الاجتناب.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 86

..........

______________________________

ثمّ إنّه على تقدير القول بالطهارة كما اختاره الماتن دام ظلّه هل يختص ذلك بما إذا كان من الحيوانات المحلّلة أو يعمّ ما إذا كان من الحيوانات المحرّمة أيضاً؟ ظاهر كلام السيّد (قدّس سرّه) في «العروة» هو الثاني و احتاط بالاختصاص في المتن بالاحتياط الذي لا يترك.

و الحقّ هو الاختصاص لعدم دلالة روايات الطهارة على أزيد من طهارة لبن الميتة من الحيوان المحلّل فانّ مورد السؤال في صحيحة زرارة هو اللبن الذي يكون في ضرع الشاة

و صحيحة حريز و إن كانت مشتملة على ذكر الدابّة مع الشاة إلّا انّها مع انصراف الدابة إلى الحيوانات المحلّلة يستفاد من ذيلها و هو قوله (عليه السّلام): «و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله و صلِّ فيه» انّ الكلام فيما يفصل من الحيوانات التي تجوز الصلاة في أجزائها و هي خصوص الحيوانات المحلّلة فصحيحة حريز أيضاً ظاهرة في الاختصاص و روايتا حسين بن زرارة و الصدوق أيضاً تنصرفان إلى ما يؤكل لحمه و يؤيّد الانصراف قوله في رواية فتح بن يزيد أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا فالحقّ هو نجاسة لبن غير المأكول لعدم الدليل على طهارته.

تنبيه لا يخفى انّ جميع المستثنيات من الميتة انّما هو بالإضافة إلى ميتة غير نجس العين، و أمّا فيها فلا يستثني شي ء لأنّ الأدلّة الدالّة على نجاسة الكلب مثلًا حيّاً تدلّ على نجاسة جميع أجزائه من دون استثناء و إذا كان جميع أجزائه نجساً في حال الحياة فبعد الموت يكون بطريق أولى و إلّا فاللازم الالتزام بكون الموت مطهراً و لا يمكن أن يتفوّه به، فما عن السيّد المرتضى (قدّس سرّه) من القول بطهارة شعر الكلب و الخنزير بل طهارة كل ما لا تحلّه الحياة منهما غير وجيه بعد كونه جزء لهما لأنّ الكلب في الخارج كلب بجميع أجزائه و الموت لا معنى لأن يكون مطهراً إلّا أن يكون مراده الطهارة في حال الحياة أيضاً و عليه فسيأتي البحث معه.

و يشهد لما ذكرنا مضافاً إلى ما عرفت روايتان لحسين بن زرارة:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 87

..........

______________________________

إحداهما: ما رواه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) انّه قال: الشعر و

الصوف و الريش و كل نابت لا يكون ميّتاً. الحديث و معناها انّ المذكورات لا تتغيّر بالموت بل حالها حال قبل الموت.

ثانيتهما: ما رواه أيضاً قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أبي يسأله عن السن (اللبن) من الميتة و البيضة من الميتة و أنفحة الميتة فقال: كل هذا ذكي قال: قلت: فشعر الخنزير يجعل حبلًا يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها فقال: لا بأس به. فإنّه يدل على انّ نجاسة شعر الخنزير يكون مفروغاً عنها و مورد السؤال حكم الماء الملاقي له و ترك الاستفصال يدلّ على نجاسته في كلتا الصورتين فتدبّر.

[ (في معنى الميتة)]

(في معنى الميتة)

بقي الكلام في بحث نجاسة الميتة في معنى الميتة و بيان المراد منها فقد صرّح السيّد (قدّس سرّه) في العروة بأنّ المراد من الميتة أعمّ ممّا مات حتف أنفه أو قتل أو ذبح علىٰ غير وجه شرعي، و يحتمل أن يكون مراده من هذا التفسير بيان انّ الميتة التي تكون موضوعة لأحكام مخصوصة ليست هي خصوص الميتة المصطلحة عرفاً و هي ما مات حتف أنفه بل أعمّ منه و ممّا قتل أو ذبح على غير وجه شرعي من دون أن يكون لها حقيقة ثانوية شرعية و يحتمل أن يكون مراده بيان انّ للميتة حقيقة شرعية في قبال حقيقتها اللغوية و العرفية و هي ما زهق روحه بغير سبب شرعي كما هو الظاهر وفاقاً لما أفاده سيّدنا الأستاذ دام ظلّه و يستفاد ذلك من موثقة سماعة أيضاً قال: سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال: إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده، و أمّا الميتة فلا. حيث جعلت الميتة مقابلة للمذكى أي ما رمى و سمى

به.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 88

..........

______________________________

انّما الكلام في انّ الميتة هل هي عنوان وجودي أو عدمي و هو ما لم يذك شرعاً أي غير المذكى و تظهر الثمرة فيما لو شكّ في شي ء أنّه ميتة أم لا، فإنّه على تقدير كونها عبارة عن الأمر الوجودي لا يكاد يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية و لا يترتّب عليه أحكام الميتة بخلاف ما لو كانت عبارة عن الأمر العدمي فإنّه يثبت بالاستصحاب و يترتّب عليه أحكامها. و من الظاهر انّه بعد تسليم ثبوت الحقيقة الشرعية للميتة و ثبوت المعنى الثانوي الشرعي لها لا مجال للمراجعة إلى اللغة لاستكشاف كونها أمراً وجودياً أو عدميا كما صنعه بعض الأعلام على ما في تقريراته.

و الحق انّ المتبادر من الميتة عند المتشرّعة عنوان وجودي و هو ما مات بسبب غير شرعي و لا وجه لتوهّم كونها عبارة عمّا مات حتف أنفه بعد ثبوت الحقيقة الشرعية، و أمّا قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ «1» فالظاهر منه ابتداء و إن كان هو انّ الميتة ما مات حتف أنفه لوقوعها في مقابل ما أهلَّ لغير اللّٰه به و المنخنقة و مثلها إلّا انّه مع إمعان النظر يظهر انّها في الآية الكريمة لا تكون إلّا بالمعنى اللغوي و هو ما زهق روحه و انتهت حياته و انصرمت مدّته بدليل استثناء المذكى عنها بقوله تعالى إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ و دعوى كون الاستثناء في الكريمة منقطعاً مدفوعة بأنّ الاستثناء المنقطع خلاف الظاهر لا يكاد يصار

إليه إلّا مع انحصار الطريق به كما هو واضح.

و بالجملة فالظاهر انّ الميتة عبارة عن الأمر الوجودي و هو لا يكاد يثبت بالاستصحاب كما انّه لا مجال على ما عرفت للمناقشة في جريان الاستصحاب و ترتيب أحكام الميتة على تقدير كونها عبارة عن الأمر العدمي لأنّه ليس إلّا مثل

______________________________

(1) المائدة: 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 89

..........

______________________________

ما لم يذك من العناوين العدمية الثابتة باستصحاب عدم التذكية على تقدير جريانه.

و قد خالف في ذلك صاحب المدارك (قدّس سرّه) و أنكر جريان الاستصحاب لإثبات النجاسة و غيرها من أحكام الميتة عند الشكّ في التذكية مع اعترافه بترتّب الأحكام على العنوان العدمي و هو ما لم يذك و ذكر في وجهه أمرين ثانيهما انّ الأحكام المتقدّمة إنّما رتّبت على ما علم انّه ميتة لقوله (عليه السّلام): ما علمت أنّه ميتة فلا تصل فيه «1». و قوله (عليه السّلام): وصل فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه. «2» و قد استشكل بعض الأعلام على الاستشهاد بمثل الروايتين بأنّ غاية ما يستفاد منهما انّ العلم بالميتة قد أُخذ في موضوع الحكم بالنجاسة و حرمة الأكل و غيرهما من الأحكام إلّا انّه علم طريقي قد أُخذ في الموضوع منجزاً للأحكام لا موضوعاً لها نظير أخذ التبين في موضوع وجوب الصوم في قوله تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ «3» و الاستصحاب بأدلّة اعتباره صالح لأن يقوم مقام العلم الطريقي كالبيّنة و الأمارات.

و لا يخفى انّه لا محيص عن الاعتراف بالموضوعية فيما إذا أُخذ العلم في ظاهر الدليل قيداً للموضوع و دخيلًا فيه و لا مجال لدعوى كونه

علماً طريقياً لا مدخلية له في الموضوع بحيث يكون ذكره كعدمه غاية الأمر انّ العلم المأخوذ في الموضوع تارة يؤخذ فيه بما انّه صفة خاصّة من الصفات النفسانية و أُخرى يؤخذ فيه بما انّه طريق إلى الواقع و كاشف عنه و الفرق بين الصورتين انّما هو في قيام البيّنة و الاستصحاب و نحوهما مقامه في الصورة الثانية و عدمه في الصورة الأُولى و المقام انّما هو من قبيل الصورة الثانية و إن شئت قلت: إنّ العلم المذكور في

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 4.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 2.

(3) البقرة، 187.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 90

..........

______________________________

موضوعات الأحكام بما انّه طريق إلى الواقع و كاشف عنه لا يكون المراد به هو العلم الوجداني أصلًا بل المراد به هي الحجّة الشرعية و ذكر العلم انّما هو بعنوان المثال، و التبين في آية الصوم يحتمل أن يكون من قبيل الأوّل فتأمّل.

و الذي ينبغي أن يقال في جواب صاحب المدارك انّه كما انّ العلم بالميتة قد أُخذ موضوعاً للحكم بالنجاسة و عدم جواز الصلاة فيه كذلك العلم بالمذكى قد أُخذ في موضوع الحكم بجواز الصلاة فيه لقوله (عليه السّلام) في موثقة ابن بكير: فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه وكل شي ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكي ذكاه الذبح «1». و مقتضى ذلك عدم جواز الصلاة مع الشكّ في التذكية.

فلا محيص من أن يقال في مقام الجمع بين الروايات إنّ العلم المذكور فيها بمعنى الحجّة الشرعية فإذا قامت حجّة على كونه ميتة فهو نجس لا تجوز الصلاة فيه و يحرم

أكله و إذا قامت حجّة شرعية على كونه مذكى فهو طاهر و يجوز الصلاة فيه و يحلّ أكله.

إن قلت: فما حكم المورد الخالي عن الحجّة الشرعية على أحد الطرفين بحيث لا تكون حجّة على كونه ميتة أو مذكّى في البين.

قلت: لا يكاد يوجد مورد لا تقوم فيه الحجّة الشرعية على أحدهما إذ لا أقلّ من استصحاب عدم التذكية بناء على جريانه لو لم تكن حجّة أُخرى موافقة أو مخالفة.

إذا عرفت انّ الميتة عبارة عن الأمر الوجودي يقع الكلام في انّ الأحكام الشرعية الثابتة في موردها هل تكون مترتبة على عنوان الميتة أو عنوان غير المذكّى.

قال بعض الأعلام: انّ حرمة الأكل و عدم جواز الصلاة حكمان مترتّبان على عنوان غير المذكّى للآية المتقدّمة و الموثقتين المتقدّمتين و عليه إذا شككنا في تذكية

______________________________

(1) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الثاني ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 91

..........

______________________________

لحم أو جلد أو نحوهما نستصحب عدم تذكيته و نحكم بحرمة أكله و عدم جواز الصلاة فيه.

و أمّا النجاسة و حرمة الانتفاع على تقدير القول بها فهما من الآثار المترتّبة على عنوان الميتة حيث لم يقم دليل على ترتبهما على عنوان غير المذكّى و معه لا يمكن إثباتها عند الشكّ في التذكية، و يكفينا في ذلك أوّلًا الشكّ في انّ موضوعها هل هو الميتة أو ما لم يذك. و ثانياً تصريح بعض أهل اللغة كالفيومي في مصباحه بأنّ الميتة ما مات بسبب غير شرعي.

و الإنصاف انّ كلامه أي بعض الأعلام في التفصيل بين الأحكام متين جدّاً و لكنّه لا يخفى ما في كيفية استدلاله لترتّب النجاسة و حرمة الانتفاع على عنوان الميتة لأنّه قد

ادّعى أوّلًا انّ النجاسة و حرمة الانتفاع قد ترتّبا على عنوان الميتة جزماً ثمّ قال في مقام الاستدلال: بأنّه يكفينا الشكّ في انّ موضوعها هل هو الميتة أو ما لم يذك و من المعلوم عدم انطباق الدليل على المدعى. نعم لو كان المدعى عدم الترتّب عند الشكّ في التذكية لكان الانطباق متحقّقاً، و أضعف منه ما استدلّ به ثانياً من تصريح بعض أهل اللغة بما ذكره فإنّه لا وجه للاستدلال بكلام اللغوي في إثبات انّ النجاسة و حرمة الانتفاع من آثار الميتة بعد وضوح أنّه للميتة حقيقة شرعية و الفراغ عن كونها عنواناً وجودياً، مع انّ قوله: و يكفينا في ذلك الشكّ .. لا يفهم المراد منه فانّ الظاهر انّ مراده منه انّ ترتّب النجاسة و حرمة الانتفاع على عنوان الميتة هو القدر المتيقّن و ترتّبهما على غير المذكّى مشكوك مع انّ الأخذ بالقدر المتيقّن انّما هو فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ و الأكثر في الواقع لا فيما إذا دار الأمر بين المتساويين كالميتة و غير المذكى فإنّهما في الواقع متساويان و لا فرق بينهما أصلًا غاية الأمر انّ أحدهما وجودي و الآخر عدمي فلا بدّ في إثبات النجاسة و حرمة الانتفاع من الآثار المترتّبة على الميتة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 92

..........

______________________________

من ملاحظة انّ أدلّة نجاسة الميتة هل تدلّ على ترتّب النجاسة عليها أو على عنوان غير المذكّى و بعد المراجعة إليها تظهر صحّة ذلك و دلالتها على الأوّل و هكذا حرمة الانتفاع على القول بها-، و كيف كان فأصل التفصيل وجيه و الفرق بين الآثار ثابت و كون النجاسة من آثار الميتة ظاهر.

و قد خالف

في ذلك المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) حيث ذهب إلى انّ النجاسة من آثار عدم التذكية و استدلّ عليه بمكاتبة الصيقل قال: كتبت إلى الرضا (عليه السّلام): انّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فأُصلّي فيها؟ فكتب إليَّ: اتخذ ثوباً لصلاتك فكتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السّلام): كنت كتبت إلى أبيك (عليه السّلام) بكذا و كذا فصعب على ذلك فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية؟ فكتب إليَّ: كل أعمال البرّ بالصبر يرحمك اللّٰه فإن كان ما تعمل وحشياً ذكيا فلا بأس «1». فإنّ المراد من نفي البأس نفي نجاسة الجلود، و مقتضى تعليق الطهارة على كونها ذكيّة انّ موضوع النجاسة هو ما لم يذك.

و استشكل عليه أوّلًا بأنّ الرواية غير معتبرة لجهالة أبي القاسم الصيقل.

و ثانياً: انّ الحصر فيها إضافي بمعنى انّ عمله كان دائراً بين الميتة و المذكى و لم يكن مبتلى بغيرهما، و بعبارة اخرى انّ المذكى في هذه الرواية مقابل الميتة أي إن كان ما تعمل وحشياً ذكيا فلا بأس و إن كان وحشياً ميتاً ففيه بأس أي نجس فصورة الشكّ خارجة عن مفروض الرواية.

و قد انقدح ممّا ذكرنا انّ التفصيل الذي أفاده بعض الأعلام موافق للتحقيق و هو مختار صاحب الحدائق (قدّس سرّه) حيث ذهب إلى طهارة ما يشكّ في تذكيته من اللحوم و الجلود و غيرهما.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع و الثلاثون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 93

[مسألة 3 فأرة المسك إن أحرز انّها ممّا تحلّه الحياة نجسة على الأقوى]

مسألة 3 فأرة المسك إن أحرز انّها ممّا تحلّه الحياة نجسة على الأقوى لو انفصلت من الحي أو الميّت قبل بلوغها و استقلالها و زوال الحياة عنها حال حياة

الظبي، و مع بلوغها حدّا لا بدّ من لفظها فالأقوى طهارتها سواء كانت مبانة من الحي أو الميّت، و مع الشكّ في كونها ممّا تحلّه الحياة محكومة بالطهارة، و مع العلم به و الشكّ في بلوغها ذلك الحدّ محكومة بالنجاسة، و أمّا مسكها فلا إشكال في طهارته في جميع الصور إلّا فيما سرت إليه رطوبة ممّا هو محكوم بالنجاسة، فإنّ طهارته حينئذٍ لا تخلو من إشكال، و مع الجهل بالحال محكوم بالطهارة (1).

______________________________

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في فأرة المسك و هي الجلدة المشتملة عليه المأخوذة من الظبى و هي على ثلاثة أقسام لأنّها قد تكون مأخوذة من المذكى و أُخرى من الميتة و ثالثة من الظبي في حال الحياة.

أمّا القسم الأوّل: فلا ريب في طهارتها لأنّها كبقية أجزاء الظبي عند التذكية، و لا مجال لتوهّم النجاسة فيها أصلًا و إطلاق عبارة المتن في الحكم بنجاسة المنفصلة من الميت قبل البلوغ و الاستقلال و زوال الحياة عنها حال حياة الظبي لا يشمل المأخوذة من المذكّى لانصراف «الميّت» فيها إلى الميتة مقابلة المذكى و لا يشمل مطلق الميّت في مقابل الحيّ لكنّه يرد عليه انّ لازمه حينئذٍ عدم التعرّض لحكم هذا القسم في العبارة و يدفعه وضوح حكمه لعدم الفرق بينه و بين سائر أجزاء المذكّى قطعاً فتدبّر.

و أمّا القسم الثاني: و هي الفأرة المأخوذة من الميتة و قد فصّل فيها في المتن على تقدير إحراز كونها ممّا تحلّه الحياة بين ما إذا كانت منفصلة عنه قبل البلوغ إلى الحدّ الذي لا بدّ من لفظها فتكون نجسة و بين ما إذا كانت مبانة منه بعد البلوغ إلى ذلك الحدّ فتكون طاهرة كما

انّه مع الشكّ في كونها ممّا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 94

..........

______________________________

تحلّه الحياة تكون طاهرة امّا مع العلم به و الشكّ في البلوغ إلى ذلك الحدّ تكون نجسة.

و الوجه في الحكم بالنجاسة في الفرض الأوّل ما عرفت سابقاً من شمول أدلّة نجاسة الميتة لأجزائها و دلالتها على حكمها بالدلالة اللفظية على ما هو المتفاهم منها عند العرف فالفأرة في هذا الفرض بما انّها من أجزاء الميتة تكون مشمولة لأدلّة نجاستها كما لا يخفى.

و أمّا الحكم بالطهارة في الفرض الثاني فمنشأه انّ العرف و إن كان يستفيد من الأدلّة نجاسة أجزاء الميتة إلّا انّ الجزء الذي بلغ وقت انفصاله بحيث ينفصل بالطبع لا يكون عندهم مشمولًا لتلك الأدلّة أو يكون مشكوك الشمول فلا بدّ من الرجوع إلى قاعدة الطهارة.

نعم وردت هنا رواية استدلّ بها في كشف اللثام على ما حكى على نجاسة مطلق الفأرة غير المأخوذة من المذكّى و هي صحيحة عبد اللّٰه بن جعفر قال: كتبت إليه يعني أبا محمّد (عليه السّلام)-: يجوز للرجل أن يصلّي و معه فأرة المسك فكتب: لا بأس به إذا كان ذكيا. «1» فانّ ظاهرها يدلّ على انّ الظبي إذا لم يكن ذكيا سواء كان حيّاً أو ميّتاً ففي الصلاة في فأرة مسكه بأس و لا يكون ذلك إلّا لأجل نجاسة الفأرة.

و لا يخفى انّ الاستدلال بها يبتنى على إثبات أمرين: الأوّل أن يكون اسم «كان» الذي هو الضمير المستتر فيه هو الظبي يعني إذا كان الظبي المأخوذ منه الفأرة ذكيا. الثاني أن يكون المذكّى هنا مقابل الميتة، و كلا الأمرين ممنوعان:

لاحتمال رجوع الضمير إلى الفأرة باعتبار انّها ممّا استصحبه المصلّي و يكون

معه خصوصاً مع ملاحظة عدم ذكر الظبي في السؤال أصلًا و على هذا التقدير

______________________________

(1) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الواحد و الأربعون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 95

..........

______________________________

يكون المراد بالمذكّى هي الفأرة التي بلغ وقت انفصالها في مقابل غير المذكّى الذي لم يبلغ وقته بل قطع بالسكين و نحوه فتدلّ الرواية على التفصيل المذكور في المتن.

و في مقابل هذه الرواية روايتان استدلّ بهما على طهارة مطلق الفأرة:

إحداهما: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلّي و هو في جيبه أو ثيابه؟ فقال: لا بأس بذلك «1». و قد استدلّ بها صاحب المدارك على طهارة مطلق الفأرة سواء انفصلت من الظبي حال حياته أم أُخذ منه بعد موته من دون فرق بين كونه مذكّى أو ميتة لإطلاق قوله (عليه السّلام): «لا بأس بذلك».

و فيه انّ نفي البأس به في الصلاة لا يستلزم الطهارة لاحتمال جواز حمل النجس فيها بل و حمل الميتة، مضافاً إلى انصراف الفأرة إلى ما هو المتداول منها خارجاً و هي الفأرة التي قد انفصلت من الظبي حال حياته.

ثانيتهما: صحيحة عبد الهّٰى بن سنان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كانت لرسول اللّٰه ممسكة إذا هو توضّأ أخذها بيده و هي رطبة فكان إذا خرج عرفوا انّه رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) برائحته. «2» و قد انقدح من ذلك انّ الحق طهارة الفأرة المأخوذة من الميتة إذا بلغ وقت انفصالها إمّا لدلالة الرواية عليها و أمّا لقاعدة الطهارة و الظاهر انّها هي المستندة للمتن حيث تردّد بين أن تكون ممّا تحلّه

الحياة و إن لا تكون منها ضرورة انّه مع الاستناد إلى الرواية لا مجال لهذا الترديد كما انّه ظهر انّ الوجه في الحكم بالنجاسة مع العلم بكونها ممّا تحلّه الحياة و الشكّ في البلوغ إلى وقت الانفصال

______________________________

(1) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الواحد و الأربعون ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الخمسون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 96

..........

______________________________

و الزوال ليس إلّا استصحاب عدم البلوغ إلى ذلك الوقت و في جريان هذا النحو من الاستصحاب التعليقي الذي لا يكون التعليق مذكوراً في دليل شرعي إشكال. نعم لو كان المستند هي الرواية المتقدّمة لا مانع من جريانه فتدبّر.

و أمّا القسم الثالث: و هي الفأرة المأخوذة من الحيوان حال حياته فقد وقع الخلاف بين الأصحاب في طهارتها و نجاستها و قد فصّل فيها في المتن بما تقدّم في القسم الثاني، و الظاهر انّ مستند القائل بالنجاسة انّ الفأرة من الأجزاء المبانة من الحي و كونها ممّا تحلّه الحياة و هي كالميتة نجسة على ما مرّ.

و فيه انّ مدرك الحكم بنجاسة الجزء المبان من الحي منحصر في روايات أليات الغنم و ما أخذته الحبالة من الصيد و شمولها لمثل الفأرة التي تنفصل من الحيوان بالطبع و لو لم يبلغ وقت انفصالها بعيد غايته فالظاهر فيه الطهارة كما قوّاه في «العروة» و إن كان الأحوط الاجتناب فيما إذا لم يبلغ ذلك الوقت.

المقام الثاني: في حكم المسك الذي في الفأرة و هو الدم فتشمله أدلّة نجاسته و أمّا سراية النجاسة أخليه فيما إذا كانت الفأرة نجسة و لكنّه يدفع كلا الأمرين مضافاً إلى انّه لم يعلم بقاء أجزاء المسك بصورة

الدم بل الظاهر مغايرتها معه عنواناً و إلى انّ السراية خصوصاً بنحو يؤثر في جميع أجزاء المسك غير متحقّقة نوعاً مع انّك عرفت طهارة الفأرة إلّا في بعض الفروض النادرة فأين تتحقّق النجاسة بالسراية وجود الصحيحة و دلالتها على الطهارة مطلقاً طهارة الفأرة و طهارة المسك و لكنّه يظهر من المتن أنّه لا بدّ من استفادة حكم المسك من القواعد مشعراً بعدم وجود الدليل الخاص فيه و لم يظهر وجه عدم الاعتناء بالرواية مع انّها من حيث السند

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 97

[مسألة 4 ما يؤخذ من يد المسلم و سوق المسلمين]

مسألة 4 ما يؤخذ من يد المسلم و سوق المسلمين من اللحم أو الشحم أو الجلد إذا لم يعلم كونه مسبوقاً بيد الكافر محكوم بالطهارة و إن لم يعلم تذكيته و كذا ما يوجد مطروحاً في أرض المسلمين، و أمّا إذا علم بكونه مسبوقاً بيد الكافر فإن احتمل انّ المسلم الذي أخذه من الكافر قد تفحّص من حاله و أحرز تذكيته بل و عمل المسلم معه معاملة المذكّى على الأحوط فهو أيضاً محكوم بالطهارة، و أمّا لو علم انّ المسلم أخذه من الكافر من غير فحص فالأحوط بل الأقوى وجوب الاجتناب عنه. (1)

______________________________

صحيحة و من حيث الدلالة ظاهرة و دعوى انّه لم يعلم كون المسك الموجود في الممسكة من أيّ نوع حتى نقول فيه بالطهارة تبعاً للرواية و لا مجال للتمسّك بإطلاقها بعد كونها في مقام حكاية فعل رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و الفعل لا إطلاق له، مدفوعة بأنّ الفعل و إن كان لا إطلاق له إلّا انّه إذا كان الحاكي له هو الإمام (عليه السّلام) و كان غرضه من الحكاية

بيان حكم من الأحكام فلم لا يجوز التمسّك بإطلاق كلامه لنفي احتمال بعض القيود فالرواية صالحة لأن يتمسّك بإطلاقها لطهارة المسك الذي هو محلّ الكلام خصوصاً مع كونه هو النوع المعروف منه و لذا وقع التعرّض لبيان حكمه في الروايات و كلمات الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم أجمعين فثبوت الأنواع الأُخر كما حكي عن شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) نقله عن «التحفة» لا يضرّ باستفادة حكم المقام من الرواية لو لم نقل بصلاحية إطلاقها لإثبات الطهارة في جميع الأنواع فتدبّر.

(1) في هذه المسألة فروع:

الفرع الأوّل: ما يؤخذ من يد المسلم أو سوق المسلمين من مثل اللحم مع عدم العلم بكونه مسبوقاً بيد الكافر و قد حكم فيه المتن بالطهارة و إن لم يعلم تذكيته نظراً إلى وجود أمارة حاكمة على أصالة عدم التذكية المقتضية للنجاسة على خلاف ما ذكرناه و تلك الامارة هي يد المسلم و الدليل على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 98

..........

______________________________

اعتبارها الروايات الواردة في اعتبار سوق المسلمين و المراد من السوق هو مركز التجمّع للكسب و التجارة لا المكان المسقف الذي يطلق عليه السوق اصطلاحاً بل مقتضى بعض الروايات الآتية انّه لا مدخلية للكسب و التجارة أيضاً بل المراد أكثرية المسلمين عدداً و غلبتهم بالإضافة إلى غيرهم من سائر الملل و منه يظهر انّ السوق بنفسه لا تكون أمارة حقيقة بل هو كاشف عن الأمارة الحقيقية و هي يد المسلم فالسوق امارة على الامارة لأنّ الغالب في أسواق المسلمين إنّما هم المسلمون و قد جعل الشارع هذه الغلبة معتبرة و الحق من يشكّ في إسلامه في أسواقهم بالمسلمين فالامارة انّما هي يد المسلم و منه يظهر انّ

مورد هذه المسألة ليس ما يؤخذ من يد المسلم و سوق المسلمين معاً و إن كانت العبارة مشعرة به بل ما يؤخذ من أحدهما و لعلّها كانت النسخة الأصلية مشتملة على العطف بأو لا بالواو.

و كيف كان فمن الأخبار الواردة في السوق رواية الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنّه ميتة بعينه. «1» و منها: رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيه هي أم غير ذكية أ يصلّي فيها؟ فقال: نعم ليس عليكم المسألة انّ أبا جعفر (عليه السّلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم انّ الدين أوسع من ذلك. «2» و منها: رواية أُخرى لأحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السّلام) قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدرى أذكي هو أم لا ما تقول في الصلاة فيه و هو لا يدري أ يصلّي فيه؟ قال: نعم أنا أشتري الخفّ من السوق و يصنع

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 99

..........

______________________________

لي و أُصلّي فيه و ليس عليكم المسألة. «1» و غير خفي انّ أدلّة اعتبار السوق لا تكون على نحو القضية الحقيقية حتّى تدلّ على اعتبار مطلق السوق و لو لغير المسلمين، و انّما تكون على نحو القضية الخارجية لأنّ المراد بالسوق المذكور في الروايات هي الأسواق الخارجية المبتلى بها في تلك الأعصار، و إن أبيت و جمدت على ظاهر لفظ

«السوق» و كونه مطلقاً شاملًا لجميع الأسواق في بعضها و إن ترك الاستفصال في بعضها الآخر دليل على العموم فنقول إنّ هنا رواية صالحة للتقييد و التخصيص و هي ما عن فضيل و زرارة و محمد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر (عليه السّلام) عن شراء اللحوم من الأسواق و لا يدرى ما صنع القصّابون فقال: كُل إذا كان ذلك في سوق المسلمين و لا تسأل عنه. «2» فإنّ التقييد في الجواب ظاهر في عدم ثبوت الحكم بنحو الإطلاق فيصلح لتقييد الروايات المتقدّمة بل ظاهر مصحّحة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح (عليه السّلام) انّه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام؟ قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس. «3» انّه يعتبر في السوق الذي يكون من الأمارات أمران:

الأوّل: أن يكون في أرض الإسلام أي الأرض التي تكون تحت غلبة المسلمين و حكومتهم و سلطتهم.

الثاني: أن يكون أغلب أفرادها مسلمين امّا اعتبار الأمر الأوّل فلدلالة ظاهر الصدر عليه و أمّا اعتبار الأمر الثاني فلدلالة الجواب عليه فإنّ الظاهر انّ المراد بالغالب على الأرض هو غلبة افراد المسلمين في أرض الإسلام لا الغلبة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 6.

(2) الوسائل أبواب الذبائح الباب التاسع و العشرون ح 1.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 100

..........

______________________________

على الأرض و السلطة عليها المفروضة في السؤال بحيث يكون الجواب تكراراً لما هو المفروض في السؤال، مع انّه لو شكّ في ذلك فلا محيص عن الأخذ بالقدر المتيقّن و هو السوق الذي يكون

في أرض الإسلام و يكون أكثر أفرادها مسلمين لأنّ الشكّ في الحجّية في غيره مساوق للقطع بالعدم كما هو ظاهر.

و ليعلم انّ المراد من المسلم في المقام أعمّ من المؤمن لأنّ الأسواق في زمان صدور الروايات كان أكثر أهلها من العامّة و مع هذا قد حكموا باعتبارها.

الفرع الثاني: ما يوجد مطروحاً في أرض المسلمين و قد حكم فيه أيضاً بالطهارة و يدلّ عليه ما يدلّ على اعتبار السوق بعد كون المراد من أرض المسلمين ما اجتمع فيه الأمران: كونها تحت سلطة المسلمين و حكومتهم و غلبة أفراد المسلمين إلّا انّه ربّما يقيّد ذلك بما إذا كان عليه أثر الاستعمال حتّى يكون كاشفاً عن كونه في يد المسلم سابقاً و الروايات الواردة في السوق كلّها ناظرة إلى الثبوت في يد المسلم و لو بوجود الامارة عليها و عليه فينبغي إضافة هذا القيد.

الفرع الثالث: ما يؤخذ من يد المسلم مع العلم بكونه مسبوقاً بيد الكافر و له صورتان:

الاولى: ما إذا احتمل انّ المسلم الذي أخذه من الكافر قد تفحّص من حاله و أحرز تذكيته و قد حكم فيه بالطهارة مشروطاً بما إذا عمل معه معاملة المذكّى على الأحوط و الدليل على الحكم بالطهارة في هذه الصورة هو الدليل على اعتبار يد المسلم فإنّه و إن كانت مسبوقة بيد الكافر قطعاً على ما هو المفروض إلّا انّه مع احتمال كون المسلم قد تفحّص من حاله و أحرز تذكيته خصوصاً مع معاملته معه معاملة المذكّى لا يبقى فرق بينه و بين ما إذا لم تعلم المسبوقية بيد الكافر. نعم مجرّد الاحتمال مع عدم المعاملة معه معاملة المذكّى أو الشكّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها،

ص: 101

[مسألة 5 لو أخذ لحماً أو شحماً أو جلداً من الكافر أو من سوق الكفّار]

مسألة 5 لو أخذ لحماً أو شحماً أو جلداً من الكافر أو من سوق الكفّار و لم يعلم انّه من ذي النفس أو غيره كالسمك و نحوه فهو محكوم بالطهارة و إن لم يحرز تذكيته و لكن لا تجوز الصلاة فيه (1).

______________________________

فيه لعلّه لا يكفي في الاعتبار لعدم العلم بشمول أدلّته له لأنّه ليس في مقابل يد الكافر السابقة إلّا صرف الاحتمال، و أمّا مع المعاملة المفروضة فأصالة الصحّة في عمل المسلم تكفي لإثبات التذكية عنده و عدم كون هذه المعاملة غير مشروعة و أمّا بدونها فقد عرفت انّه لا يكون هناك الا سبق يد الكافر قطعاً و احتمال التفحّص و إحراز التذكية و هو لا يقاوم العلم فتأمّل.

الثانية: الصورة مع العلم بعدم الفحص و عدم إحراز التذكية و قد حكم فيه بأنّ الأحوط بل الأقوى وجوب الاجتناب عنه و الوجه فيه انّ يد الكافر يكون وجودها كالعدم و لا تكون امارة على كون ما فيها ميتة بل اللازم في موردها الرجوع إلى أصالة عدم التذكية و قد عرفت سابقاً انّ مقتضى التحقيق هو التفصيل في الآثار فيترتّب عليها حرمة الأكل و عدم جواز الصلاة فيه لأنّهما قد رتّبا في الشريعة على عنوان غير المذكى و هو يثبت بأصالة عدم التذكية و أمّا النجاسة و حرمة الانتفاع على تقدير القول بها فقد رتّبا فيها على عنوان الميتة و هو أمر وجودي لا يثبت باستصحاب عدم التذكية بل لا بدّ في مثلهما من الرجوع إلى قاعدة الطهارة و أصالة الحلية و أمّا بناءً على مبنى الماتن دام ظلّه من ترتّب جميع الآثار فلا بدّ من الحكم بالنجاسة في هذه الصورة كسائر الآثار أيضاً

فتدبّر.

(1) قد عرفت انّ يد الكافر يكون وجودها كالعدم و لا تتّصف بالامارية أصلًا غاية الأمر انّ كفر ذي اليد يمنع عن وجود الامارة على التذكية و هي يد المسلم فاللازم إجراء حكم المشكوك الفاقد للأمارة عليها و حينئذٍ نقول مع ثبوت كون المأخوذ جزء من الحيوان لكونه لحماً أو شحماً أو جلداً و تردّده بين أن يكون ذي النفس حتّى تكون ميتة نجسة أو من غير ذي النفس حتّى تكون ميتة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 102

[مسألة 6 لو أخذ شي ء من الكفّار أو من سوقهم و لم يعلم انّه من أجزاء الحيوان]

مسألة 6 لو أخذ شي ء من الكفّار أو من سوقهم و لم يعلم انّه من أجزاء الحيوان أو غيره فهو محكوم بالطهارة ما لم يعلم بملاقاته للنجاسة السارية بل تصحّ الصلاة فيه أيضاً و من هذا القبيل اللاستيك و الشمع المجلوبان من بلاد الكفّار في هذه الأزمنة عند من لا يطلع على حقيقتهما (1).

______________________________

طاهرة كالسمك و نحوه لا مجال لإجراء استصحاب عدم التذكية لإثبات النجاسة لأنّ الرجوع إليه انّما هو فيما تتوقّف الطهارة على التذكية و المفروض احتمال حصولها بدونها لاحتمال كونه من غير ذي النفس فلا مجال إلّا لإجراء أصالة الطهارة و الحكم بها و لكنّه مع ذلك لا تجوز الصلاة فيه لما سيأتي في بحث لباس المصلّي إن شاء اللّٰه تعالى من اشتراط الصلاة في أجزاء الحيوان بكونه مذكّى مأكول اللحم و انّ الصلاة في أجزاء غير المذكّى لا تصحّ و لو كان طاهراً من جهة عدم كونه ذا نفس سائلة و حيث لم تحرز التذكية في المقام على ما هو المفروض فلا تصحّ الصلاة فيه لعدم إحراز الشرط و لكن يرد على الماتن دام ظلّه انّ ظاهره

هنا انّ عدم جواز الصلاة فيه انّما يكون بنحو الفتوى مع انّه صرّح في بحث لباس المصلّي بأنّ عدم جواز الصلاة في الطاهر غير المذكّى كالسمك و نحوه انّما يكون بنحو الاحتياط الوجوبي دون الفتوى.

(1) امّا الحكم بالطهارة في هذه المسألة فمستنده هو المستند في المسألة السابقة و هو جريان قاعدة الطهارة، و أمّا صحّة الصلاة فيه فلأنّ الصلاة في أجزاء الحيوان بعد كونها ممّا تحلّه الحياة مشروطة بكونه مذكّى مأكول اللحم و المفروض الشكّ في كون المأخوذ جزء من الحيوان و احتمال كونه مصنوعاً من غير أجزاء الحيوان و عليه فلا وجه لإحراز التذكية و اعتباره بل المانع في هذه المسألة هي النجاسة المحتملة و هي منتفية بأصالة الطهارة الجارية كما هو ظاهر و عليه فيعامل مع مثل اللاستيك و الشمع المجلوبين من بلاد الكفّار في هذه الأزمنة عند من لا يكون مطّلعاً على حقيقتهما بل يحتمل كونهما من أجزاء الحيوان أو مصنوعين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 103

[الخامس: دم ذي النفس السائلة بخلاف دم غيره]

اشارة

الخامس: دم ذي النفس السائلة بخلاف دم غيره كالسمك و البق و القمل و البراغيث فإنّه طاهر. و المشكوك في انّه في أيّهما محكوم بالطهارة و الأحوط الاجتناب عن العلقة المستحيلة من المني حتّى العلقة في البيضة و إن كانت الطهارة في البيضة لا تخلو من رجحان. و الأقوى طهارة الدم الذي يوجد فيها، و إن كان الأحوط الاجتناب عنه بل عن جميع ما فيها إلّا أن يكون الدم في عرق أو تحت جلدة حائلة بينه و بين غيره (1).

______________________________

من غيرها معاملة الطهارة و تجوز الصلاة فيهما أيضاً و كذا الثياب المجلوبة منها المردّدة بين كونها من أجزاء

الحيوان أو مصنوعة من المواد النفطية و سائر الأشياء المردّدة بين كونها من الجلد أو من المواد غير الحيوانية و هكذا.

(1) نجاسة الدم في الجملة من المسائل الواضحة بل الإجماعية بين الفريقين بل قيل إنّها من ضروريات الدين فضلًا عن كونها من ضروريات الفقه و عليه فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليها لكن حيث إنّ بعض مصاديقه محل الشبهة كالموارد المذكورة في المتن و كالدم المخلوق آية أو المصنوع بتركيب أجزائه لا بدّ من ملاحظة الأدلّة ليظهر انّ مقتضاها هل هو أصالة النجاسة في الدم ليرجع إليها في مورد الشكّ أو العكس بحيث تكون النجاسة في كل مورد محتاجة إلى دليل خاص فنقول قد استدلّ على نجاسة الدم مطلقاً بوجوه:

منها: قوله تعالى قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «1». و لا بدّ لاستفادة المطلوب من الآية الشريفة من إثبات أُمور أربعة:

الأوّل: عود الضمير في «فَإِنَّهُ رِجْسٌ» إلى جميع المذكورات حتّى يكون راجعاً إلى الدم أيضاً لأنّه يحتمل عوده إلى خصوص لحم الخنزير المذكور أخيراً.

الثاني: كون «رجس» في الآية بمعنى النجس الشرعي المبحوث عنه في الفقه.

______________________________

(1) الأنعام: 145.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 104

..........

______________________________

الثالث: عدم كون قيد المسفوح فيها قيداً احترازياً بل وارداً مورد الغالب كقوله تعالى وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «1» فإنّه يحتمل في معنى القيد ثلاث احتمالات: من كون المراد بالدم المسفوح هو الدم السائل في مقابل الدم الذي لا يكون له سيلان كالسمك و نحوه، و من كون المراد به الدم الخارج من الحيوان المذبوح في مقابل الدم المتخلّف

في الذبيحة، و من كون المراد به الدم الظاهر في مقابل الدم في الباطن فعلى الأولين لا بدّ و أن يكون القيد احترازياً فتدبّر.

الرابع: إثبات كون الآية الكريمة في مقام بيان حرمة الدم و أخويه أعني كونها في مقام بيان حكم المستثنى دون المستثنى منه و بعبارة اخرى كونها في مقام بيان العقد الإيجابي أيضاً دون السلبي فقط:

و الالتزام بثبوت هذه الأُمور الأربعة مشكل جدّاً: امّا كون الرجس في الآية الكريمة بمعنى النجس الشرعي فدون إثباته خرط القتاد لأنّ الرجس معناه الخبيث و الدني و هو المعبّر عنه في الفارسية ب «پليدى» و الشاهد عليه إطلاقه على هذا المعنى في جميع موارد استعماله في الكتاب العزيز كآية التطهير المعروفة و يبلغ تلك الموارد إلى العشرة و لم يوجد في القرآن إطلاقه على المعنى المقصود في المقام أصلًا غاية الأمر انّ الرجس فيها أعمّ من القذر العرفي و القذر بنظر الشارع فكون لحم الخنزير الذي هو المتيقّن من المرجعية للضمير غير قذر في محيط العرف و العقلاء لا يقدح فيما ذكرنا كما انّ ما حكى عن شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في التهذيب من انّ الرجس هو النجس بلا خلاف و قيل ظاهره انّه لا خلاف بين علمائنا في أنّه في الآية بمعنى النجس لا يضرّ بما استظهرناه كما انّ إطلاقه في بعض الروايات على النجس مثل ما ورد في الكلب من «انّه رجس نجس» «2» و ما ورد في الخمر من قوله (عليه السّلام):

______________________________

(1) النساء: 23.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني عشر ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 105

..........

______________________________

«لا تصل فيه فإنّه رجس» «1» لا دلالة فيه على كون

الإطلاق في الآية الكريمة أيضاً كذلك خصوصاً مع كون الإطلاق في الروايات في غاية القلّة مع انّه يمكن أن يقال بأنّ الإطلاق في مثل الروايتين أيضاً ليس بمعنى النجس فإنّه يحتمل أن يكون المراد به في رواية الكلب هي القذارة المعنوية و إلّا يلزم التكرار و التأكيد و هو خلاف الظاهر كما انّه يحتمل أن يكون المراد به في رواية الخمر أيضاً ذلك بحيث تكون العلّة لعدم جواز الصلاة فيها على طبق هذه الرواية هي قذارتها المعنوية و هي لا تنافي النجاسة الشرعية أيضاً فتدبّر.

و بالجملة لا دليل على كون الرجس في الآية الكريمة بمعنى النجس الشرعي أصلًا و إن جعل الماتن دام ظلّه دعواه غير مجازفة.

و أمّا كون القيد وارداً مورد الغالب و عدم كونه احترازياً فهو أيضاً خلاف الظاهر لكون الأصل في القيد الاحترازية و لا يمكن لنا رفع اليد عن القيد بمجرّد احتمال كونه وارداً مورد الغالب و هذا ليس من باب الأخذ بمفهوم الوصف بل من باب مدخلية القيد في الموضوع بحيث ينتفي الموضوع بانتفائه.

و أمّا الأمران الآخران فالظاهر ثبوتهما لأنّ الظاهر تعليل حرمة جميع المذكورات بكونها رجساً فلا يناسب قصره على الأخير و لحم الخنزير و إن كان ربّما يقال بعدم احتياج الأولين إلى التعليل لاستقذار الناس منهما دون الأخير لكنّه كما ترى فإنّ النهي عن أكلهما انّما هو لردع الناس عنه و مع استقذارهم لا يحتاج إليه خصوصاً إذا كان المراد بالميتة غير المذكّى لا ما مات حتف أنفه فإنّه ليس بمستقذر عندهم حينئذٍ مطلقاً كما لا يخفى.

كما انّ تقييد الدم بكونه مسفوحاً و التعليل بقوله «فَإِنَّهُ رِجْسٌ» دليل على كون الآية بصدد بيان العقد الإيجابي أيضاً و ليس

نظره إلى بيان العقد السلبي

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 106

..........

______________________________

فقط إلّا أن يقال بعدم كفاية ذلك فإنّ ما تكون الآية بصدد بيانه هو الحرمة و الدم مطلقاً و بجميع أنواعه لا يكون مأكولًا حتّى يحكم بحرمته فغاية مفاد الآية هي حرمة الدم المأكول و لا مانع من الالتزام بنجاسته فأين تدلّ على النجاسة مطلقاً و لكنّه مدفوع بأنّ المأكولية لا تكون قيداً للحرمة بل مفاد الآية الحرمة المطلقة للدم المسفوح و مقتضى التعليل النجاسة كذلك فالإشكال من هذه الجهة غير وارد لكن عرفت انّ الاستدلال يتوقّف على تمامية الأُمور الأربعة بأجمعها و المناقشة و لو في واحد تقدح في الاستدلال فتمامية الأمرين غير كافية.

و منها: الروايات و هي على طائفتين:

الطائفة الأُولى: ما يستفاد منها ذلك من أجل كيفية سؤال السائلين الدالّة على كون نجاسته مرتكزة في أذهانهم و مفروغاً عنها عندهم بحيث كان هو الباعث على السؤال كالسؤال عن حكم ملاقي الدم أو ما وقع فيه الدم من غير تقييده بشي ء و لا تخصيصه بخصوصية و لا بأس بإيراد بعضها مثل:

صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها، ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقع (عليه السّلام) بخطّه في كتابي: ينزح دلاء منها «1».

و رواية عبد اللّٰه بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا

يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلّى أ يعيد صلاته؟ قال: يغسله و لا يعيد صلاته إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله و يعيد الصلاة. «2»

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الرابع عشر ح 21.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 107

..........

______________________________

إلى غير ذلك ممّا يدل على انّ نجاسة طبيعي الدم كانت مفروغاً عنها عندهم لأنّ النجس لو كان هو بعض أقسامه كان عليهم التقييد في مقام السؤال مضافاً إلى انّ نجاسته تكون مرتكزة في أذهان المتشرّعة في عصرنا هذا أيضاً.

و فيه انّ هذه الروايات لا تكون في مقام بيان نجاسة الدم و لم يكن السائل في مقام السؤال عنها مطلقاً فإنّه في كلمات السائلين قد فرض دم نجس و سُئل عن حكم ما وقع فيه أو لاقىٰ معه و لذا لا يستفاد من صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع نجاسة طبيعي البول.

و أمّا المتشرّعة فلو سُئل عنهم عن انّه هل يكون الدم نجساً مطلقاً لا يحكمون بنجاسته كذلك و عليك بالمراجعة إليهم و السؤال عنهم.

الطائفة الثانية: الأخبار الدالّة بإطلاقها على نجاسة الدم مثل:

النبوي: «يغسل الثوب من المني و البول و الدم» فإنّه فيها قد أمر بغسل الثوب من طبيعي الدم و هو يكشف عن نجاسته و لكنّه مخدوش سنداً لأنّه لم ينقل في كتب الحديث و عن الجواهر انّه مروي في كتب الفروع.

و رواية دعائم الإسلام عن الباقر و الصادق (عليهما السّلام) انّهما قالا في الدم يصيب الثوب: يغسل كما تغسل النجاسات «1». و هذه الرواية أيضاً تامّة الدلالة للأمر بغسل الثوب عن طبيعي الدم،

و ناقش بعض في دلالتها بأنّها لا تكون في مقام بيان نجاسة الدم أصلًا بل تكون بصدد بيان كيفية غسل الدم.

و فيه عدم تمامية المناقشة بوجه و لا سيما مع اختلاف النجاسات في كيفية التطهير و لكنّها أيضاً ضعيفة السند و لهذا لم يروها في الوسائل أصلًا و لم يحرز اتّكال الأصحاب عليها حتّى يجبر ضعف سندها.

و موثقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سُئل عمّا تشرب منه

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس عشر ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 108

..........

______________________________

الحمامة فقال: كلّ ما أكل لحمه فتوضّأ من سؤره و اشرب، و عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب فقال: كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دماً فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضّأ منه و لا تشرب «1». فانّ الدم الواقع في كلامه (عليه السّلام) مطلق فيستكشف من حكمه (عليه السّلام) بعدم جواز التوضّي و الشرب منه نجاسة الدم على إطلاقه.

و فيه انّ الرواية غير واردة لبيان نجاسة الدم حتّى يتمسّك بإطلاقها و انّما هي بصدد بيان انّ النجاسة أي نجاسة المنقار و منجسيته للماء القليل تتوقّفان على العلم بوجود النجاسة فيه ففي الرواية قد وقع التعرّض لحكم منجسية المنقار إذا علم بوجود دم نجس فيه لا مطلق الدم.

و رواية زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): بئر قطرت فيها قطرة دم أو خمر قال: الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ينزح منه عشرون دلواً فإن غلب الريح نزحت حتّى تطيب. «2» و فيه انّها أيضاً ناظرة إلى

الدم النجس و مسوقة لبيان حكم البئر الواقع فيه ذلك الدم كما هو ظاهر.

و قد انقدح انّه لا دليل على نجاسة مطلق الدم و انّ الأصل فيه النجاسة و عليه فاللازم الرجوع إلى قاعدة الطهارة فيما إذا شكّ في نجاسة دم و طهارته، بل على ما ذكرنا لا يمكن التمسّك بالروايات على نجاسة الدم من كل ما له نفس سائلة لعدم إطلاق فيها و لو مع هذا الوصف و عدم كونها في مقام بيان النجاسة.

نعم لو كان الدم المسفوح في الآية الشريفة بمعنى الدم الخارج من العرق بقوّة و دفع، و كان الرجس فيها بمعنى النجس الشرعي، و كان الضمير راجعاً إلى الجميع لكانت الكريمة دليلًا على نجاسة مطلق الدم الخارج بقوّة و دفع لا ما

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأسئار الباب الرابع ح 2.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الخامس عشر ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 109

..........

______________________________

خرج بغيره و لو كان من الحيوان الذي له نفس سائلة إلّا أن يكون المراد بالدم المسفوح هو الدم من الحيوان الذي له نفس سائلة مطلقاً و لكنّك قد عرفت انّ الرجس ليس بمعنى النجس الشرعي و انّ المسفوح يجري فيه احتمالات ثلاثة فلا دليل على نجاسة الدم من كل ما له نفس سائلة إلّا الإجماع و معقده دم الإنسان و الحيوان فلا يشمل الدم المخلوق آية و الموجود تحت الأحجار عند قتل الحسين (عليه السّلام) و المصنوع بتركيب أجزائه و دم الشجر و نحوها.

ثمّ انّه في المقام تفصيلان: أحدهما: ما عن الشيخ الطوسي (رحمه اللّٰه) و جماعة من التفصيل بين الدم القليل الذي لا يدركه الطرف و بين غيره بعدم

نجاسة الأوّل نظراً إلى صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إنائه هل يصلح له الوضوء منه؟ قال: إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه. قال: و سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا. «1» بتقريب انّ الإمام (عليه السّلام) قد فصل في الدم الواقع في الإناء بين ما إذا كان بيّناً و هو ما يدركه الطرف و بين ما إذا كان غير بيّن و هو ما لا يدركه الطرف فتصلح الرواية مقيّدة للأخبار المطلقة و للإجماع المتقدّم على فرض تماميتهما.

و يندفع بأنّ الصحيحة لا دلالة لها على طهارة ما لا يدركه الطرف من الدم لعدم كون المفروض فيها إصابة الدم للماء الموجود في الإناء و انّما المفروض مجرّد إصابته للإناء و من هنا قد حكم الإمام (عليه السّلام) بنفي البأس لعدم العلم بوقوع الدم في الماء إلّا أن يكون الدم بيّناً فيه فيعلم بوقوعه فيه. و الحاصل انّ

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثامن ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 110

..........

______________________________

محطّ نظر السائل ما إذا احتمل وقوع الدم في الإناء و عدم وقوعه فيه بأن كان قد أصاب السطح الخارج أو الداخل غير الملاقي للماء و الجواب يرجع إلى انّ احتمال إصابة الماء لا يكفي في الحكم بنجاسته بل لا بدّ من العلم بها و الشاهد على ما ذكرنا مضافاً إلى ظاهر السؤال و الجواب ذيل الرواية

الدال على عدم صلاحية الوضوء من الإناء مع العلم بوقوع قطرة فيه من دون فرق بين القطرة التي يدركها الطرف و ما لا يدركها الطرف فتدبّر.

ثانيهما: ما عن الصدوق (قدّس سرّه) من التفصيل في نجاسة الدم بين ما دون الحمّصة و غيره و الظاهر انّه استند في ذلك إلى روايتين:

إحداهما: الفقه الرضوي حيث إنّ فيها: «و إن كان الدم حمصة فلا بأس بأن لا تغسله إلّا أن يكون الدم دم الحيض فاغسل ثوبك منه و من البول و المني قلَّ أو كثر و أعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم» «1» فإنّ عبارة الصدوق في «الفقيه» على ما نقل عنه موافقة للعبارة المذكورة في الفقه الرضوي إلّا في لفظة «دون» قبل الحمصة فإنّها ثابتة في عبارة الصدوق و غير مذكورة في الفقه الرضوي على ما عرفت.

ثانيتهما: رواية مثنى بن عبد السلام عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: إنّي حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله و إلّا فلا «2».

و يرد على هذا التفصيل:

أوّلًا: عدم ثبوت كون الفقه الرضوي للإمام (عليه السّلام) و عدم حجّية رواياته و احتمال كون الكتاب لفقيه مسمّى بالرضا، و الرواية الثانية أيضاً ضعيفة بابن المغيرة.

و ثانياً: عدم الدلالة على عدم النجاسة لأنّ معنى قوله (عليه السّلام) في الاولى:

______________________________

(1) مستدرك الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس عشر ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 111

..........

______________________________

«لا بأس بأن لا تغسله» و في الثانية: «و إلّا فلا» ليس عدم النجاسة بل معناهما عدم وجوب غسله للعفو عنه في الصلاة و يؤيّده ما في ذيل

الفقه الرضوي من قوله: «و أعد منه صلاتك» فتدبّر.

و لا يخفى ما في هذا الإيراد من المناقشة فإنّ الظاهر من عدم وجوب الغسل انّما هو عدم النجاسة كما انّا استكشفنا النجاسة نوعاً من الأمر بالغسل عنه فكما انّ الأمر بالغسل كاشف عن النجاسة كذلك نفي وجوبه دليل على عدمها كما لا يخفىٰ.

و هنا تفصيل ثالث منسوب إلى ابن الجنيد (قدّس سرّه) لا في خصوص الدم بل في أكثر النجاسات و هو التفصيل بين ما دون الدرهم من البول و الدم و غيرهما من الأعيان النجسة سوى دم الحيض و المني و بين غيره أي قدر الدرهم و ما فوقه، و الظاهر انّه اعتمد في الحكم بعدم نجاسة ما دون الدرهم على الأخبار الواردة في جواز الصلاة فيما دون الدرهم من الدم و العفو عنه بإلغاء الخصوصية عن الدم و أسراء الحكم إلى غيره من النجاسات سوى دم الحيض و المني.

و يرد عليه:

أوّلًا: انّ الأخبار الدالّة على العفو عنه في الصلاة لا تدلّ على عدم نجاسته فإنّها صريحة في العفو عن الدم القليل في الصلاة و ظاهر عنوان «العفو» انّه نجس قد أغمض عنه في الصلاة.

و ثانياً: انّ إلغاء الخصوصية من تلك الأخبار حتّى بالنسبة إلى العفو فضلًا عن عدم النجاسة على تقدير دلالتها عليه لا وجه له بل لا يكون إلّا محض قياس كما هو ظاهر فهذا التفصيل كالأولين لا ينبغي المصير إليه بوجه.

بقي في هذا الأمر فروع: الفرع الأوّل: انّ دم ما لا نفس له كالسمك و نحوه طاهر، و الدليل على الطهارة امّا على ما اخترناه من عدم ثبوت أصالة نجاسة الدم فواضح لأنّه مع عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

النجاسات و أحكامها، ص: 112

..........

______________________________

الدليل على النجاسة يكون المرجع هي قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية أيضاً.

و أمّا على مسلك من جعل الأصل في الدم النجاسة إلّا ما خرج بدليل فقد استدلّ على طهارته و خروجه عن ذلك الأصل بوجوه:

الأوّل: الإجماع فإنّه انعقد على طهارة دم ما لا نفس له.

و فيه انّه على تقدير تحقّقه لا يكون إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السّلام) لأنّه يحتمل قوياً أن يكون مستند المجمعين الآية الشريفة التي يأتي البحث عنها أو بعض الوجوه الأُخر الآتية مع انّ المحكي عن الشيخ (قدّس سرّه) انّه قال بنجاسته و العفو عنه في الصلاة.

الثاني: قوله تعالى في الآية الشريفة المذكورة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً فإنّ تقييد الدم بكونه مسفوحاً ظاهر في اختصاص النجاسة به و المراد من المسفوح هو السائل منه.

و فيه أوّلًا ما عرفت من انّه لم يثبت كون المراد به ذلك بل يحتمل أن يكون المراد به هو ما يخرج بدفع و قوّة لا مطلق دم الحيوان الذي له نفس سائلة.

و ثانياً: انّ الآية مسوقة لبيان نجاسة الدم المسفوح لا عدم نجاسة الدم غير المسفوح إلّا على تقدير القول بثبوت مفهوم الوصف و حجّيته و نحن لا نقول به.

الثالث: الأخبار الدالّة على نفي البأس عن بعض ما لا نفس له و هي كثيرة:

مثل رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: انّ عليّاً (عليه السّلام) كان لا يرى بأساً بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلّي فيه الرجل، يعني دم السمك. «1» و لو كان كلمة التفسير: «يعني دم السمك» من الإمام (عليه السّلام) يكون الظاهر منها طهارة دم السمك، و لكنّه يحتمل أن تكون من

______________________________

(1)

الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث العشرون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 113

..........

______________________________

السكوني الراوي عن الإمام (عليه السّلام) كما انّه يحتمل على التقدير الأوّل أن يكون نفي البأس عن صلاة الرجل فيه لأجل العفو عنه لا طهارته فتدبّر.

و رواية محمد بن ريّان قال: كتبت إلى الرجل (عليه السّلام) هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث؟ و هل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على البراغيث فيصلّي فيه؟ و أن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع (عليه السّلام): يجوز الصلاة و الطهر منه أفضل. «1» و رواية غياث عن جعفر عن أبيه قال: لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف. «2» و رواية الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام): عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال: لا و ان كثر. «3» و رواية عبد اللّٰه بن ابى يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس، قلت: إنّه يكثر و يتفاحش؟ قال: و إن كثر. «4» و فيه انّ هذه الأخبار لا تدلّ على الحكم الكلّي فإنّ موردها البق و البراغيث و الحكم بطهارة دمهما لا دلالة فيه على طهارة كل ما لا نفس له لعدم جواز التعدّي عنه و على فرضه فالتعدّي إلى مثل السّمك ممّا له لحم مشكل جدّاً. نعم لو ثبت كون التفسير في رواية السكوني من الإمام (عليه السّلام) و ثبتت دلالتها على الطهارة يمكن الحكم بالعموم على تأمّل فيه أيضاً لكن الأوّل غير ثابت و إن كان الثاني ثابتاً ظاهراً و عليه فيشكل الحكم بنحو العموم

في مقابل الأصل الأوّلي

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و العشرون ح 3.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و العشرون ح 5.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و العشرون ح 4.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و العشرون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 114

..........

______________________________

و هو نجاسة الدم مطلقاً بل اللازم الاقتصار على مقدار دلّ الدليل عليه من التخصيص و التقييد فتأمّل.

الفرع الثاني: بناء على طهارة دم ما لا نفس له امّا لقيام الدليل عليها و أمّا لعدم ثبوت كون الأصل في الدم النجاسة و لم يقم دليل على نجاسته لو شكّ في دم انّه ممّا له نفس سائلة أو ممّا لا نفس له كذلك فتارة تكون الشبهة بالنحو الكلّي بمعنى انّه لا يعلم انّ الحيوان الذي يكون هذا دمه ممّا له نفس سائلة أم لا كدم الحية و التمساح و أُخرى بغير هذا النحو بمعنى انّه لا يعلم انّ هذا الدم هل يكون من الحيوان الذي له نفس سائلة كالشاة أو ممّا لا نفس له كالسمك و الحكم في كلا القسمين هي الطهارة.

امّا في القسم الثاني فواضح لأنّه من الشبهة الموضوعية محضاً و الحكم فيها عند الدوران بين النجاسة و الطهارة هو الرجوع إلى أصالة الطهارة فإذا رأى في ثوبه دماً و احتمل انّه منه أو من البق و البرغوث يحكم فيه بالطهارة.

و أمّا في القسم الأوّل: فعلى تقدير عدم ثبوت النجاسة لمطلق الدم يصير المقام من قبيل الشبهة الموردية لدليل النجاسة و الحكم فيه أيضاً الرجوع إلى أصالة الطهارة و على تقدير ثبوتها و قيام الدليل على الطهارة فيما لا نفس له يصير المقام من

قبيل الشبهة المصداقية للمخصص بناء على كون دليل النجاسة دالّاً عليها بنحو العموم فيجري فيه ما قيل في التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص جوازاً و منعاً كما انّه على تقدير كون دليل النجاسة دالّاً عليه بنحو الإطلاق دون العموم كما هو الظاهر على تقدير ثبوته يصير المقام من قبيل التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقية للمقيّد و هو أضعف من التمسّك بالعامّ لأنّ التخصيص لا يوجب حصول عنوان في العام بخلاف التقييد و التفصيل في محلّه.

الفرع الثالث: العلقة المستحيلة من المني و قد احتاط في المتن بالاجتناب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 115

..........

______________________________

عنها و إن كانت في البيضة ثمّ رجح الطهارة في البيضة، و المحكي عن الشيخ (قدّس سرّه) في الخلاف انّه ادّعى الإجماع على نجاسة العلقة المستحيلة من المني و استدلّ لها أيضاً بإطلاق الأدلّة، و يظهر من المحقّق و العلّامة و بعض آخر التمسّك لها بأنّها دم أو دم ذي نفس، و عن الشهيد و المحقّق الأردبيلي و كاشف اللثام الترديد فيه، و عن صاحب الحدائق الجزم بالطهارة.

و كيف كان فإن قلنا: بأنّ الأصل في الدم النجاسة فالحكم بنجاسة العلقة لا يحتاج إلى شي ء آخر لصدق الدم عليه، و أمّا إذا لم نقل بذلك كما اخترناه فيشكل الحكم بنجاسة العلقة لعدم قيام دليل عليها لا بنحو العموم و لا بنحو الخصوص.

إن قلت: إنّ العلقة جزء من الحيوان فيحكم عليها بالنجاسة بمقتضى الأدلّة الدالّة على نجاسة دم الحيوان الذي له نفس سائلة كالإجماع و نحوه.

قلت: إن كان المراد شمول معقد الإجماع لها فهو غير معلوم لأنّ الظاهر من دم الحيوان غيرها فإنّها نطفة تبدّلت بالعلقة فلا تكون

دم الامّ عرفاً بل هو شي ء مستقل و انّما يكون جوف الحيوان وعاء تكوّنه و ظرف وجوده كما انّه ليس دم الحيوان الذي تنقلب إليه بعد حين و عليه فلا دليل على نجاستها خصوصاً العلقة في البيضة فإنّ إطلاق العلقة عليها غير ظاهر فالأقوى طهارتها كما انّ الظاهر طهارة العلقة و إن كان الأحوط الاجتناب نظراً إلى كونها دماً و من البعيد أن لا يكون دم الحيوان أصلًا و إن كان متبدّلًا من المني و النطفة.

الفرع الرابع: الدم الذي يوجد في البيض و قد قوّى في المتن طهارته و احتاط بالاجتناب عنه و عن جميع ما فيه إلّا مع وجود الحائل بينه و بينه، و لا وجه للحكم بنجاسته إلّا كون الأصل فيما يصدق عليه الدم هي النجاسة إذ لا دليل عليها بالخصوص و قد عرفت عدم تمامية هذا الأصل و عليه فلا وجه للحكم بنجاسته و إن كان الدم صادقاً عليه عرفاً و الفرق بينه و بين العلقة مع اشتراكهما في صدق عنوان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 116

[مسألة 7 الدم المتخلّف في الذبيحة إن كان من الحيوان غير المأكول]

مسألة 7 الدم المتخلّف في الذبيحة إن كان من الحيوان غير المأكول فالأحوط الاجتناب عنه، و إلّا فهو طاهر بعد قذف ما يعتاد قذفه من الدم بالذبح أو النحر، من غير فرق بين المتخلّف في بطنها أو في لحمها أو عروقها أو قلبها أو كبدها إذا لم يتنجّس بنجاسة كآلة التذكية و غيرها، و كذا المتخلّف في الأجزاء غير المأكولة و إن كان الأحوط الاجتناب عنه، و ليس من الدم المتخلّف الطاهر ما يرجع من دم المذبح إلى الجوف لردّ النفس أو لكون رأس الذبيحة في علو. و

الدم الطاهر من المتخلّف حرام أكله إلّا ما كان مستهلكاً في الأمراق و نحوها، و كان في اللحم بحيث يعدّ جزء منها (1).

______________________________

الدم عليه انّ دم البيض لا مجال لاحتمال كونه دم الحيوان أصلًا مع انّ صدق الدم عليه غير واضح بخلاف العلقة التي تكون دماً حقيقة و يحتمل بل ربّما يقال بكونه دم الحيوان لكن الأحوط الاجتناب عن دم البيض أيضاً بل عن جميع ما في البيض إلّا مع وجود الحاجب المانع عن السراية كما إذا كان الدم في عرق أو تحت جلدة حائلة و إن كانت رقيقة فإنّه في هذه الصورة لا ينجس معه البياض إلّا إذا حصلت السراية بتمزّق الحائل.

و غير خفي انّ البحث هنا في الطهارة و النجاسة لا في حلية الأكل و حرمته فالحكم بالطهارة لا يلازم جواز الأكل فمن الممكن أن يكون أكل هذا الدم حراماً لأجل كونه خبيثاً أو قيام الدليل على حرمة أكل الدم مطلقاً فلا ينبغي الخلط بين المسألتين.

(1) الكلام في الدم المتخلّف في الذبيحة يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في الطهارة و النجاسة و قد فصّل فيه في المتن بين ما إذا كان الحيوان مأكول اللحم فحكم بطهارة الدم المتخلّف في ذبيحته بعد قذف ما يعتاد قذفه من الدم من دون فرق بين ما إذا كان في الأجزاء المأكولة أو في الأجزاء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 117

..........

______________________________

غير المأكولة و إن احتاط استحباباً بالاجتناب عن الثاني و بين ما إذا كان الحيوان غير مأكول اللحم فاحتاط وجوباً بالاجتناب عنه.

و هذه المسألة أي طهارة الدم المتخلّف في الذبيحة في الجملة من المسائل المتسالم عليها بين الأصحاب و لم يخالف فيها

أحد منهم، و مدركها على الأصل الذي اخترناه من طهارة الدم واضح لأنّه عليه يحكم بنجاسة الدم الذي قام الدليل على نجاسته بالخصوص و مع عدم الدليل عليها يكون مقتضى الأصل الأوّلي هي الطهارة و لم يقم في المقام دليل على النجاسة و شمول معقد الإجماع على نجاسة دم الحيوان له غير معلوم بل معلوم العدم للإجماع على طهارته كما سيجي ء و إن كان في الاستدلال بهذا الإجماع مناقشة كما يأتي إلّا انّ الاستشهاد به لعدم شمول معقد الإجماع على النجاسة للمقام ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلًا و أمّا بناءً على أصالة نجاسة الدم فقد استدلّ على طهارة الدم المتخلّف بوجوه:

الأوّل: الإجماع حيث انعقد كما عرفت على طهارة الدم المتخلّف في الذبيحة في الجملة و قد مر انّه لم يخالف فيها أحد من الأصحاب (رض).

و فيه: ما تقدّم من عدم ثبوت كون هذا الإجماع تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السّلام) لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه الآتية.

الثاني: انّ لحم كل ذبيحة يشتمل على مقدار من الدم و قد حكم بحلّيته شرعاً مع ما فيه من الدم، و إذا كان حلالًا فيكون طاهراً قطعاً للملازمة المتحقّقة بين الحلّية و عدم النجاسة و إن كانت غير ثابتة في جانب العكس.

و فيه: انّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى لأنّ المدعى طهارة مطلق الدم المتخلّف في الذبيحة و الدليل لا ينطبق عليه لأنّ حلية الأجزاء الدموية المستقلّة في الوجود مثل ما يوجد في بطن الذبيحة أو في قلبها بحيث إذا شقّ سال منه دم كثير ممّا لا دليل عليه. نعم حلّية الأجزاء الدموية المستهلكة في ضمن اللحم غير الزائلة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات

و أحكامها، ص: 118

..........

______________________________

بغسله نوعاً ممّا لا إشكال فيه فلا مانع من استكشاف الطهارة من طريقها للملازمة المذكورة.

الثالث: استقرار سيرة المتشرّعة المتصلة بزمان المعصومين (عليهم السّلام) على عدم الاجتناب عمّا يتخلّف في الذبيحة من الدم كان تابعاً للحمها أم لم يكن مع كثرة ابتلائهم بالذبائح و من المعلوم عدم ثبوت الردع عن السيرة فهي كاشفة عن رضا المعصوم (عليه السّلام) به.

و لا تنبغي المناقشة في هذا الدليل فطهارة الدم المتخلّف في الجملة مسلِّمة لا ريب فيها.

بقي في هذا المقام أُمور: الأوّل: هل يشترط في طهارة الدم المتخلّف أن يكون الحيوان ممّا يؤكل لحمه أو انّه لا فرق بينه و بين ما إذا كان غير مأكول اللحم؟ فالمحكي عن البحار و الذخيرة و الكفاية و شرح الاسناد انّ ظاهر الأصحاب الحكم بنجاسته في غير المأكول و من المعلوم انّ ثبوت الحكم بمثل ذلك مشكل خصوصاً مع كون الأصل في الدم الطهارة فإنّه لا دليل على النجاسة فيه و المتيقّن من الأدلّة هو نجاسة الدم السائل من الحيوان بعد الذبح و غيره مشكوك النجاسة. نعم لو استندنا في طهارة الدم المتخلّف إلى أحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة لا يبقى الإشكال في النجاسة في المقام بناء على الوجه الأوّل لعدم ثبوت الإطلاق لمعقد الإجماع خصوصاً مع ما عرفت من تصريح جماعة بكون ظاهر الأصحاب الحكم بالنجاسة فيه كما انّه بناء على الوجه الثاني لا مجال للإشكال فيها لأنّ المفروض عدم ثبوت الحلّية بوجه حتّى يستكشف منها الطهارة، و أمّا الوجه الثالث فالسيرة المستقرّة انّما تكون موردها الحيوانات المحلّلة و لا أقلّ من الشكّ في ثبوتها في الحيوانات المحرّمة.

و بالجملة فالمسألة مشكلة سواء قلنا بأصالة نجاسة الدم أو لم

نقل امّا على القول

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 119

..........

______________________________

الأوّل فواضح، و أمّا على القول الثاني فلقيام الإجماع على نجاسة دم الحيوان و الرجوع إلى القدر المتيقّن و هو الدم السائل منه بعد الذبح لا يلائم مع كون ظاهر الأصحاب على ما استظهره الجماعة الحكم بالنجاسة فالأحوط كما أفاده الماتن دام ظلّه الاجتناب عنه.

الثاني: بناء على اختصاص الحكم بالحيوانات المحلّلة هل يشترط في طهارة الدم المفروض أن يكون في الأعضاء المحلّلة كاللحم و العروق و القلب و الكبد أو لا يشترط ذلك بل يعمّ ما إذا كان في الأجزاء المحرّمة أيضاً كالطحال و النخاع و غيرهما؟

الظاهر عدم الاشتراط لعدم الدليل عليه. نعم لو كان المستند للطهارة في أصل الدم المتخلّف الوجهين الأوّلين من الوجوه الثلاثة المتقدّمة لكان الظاهر الحكم بالنجاسة لعدم شمول الإجماع له بعد كونه دليلًا لبياً لا إطلاق له و عدم ثبوت الحلّية على ما هو المفروض من كون الدم في الجزء المحرم، و أمّا بناءً على الوجه الثالث فالظاهر عدم الفرق في السيرة بين النوعين و عدم اجتناب المتشرّعة عن الدم الموجود في مثل الطحال و عدم الفرق عندهم بينه و بين الدم في الأجزاء المحلّلة فالأقوى هي الطهارة. نعم الاحتياط بالاجتناب لا خفاء في حسنه.

الثالث: يشترط في طهارة الدم المتخلّف أن يكون بعد قذف ما يعتاد قذفه من الدم بالذبح أو النحر فإذا رجع دم المذبح إلى الجوف لردّ النفس أو لكون رأس الذبيحة في علوّ يكون الدم نجساً لأنّه لا إشكال في نجاسة بالخروج من المذبح لأنّه الدم السائل من الحيوان بالذبح فعوده إلى الجوف لردّ النفس أو لكون رأسها في علو لا

يغير حكمه و لا يوجب حصول الطهارة له فلا ريب في نجاسته كما انّه لا إشكال في نجاسة الملاقي له من اللحم و العرق و العظم و الدم و غيرها لكن هذا فيما إذا خرج الدم من المذبح ثمّ رجع إلى الجوف لأحد الأمرين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 120

..........

______________________________

و أمّا فرض رجوع الدم إلى الجوف قبل الخروج من المذبح بأن رجع إليه بعد وصوله إلى منتهى الأوداج فالظاهر انّه أمر مستحيل كما نبّه عليه بعض الأعلام لأنّ الذبح انّما يتحقّق بقطع أوداج أربعة:

أحدها: الحلقوم و هو مجرى الطعام و مدخله؟

ثانيها: مجرى النفس.

ثالثها و رابعها: عرقان من اليمين و اليسار يسمّيان بالوريد و هما مجرى الدم فإذا قطع الوريد فلا محالة يخرج الدم من مفصله فكيف يرجع إلى الجوف قبل خروجه منه و لا يمكن للنفس أن يجذب الدم من الوريد الذي هو مجرى الدم قبل خروجه ففرض رجوع الدم إلى الجوف قبل خروجه من المذبح أمر غير ممكن.

نعم: هناك صورة أُخرى و هي ما لو ذبح الحيوان و منع عن خروج الدم منه كما لو وضع النار على المقطع حتّى ينسدّ به الطريق أو ذبح بالطريق المعمول في غير الممالك الإسلامية من الاستفادة من القوّة الكهربائية فهل يمكن أن يحكم عليه بالطهارة أم لا؟ وجهان:

من تحقّق التذكية بفري الأوداج مع الشرائط المعتبرة على ما هو المفروض في حصول التذكية و تحقّقها كرواية زيد الشحّام: إذا قطع الحلقوم و خرج الدم فلا بأس. مضافاً إلى انّ عمدة الدليل على طهارة الدم المتخلّف هي السيرة على ما عرفت و من المعلوم عدم تحقّقها في المقام بعد ندرة الابتلاء بمثله. نعم

لو كان الأصل في الدم عدم النجاسة و فرضنا عدم شمول الإجماع على نجاسة دم الحيوان لهذا المورد لكان الحكم بالطهارة على وفق القاعدة لكن الثاني محل إشكال خصوصاً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 121

..........

______________________________

لو قلنا بعدم تحقّق التذكية بهذا النحو و إن كان البحث في النجاسة من حيث كونه دماً لا من حيث كونه من أجزاء الميتة أو ملاقياً معها فتدبّر.

هذا فيما إذا منع عن خروج الدم بحيث لم يخرج من الذبيحة دم أصلًا.

و أمّا إذا خرج الدم منها و بقي مقدار منه في جوفها لكون رأسها في علوّ فلا مجال لاستكشاف النجاسة من الروايات الواردة في الفرض السابق لأنّ المفروض خروج الدم منها غاية الأمر عدم بلوغه إلى المقدار المتعارف إلّا أن يدّعى دلالتها على الخروج بهذا المقدار فلا يبقى فرق بين الفرضين و لكنّه محل تأمّل و عليه فاللازم الاستدلال على نجاسته بناءً على كون الأصل في الدم الطهارة كما اخترناه بمثل الإجماع على تقدير ثبوته و إلّا فالحكومة لقاعدة الطهارة. نعم بناءً على المبنى الآخر يكون الوجه في النجاسة عدم دلالة الوجوه الدالّة على طهارة الدم المتخلّف على استثناء مثل الفرض أيضاً فتدبّر. و كيف كان فقد ظهر انّ الملاك في مسألة رجوع الدم إلى الجوف يغاير ما هو الملاك في هذه المسألة من كون رأس الذبيحة في علوّ فلا يختلط عليك الأمر هذا كلّه في صورة العلم بالحال.

و أمّا لو شكّ في الدم المتخلّف في الذبيحة في انّه من القسم الطاهر أو النجس فقد قال في العروة: «الظاهر الحكم بنجاسته عملًا بالاستصحاب و إن كان لا يخلو عن إشكال، و يحتمل التفصيل بين

ما إذا كان الشكّ من جهة احتمال ردّ النفس فيحكم بالطهارة لأصالة عدم الردّ، و بين ما كان لأجل احتمال كون رأسه على علوّ فيحكم بالنجاسة عملًا بأصالة عدم خروج المقدار المتعارف».

و الظاهر انّ مراده (قدّس سرّه) من الاستصحاب هو استصحاب بقاء الدم المذكور على النجاسة لكونه معلوم النجاسة سابقاً حال كونه في عروق الحيوان في حياته فإذا شككنا في طرو الطهارة عليه تستصحب نجاسته.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 122

..........

______________________________

و فيه: انّه لا دليل على نجاسة الدم في الباطن لأنّ القدر المتيقّن من نجاسة الدم انّما هو بعد خروجه عن العروق و بلوغه إلى الظاهر و لعلّه لذا حكم بأنّه لا يخلو عن إشكال كما انّ أصالة عدم ردّ النفس لا مجال لها لعدم كون ردّ النفس حكماً شرعياً و لا موضوعاً لحكم شرعي و المستصحب لا بدّ و أن يكون من أحدهما و الموضوع للحكم الشرعي هو الدم المتخلّف و أصالة عدم ردّ النفس لا يثبت خروج الدم بالمقدار المتعارف فضلًا عن كون الباقي متّصفاً بأنّه دم متخلّف كما انّ أصالة عدم خروج المقدار المتعارف لا تثبت نجاسة هذا الدم لأنّ الدم النجس هو الدم غير المتخلّف أو الدم المسفوح أو مثلهما من العناوين و الأصل لا يثبت هذه العناوين مضافاً إلى انّه على تقدير الإغماض عن ذلك نقول إنّ الشكّ في خروج المقدار المتعارف في هذا الفرض يكون ناشياً عن الشكّ في كون رأسه على علوّ فما المانع على هذا التقدير من إجراء أصالة عدم كون رأسه على علوّ و حكومته على الأصل المقتضي للنجاسة، لكن التحقيق عدم جريان شي ء من هذه الأُصول لكون جريان الأُصول

المثبتة على خلاف التحقيق.

المقام الثاني: في حرمة أكل الدم المتخلّف الطاهر و قد استثنى منها المتن موردين أحدهما ما كان مستهلكاً في الأمراق و نحوه و ثانيهما ما يعدّ جزء من اللحم و تابعاً له امّا أصل الحرمة فهو المشهور بين الأصحاب و قد خالف فيه صاحب الحدائق (قدّس سرّه) حيث ذهب إلى عدم حرمة الدم المتخلّف في الذبيحة و لم يقتصر على ذلك بل نسبه إلى الأصحاب و استدلّ عليه بما لا يمكن المساعدة عليه بوجه.

و الحقّ: ما ذهب إليه المشهور من عدم الحلّية و عدم ثبوت الملازمة بين الطهارة و الحلية و عدم دليل آخر عليها في مقابل الآية الشريفة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ .. الدالّة على أصالة حرمة أكل الدم و إنّ الحكم العام فيه هي الحرمة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 123

..........

______________________________

إن قلت: الدليل على جواز أكل الدم المتخلّف في الذبيحة قوله تعالى قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً .. «1» فإنّه يمكن الاستدلال به على جواز أكل المتخلّف من جهتين:

الاولى: انّ الآية تدلّ على حصر المحرمات فيما ذكر فيها من الأُمور كما هو مقتضى كلمة: «إلّا» الواقعة بعد النفي، و لم يعدّ من تلك الأُمور الدم المتخلّف.

الثانية: انّ مفهوم الوصف يقتضي حلّية الدم غير المسفوح لتوصيف الدم الحرام بكونه مسفوحاً.

قلت: الآية لا تكون دليلًا على جواز أكله بوجه: امّا من الجهة الأُولى و هي استفادة المطلوب من الحصر في الآية ففيها انّ الحصر فيها لا يكون حقيقياً لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن لوضوح انّ المحرمات غير منحصرة في تلك الأُمور فلا محيص

امّا من حملها على الحصر الإضافي بدعوى انّ المحرمات بالإضافة إلى ما جعلته العرب في ذلك العصر محرّماً على أنفسها منحصرة في تلك الأُمور، و أمّا من حملها على زمان نزولها و انحصار المحرمات في ذلك الزمان فيها و بالجملة لا يستفاد منها حلية أكل الدم المتخلّف أصلًا.

و أمّا من الجهة الثانية ففيها ما لا يخفى من عدم ثبوت مفهوم الوصف و لا غيره من القيود حتّى الشرط لابتنائه على إثبات كون القيد علّة منحصرة لثبوت سنخ الحكم بحيث ينتفي السنخ بانتفاء القيد و أصل العلّية فضلًا عن الانحصار ممنوع فما الدليل على كون المسفوحية علّة حتّى نبحث بعده عن انحصارها فيه فتدبّر فانقدح انّ الآية الشريفة ساكتة عن حكم الدم غير المسفوح مع عدم وضوح معنى المسفوح أيضاً كما عرفت، فاللازم الرجوع في حكم الدم المتخلّف من جهة

______________________________

(1) الأنعام: 145.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 124

[مسألة 8 ما شكّ في انّه دم أو غيره طاهر مثل ما إذا خرج من الجرح شي ء أصفر قد شكّ في انّه دم أو لا]

مسألة 8 ما شكّ في انّه دم أو غيره طاهر مثل ما إذا خرج من الجرح شي ء أصفر قد شكّ في انّه دم أو لا، أو شكّ من جهة الظلمة أو العمى أو غير ذلك في انّ ما خرج منه دم أو قيح، و لا يجب عليه الاستعلام، و كذا ما شكّ في انّه ممّا له نفس سائلة أو لا، امّا من جهة عدم العلم بحال الحيوان كالحية مثلًا أو من جهة الشكّ في الدم و انّه من الشاة مثلًا أو من السمك فلو رأى في ثوبه دماً و لا يدري انّه منه أو من البق أو البرغوث يحكم بطهارته (1).

[مسألة 9 الدم الخارج من بين الأسنان نجس و حرام]

مسألة 9 الدم الخارج من بين الأسنان نجس و حرام و لا يجوز بلعه، و لو استهلك في الريق يطهر و يجوز بلعه، و لا يجب تطهير الفمّ بالمضمضة و نحوها 2.

______________________________

الأكل إلى الدليل العام المقتضي لحرمة أكل الدم. نعم فيما إذا كان مستهلكاً في الأمراق و نحوه لا يكون الموضوع باقياً حتّى يحكم عليه بالحرمة كما انّه فيما إذا كان معدوداً جزء من اللحم و تابعاً يكون مقتضى سيرة المتشرّعة عدم لزوم الاجتناب عنه في الأكل و عدم لزوم تخليص اللحم من الدم بالكلّية كما لا يخفىٰ.

(1) قد تقدّم البحث في بعض فروع هذه المسألة و هي صورة الشكّ في كونه ممّا له نفس سائلة أو لا و الحكم في الجميع هو الرجوع إلى قاعدة الطهارة لكون الشبهة في جميعها موضوعية و الحكم فيها جريان القاعدة و قد مرّ انّه لا يجب الاستعلام و إن كان رفع الشبهة متوقّفاً على مجرّد النظر و نحوه.

(2) الوجه في نجاسة الدم الخارج من بين الأسنان و

حرمته هو الوجه في نجاسة غيره من الدم الخارج من الإنسان و حرمته لعدم الفرق و احتمال كونه ما لم يخرج من الفم إلى الخارج يعدّ من قبيل الدم في الباطن ضعيف جدّاً فانّ كونه في الباطن ما دام لم يخرج من العروق و لم يظهر في الفم فلا مجال للإشكال في الحرمة و النجاسة. نعم لو استهلك في الريق يطهر و يجوز بلعه على ما في المتن و لكن في التعبير مسامحة فإنّه بعد الاستهلاك ليس بشي ء حتّى يحكم عليه بالطهارة و جواز البلع بل المقصود جواز بلع الريق الذي استهلك فيه الدم من جهة عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 125

[مسألة 10 الدم المنجمد تحت الأظفار أو الجلد بسبب الرضّ نجس إذا ظهر بانخراق الجلد و نحوه]

مسألة 10 الدم المنجمد تحت الأظفار أو الجلد بسبب الرضّ نجس إذا ظهر بانخراق الجلد و نحوه إلّا إذا علم استحالته فلو انخرق الجلد و وصل إليه الماء تنجّس، و يشكل معه الوضوء أو الغسل فيجب إخراجه إن لم يكن حرج، و معه يجب أن يجعل عليه شي ء كالجبيرة و يمسح عليه أو يتوضّأ و يغتسل بالغمس في ماء معتصم كالكرّ و الجاري هذا إذا علم من أوّل الأمر انّه دم منجمد، و إن احتمل انّه لحم صار كالدم بسبب الرض فهو طاهر 3.

______________________________

اشتماله على الأجزاء الدموية على ما هو المفروض و عدم تنجّسه بملاقات الدم لعدم الدليل على تنجّس الأجزاء الداخلية بملاقاة شي ء من النجاسات و الفرق على ما في العروة بين الدم الخارج من الأسنان و استهلاكه في ماء الفم و بين الدم الداخل من الخارج كذلك بإيجاب الاحتياط في الثاني في غير محلّه و إلّا لكان اللازم عدم جواز تزريق الدم من

الخارج لإيجابه نجاسة الدم في العروق كلّاً.

(3) الوجه في نجاسة الدم المنجمد كونه غير خارج عن عنوان الدم بسبب الانجماد و الانجماد لا يكون من المطهرات. نعم مع العلم باستحالته إلى عنوان آخر لا يكون نجساً كما انّه إذا احتمل انّه لحم صار كالدم بسبب الرض يكون طاهراً لكون الشبهة موضوعية و المرجع فيها قاعدة الطهارة فالكلام في الدم المنجمد مع العلم بكونه دماً غير مستحيل أو مشكوك الاستحالة و في هذا الفرض لا مناص من الحكم بالنجاسة إذا ظهر بانخراق الجلد و نحوه و حينئذٍ يشكل معه الوضوء أو الغسل أي يتعسّران معه لا الإشكال بالمعنى الاصطلاحي فإنّه فيما إذا كانت المسألة ذات وجهين و المقصود هنا الإشكال بالمعنى اللغوي الراجع إلى العسر لأنّ الماء بعد الانخراق يلاقي مع الدم المنجمد و يصير نجساً و لا يكاد يصل الماء إلى البشرة لمانعية الدم المنجمد عن الوصول إليها و عليه فيجب إخراجه بجميع أجزائه إن لم يكن هناك حرج و مع ثبوت الحرج الرافع للتكليف يكون له طريقان:

أحدهما: أن يجعل عليه شيئاً كالجبيرة و يمسح عليه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 126

..........

______________________________

ثانيهما: أن يتوضّأ أو يغتسل بالغمس في ماء معتصم كالكرّ و الجاري.

و لا يخفى انّ إجراء حكم الجبيرة هنا محلّ كلام لاحتمال أن تكون الجبيرة مختصّة بالجراحات المحجوبة كالدمل قبل انخراقه لا ما إذا كانت مكشوفة فإنّ فيها التيمّم و الأولى اختيار الطريق الثاني و هو الغمس في ماء معتصم و إن كان فيه إشكال أيضاً من جهة انّ الاعتصام مانع عن سراية النجاسة إلى الماء إلّا انّ إخراج اليد مثلًا من الماء المعتصم موجب لبقاء رطوبات نجسة

على الدم و سرايتها إلى ما حوله إلّا أن يقال بعدم كون هذه المرتبة من الرطوبة موجبة لسراية النجاسة.

و كيف كان فقد عرفت انّ ذلك انّما هو فيما إذا أُحرز كونه دماً و أمّا مع احتمال كونه لحماً صار كالدم بسبب الرضّ كما قد يتّفق أحياناً و إن كان دعوى كونه كذلك غالباً كما في العروة ممنوعة جدّاً فالحكم فيه الطهارة و إن انخرق و لا يجب إخراجه لكفاية وصول الماء أية لكنّه أفاد بعض الأعلام في شرح العروة الوثقى المسمّى بمصباح الهدى أنّه لا بدّ للمكلّف في هذه الصورة من الجمع بين الجبيرة و بين الوضوء أو الغسل من دون جبيرة للعلم الإجمالي بثبوت أحد التكليفين لأنّه امّا أن يجب عليه الوضوء أو الغسل من دونها لو كان السواد المترائى عارضاً للّحم بسبب الرض أو الجبيرة لو كان دماً منجمداً فلا بدّ من الجمع بينهما.

و الظاهر ثبوت الطريق إلى استكشاف الواقع لأنّه لو كان لحماً مرضوضاً لا يمكن إخراجه أصلًا بخلاف ما إذا كان دماً منجمداً إلّا أن يقال بعدم وجوب الفحص أصلًا أو يقال بإمكان إخراج اللحم المرضوض نظراً إلى انّ فساده أوجب انفصاله.

و كيف كان فالظاهر انّ منشأ الترديد و ثبوت العلم الإجمالي هو الشكّ في طهارته و نجاسته فمع إجراء قاعدة الطهارة لا يبقى مجال للعلم الإجمالي أصلًا فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 127

[السادس و السابع: الكلب و الخنزير البريان عيناً و لعاباً و جميع أجزائهما]

السادس و السابع: الكلب و الخنزير البريان عيناً و لعاباً و جميع أجزائهما و إن كانت ممّا لا تحلّه الحياة كالشعر و العظم و نحوهما، و أمّا كلب الماء و خنزيره فطاهران (1).

______________________________

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في

مقامات:

المقام الأوّل: في نجاسة الكلب و الخنزير في الجملة، و لم يخالف فيها أحد من أصحابنا الإمامية (رض). نعم ذهب إلى طهارتهما مالك و الزهري و داود و نسب إلى أبي حنيفة القول بنجاسة الكلب حكماً لا عيناً، و استدلّ على طهارته بقوله تعالى فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ «1» و فيه انّه لا تكون في مقام بيان طهارة الكلب بل في مقام بيان حلّية الحيوان الذي أمسكه الكلب و تذكيته و لذا لا يجوز التمسّك بها لجواز أكله من غير تطهير دمه الخارج عن موضع عض الكلب.

و كيف كان فتدلّ على نجاسة الكلب في الجملة مضافاً إلى الإجماع روايات مستفيضة بل متواترة الدالّة عليها بالسنّة مختلفة كقوله (عليه السّلام): «انّ الكلب رجس نجس» «2» أو: «انّ اللّٰه تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب» «3» أو: «لا و اللّٰه انّه نجس لا و اللّٰه انّه نجس» «4» أو: «إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله» «5» أو غير ذلك من التعبيرات التي لم يقع مثلها في غير الكلب من سائر النجاسات.

و في مقابلها ما يدلّ بظاهره على طهارته كصحيحة ابن مسكان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه أو السنور أو شرب منه

______________________________

(1) المائدة: 4.

(2) الوسائل أبواب الأسئار الباب الأول ح 4.

(3) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب الحادي عشر ح 5.

(4) الوسائل أبواب الأسئار الباب الأول ح 6.

(5) الوسائل أبواب الأسئار الباب الأول ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 128

..........

______________________________

جمل أو دابة أو غير ذلك أ يتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم إلّا أن تجد غيره فتنزّه عنه «1». فإنّها

بإطلاقها يشمل الماء القليل و الكثير فتدلّ على عدم نجاسة الكلب.

و قد حملها الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) على ما إذا كان الماء بالغاً قدر كر و استشهد له برواية أبي بصير عن الصادق (عليه السّلام) في حديث: و لا تشرب من سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه «2» فإنّها مقيّدة لصحيحة ابن مسكان.

و نفى المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) البعد عن حملها على الماء الكثير لقوّة احتمال ورودها في مياه الغدران التي تزيد عن الكر غالباً.

و قال بعض الأعلام: «انّه لا مناص من تقييد إطلاق صحيحة ابن مسكان بما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة الكلب التي منها رواية أبي بصير المتقدّمة و ذلك لأنّ النسبة بينهما هي العموم المطلق فإنّ الصحيحة دلّت على طهارة الماء الذي باشره الكلب مطلقاً قليلًا كان أو كثيراً و الأخبار المتقدّمة قد دلّت على انفعال الماء القليل بملاقاة الكلب و عليه فمقتضى قانون الإطلاق و التقييد حمل الصحيحة على ما إذا كان الماء بالغاً قدر كرّ ثمّ قال: إنّه لو سلّمنا انّ الصحيحة واردة في خصوص القليل فغاية ما يستفاد منها عدم انفعال الماء القليل بالملاقاة و هي إذاً من الأدلّة الدالّة على اعتصام الماء القليل».

و التحقيق انّ السائل لم يكن نظره إلى السؤال عن الطهارة و النجاسة أصلًا بل سئل عن أنّ مماسة الحيوان مطلقاً و مباشرته مع الماء هل يوجب عدم جواز التوضّي من ذ لك الماء أم لا فأجاب الإمام (عليه السّلام) بما أجاب، و يشهد له مضافاً إلى انّه من البعيد أن تكون طهارة مثل الجمل مع شدّة الابتلاء به و كثرته مشكوكة للسائل في زمن

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأسئار الباب الثاني ح

6.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب التاسع ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 129

..........

______________________________

الصادق (عليه السّلام) ما ورد في ذيل الرواية من قوله (عليه السّلام): «إلّا أن تجد غيره فتنزّه عنه» إذ النجاسة لا فرق فيها بين صورة وجدان الغير و عدمها فالسؤال لا محالة يكون عن حكم تكليفي و هو جواز التوضّي عن الماء الذي باشره الحيوان، و ممّا يؤيّد ذلك أيضاً قول السائل: «أو غير ذلك» الظاهر في اتّحاد جميع الحيوانات عنده من هذه الجهة التي هي محطّ نظره، و منشأ السؤال انّ الوضوء انّما هو أمر عبادي و انّما يوجده المكلّف مقروناً بقصد التقرّب فيمكن أن لا يكون الماء الذي باشره الحيوان ملائماً لمثل هذا العمل العبادي و الجواب انّما ينطبق على ذلك فتدبّر.

و قد انقدح انّ الروايات الدالّة على نجاسة الكلب تكون بلا معارض حتّى معارضة العموم و الخصوص لو كانت معارضة.

و قد نسب إلى الصدوق (قدّس سرّه) القول بطهارة كلب الصيد حيث حكى عنه: «انّ من أصاب ثوبه كلب جاف فعليه أن يرشّه بالماء، و إن كان رطباً فعليه أن يغسله، و إن كان كلب صيد فإن كان جافّاً فليس عليه شي ء، و إن كان رطباً فعليه أن يرشّه بالماء».

و لعلّ نظره (قدّس سرّه) إلى انصراف الإطلاقات عن كلب الصيد أو إلى دلالة الآية الكريمة على عدم نجاسته بالخصوص، و في كليهما ما لا يخفى لإطلاق الأدلّة و شمولها له كغيره و منع الانصراف خصوصاً مع ملاحظة أنّ معاشرة الناس مع كلب الصيد و ابتلائهم به أكثر من غيره، و لعدم كون الآية في مقام بيان طهارة الصيد مطلقاً فضلًا عن أن تكون

في مقام بيان طهارة كلبه كما مرّت الإشارة إليه في الجواب عن أبي حنيفة حيث استدل بالآية على طهارة الكلب مطلقاً. مضافاً إلى حسنة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الكلب السلوقي قال: إذا مسسته فاغسل يدك. «1» هذا كلّه في الكلب.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني عشر ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 130

..........

______________________________

و أمّا الخنزير فنجاسته أيضاً مورد التسالم بين الأصحاب و الدليل عليها:

أوّلًا: الإجماع.

و ثانياً: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر و هو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله، قال: و سألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرّات. «1» فإنّ الظاهر منها انّ نجاسته كانت مفروغاً عنها عند السائل و لذا لم يسأل عنها و انّما سُئل عمّا لو لم يغسل الثوب الذي أصابه خنزير فذكر و هو في صلاته و لا فرق فيما نحن بصدده بين أن يكون الاستثناء راجعاً إلى خصوص الشرطية الأخيرة أو إلى كلتا الشرطيتين لأنّ غاية مفاده على تقدير الرجوع إلى خصوص الأخيرة صحّة الصلاة التي دخل فيها كذلك و لا دلالة له على طهارة الخنزير كما انّه قد عرفت سابقاً انّ الغسل انّما هو في مورد العلم بالإصابة و تحقّق السراية و النضح انّما هو في مورد الشكّ في أحد الأمرين فوجود الأثر في الثوب يرجع إلى ثبوت السراية و تحقّقها كما

لا يخفى.

المقام الثاني: في اختصاص نجاسة الكلب و الخنزير بالبرّي منهما و أمّا البحري فقد ذهب المشهور و تبعهم الماتن دام ظلّه إلى طهارته و خالف في ذلك الحلّي (قدّس سرّه) و التزم بنجاسة الكلب و الخنزير مطلقاً برياً كانا أم بحرياً بدعوى شمول الإطلاقات للحبري أيضاً و عدم الدليل على التقييد.

و الحق انّ التمسّك بالإطلاقات فرع ثبوت إطلاق الكلب و الخنزير على البحري منهما حقيقة و كون البحري من مصاديق العنوانين عرفاً مع انّ دعواه مشكلة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث عشر ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 131

..........

______________________________

جدّاً لأنّ ما يوجد في البحر منهما فهو من أقسام السمك، و التعبير عنه بأحد الاسمين انّما هو لمجرّد المشابهة في الرأس أو البدن أو غيرهما من الأجزاء أو للاشتراك في بعض الآثار و إطلاق الكلب و الخنزير عليهما انّما هو على سبيل التجوّز و التسامح و لا يكون مثل المقام مورد التمسّك بأصالة الحقيقة في الإطلاق و إثبات كونه على نحو الحقيقة لأنّ مجراها ما إذا علم المعنى الحقيقي و المعنى المجازي و لم يعلم المراد منهما و أمّا فيما إذا علم المراد و شكّ في كيفية الإطلاق فلا تجري أصالة الحقيقة إلّا على بعض المباني غير الصحيحة فالتمسّك بإطلاق أدلّة نجاسة الكلب و الخنزير لإثبات شمول الحكم للبحريين ممّا لا يتمّ أصلًا، فلا يبقى إلّا أصالة الطهارة الحاكمة بطهارتهما.

مضافاً إلى دلالة بعض الروايات عليها كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سُئل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) رجل و أنا عنده عن جلود الخزّ فقال: ليس بها بأس، فقال الرجل: جعلت فداك إنّها علاجي (في بلادي) و

انّما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، فقال: ليس به بأس. «1» و هذه الصحيحة و إن وردت في خصوص كلب الماء إلّا انّ سؤاله (عليه السّلام) عن انّه هل تعيش خارجة من الماء و حكمه بعدم البأس فيما إذا لم تكن تعيش كذلك كالصريح في انّ العلّة في الحكم بالطهارة كون الحيوان ممّا لا يعيش خارجاً من الماء و عليه فالحكم في الصحيحة يعمّ الخنزير البحري أيضاً.

المقام الثالث: في نجاسة جميع أجزاء الكلب النجس و الخنزير كذلك حتّى مثل الشعر و العظم من الأجزاء التي لا تحلّها الحياة و كذا رطوباتهما و الدليل عليه هو الدليل الدال على نجاسة أنفسهما لأنّ مفاده هي نجاستهما بجميع أجزائهما

______________________________

(1) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب العاشر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 132

..........

______________________________

و لا دليل على الاختصاص بما تحلّه الحياة من الأجزاء، و لا خلاف في هذه المسألة إلّا من السيّد المرتضى و جدّه (قدّس سرّهما) على ما حكى عنهما حيث ذهبا إلى طهارة ما لا تحلّه الحياة من الأجزاء كالميتة.

و يمكن الاستدلال على مرامهما بوجوه:

الأوّل: دعوى انّ ما لا تحلّه الحياة من أجزاء الحيوان لا يكون جزءً للحيوان أصلًا و إطلاق الجزء عليه انّما هو بنحو المسامحة فلا يشمله الدليل الدال على نجاسة الحيوان.

و فيه: انّ هذه مكابرة جدّاً و مخالفة لحكم العرف و العقلاء و لما هو مقتضى اللغة فإنّ كونه جزء كسائر أجزاء الحيوان ممّا لا يكاد يخفى. نعم يمكن منع الجزئية في مثل اللعاب و لكنّه أيضاً مدفوع فإنّ جزئية الرطوبات غير

المنفصلة لا ينبغي الارتياب فيها و الانفصال لو كان مؤثراً في سلب وصف الجزئية لكنه ليس بمؤثر في رفع الحكم و لا يكون موجباً للاستحالة بمجرّده كما هو ظاهر.

الثاني: انّ ما لا تحلّه الحياة من أجزائهما يكون نظير شعر الميتة و عظمها و غيرهما ممّا لا تحلّه الحياة فكما انّها من الميتة لا تتّصف بالنجاسة كذلك هي من الحيوانين لا وجه للحكم بنجاستها.

و فيه: انّ هذا قياس محض و العمل به منهي عنه على المذهب، مع انّه قياس مع الفارق لأنّ نجاسة الكلب و الخنزير ذاتية غير مستندة إلى موتهما، و أمّا الميتة فنجاستها عرضية مستندة إلى الموت و هو انّما يعرض لخصوص الأجزاء التي تحلّها الحياة دون ما لا تحلّه فالقياس مع الفارق.

الثالث: الروايات الواردة الدالّة بظاهرها عليه:

منها: صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس. «1»

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الرابع عشر ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 133

..........

______________________________

و منها: رواية أُخرى لزرارة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء؟ قال: لا بأس. «1» و منها: رواية حسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه في حديث قال: قلت له: شعر الخنزير يعمل حبلًا و يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها قال: لا بأس به. «2» و الجواب عن الاولى و الثالثة انّهما لا دلالة لهما على طهارة شعر الخنزير بل نفس السؤال تدلّ على مفروغية نجاسته و مورد نظر السائل هو انّ

ملاقاة الشعر مع البئر هل تؤثر في نجاسته بحيث يرتفع بسببه جواز الشرب و التوضي منها أم لا و عليه فالحكم بنفي البأس نظراً إلى اعتصام مع ماء البئر لا دلالة فيه على طهارة الشعر أصلًا كما هو واضح لا يخفى و عن الرواية الثانية انّ ظاهرها السؤال عن حكم الانتفاع بجلد الخنزير بأن يجعل دلواً يستقى به الماء بعد كون نجاسته مفروغاً عنها عند زرارة و نفي البأس في الجواب ظاهر في جواز الانتفاع به و عدم كونه محرماً شرعاً فأين الدلالة على طهارة الجلد و لا إشعار في الرواية بكون الاستقاء به من الماء انّما هو للشرب أو التوضي من ماء الدلو فتدبّر جيّداً.

فانقدح من ذلك عدم تمامية شي ء من الوجوه التي يمكن أن تكون مستندة للقائل بالطهارة بل الكلب و الخنزير نجسان بجميع أجزائهما بمقتضى دليل النجاسة هذا مع ورود روايات خاصّة دالّة على نجاسة شعر الخنزير:

منها: مصحّحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قلت له: إنّ رجلًا من مواليك يعمل الحائل من شعر الخنزير قال: إذا فرغ فليغسل يده. «3»

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الرابع عشر ح 16.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الرابع عشر ح 3.

(3) الوسائل أبواب ما يكتسب به الباب الثامن و الخمسون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 134

..........

______________________________

و منها: رواية بريد الإسكاف قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شعر الخنزير يعمل به إلى أن قال: فاعمل به و اغسل يدك إذا مسسته عند كل صلاة، قلت: و وضوء؟ قال: لا اغسل يدك كما تمسّ الكلب. «1» فرع: قال السيّد (قدّس سرّه) في العروة: «و لو

اجتمع أحدهما أي الكلب و الخنزير مع الآخر فتولّد منهما ولد فإن صدق عليه اسم أحدهما تبعه و إن صدق عليه اسم أحد الحيوانات الأُخر، أو كان ممّا ليس له مثل في الخارج كان ظاهراً، و إن كان الأحوط الاجتناب عن المتولّد منهما إذا لم يصدق عليه اسم أحد الحيوانات الطاهرة».

أقول: المتولّد منهما إن كان مصداقاً لاسم أحدهما لا إشكال في نجاسته لشمول دليل نجاسة ذلك العنوان له.

و إن لم يكن مصداقاً لشي ء من الاسمين فتارة يقال بنجاسته مطلقاً لما أفاده الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) من انّ نجاسة المتولّد من الكلب و الخنزير ارتكازية عند المتشرّعة، و من انّ الولد تابع لأبويه في النجاسة و الطهارة كولد المسلم و ولد الكافر، و من انّ الولد حقيقة من جنس الوالدين و إن كان غيرهما ظاهراً. و أُخرى يفصل فيه بما أفاده بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته من انّ المتولّد من الكلب و الخنزير إذا كان ملفقاً منهما بأن كان رأسه رأس أحدهما و بدنه بدن الآخر، أو كان رجله رجل أحدهما و يده يد الآخر فلا مناص من الحكم بنجاسته بلا فرق في ذلك بين صدق عنوان أحدهما عليه و عدمه و ذلك لأنّ المتركّب من عدّة أُمور محرمة أو نجسة محرم أو نجس بمقتضى الفهم العرفي و إن لم يصدق عليه شي ء من عناوين تلك الأجزاء إلى أن قال: و أمّا إذا لم يكن المتولّد منهما

______________________________

(1) الوسائل أبواب ما يكتسب به الباب الثامن و الخمسون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 135

..........

______________________________

ملفقاً من الكلب و الخنزير و لم يتبع أحدهما في الاسم فلا

بدّ من الحكم بطهارته».

و الجواب: امّا عن الوجوه المذكورة في كلام الشيخ (قدّس سرّه) فهو انّه لم يثبت هذا الارتكاز عند المتشرّعة فإنّهم إذا رأوا حيواناً لا يسألون عن نسبه بل يحكمون عليه بحكم أمثاله و نظائره من الحيوانات، و لا دليل على التبعية هنا و ثبوتها في الكافر و المسلم لا توجب الحكم بها في غيرهما، و منع كون حقيقة الولد من جنس الوالدين أو لا و منع كون الأحكام تابعة للحقائق و الماهيات ثانياً فإنّها تابعة للعناوين و الأسامي التي تكون موضوعة لها في لسان الدليل فمع عدم صدق شي ء من العنوانين كما هو المفروض لا مجال لإسراء حكمهما إليه.

و أمّا عن الذي أفاده البعض المتقدّم فهو انّه إن كان المراد من التلفيق من العنوانين، تلفيق عنوان الكلب و عنوان الخنزير عليه معاً بحيث يكون عند العرف مصداقاً لكلا العنوانين و مجمعاً لاسم الأبوين فالحكم كما أفاده من النجاسة إلّا انّه على هذا التقدير يكون التنظير بالمتركّب من أُمور محرمة أو نجسة غير صحيح لأنّ المتركّب من أُمور نجسة أو محرّمة محرم مطلقاً و نجس كذلك سواء انطبق عليه العنوان الملفق أم لا كما هو المستفاد من كلامه و استدلاله، و إن كان مراده من التلفيق هو التلفيق في الحقيقة و الماهية فلا دليل على نجاسة الملفق إذا لم ينطبق عليه عنوان أحدهما لما عرفت من انّ الأحكام تابعة للعناوين و الأسامي.

و أمّا المعجون المتركّب من عدّة أُمور نجسة فهو بالنظر إلى العالم بالأجزاء و التركّب منها نجس و لكنّه بالإضافة إلى غير العالم بها لا وجه للحكم بنجاسته إذا لم ينطبق عليه شي ء من العناوين النجسة بل يمكن الحكم بالطهارة عليه بالإضافة

إلى العالم في هذه الصورة سيّما إذا انطبق عليه عنوان طاهر غير الاجزاء للاستحالة و عدم شمول أدلّة النجاسة له.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 136

..........

______________________________

و الحقّ انّ المتولّد منهما أو من أحدهما و آخر إذا لم ينطبق عليه عنوان نجس لا محيص عن الحكم بطهارته و لا سبيل إلى الالتزام بالنجاسة لا من الطريق الذي سلكه الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) لما عرفت من عدم تماميته، و لا من طرق الاستصحاب الذي سلكه بعض آخر سواء كان المراد منه استصحاب نجاسته حال كونه منياً أو علقة ضرورة بطلانه على هذا التقدير لكون الموضوع متبدّلًا و العنوان متغيّراً و صيرورة المني و العلقة ولداً، أو كان المراد منه استصحاب نجاسته حال كونه جنيناً فيما إذا كانت امّه نجسة سواء كان أبوه طاهراً أم لم يكن كذلك بتقريب انّ الجنين جزء من الامّ و حيث تكون الأُمّ نجسة بجميع أجزائها كما هو المفروض فالجنين الواقع في رحمها أيضاً محكوم بالنجاسة و تستصحب النجاسة بعد تولّده و انفصاله من الأُمّ، فإنّ هذه الدعوى أيضاً فاسدة لأنّ الجنين لا يكون جزء لُامّه و لا يكون معدوداً عند العرف من أجزائها، و انّما يكون الرحم وعاء لتكوّن الجنين فيه و نموّه، و نجاسة الجنين إذا سقط انّما هي لأجل كونه ميتة و مشمولًا لأدلّة نجاستها لا لأجل الجزئية و إلّا لاختصّت بما إذا كانت الأُمّ نجسة مع انّه من الواضع عدم الاختصاص به.

و ربما يقال بجريان استصحاب الكلّي الجامع بين الذاتي و العرضي في جميع موارد الشكّ في النجاسة العينية بتقريب انّ الولد عند ملاقاته لرطوبات الامّ نعلم بنجاسته امّا عرضاً أو ذاتاً، و

مع الغسل عن العرضية و التطهير منها نشكّ في بقاء الذاتية فيستصحب كلّي النجاسة على نحو القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي.

و فيه أوّلًا: انّ هذا الاستصحاب على تقدير جريانه لا يثبت المدعى فانّ المدّعى هي النجاسة العينية و غاية ما يثبت بهذا الاستصحاب هو كلّي النجاسة الجامع بين الذاتية و العرضية.

و ثانياً: انّه إن قلنا بعدم تنجّس الجنين في الباطن فلازمه عدم كون

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 137

..........

______________________________

الحيوان مقطوع النجاسة في حال كونه جنيناً فهذا الحيوان قبل تولّده قد كان مشكوك النجاسة بالنجاسة العينية فقط و الأصل الجاري فيه حينئذٍ هي قاعدة الطهارة الحاكمة بعدم نجاسته كذلك و النجاسة العرضية الحاصلة عند التولّد زائلة بالغسل و التطهير على ما هو المفروض و عليه فلا يبقى مجال لدعوى العلم الإجمالي بأنّه إمّا نجس ذاتاً أو عرضاً لأنّ النجاسة العرضية زائلة و النجاسة العينية منفية بقاعدة الطهارة فلا يجري الاستصحاب.

و إن قلنا بتنجّسه في الباطن أيضاً لا مجال لجريان الاستصحاب المذكور لأنّه قبل أن يتولّد الحيوان المذكور نشكّ في انّه نجس العين حتّى لا يتنجّس بالنجاسة العرضية ضرورة انّ موردها طاهر العين، أو يكون طاهراً عيناً حتّى يعرضه التنجس، و مع هذا الشكّ لا محيص عن جريان قاعدة الطهارة و الحكم بكونه قبل التولّد طاهر العين و حينئذٍ يتحقّق موضوع النجاسة العرضية الزائلة بالغسل كما هو المفروض.

و بالجملة: النجاسة العينية و النجاسة العرضية لا تكونان في عرض واحد و رتبة واحدة و هذا هو السرّ في جريان قاعدة الطهارة في الرتبة المتقدّمة و هي الطهارة العينية و عدم معارضتها مع الأصل في الطرف الآخر المتأخّر عنه رتبة و

إن كان أصل جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ممّا لا مانع منه أصلًا كما قد حقّق في محلّه.

فانقدح انّ الوجه في الحكم بطهارة المتولّد منهما أو من أحدهما و آخر مع عدم انطباق عنوان نجس عليه ينحصر بقاعدة الطهارة و لا مجال معها لشي ء من وجوه النجاسة فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 138

[الثامن: المسكر المائع بالأصل]

اشارة

الثامن: المسكر المائع بالأصل، دون الجامد كذلك كالحشيش و إن غلى و صار مائعاً بالعارض، و أمّا العصير العنبي فالظاهر طهارته لو غلى بالنار و لم يذهب ثلثاه و إن كان حراماً بلا إشكال، و الزبيبي أيضاً طاهر، و الأقوى عدم حرمته، و لو غليا بنفسهما و صارا مسكرين كما قيل فهما نجسان أيضاً و كذا التمرّي على هذا الفرض، و مع الشكّ فيه يحكم بالطهارة في الجميع (1).

______________________________

(1) الكلام في هذا الأمر يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في نجاسة الخمر بالخصوص و عدمها و المشهور بين العلماء من الخاصّة و العامّة هي النجاسة، و لم ينقل الخلاف في ذلك إلّا من الصدوقين و الجعفي و العماني و جملة من المتأخّرين كالأردبيلي (قدّس سرّه) من الخاصّة، و داود و ربيعة من العامّة، و عن السيّد المرتضى و الشيخ البهائي (قدّس سرّهما) انّ المخالف شاذ لا اعتبار بقوله. و لا يخفى انّ الصدوق لم يصرح بطهارتها بل حكى عنه انّه قد نفي البأس عن الصلاة في ثوب أصابه خمر، و من المحتمل أن يكون مراده هو العفو عنه في الصلاة لا الطهارة.

و كيف كان مخالفة مثل الصدوق و إن كانت ممّا لا يقدح عند المجتهدين كالسيّد المرتضى إلّا انّها تمنع عن تحقّق الإجماع

و توجب صيرورة المسألة خلافية خصوصاً بعد مخالفة مثل الأردبيلي أيضاً فلا مجال لدعوى الإجماع بل الغاية هي تحقّق الشهرة على النجاسة و اللازم ملاحظة الأدلّة فنقول:

قد استدلّ على النجاسة من الكتاب بقوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «1» بدعوى انّ «الرجس» فيه بمعنى النجس خصوصاً بقرينة قوله تعالى «فَاجْتَنِبُوهُ» لأنّ المرتكز في الأذهان هو الاجتناب عن النجس و قد شاع التعبير ب «اجتنب عن النجس» و عليه فدلالة الآية على نجاسة الخمر ظاهرة.

______________________________

(1) المائدة: 90.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 139

..........

______________________________

و فيه: ما مرّ مراراً من عدم كون الرجس بمعنى النجس بل لم يستعمل الرجس في الكتاب الكريم في موارد استعمالاته التي تبلغ أو تتجاوز عن العشرة في النجس الاصطلاحي أصلًا و في خصوص هذه الآية الكريمة لا تناسب كونه بمعنى النجس لوضوح انّه لا معنى لنجاسة سائر الأُمور المذكورة فيها، و أمّا كون المرتكز عند المتشرّعة هو الاجتناب عن النجس فهو ممّا لا يسمن و لا يغني من شي ء فإنّ هذا الارتكاز قد حصل في المباحث الفقهية و منشأه كثرة التكلّم بجملة: «اجتنب عن النجس» و لا يكون لهذا الارتكاز أصل جدّاً كيف و قد أمر في الكتاب الكريم بالاجتناب عن الأوثان بعد جعلها بياناً للرجس في قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ «1» و من الواضح عدم نجاسة الأوثان بل الرجس معناه ما يعبّر عنه في الفارسية ب «پليدى» فالآية لا دلالة لها على نجاسة الخمر بوجه.

و المهم في المقام هي الأخبار الواردة و هي على طائفتين:

الطائفة الأُولى: ما يدلّ على نجاستها مثل:

موثقة عمّار بن موسى عن

أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء كافخ (كامخ خ ل) أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال: تغسله ثلاث مرّات، و سُئل: أ يجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتّى يدلكه بيده، يغسله ثلاث مرّات «2». فإنّها ظاهرة في نجاسة الخمر لأنّ نجاسة أكثر النجاسات قد استفيدت من الأمر بغسل ملاقيها.

و موثّقته الأُخرى عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا تصل في بيت

______________________________

(1) الحج: 30.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الخمسون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 140

..........

______________________________

فيه خمر و لا مسكر لأنّ الملائكة لا تدخله و لا تصلِّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله. «1» و المتفاهم العرفي منها أيضاً نجاسة الخمر.

و مرسلة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث النبيذ قال: ما يبلّ الميل ينجس حباً من ماء يقولها ثلاثاً. «2» و مرسلة يونس عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، و إن صلّيت فيه فأعد صلاتك. «3» و رواية زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير، قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب، و

اللحم اغسله و كله «4». و الظاهر منها أيضاً نجاسة الخمر لأنّ الأمر بإهراق المرق لا يكون له وجه إلّا تنجّسه بوقوع قطرة الخمر فيه، و دعوى انّه يمكن أن يكون الأمر بإهراقه لأجل اشتماله على الخمر لا لأجل نجاسته مدفوعة بأنّ الخمر قد صارت مستهلكة في المرق الكثير، مع ظهور الأمر بغسل اللحم أيضاً في تنجّسه بذلك.

و صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس و هم أخباث (إجناب خ ل) و هم يشربون الخمر و نسائهم على تلك الحال ألبسها و لا أغسلها و أُصلّي فيها؟ قال: نعم «5». و ظاهرها مفروغية

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 7.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 6.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 3.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 8.

(5) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و السبعون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 141

..........

______________________________

نجاسة الخمر عند السائل لأنّه قد سُئل عن الشبهة الموضوعية و هو فيما إذا كان الحكم الإلهي الكلّي معلوماً كما هو واضح.

و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر: انّي أُعير الذمّي ثوبي و أنا أعلم انّه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير فيرده عليَّ فأغسله قبل أن أُصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): صلِّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر و لم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه «1». و

هذه الرواية صحيحة سنداً و ظاهرة دلالة لأنّ السائل قد جعل نجاسة الخمر مفروغاً عنها و قرّره الإمام (عليه السّلام) على ذلك بل صرّح بأن أصابه الخمر الثوب موجبة لتنجّسه كما لا يخفى.

و مرسلة يونس عن هشام بن الحكم انّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنّه خمر مجهول، و إذا أصاب ثوبك فاغسله «2». و غير ذلك من الروايات الدالّة على نجاسة الخمر.

الطائفة الثانية ما يستدلّ بها على طهارة الخمر مثل:

صحيحة أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أصاب ثوبي نبيذ أُصلّي فيه؟ قال: نعم، قلت: قطرة من نبيذ قطر في حب أشرب منه؟ قال: نعم، انّ أصل النبيذ حلال و انّ أصل الخمر حرام. «3» و فيه انّها تدلّ على خلاف مطلوبهم لأنّه لو جعلت العلّة أي قوله (عليه السّلام): «انّ أصل النبيذ حلال و انّ أصل الخمر حرام» مرتبطة بالفقرة الثانية و هي قوله: «قطرة من نبيذ ..» فتدلّ على انّ الخمر لو قطرت قطرة منها في حب ماء لا يجوز

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع و السبعون ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و الثلاثون ح 5.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 142

..........

______________________________

شرب ذلك الماء مع استهلاكها فيه على ما هو لازم القطرة و الماء في الحب و لا يكون ذلك إلّا لنجاسة الخمر و تنجّس الماء بوقوع قطرة من الخمر فيه، و لو جعلت العلّة مرتبطة بالفقرتين فتدلّ على انّ ما أصاب الثوب لو كان هو الخمر فلا تجوز الصلاة فيه و ما قطر في

حب الماء لو كان هو الخمر أيضاً فلا يجوز شربه و من المعلوم انّه لا وجه لعدم جواز الصلاة فيه و عدم حلّية شرب ذلك الماء إلّا نجاسة الخمر و تنجّس الثوب و الماء به.

و رواية حسين بن أبي سارة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إن أصاب ثوبي شي ء من الخمر أُصلّي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس انّ الثوب لا يسكر. «1» و في الاستدلال بها نظر لأنّها ضعيفة من حيث السند لأجل الحسين بن أبي سارة فإنّه غير مذكور في الكتب الرجالية، و عن المحقّق الأردبيلي (قدّس سرّه) انّ الشيخ قد روى هذه الرواية في موضعين من التهذيب عن الحسين بن أبي سارة، و في الاستبصار عن الحسن بن أبي سارة و هو موثق مذكور في الرجال، و حيث إنّ الحسين لا يكون له عنوان في تلك الكتب فيكشف ذلك عن انّ ما وقع في التهذيب في موضعين يكون من اشتباه النساخ و إنّ الصحيح هو الحسن بن أبي سارة.

و فيه انّ اشتباه النسّاخ يحتمل في نقل الإستبصار أيضاً بل هو أقوى من احتمال وقوع الاشتباه في نقل التهذيب لأنّ نقله وقع في موضعين منه، و أمّا عدم ذكر الحسين في كتب الرجال فلا دلالة فيه على عدم وجوده و كم له من نظير فيمكن أن يكون لأبي سارة ولد آخر مسمّى بالحسين و قد أهمله أصحاب الرجال لجهالته خصوصاً مع وجود روايات أُخر له كما سيأتي في الرواية الآتية.

و ربّما يقال: إنّ ذلك لا يوجب طرح رواية الإستبصار التي في سندها الحسن فيمكن أن يستدلّ بما في الاستبصار مع قطع النظر عمّا في التهذيب و لكنّه

______________________________

(1) الوسائل أبواب

النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 143

..........

______________________________

مدفوع بأنّ كون ما في الاستبصار حديثاً آخر غير ما في التهذيب مع اتحادهما من جميع الجهات إلّا هذه الجهة بعيد جدّاً، أضف إلى ذلك كلّه انّ اشتمال المتن على التعليل غير الملائم للحكم و للسؤال و إن نفى البأس عن الصلاة فيه أعمّ من الطهارة يوجب وهن الرواية كما هو غير خفي.

و رواية ابن بكير عن صالح بن سيابة عن الحسين بن أبي سارة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّا نخالط اليهود و النصارى و المجوس و ندخل عليهم و هم يأكلون و يشربون فيمر ساقيهم و يصبّ على ثيابي الخمر؟ فقال: لا بأس به إلّا أن تشتهي أن تغسله لأثره. «1» و فيه انّها ضعيفة للحسين و الصالح مع انّ تقرير الإمام (عليه السّلام) ذهاب الحسين في مجلس الشراب و المخالطة مع أهل الكتاب يوجب وهناً آخر في الرواية مضافاً إلى انّه لم يثبت إطلاق نفي البأس من جهة الصلاة و غيرها حتّى يكون نفيه من جهة الصلاة دليلًا على الطهارة و إن كانت دلالته على هذا التقدير أيضاً ممنوعة لما عرفت من كونه أعمّ من الطهارة.

و بالجملة: الإطلاق غير ثابت و من المحتمل قوياً أن يكون محطّ نظر السائل السؤال عن نفس لبس الثوب الملوّث بالخمر و انّه هل يكون محرّماً تكليفاً أم لا، و الشاهد عليه مضافاً إلى انّ اهتمام الشارع بالخمر و المبارزة معها و الاجتناب عنها بمرتبة أوجبت الشكّ و الترديد في جواز لبس الثوب الذي أصابه الخمر قوله (عليه السّلام) في مرسلة الصدوق الآتية: «إنّ اللّٰه حرّم أكله

و شربه و لم يحرم مسّه و لبسه».

و إن أبيت إلّا عن ثبوت الإطلاق لهذه الرواية و دلالة نفي البأس من جهة الصلاة فيه على الطهارة و عدم نجاسة الخمر حتّى يتنجّس الثوب بسببها نقول الإطلاق

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 144

..........

______________________________

قد قيّد بالروايات المتقدّمة الدالّة على نجاسة الخمر فلا بدّ من حمله على نفي البأس من جهة اللبس و غيره فتدبّر جيّداً.

و موثقة ابن بكير قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا عنده عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب قال: لا بأس. «1» و يرد على الاستدلال بها ما أوردناه على الاستدلال بالرواية المتقدّمة.

و مرسلة الصدوق قال: سُئل أبو جعفر و أبو عبد اللّٰه (عليهما السّلام) فقيل لهما: انّا نشتري ثياباً يصيبها الخمر و ودك الخنزير عند حاكتها أ نصلّي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم، لا بأس انّ اللّٰه انّما حرّم أكله و شربه و لم يحرّم لبسه و مسّه و الصلاة فيه «2».

و هذه الرواية تامّة سنداً لإسناد الصدوق إيّاها إلى الإمام (عليه السّلام) دون الرواية و النقل و ظاهرة دلالة إلّا من الجهة التي أشرنا إليها من كون تجويز الصلاة فيه أعمّ من الطهارة مع أنّها متضمّنة لما لا يمكن الالتزام به بوجه و هو تجويز الصلاة في ودك الخنزير أي شحمة فإنّ فيه ثلاث جهات يكفي كل واحدة منها للمنع عن الصلاة فيه و هي كونه جزء من الميتة أوّلًا و نجساً ثانياً لأنّ البحث في نجاسة الخمر دون الخنزير الذي فرغنا عن ثبوت نجاسته، و جزء ممّا لا يؤكل لحمه

ثالثاً فتصير الرواية موهونة بذلك جدّاً.

و حسنة علي الواسطي قال: دخلت الجويرية و كانت تحت عيسى بن موسى على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و كانت صالحة، فقالت: إنّي أتطيّب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر و أجعله في رأسي؟ قال: لا بأس. «3»

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 11.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 13.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و الثلاثون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 145

..........

______________________________

و في الاستدلال بها نظر لاحتمال أن تكون شبهة السائلة في حلّية الانتفاع بالخمر و جواز جعلها في المشطة التي تمتشط بها فلا دلالة فيها على جواز الصلاة المستلزم للطهارة على ما هو المتفاهم عند العرف و إن كان فيه نظر أيضاً كما مرّ، و بهذا يتحقّق الجمع بين هذه الرواية و بين صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السّلام) قال: سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أ يصلح للمرأة أن تصلّي و هو على رأسها؟ قال: لا حتّى تغتسل منه «1». فإنّ مقتضى الجمع بين الروايتين أن يقال بكون الاولى مسوقة لبيان الحكم التكليفي و الثانية لبيان الحكم الوضعي أي النجاسة.

و صحيحة علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الخمر و النبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو أُصلّي فيه؟ قال: صلِّ فيه، إلّا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر إنّ اللّٰه تعالى انّما حرّم شربها. «2» و الإنصاف انّها و إن كانت رواية واحدة إلّا انّ تماميتها من حيث السند و الدلالة غير قابلة للمناقشة خصوصاً بملاحظة التعليل الذي ينفى الاحتمال الذي ذكرنا من

كون جواز الصلاة أعمّ من الطهارة فتدبّر و لو كانت الروايات من الطرفين منحصرة فيما ذكرنا لكان مقتضى الجمع بين هذه الرواية و بين الروايات الظاهرة في النجاسة حمل أخبار النجاسة على كون الغسل انّما هو لأجل زوال التنفّر بغسل موضع أثر الخمر و لا يكون واجباً بشهادة هذه الرواية الدالّة على انّ الغسل لأجل التقذّر و لا يكون واجباً شرطاً و حمل هذه الرواية على الطهارة بشهادة التعليل الواقع فيها و عليه يصير مقتضى الجمع بين الأخبار المتعارضة ظاهراً موافقاً للقول

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و الثلاثون ح 3.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 146

..........

______________________________

بالطهارة إلّا انّه قود وردت روايتان قد فرض فيهما تعارض الطائفتين و حكم فيهما بترجيح أخبار النجاسة:

إحداهما: صحيحة علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب عبد اللّٰه بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السّلام): جعلت فداك: روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه (عليهما السّلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل انّهما قالا: لا بأس بأن تصلّي فيه انّما حرّم شربها، و روى عن (غير) زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) انّه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، و إن صلّيت فيه فأعد صلاتك. فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع (عليه السّلام) بخطّه و قرأته: خذ بقول أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام). «1» فإنّه من الواضح انّ المراد من قول أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) الذي أمر أبو الحسن (عليه السّلام) بأخذه هو ما تفرّد به أبو

عبد اللّٰه (عليه السّلام) لا ما كان مشتركاً بينه و بين أبيه (عليه السّلام) و عليه فيصير حاصل المراد الأخذ بخبر النجاسة الدال على وجوب الغسل و إعادة الصلاة، و العجب من المحقّق الأردبيلي (قدّس سرّه) حيث قال على ما حكي عنه-: «انّ المراد من قول أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) هي الرواية الدالّة على الطهارة» مع انّه كما ترى واضح الفساد، و بالجملة المستفاد من هذه الرواية أمران: ثبوت التعارض بين الطائفتين أولًا و كون الترجيح مع أخبار النجاسة ثانياً فلا يبقى معها مجال للترديد و الشكّ إلّا انّ الذي يمكن أن يوهن الرواية اشتمال السند على سهل بن زياد و لكن يدفعه مضافاً إلى ما اشتهر من انّ الأمر في السهل سهل انّ الرواية منقولة عن علي بن مهزيار بغير طريق السهل أيضاً.

ثانيتهما: رواية خيران الخادم قال: كتبت إلى الرجل (عليه السّلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يُصلّى فيه أم لا فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 147

..........

______________________________

فقال بعضهم: صلِّ فيه فإنّ اللّٰه انّما حرّم شربها، و قال بعضهم: لا تصلِّ فيه؟ فكتب (عليه السّلام): لا تصلِّ فيه فإنّه رجس الحديث. «1» و لا يخفى انّ اختلاف الأصحاب قد نشأ من اختلاف الطائفتين من الأخبار فالمراد من قولهم هو القول المستند إلى الرواية و عليه فالجواب يرجع إلى ترجيح أخبار النجاسة لأنّ المراد من الرجس في الرواية هي النجاسة بقرينة التعليل في القول الأوّل فتأمّل. و هاتان الروايتان من جملة الأخبار العلاجية المختصّتان بتعارض الروايات الواردة في الخمر.

و عن

الأردبيلي (قدّس سرّه) انّ هذين الخبرين يعارضان مع أخبار الطهارة و الترجيح مع تلك الأخبار لأنّ المكاتبة لا تقاوم المشافهة.

و فيه المنع عن وقوع التعارض بينهما و بين أخبار الطهارة لكونهما ناظرتين إليها و بصدد علاج المعارضة بينها و بين أخبار النجاسة فهما حاكمتان على جميع الأخبار الواردة في المقام. نعم لو كان لنا خبر علاجي مفاده ترجيح أخبار الطهارة لحصل التعارض بينه و بين هاتين الروايتين كما هو واضح.

و الحاصل انّه لا محيص عن حمل أخبار الطهارة على التقية و صدورها موافقة لعمل أمراء العامة و سلاطينهم و حكّامهم، و لو لم يكن الخبران العلاجيان أيضاً لكان مقتضى الرجوع إلى المرجّحات بعد فرض ثبوت التعارض على خلاف ما اخترناه من عدم التعارض و وجود الجمع العرفي بالنحو المتقدّم الأخذ بأخبار النجاسة لأنّ أوّل المرجحات هي الشهرة الفتوائية الموافقة معها لما عرفت من ثبوت الشهرة عليها لو لم يكن في البين إجماع.

و بعض الأعلام حيث انّ مختاره انحصار المرجّحات في موافقة الكتاب و مخالفة العامّة قال: إنّ مقتضى القاعدة هو التساقط و الرجوع إلى قاعدة الطهارة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 148

..........

______________________________

لعدم مرجّح لإحداهما على الأُخرى لمخالفة أخبار النجاسة لهم من حيث عملهم، و مخالفة أخبار الطهارة لهم أيضاً من حيث حكمهم و لا يوافق شي ء منهما مع الكتاب الكريم إلّا انّ هذا كلّه بمقتضى الصناعة العلمية مع قطع النظر عن صحيحة علي بن مهزيار.

و اقتصاره على الصحيحة انّما هو لأجل المناقشة في سند رواية الخيران مع جهة وقوع سهل بن زياد فيه مع انّك عرفت وقوعه في سند

رواية ابن مهزيار أيضاً إلّا انّها قد رويت بطريق آخر خال عن الاشتمال على سهل فانقدح من جميع ما ذكرنا انّه لا محيص عن الحكم بالنجاسة للخبرين الواردين في العلاج.

المقام الثاني: في نجاسة غير الخمر من سائر المسكرات المائعة بالأصالة و لا إشكال في لحوقها بها من حيث الحرمة لأنّها معلّلة في بعض الروايات بالإسكار و هو موجود في الجميع، و انّما الإشكال في نجاستها كالخمر، و ربما يقال بأنّه لا خلاف في نجاسة جميع المسكرات المائعة بالأصالة و لكن هذه الدعوى مخدوشة لأنّ من ناقش في نجاسة الخمر أو اختار عدمها كالصدوق و الأردبيلي لا يكون معتقداً بنجاسة سائر المسكرات قطعاً فالإجماع غير متحقّق.

و الروايات التي استدلّ بها على النجاسة كثيرة:

منها: صحيحة علي بن مهزيار المتقدّمة آنفاً و فيها قول السائل: «و روى عن غير زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه .. و لفظة: «يعني المسكر» تفسير من الكاتب السائل و قد قرّره الإمام (عليه السّلام) عليه، و لو كان المراد من المسكر في تفسير الكاتب ماهيته و طبيعته و كان ذكر الخمر و النبيذ من باب المثال لكان دالّاً على نجاسة جميع المسكرات و لكنّه خلاف الظاهر فإنّ الظاهر انّه تفسير للنبيذ حيث إنّه على قسمين مسكر و غير مسكر و عليه فلا دلالة للصحيحة على نجاسة سائر المسكرات بل مفادها نجاسة الخمر و النبيذ المسكر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 149

..........

______________________________

و منها: رواية عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): ما ترى في قدح من مسكر يصيب عليه الماء

حتّى تذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّٰه و لا قطرة قطرت في حب إلّا أهريق ذلك الحب. «1» و قد نوقش فيها بالضعف نظراً إلى انّ عمر بن حنظلة لم يوثق في الرجال.

و فيه انّه قد وردت روايات كثيرة في مدحه و أكثر تلك الروايات و إن كان راويها هو نفس عمر بن حنظلة إلّا انّ أكابر الأصحاب قد اعتمدوا عليها و نقلوها في كتبهم المعتبرة فهو موثق خصوصاً بعد ورود رواية في مدحه من غيره أيضاً و فيها انّه قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حقّه: «إذا لا يكذب علينا» فالرواية قابلة للاعتماد و دلالتها على نجاسة المسكر مطلقاً واضحة و دعوى انصرافه إلى الخمر ممنوعة.

و منها: موثقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا تصلِّ في بيت فيه خمر و لا مسكر لأنّ الملائكة لا تدخله، و لا تصلِّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله. «2» فإنّها موثقة سنداً و ظاهرة دلالة.

و ربما يناقش فيها بأنّ النهي في الفقرة الأُولى تنزيهي بلا إشكال لعدم كون الصلاة في البيت الكذائي باطلة و لا محرّمة و هو يصير قرينة على كون النهي في الفقرة الثانية تنزيهياً أيضاً.

و الجواب عنها انّ الظاهر من النهي هو التحريم إلّا أن تقوم قرينة على خلافه و قيامها عليه في الفقرة الاولى لا يصير قرينة على الخلاف في الفقرة الثانية أيضاً خصوصاً مع تكرار الصيغة بل نقول بوجود القرينة في الثانية على وفق الظاهر و هو عطف المسكر على الخمر التي فرغنا عن نجاستها و بطلان الصلاة في الثوب

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثامن عشر ح 1.

(2) الوسائل أبواب

النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 150

..........

______________________________

الذي أصابته فالنهي في الفقرة الثانية باق على ظاهرها المقتضي للتحريم الشرطي فتدبّر.

و قال بعض الأعلام: إنّ موثقة عمّار تعارض مع موثقة ابن بكير المتقدّمة قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا عنده عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب؟ قال: لا بأس «1». و لا مرجح لإحداهما على الأُخرى لأنّ فتوى العامّة و عملهم في مثل المسكر غير المتعارف شربه غير ظاهرين فالترجيح بمخالفة العامّة غير ممكن و لا مناص معه من الحكم بتساقطهما و الرجوع إلى قاعدة الطهارة و هي تقتضي الحكم بطهارة كل مسكر لا يطلق عليه الخمر عرفاً.

و لا يخفى ما فيه لإمكان الجمع الدلالي بينهما بحمل موثقة ابن بكير على بيان الحكم التكليفي و هو نفي البأس عن نفس إصابة المسكر للثوب و جواز لبسه كذلك و حمل موثقة عمّار على بيان الحكم الوضعي و هي النجاسة و عدم جواز الصلاة في ثوب قد أصابه مسكر.

و دعوى انّ البأس في قوله (عليه السّلام): «لا بأس» نكرة في سياق النفي و مفيدة للعموم أي لا بأس به من أيّة جهة من الجهات فيستفاد منه عدم النجاسة أيضاً.

مدفوعة بأنّ غايتها إثبات الإطلاق و عدم الاختصاص و المطلق قابل للتقييد فلا مانع من أن تكون موثقة عمّار مقيّدة له و التعارض بين المطلق و المقيّد منتف.

فانقدح بمقتضى ما ذكرنا نجاسة جميع المسكرات و قد وافقنا في ذلك صاحب الحدائق (قدّس سرّه) و لكنّه سلك في مقام الاستدلال مسلكاً آخر حيث قال: إنّ الخمر ليست اسماً لخصوص مائع خاص بل يعمّه و جميع المسكرات

لأنّها حقيقة شرعية في الأعمّ لأنّ الخمر ما يخامر العقل و استند في ذلك إلى أُمور:

(1) ما ورد في تفسير قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ .. من قوله (عليه السّلام): امّا الخمر فكل مسكر من الشراب

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الثلاثون ح 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 151

..........

______________________________

إذا أخمر فهو خمر. «1» و فيه انّ هذا التفسير انّما هو بالإضافة إلى خصوص الخمر الواقع في الآية المباركة و قد عرفت انّ الآية لا دلالة لها على نجاسة الخمر الاصطلاحي فضلًا عن الدلالة على نجاسة جميع المسكرات.

(2) حسنة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): الخمر من خمسة: العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب و البتع من العسل، و المزر من الشعير و النبيذ من التمر. «2» و فيه: أوّلًا عدم ثبوت كون المذكورات أقساماً حقيقياً للخمر بحيث يشمل جميع أحكام الخمر لها و يؤيّده اختصاص كل قسم باسم خاص و وقوع تلك الأسامي في مقابل الخمر نوعاً و قد عرفت في الروايات المتقدّمة كثرة إطلاق النبيذ في مقابل الخمر.

و ثانياً: لو فرض كونها أقساماً حقيقياً للخمر فلا يثبت المدّعى مع ذلك لأنّ المدّعى أعمّ من الخمسة المذكورة في الرواية فالدليل أخصّ من المدّعى.

(3) رواية عطاء بن يسار عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): كل مسكر حرام و كل مسكر خمر «3». فإنّ الظاهر من جملة: «و كل مسكر خمر» انّها مسوقة لبيان نجاسة المسكر لأنّ

الحرمة قد افيدت بالفقرة الأُولى فالثانية تدلّ على النجاسة.

و فيه: انّه لا يستفاد من الجملة الثانية انّ كل مسكر خمر حقيقة لأنّ مساقها مساق قوله (عليه السّلام): «الطواف بالبيت صلاة» فالرواية لا تكون في مقام

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الأول ح 5.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الأول ح 1.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الخامس عشر ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 152

..........

______________________________

بيان توسعة موضوع الخمر بل في مقام إفادة نجاسة كل مسكر، على انّ شأن الإمام (عليه السّلام) ليس بيان الموضوع خصوصاً في مثل هذا الموضوع العرفي الذي لا ارتباط له بالشرع و اختراعه، هذا مضافاً إلى انّها ضعيفة من حيث السند و معارضة بصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي (عليه السّلام) قال: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر «1». فإنّها ظاهرة في انّ لحقيقة الخمر اسماً خاصّاً و هو الخمر، و ما كان عاقبته عاقبة الخمر ينزل منزلتها في الحرمة، و معارضة أيضاً برواية فضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن النبيذ فقال: حرّم اللّٰه الخمر بعينها و حرّم رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) من الأشربة كل مسكر «2». فإنّها ظاهرة في مغايرة عنوان الخمر مع عناوين سائر المسكرات.

و بالجملة: لا دليل على انّ للخمر حقيقة شرعية تعمّ جميع المسكرات و لا حاجة إلى تجشّم الاستدلال عليه بعد ثبوت نجاسة الجميع بسبب موثقة عمّار و غيرها و بعض الأعلام حيث استند في نقل رواية عطاء بن يسار إلى بعض الكتب الفقهية

أو اعتمد على حافظته توهّم انّ متن الرواية هكذا: «كل مسكر خمر و كل خمر حرام» و لذا أجاب عنها بأنّ التنزيل إنّما هو بلحاظ الحرمة فحسب و انّه لا دلالة لها على النجاسة أصلًا، و قد عرفت انّ دلالة الرواية بالنحو الذي نقلنا عن كتب الحديث على نجاسة كل مسكر و تنزيله منزلة الخمر في النجاسة أيضاً واضحة غاية الأمر انّا منعنا عن كونها بصدد بيان توسعة موضوع الخمر و إفادة كون معناها الشرعي أوسع من معناها العرفي.

فرع: هل الالكل نجس أم لا؟ الحقّ انّ نجاسته منوطة بإسكاره و الظاهر

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب التاسع عشر ح 1.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الخامس عشر ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 153

..........

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، در يك جلد، مؤلف، قم - ايران، اول، 1409 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها؛ ص: 153

______________________________

انّه لم يثبت كونه مسكراً كما نقل عن بعض أهل الفنّ. نعم هو مادّة سمية موجبة لمسمومية شاربها، و قيل بأنّه لو امتزج مع الماء بحيث تنزّلت درجة غلظتها من التسعين إلى الأربعين يصير من المسكرات و لكن ذلك لا يقدح في الحكم بطهارته الفعلية من جهة عدم كونه مسكراً بالفعل.

و يلحق به ما يسمّى ب «أود كلن» لأنّه مأخوذ من الالكل، هذا و لو شكّ في مسكرية الالكل و عدمها يكفي ذلك في الحكم بطهارته للزوم إحراز المسكرية في الحكم بالنجاسة.

و ربما يقال بأنّه مع إحراز كونه مسكراً أيضاً لا يحكم بنجاسته لانصراف دليل النجاسة إلى ما

يتعارف شربه دون ما لا يتعارف كالالكل و نحوه.

و لكنّه مدفوع بأنّه مع الإحراز المذكور لا مناص من الحكم بالنجاسة و لا وجه للانصراف المذكور لأنّ الانصراف على تقدير تماميته انّما يصحّ بالنسبة إلى دليل الحرمة دون دليل النجاسة ضرورة انّ تعارف الشرب و عدمه انّما يلائمان مع الدليل المتعرّض لبيان حكم الأكل و الشرب، و أمّا دليل النجاسة فلا ارتباط له بتعارف الشرب و عدمه فمع إحراز المسكرية لا بدّ من الحكم بالنجاسة و لا وجه لهذا القول أصلًا.

بقي الكلام في هذا المقام في القيد المأخوذ فيه و هو الميعان بالأصالة فإنّ هذا القيد يوجب التوسعة من جهة و التضيق من اخرى:

امّا التوسعة فمن جهة انّ المسكر لو صار جامداً بالعرض يكون نجساً إذا كان أصلًا مائعاً كما لو صارت الخمر منجمدة بسبب شدّة البرد أو غيرها من الأسباب و كذا غير الخمر من سائر المسكرات و الوجه فيه عدم كون الانجماد من المطهّرات فكما انّ انجماد مثل الدم و البول لا يوجب تغيّر الحكم فكذلك انجماد المسكر خمراً كان أو غيره.

و أمّا التضيّق فمن جهة إخراج المسكر الجامد بالأصل و إن صار مائعاً بالعرض

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 154

..........

______________________________

كالبنج و نحوه و الظاهر انّه لا كلام في عدم نجاسة المسكر الجامد بالأصل، إنّما الكلام في دليله و ربّما يقال في وجهه انّ دليل نجاسة المسكرات انّما هو الإجماع و هو دليل لبّي لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منه و هذا القدر في المقام هو المسكر المائع بالأصل.

و فيه: أوّلًا عدم ثبوت الإجماع كما عرفت و ثانياً عدم كونه واجداً لوصف الحجّية بعد احتمال استناد

المجمعين إلى الأدلّة و الروايات الواردة في الباب.

و يمكن أن يستدلّ عليه بما يستفاد من موثقة عمّار المتقدّمة التي كانت هي العمدة في نجاسة سائر المسكرات لاشتمالها على قوله (عليه السّلام): «لا تصلِّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر» فإنّ ما يصيب الثوب و يسري إليه إنّما هو الخمر المائع و المسكر كذلك مع انّ جعل الخمر و المسكر فاعلًا للإصابة و الثوب مفعولًا يشعر بذلك و عليه فالمسكر الجامد بالأصالة لا يستفاد نجاسته من الموثقة فلو صار مائعاً و لم يكن مسكراً بعد صيرورته كذلك فطهارته باقية قطعاً، و أمّا مع بقائه على وصف الإسكار فلا بدّ من إثبات طهارته من طريق عدم القول بالفصل و لا طريق لنا غير ذلك فتدبّر.

المقام الثالث: في حكم العصير العنبي و قد نفى الإشكال عن حرمته في المتن إذا غلى بالنار و لم يذهب ثلثاه و الكلام فعلًا في نجاسته و عدمها و الظاهر انّ دعوى الإجماع أو أشهره لا وجه لها بعد كون الأقوال في المسألة مختلفة و الآراء متشتّتة و عدم اتّصافها على تقدير الثبوت بوصف الحجّية لوضوح المستند و الحجّة فالعمدة هي الروايات الواردة خصوصاً بعد عدم كون نجاسة الخمر و سائر المسكرات على مثل هذه الدعوى متكية فضلًا عن العصير الذي هو محل البحث في هذه المسألة فنقول:

إنّ المهمّ في الاستدلال على النجاسة هي موثقة معاوية بن عمّار قال: سألت

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 155

..........

______________________________

أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول قد طبخ على الثلث و أنا أعرف أنّه يشربه على النصف، أ فأشربه بقوله و

هو يشربه على النصف؟ فقال: خمر لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحلّه على النصف يخبرنا انّ عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم «1». بتقريب انّ حمل عنوان «الخمر» عليه إمّا أن يكون حقيقياً كما قد حكى عن جماعة من انّ الخمر اسم للعصير، و أمّا أن يكون تنزيلياً فمقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع أحكامها له و منها النجاسة كما عرفت.

و قد أورد على الاستدلال بالرواية لنجاسة العصير بوجوه من الإشكال:

الأوّل: انّ البختج لم يثبت انّه بمعنى مطلق العصير المطبوخ و إن فسّره به جماعة كالمحدّث الكاشاني (قدّس سرّه) بل الظاهر انّه عصير مطبوخ خاص و هو الذي يسمّى عندنا ب «الرب» كما في كلام المحقّق الهمداني و من المحتمل القوي أن يكون هذا القسم مسكراً قبل استكمال طبخه و عليه فغاية مفاد الرواية تحقّق التنزيل في خصوص هذا القسم و لا مانع منه فقد مرّت نجاسة جميع المسكرات و عدم اختصاصها بالخمر.

و الجواب: إنّ هذا لا يلائم مع الحكم بجواز الشرب في ذيل الرواية لأنّ ذهاب الثلثين لا يكون مطهراً للمسكر بوجه بل المسكر ما دام كونه كذلك نجس سواء ذهب ثلثاه أم لم يذهب.

الثاني: إنّ الرواية على ما رواه الكليني لا تكون مشتملة على لفظة «خمر» في الجواب الأوّل و انّما تشتمل على قوله (عليه السّلام): «لا تشربه» فقط و من المعلوم انّ هذا القول لا دلالة له على النجاسة بل ظاهره مجرّد الحرمة، نعم في نقل التهذيب

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و

أحكامها، ص: 156

..........

______________________________

تكون الرواية مشتملة على لفظة خمر كما نقلناه و إن لم تنقل هذه اللفظة في شي ء من الوافي و الوسائل مع نقلهما الرواية عن الشيخ (قدّس سرّه) و شدّة المراقبة في النقل و كمال التحفّظ عليه من دون زيادة و لا نقصان و لهذا تعجب صاحب الحدائق عن صاحبي الوافي و الوسائل حيث نسبا هذه الرواية إلى الشيخ بدون اللفظة. فالرواية تكون مختلفة النقل و في مثل هذه الموارد و إن كان لنا أصل عقلائي و هي أصالة عدم الزيادة و لا يكون معارضاً بأصالة عدم النقيصة لأنّ الغفلة الموجبة لأحد الأمرين كثيراً ما تصير سبباً للنقصان و قل ما يتّفق تحقّقها في طرف الزيادة و مقتضى ذلك ترجيح نقل التهذيب على نقل الكافي إلّا انّ أضبطية الكليني في نقل الأحاديث، الناشئة من تمحضه فيه و فراغه به من غيره تمنعنا عن تقديم نقل الشيخ الذي كثير الابتلاء لاشتغاله بالعلوم المختلفة و الفنون المتعدّدة و تأليف الكتب و الرسائل فيها من الفقه و الأُصول و الكلام و التفسير و الرجال و غيرها، و عليه فلا يمكن رفع اليد عن نقل الكافي لكونه أتقن من التهذيب خصوصاً مع وجود الاغتشاش فيه و عدم كونه كتاب حديث محض و مع عدم نقل الوافي و الوسائل كلمة الخمر عنه، الموجب لحدوث احتمال عدم ثبوتها في نسخة التهذيب الموجودة عندهما و تحقّق الاشتباه من النسّاخ في النسخ الأُخرى بزيادتها فيها.

و ممّا يوجب قوّة الإشكال انّ هذه الموثقة هي أقوى مستند القائلين بالنجاسة و من الواضح انّ الاستدلال بها عليها يبتني على وجود كلمة «الخمر» فيها و مع ذلك لم يستدلّ القائلون بالنجاسة بها إلى زمان الأسترآبادي

مضافاً إلى انّه لو كانت فيها هذه اللفظة لكانت الرواية من الأدلّة الدالّة على حجّية الاستصحاب مع انّه لم يستدلّ بها أحد عليها و لا يكون هذا التعبير معهوداً في أدلّة حجّيته.

و بالجملة لاحتمال الزيادة في الرواية مجال واسع و أصالة عدم الزيادة لا تنفي احتمال ثبوتها من النسّاخ لمناسبة الخمر مع العصير فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 157

..........

______________________________

الثالث: ما أفاده سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه في رسالة النجاسات ممّا حاصله: «انّ الحمل لا يمكن أن يكون حقيقياً لأنّ الموضوع المغلي المشتبه بين كونه على الثلث أو النصف و لا يجوز حمل الخمر حقيقة على مشتبه الخمرية فضلًا عن العصير المشتبه، و لا يمكن أن يكون تنزيلياً لأنّ المشتبه لا يكون منزّلًا منزلته واقعاً بحيث يكون محرماً و نجساً واقعاً و لو كان مطبوخاً على الثلث فانّ الظاهر من الرواية هو السؤال عن الحكم الظاهري و عن حال شهادة ذي اليد بالتثليث فالمراد بقوله: «خمر» انّه خمر ظاهراً و يجب البناء على خمريته للاستصحاب و هو و إن كان كاشفاً عن كون المغلي قبل التثليث نازلًا منزلة الخمر في الجملة إلّا انّه ليس بكاشف عن إطلاق دليل التنزيل لأنّها لا تكون بصدد بيانه بل بصدد بيان حال الشكّ، و ليس لأحد أن يقول انّه يمكن أن تكون الرواية بصدد بيان أمرين أحدهما تنزيل العصير منزلة الخمر و الآخر التعبّد ببقاء خمريته لأنّ ذلك غير معقول بجعل واحد كما انّ دعوى انّ قوله: «خمر» يكون خبراً من العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه إفادة للحكم الواقعي بالتنزيل، و قوله: «لا تشربه» نهياً عن شرب المشتبه فالموضوع مختلف لا

تستأهل الجواب و على فرض كونها بصدد التنزيل فإطلاقه أيضاً لا يخلو عن مناقشة».

الرابع: ما أفاده بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريرات بحثه ممّا حاصله: «إنّ تنزيل شي ء منزلة شي ء آخر قد يكون على وجه الإطلاق و من جميع الجهات و الآثار في مثله يثبت الجميع للمنزل كما إذا ورد: العصير خمر فلا تشربه أو قال: لا تشرب العصير لأنّه خمر، لأنّ لفظة «فاء» في المثال الأوّل ظاهرة في التفريغ و دالّة على انّ حرمة الشرب من الأُمور المتفرّعة على التنزيل و كذا الحال في المثال الثاني لأنّه كالتنصيص بأن النهي عن شربه مستند إلى انّه منزّل منزلة الخمر شرعاً و بذلك يحكم بنجاسته لأنّها من أحد الآثار المترتّبة على الخمر، و قد يكون التنزيل بلحاظ بعض الجهات و الآثار و لا يكون ثابتاً على وجه الإطلاق كما هو الحال في المقام لأنّ قوله: «خمر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 158

..........

______________________________

لا تشربه» انّما يدلّ على انّ العصير منزّل منزلة الخمر من حيث حرمته فقط و لا دلالة له على تنزيله منزلتها من جميع الجهات لعدم اشتماله على لفظة «فاء» الظاهرة في التفريع حيث إنّ جملة «لا تشربه» و قوله: «خمر» بمجموعهما صفة للعصير أو من قبيل الخبر بعد الخبر أو انّها نهي و على أي حال لا دلالة له على التفريع حتّى يحكم على العصير بجميع الآثار».

و قد ظهر ممّا أفاده الأستاذ الماتن عدم كون قوله (عليه السّلام): خمر لا تشربه بصدد التنزيل بل كان مسوقاً لبيان الحكم الظاهري في مورد الشكّ. نعم قد عرفت كونه كاشفاً عن التنزيل في الجملة، مع انّه على تقدير

التنزيل و معقوليته في مورد الشكّ الذي لا مجال فيه إلّا للحكم الظاهري نقول: إنّه لا فرق فيه أصلًا بين أن يقول: خمر لا تشربه أو يقول: خمر فلا تشربه فانّ الظاهر من الأوّل أيضاً كون النهي عن الشرب متفرّعاً على وصف الخمرية التنزيلية أو معلولًا له فتدبّر جيّداً. و قد انقدح من جميع ما ذكرنا عدم تمامية الاستدلال بالموثّقة على نجاسة العصير و إن كان بعض الإشكالات على الاستدلال بها قابل الدفع كما عرفت. و ممّا استدلّ به على النجاسة:

صحيحة عمر بن يزيد أو حسنته قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يهدى إليه البختج من غير أصحابنا فقال: إن كان ممّن يستحلّ المسكر فلا تشربه و إن كان ممّن لا يستحلّ فاشربه «1». بتقريب انّه يستفاد منها انّ للبختج حالتين: الإسكار و هي قبل ذهاب الثلثين و حالة عدم الإسكار و هي بعد ذهابهما و المستحلّ لا يأبى عن إهداء المسكر منه فلا يجوز شربه و بالجملة الرواية تدلّ على ثبوت حالة الإسكار للعصير و قد مرّ عدم اختصاص النجاسة بالخمر بل كل مسكر نجس.

و فيه: أوّلًا خروجه عن محلّ النزاع لأنّ الكلام في العصير غير المسكر ضرورة انّ المسكر لا يحتاج إلىٰ بحث مستقلّ بعد التكلّم في نجاسة المسكر مطلقاً.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 159

..........

______________________________

و ثانياً: انّه لا دلالة للرواية على انّ البختج قبل ذهاب الثلثين مسكر كيف و هو خلاف الوجدان فانّ العصير العنبي المغلي بالنار لا يكون مسكراً ما دام كونه على النار. نعم لو أُخذ من النار و ترك مدّة ينقلب إلى الإسكار

و لعلّ قوله (عليه السّلام): «إن كان ممّن يستحلّ ..» إشارة إلى انّ من يستحل المسكر يستحل العصير العنبي قبل ذهاب الثلثين قطعاً.

و ثالثاً: إنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية انّ للبختج قسمين: مسكر و غير مسكر و لا دلالة لها بل و لا إشعار فيها بكون مطلق العصير المغلي قبل ذهاب الثلثين مسكراً فانّ البختج كما عرفت يحتمل قويّاً أن يكون هو القسم المخصوص من العصير لا مطلق العصير المطبوخ فثبوت قسم له الإسكار في البختج لا يلازم وجود المسكر في العصير مطلقاً.

و منها: رواية أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن أصل الخمر كيف كان بدء حلالها و حرامها و متى اتخذ الخمر؟ فقال: إنّ آدم لمّا اهبط من الجنّة اشتهى من ثمارها فأنزل اللّٰه عليه قضيبين من عنب فغرسهما فلمّا أن أورقا و أثمرا و بلغا جاء إبليس فحاط عليهما حائطاً فقال آدم: ما حالك يا ملعون؟ قال فقال إبليس: إنّهما لي قال: كذبت فرضيا بينهما بروح القدس فلمّا انتهيا إليه قصّ آدم عليه قصّته فأخذ روح القدس ضغثاً من نار فرمى به عليهما و العنب في أغصانها حتّى ظنّ آدم انّه لم يبق منه و ظنّ إبليس مثل ذلك، قال: فدخلت النار حيث دخلت و قد ذهب منهما ثلثاهما، و بقي الثلث فقال الروح: امّا ما ذهب منهما فخط إبليس و ما بقي فلك يا آدم. «1» و منها: موثقة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: إنّ نوحاً لمّا هبط من السفينة غرس غرساً فكان فيما غرس النخلة فجاء إبليس فقلعها إلى أن قال: فقال نوح: ما دعاك إلى قلعها فواللّٰه ما غرست غرساً هو أحبُّ

إليّ منها فواللّٰه لا أدعها حتّى

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 160

..........

______________________________

أغرسها، فقال إبليس. و أنا و اللّٰه لا أدعها حتّى أقلعها فقال له جبرئيل: اجعل له فيها نصيباً قال: فجعل له الثلث فأبى أن يرضى فجعل له النصف فأبى أن يرضى و أبى نوح أن يزيده فقال له جبرئيل: أحسن يا رسول اللّٰه فانّ منك الإحسان فعلم نوح انّه قد جعل له عليها سلطان فجعل نوح له الثلثين، فقال أبو جعفر (عليه السّلام): فإذا أخذت عصيراً فطبخته حتّى يذهب الثلثان نصيب الشيطان فكل و اشرب. «1» و أنت خبير بعدم ظهور شي ء من الروايتين في نجاسة العصير. نعم يمكن أن يستفاد منهما الحرمة خصوصاً من الموثقة، و العجب من الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) حيث حكى عنه انّه قال: «إنّ في هذه الأخبار دلالة واضحة على انّ عصير العنب إذا غلى بالنار أو نشّ بنفسه حكمه حكم الخمر إلّا أن يذهب ثلثاه أو يصير خلّاً».

و منها: حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كان أبي يقول: إنّ نوحاً حين أُمر بالغرس كان إبليس إلى جانبه فلمّا أراد أن يغرس العنب قال: هذه الشجرة لي فقال له نوح: كذبت فقال إبليس: فما لي منها؟ فقال نوح: لك الثلثان فمن هناك طاب الطلاء على الثلث. «2» فانّ ظاهر قوله (عليه السّلام): فمن هناك طاب الطلاء على الثلث، عدم كونه طيباً قبل الثلث و من الظاهر انّ المراد بالطيب في المقام هو الطاهر في مقابل النجس.

و فيه: انّ الطيب إذا كان مستعملًا في الأموال يكون المراد منه الحلية

كما يقال: طاب مال فلان أي صار حلالًا بعد كونه حراماً قوله: طاب الطلاء على الثلث أي صار حلالًا بعد ذهاب الثلثين بعد كونه حراماً قبله و يشهد له ما ورد في حديث آخر من قوله (عليه السّلام): «فذلك الحلال الطيب ليشرب منه». «3»

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 4.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 10.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 161

..........

______________________________

و منها: ما ورد في حديث في الجواب عن السؤال عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته من قوله (عليه السّلام): «إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «1». و أنت خبير بأنّ نفي الخير لا دلالة له على النجاسة.

و منها: ما ورد في فقه الرضا من انّ العصير إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فهو خمر. «2» و لا يخفى ما في الاستدلال بها من عدم حجّية الفقه الرضوي و عدم اعتباره عند الأصحاب و عدم ظهور دلالته أيضاً على النجاسة لأنّ الحكم عليه بكونه خمراً انّما هو من باب التنزيل لا الحقيقة و لم يثبت كون التنزيل انّما هو بلحاظ جميع الآثار و الأحكام بل في أثر الحرمة الذي هو أظهر الآثار خصوصاً بملاحظة قوله: و لا يحلّ شربه بعد العبارة المتقدّمة.

و ممّا جعله صاحب الجواهر (قدّس سرّه) مؤكّداً لنجاسة العصير و مؤيّداً لها ما أفاده من قوله: «قد استفاضت الروايات بل كادت تكون متواترة بتعليق الحرمة في النبيذ و غيره على الإسكار و عدمها على عدمه مع استفاضة الروايات بحرمة

عصير العنب إذا غلى قبل ذهاب الثلثين، و حملها على التخصيص ليس بأولى من حملها على تحقّق الإسكار فيه بل هو أولى لأصالة عدم التجوّز بل لعلّه متعيّن لعدم القرينة بل قد يقطع به لعدم ظهور شي ء من روايات الحرمة في خروج ذلك عن تلك الكلية بل و لا إشارة».

و في كلامه مواقع للنظر:

منها: انّ الروايات الواردة في الخمر و النبيذ و العصير لا دلالة لها على انّ الحرمة معلّقة على الإسكار و عدمها على عدمه بل لم يرد رواية واحدة بنحو ما ذكره من

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 7.

(2) مستدرك الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 162

..........

______________________________

التعليق فضلًا عن استفاضتها أو تواترها. نعم وردت روايات في خصوص النبيذ و مفادها أنّ المسكر منه حرام و هذه الروايات مع ورودها في خصوص النبيذ لا تعرض فيها للتعليق. غاية الأمر انّ تحريم المسكر يستفاد منه عدم حرمة غير المسكر منه فاستفادة الحكم الكلّي ممّا لا وجه لها أصلًا.

و منها: انّ ترجيح التخصّص على التخصيص فيما إذا دار الأمر بينهما انّما هو فيما إذا كان الترجيح موجباً لتعيين الحكم و استكشاف المراد. و بعبارة اخرى مورده ما إذا كان المراد غير معلوم كما إذا ورد دليل عام مثل قوله: «أكرم العلماء» و دليل: «لا تكرم زيداً» و تردّد أمر زيد بين أن يكون المراد به هو زيد الجاهل حتّى لا يكون الدليل الثاني مستلزماً للتخصيص أو أن يكون المراد به هو زيد العالم حتّى يكون هناك مخصّص ففي مثل ذلك تجري قاعدة ترجيح التخصّص على التخصيص و تحكم بكون المراد

من زيد الذي يحرم أو لا يجب إكرامه هو زيد الجاهل دون العالم، و أمّا إذا لم يكن المراد مجهولًا فلا مجرى للقاعدة كما إذا قال بعد الدليل العام: «لا تكرم هذا الرجل المسمّى بزيد» فانّ الشكّ في كون الرجل المعيّن عالماً أو جاهلًا مع وضوح حكم إكرامه بمقتضى الإشارة الموجبة للتعيين لا يوجب الرجوع إلى القاعدة و الحكم باتصاف الرجل المعيّن بالجهل، و المقام من هذا القبيل فانّ حكم العصير العنبي من جهة الحرمة معلوم و الشكّ في انّ خروجه عن الدليل الدالّ على ان كل ما ليس بمسكر لا يكون بحرام هل هو بنحو التخصّص أو التخصيص لا يوجب ترجيح الأوّل و الحكم بأنّ الحرمة انّما هي لأجل الإسكار الموجب للنجاسة أيضاً كما هو واضح.

و منها: انّ تعليل أولوية التخصّص بأصالة عدم التجوّز ممنوع لما حقّق في محلّه من انّ تخصيص العام لا يكون مستلزماً للتجوّز فيه فانّ التخصيص تصرّف في خصوص الإرادة الجدّية دون الإرادة الاستعمالية التي هي المدار في باب الحقيقة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 163

..........

______________________________

و المجاز فانّ المستعمل فيه في باب العموم انّما هو المعنى الحقيقي العام و لا فرق فيه بين عروض التخصيص له و عدمه.

و منها: انّ ما أفاده من أنّه لا إشارة في أدلّة الحرمة إلى خروجه عن تلك الكلّية مشعر بأنّه على تقدير ثبوت الظهور أو الإشارة لا يبقى مجال للإشكال في التخصيص مع انّ الدليل المخصّص غالباً بل في جميع الموارد فاقد لهذا الظهور و الإشارة كيف و لو كان الدليل المخصّص ناظراً إلى الدليل العام و لو بنحو الإشارة لا يكون مخصّصاً حينئذٍ بل حاكماً عليه

فتدبّر.

و قد تحصّل من جميع ما ذكرنا انّه لا دليل على نجاسة العصير العنبي و مقتضى القاعدة حينئذٍ الحكم بالطهارة.

ثمّ إنّه قد فصل ابن حمزة (قدّس سرّه) في «الوسيلة» بين العصير العنبي الذي غلى بنفسه فحكم بحرمته و نجاسته إلى أن يصير خلّاً، و بين ما إذا غلى بالنار فاختار حرمته قبل ذهاب الثلثين و عدم نجاسته.

و زعم شيخ الشريعة الأصفهاني (قدّس سرّه) انّ تفصيل ابن حمزة لا يكون تفصيلًا في الحكم الشرعي بل يكون لأجل مسكرية ما غلى بنفسه فحكمه بالنجاسة انّما هو لأجل الإسكار لا للتفصيل في العصير و طعن على من زعم انّ ابن حمزة متفرّد في هذا التفصيل بل نسب الغفلة إلى أساطين العلم و الفقه قائلًا إنّ مرجع الأقوال عدا شاذ منهم إلى هذا القول و عدّ منهم شيخ الطائفة و الحلّي و العلّامة و المحقّق و الفاضل المقداد معتقداً انّ عدّ قولهم مقابلًا لقوله ناش من عدم تحقيق النظر و تدقيق البصر في كلامهم.

و لا بأس بذكر بعض عبارات الأصحاب و كلمات الأعلام حتّى يظهر لك الحال فيما هو مرادهم و ما نسب إليهم و إليك عبارة ابن حمزة الذي هو الأساس في هذا المقام؛ قال في الوسيلة بعد ذكر الأشربة التي تؤخذ من الحيوان-:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 164

..........

______________________________

«و أمّا ما يؤخذ من الأشربة من غير الحيوان، ضربان: مسكر و غير مسكر، فالمسكر نجس حرام، ثمّ قال: و غير المسكر ضربان: ربّ و غيره ثمّ قال: و غير الربّ ضربان امّا جعل فيه شي ء من المسكرات و يحرم شربه و ينجس بوقوع المسكر فيه أو لم يجعل فيه شي ء منها، فإن

كان عصيراً لم يخل امّا غلى أو لم يغل فإن غلى لم يخل امّا غلى من قبل نفسه أو بالنار، فإن غلى من قبل نفسه حتّى يعود أسفله أعلاه حرم و نجس إلّا أن يصير خلّاً بنفسه أو بفعل غيره فيعود حلالًا طيّباً، و إن غلى بالنار حرم شربه حتّى يذهب على النار نصفه و نصف ثلثه و لم ينجس، أو يخضب الإناء و يعلق به و يحلو».

و أنت ترى انّ كلامه ظاهر بل صريح في التفصيل بين المغلي بنفسه و المغلى بغيره أي بالنار من جهة الغاية و من جهة الحكم بالنجاسة بعد الفراغ عن عدم كونه مسكراً فإنّ قوله: فإن كان عصيراً، تفريع على غير الرب من غير المسكر فليس من التفصيل بين المغلي من قبل نفسه و المغلي بالنار من جهة المسكرية و عدمها في كلامه عين و لا أثر. نعم قد عرفت ثبوت التفصيل من جهتين: إحداهما غاية الحرمة حيث جعلها في المغلي بنفسه صيرورته خلّاً و في المغلي بالنار ذهاب الثلثين الذي عبّر عنه بالنصف و نصف الثلث أو خضب الإناء و ثانيتهما الحكم بالنجاسة في الأوّل دون الثاني، فنسبة التفصيل إليه في المسكرية كما قد عرفت من شيخ الشريعة، غير صحيحة.

و قال الشيخ (قدّس سرّه) في النهاية: «كل ما أسكر كثيره فالقليل منه حرام لا يجوز استعماله بالشرب و التصرّف فيه إلى أن قال: و العصير لا بأس بشربه و بيعه ما لم يغل و حدّ الغليان الذي يحرم ذلك هو أن يصير أسفله أعلاه فإذا غلى حرم شربه و بيعه إلى أن يعود إلى كونه خلّاً، و إذا غلى العصير على النار لم يجز شربه إلى أن يذهب

ثلثاه و يبقى ثلثه».

و أنت خبير بأنّ ظاهر كلامه موافقته مع ابن حمزة في غاية الحلية و جعلها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 165

..........

______________________________

في المغلي بالنار ذهاب الثلثين و في المغلي بنفسه عوده إلى كونه خلّاً و ليس في كلامه إشارة إلى ثبوت التفصيل من جهة النجاسة بل يمكن أن يستظهر من كلامه عدم نجاسة العصير مطلقاً فإنّ ذكر العصير عقيب المسكر لا دلالة له و لا إشعار بكون الغليان المحرم له إنّما هو لأجل الإسكار و على تقديره فالتفصيل من هذه الجهة بين المغلي بالنفس و المغلي بالنار لا يستفاد من كلامه قطعاً.

و قال المحقّق في «المعتبر»: «و في نجاسة العصير بغليانه قبل اشتداده تردّد امّا التحريم فعليه إجماع فقهائنا إلى أن قال: و الوجه الحكم بالتحريم مع الغليان حتّى يذهب الثلثان و وقوف النجاسة على الاشتداد». و لا يظهر من كلامه الموافقة مع ابن حمزة بوجه.

فانقدح انّ ابن حمزة متفرّد بالتفصيل المذكور و هو نجاسة المغلي بنفسه مع عدم إسكاره و عدم النجاسة في المغلي بالنار.

ثمّ إنّ الشيخ المذكور زعم أنّ في المسألة إعضالات لا تنحلّ إلّا بالالتزام بمسكرية العصير المغلي بنفسه قال في رسالته الموضوعة في هذا الباب المسمّاة ب «إفاضة القدير»:

الإعضال الأوّل: إنّ الروايات المتضمّنة لحرمة العصير المطبوخ كلّها مغياة بذهاب الثلثين و لم يتّفق التحديد بذهابهما إلّا فيما تضمن لفظ الطبخ أو ما يساوقه كالبختج و الطلا، و أمّا الروايات الحاكمة بتحريم العصير بالغليان فكلّها خالية عن التحديد بهما.

و قد جعل هذا الاختلاف شاهداً على انّ العصير المغلي بنفسه مسكر نظراً إلى انّ الغليان إذا أسند إلى الشي ء الذي يحدث فيه تارة بسبب

و أُخرى باقتضاء نفسها، من غير ذكر السبب يكون المراد به هو حصوله بالنفس لا بالسبب.

و لكن يرد عليه:

أوّلًا: إنّ هذه الروايات على فرض كونها كما زعمها-

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 166

..........

______________________________

لا تدلّ على أكثر من انّ غاية الحرمة فيما غلى بنفسه ليست هي ذهاب الثلثين بل ذهابهما غاية فيما إذا غلى بالنار و انطبق عليه عنوان المطبوخ و شبهه و كيف يمكن استفادة مسكرية العصير المغلي بالنفس من الاختلاف من جهة الغاية كما هو واضح.

و ثانياً: إنّ ما أفاده من انّ الغليان إذا أسند إلى الشي ء كان المراد به هو حصوله بنفسه لا بالسبب ممّا لا يتمّ و لا يساعده الدليل فانّ المتبادر من الغليان عرفاً و لغةً هو الفوران و القلب بقوّة و هما لا يتحقّقان فيما غلى من قبل نفسه مع انّ كلمات اللغويين مخالفة لما أفاده ففي «المنجد»: غلت القدر جاشت بقوّة الحرارة، و ظاهره انّ ما غلى بنفسه لا يطلق عليه الغليان حقيقة، و عن «المجمع»: غلت القدر غلياناً إذا اشتدّ فورانها، فليست مادّة الغليان ظاهرة في الغليان الحاصل من قبل نفس الشي ء لو لم تكن ظاهرة في عكسه.

و دعوى: انّه لا مجال لإنكار انّ الغليان إذا أُسند إلى الشي ء مطلقاً و بدون ذكر السبب يكون ظاهر إطلاقه ما يحصل للشي ء من قبل نفسه.

ممنوعة لأنّه إذا ذكر مطلقاً يكون مقتضى إطلاقه الشمول لجميع الأفراد على البدل من دون فرق بين ما يحصل بنفسه و ما يتحقّق بالسبب، و الانصراف يحتاج إلى كثرة الاستعمال و هي غير متحقّقة فيه لو لم نقل بتحقّقها في ما يحصل بالسبب كما لا يخفىٰ.

أضف إلى ذلك ما أفاده

بعض الأعلام من أنّ الغليان لا يعقل أن يستند إلى نفس العصير فإنّه لو صبّ في ظرف و جعل في ثلاجة أو غيرها ممّا لا تؤثر فيه حرارة خارجية فلا محالة تبقى مدّة من الزمان و لا يحدث فيه الغليان أصلًا، و عليه فالغليان غير مسبّب عن نفس العصير بل دائماً مستند إلى أمر خارجي من نار أو حرارة الهواء و الشمس.

و ثالثاً: انّ ما استند إليه من الروايات التي ذكر فيها الغليان و لم يتعرّض

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 167

..........

______________________________

للتحديد بذهاب الثلثين لا يعطي ما رامه من انّ حدّ الحرمة تبدّل العنوان:

امّا صحيحة حمّاد أو حسنته عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا يحرم العصير حتّى يغلي. «1» فهي بصدد بيان حكم ما قبل الغليان و انّه ليس بحرام في هذه الصورة لا بيان بقاء الحرمة إلى ذهاب الموضوع و تبدّل العنوان كما هو ظاهر.

و أمّا روايته الأُخرى عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أيضاً قال: سألته عن شرب العصير قال: تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه، قلت: أيّ شي ء الغليان؟ قال: القلب. «2» فهي أيضاً لبيان غاية الحلية و انّها هي الغليان لا غاية الحرمة و لا دلالة لها على كون غاية الحرمة هي تبدّل العنوان و يشهد له ملائمة جعل الغاية لها ذهاب الثلثين أيضاً بقوله فإذا غلى فلا تشربه حتّى يذهب ثلثاه كما لا يخفى.

و أمّا موثّقة ذريح قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: إذا نشّ العصير أو غلا حرم. «3» فهي كالنص في خلاف مدعاه لأنّه قد حكم فيها بالحرمة على موضوعين أحدهما ما إذا نشّ العصير

من قبل نفسه ثانيهما ما إذا غلى العصير و لم يتعرّض للتحديد في شي ء منهما فهي مخالفة لدعواه و لذا تشبّث بدعوى انّ الرواية في النسخ المصحّحة من الكافي به «الواو» و في التهذيب: «أو» و انّ الأوّل أصحّ لأضبطية الكافي من التهذيب.

و فيه: إنّ الرواية على ما هو الموجود في كتب الأخبار و الفقه و اللغة كمجمع البحرين انّما هي ب «أو» و لم يشر أحد منهم إلى اختلاف نسخ الكافي أو هي مع غيرها و أضبطية الكافي إنّما تجدي إذا ثبت كونها كذلك في الكافي فالأصحّ في الرواية العطف ب «أو» على ما في الكتب الصحيحة من الأخبار و عليه فالرواية

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثالث ح 1.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثالث ح 3.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثالث ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 168

..........

______________________________

تهدم أساس ما بنى عليه من التفصيل بين ما نش بنفسه أو غلى بغيره.

و أمّا مرسلة محمد بن الهيثم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه. «1» فلا يمكن أن يستظهر منها انّها لبيان حكم خصوص العصير الذي غلى بالنار فقط لأنّه على هذا يكون قوله (عليه السّلام): «إذا تغيّر عن حاله و غلا» تكراراً لقول السائل: «العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي» مع انّ ظاهر الجواب إفادة قاعدة كلّية و بيان حكم عام يشمل مورد السؤال و غيره و هي انّ العصير مطلقاً إذا غلى و تغيّر عن

حاله .. و كيف كان لا وجه لدعوى اختصاصها بما إذا غلى العصير بالنار.

الإعضال الثاني: انّه قد ورد في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) انّه قال: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه. «2» و حيث إنّ الحرمة المغياة بذهاب الثلثين قد رتّبت على العصير الذي أصابته النار فيستفاد منها ان ما لم تصبه النار من العصير كما إذا غلى بسبب آخر لا ترتفع حرمته بذهاب الثلثين و إلّا فما وجه تقييده العصير بما أصابته النار؟! و دعوى انّ القيد توضيحي خلاف ظاهر التقييد لأنّ القيود محمولة على الاحتراز حتّى فيما إذا ورد القيد مورد الغالب كالقيد الثاني في الآية المباركة وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسٰائِكُمُ اللّٰاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ «3» فإنّه أيضاً احترازي مع وروده مورد الغالب، و أمّا القيد الأوّل فيها و هو كونها في حجوركم فقد استفيد من الروايات عدم كونه احترازياً لو أغمض عن بعض الروايات الظاهرة في التفصيل

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 7.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 1.

(3) النساء: 23.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 169

..........

______________________________

بين اللاتي في الحجور و بين غيرهنّ من الربائب.

و لا يمكن أن يكون القيد في الرواية غير احترازي و إنّ وجوده كالعدم لأنّه لو حذف القيد يصير معنى الرواية «انّ كل عصير فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه» مع عدم حرمة العصير غير المغلي فلا محيص هنا أيضاً من التفصيل بين المغلي بالنار و المغلي بغيره.

و فيه: أوّلًا انّه لو سلم صحّة جميع ما أفاده في تفسير الصحيحة و معنى الرواية

نقول إنّ مقتضاه انّ العصير المغلي بالنار حرام و غاية حرمته ذهاب الثلثين و العصير المغلي بنفسه حرام و غاية حرمته زوال العنوان و تبدّله امّا كون الحرمة في الثاني مستندة إلى الإسكار الموجب للنجاسة زائدة على الحرمة فمن أي حكم من الرواية يستفاد؟! و بعبارة اخرى غاية مفاد الصحيحة التفصيل بين المغلي بالنفس و المغلي بالنار من جهة غاية الحرمة و لا دلالة لها عليه من جهة النجاسة أيضاً.

و ثانياً نقول: إنّ الصحيحة هل تكون بصدد بيان أصل الحرمة و غايتها أو الحرمة فقط دون الغاية أو الغاية فحسب؟ فعلى الأوّلين يصير مقتضى الرواية انّ إصابة النار العصير لها دخل في حرمته بحيث لو لم تصبه النار لا يتحقّق التحريم مع انّ الخصم لا يلتزم به لأنّ العصير المغلي بنفسه مضافاً إلى كونه حراماً نجس أيضاً عنده فالرواية على هذين التقديرين لا تنطبق على مدّعاه، نعم لو كانت الرواية بصدد بيان غاية الحرمة فقط مع كون أصل الحرمة معلوماً للمخاطب و غير مراد إفهامه منها لصحّ ما ذكره و لكنّه خلاف الظاهر فإنّ الإنصاف يمنع عن تخصيص الرواية بكونها في مقام بيان الغاية فقط فلا محيص من أن يقال إنّها بصدد بيان أصل الحرمة و غايتها معاً و قيد: «أصابته النار» انّما ورد لإفادة أنّ طبيعة العصير على إطلاقها لا تكون مقتضية للحكم و ترتّب الحرمة عليها بل لا بدّ في ترتّب حكم الحرمة عليها من ثبوت قيد زائد على أصل الطبيعة و هو إمّا إصابة النار إيّاه و غليانه بسببه كما هو مقتضى الصحيحة أو غليانه بنفسه كما هو مفاد الروايات الكثيرة الأُخر،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص:

170

..........

______________________________

فانقدح انّ الرواية لا تنطبق على التفصيل المذكور أصلًا.

الإعضال الثالث: انّه قد وقع في موثّقة عمّار ما لم يهتد إلى سرّه أغلب الواقفين عليها، قال عمّار: وصف لي أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالًا فقال (عليه السّلام) لي: تأخذ ربعاً من زبيب و تنقيه، ثمّ تصبّ عليه اثنى عشر رطلًا من ماء ثمّ تنقعه ليلة فإذا كان أيّام الصيف و خشيت أن ينش جعلته في تنوّر سخن قليلًا حتّى لا ينش ثم تنزع الماء منه كلّه إلى أن قال: ثمّ تغليه بالنار فلا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان و يبقى الثلث. «1» قال (قدّس سرّه): «إنّ هذه الفقرة ممّا تحيّر الناظر من وجهين:

أحدهما: انّه إذا نشّ خارج التنوّر فهو بان ينش فيه أولىٰ فكيف داواه بما يضاعفه؟

ثانيهما: أنّه أمره بعد ذلك بالتثليث، فالنشيش ليس فيه محذور يخاف منه، و لو فرض خوف فيندفع بعد الغليان و التثليث».

ثمّ حلّ المعضلة بأنّه إذا نش بنفسه حدث فيه الإسكار و بطل المقصود إذ لا بدّ من إراقته أو تخليله، فالمراد من قوله (عليه السّلام): «حتّى لا ينش» أي لا ينش بنفسه حتّى حدث فيه الإسكار بخلاف ما نش بالنار فإنّه يحل بذهاب الثلثين.

و فيه أوّلًا: ما عرفته في الجواب عن بعض الاعضالات السابقة من انّ غاية ما يستفاد من هذه الرواية انّ غاية الحرمة في العصير المغلي بنفسه هي تبدّل العنوان و في المغلي بالنار ذهاب الثلثين و أين هو من كون سبب الحرمة في الأوّل هو الإسكار الموجب للتحريم و النجاسة معاً فتدبّر جيّداً.

و ثانياً: انّه ليس في الرواية انّ النشيش بنفسه يوجب الحرمة فمن المحتمل قوياً أن يكون الأمر بجعله

في التنوّر لئلا ينش انّما هو لأجل ترتّب الخواص المرغوبة و الآثار المطلوبة عليه بهذه الكيفية، و دعوى انّها بصدد بيان كيفية طبخ

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الخامس ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 171

..........

______________________________

العصير الحلال المطبوخ فظاهرها انّه لو نش بنفسه لن يصير حلالًا بالتثليث مدفوعة بعدم إمكان التعويل عليها في ذلك لأنّه لا يصحّ أن تكون القيود المذكورة المأخوذة فيها دخيلة في الحلّية كأخذ ربع من الزبيب بلا زيادة و لا نقيصة و صبّ اثنى عشر رطلًا من الماء عليه كذلك و غيرهما من القيود، بل نقول إنّه لو لم يكن دليل آخر لما كان يمكن استفادة حرمة ما نشّ بنفسه من هذه الرواية فضلًا عن النجاسة.

و ثالثاً: إنّ هذه الرواية مروية بطريقين أحدهما موثق و الآخر مرسل و الفقرة التي هي محطّ نظره مذكورة في المرسلة فقط و دعوى كونهما روايتين مدفوعة.

و الصحيح في توجيه الرواية ما أفاده بعض الأعلام من انّ العصير أو غيره من الأشربة أو الأطعمة القابلة لأن يطرأ عليها الضياع و الحموضة إذا أصابته الحرارة بكمّ خاص منع عن فسادها و لما طرأت عليها الحموضة، فلو جعلت طعاماً على النار مثلًا في درجة معيّنة من الحرارة ترى انّه يبقى أيّاماً بحيث لو كان بقي على حاله من غير حرارة لفسد من ساعته كما في الصيف.

و يؤيّده انّه (عليه السّلام) قال: «جعلته في تنوّر سخن قليلًا» و هو لا يوجب غليانه لقلّة مكثه فيه مع انّ مراده (عليه السّلام) لو كان هو غليانه بالنار لعبّر عنه بقوله «فأغله» و لا يحتاج إلى قوله بطوله.

الإعضال الرابع: انّه قد ورد في صحيحة

محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن نبيذ قد سكن غليانه فقال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): كل مسكر حرام. «1» وجه الإشكال انّه قد دلّ الجواب سيّما مع ترك الاستفصال على انّ مطلق الغليان في النبيذ يوجب إسكاره غلى بنفسه أو بالنار، بل يدلّ على انّ اندراجه في موضوع الجواب أي في انّه مسكر أمر مفروغ عنه عند السائل و هو مع كونه خلاف الوجدان و صريح بعض الروايات يشكل بأنّه لو كان

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الخامس و العشرون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 172

..........

______________________________

الغليان موجباً لإسكاره لم يكن معنى لجعل ذهاب الثلثين محلّلًا، ثمّ أجاب عنه بأنّ المراد من الغليان ما كان بنفسه فاندراجه تحت الكبرى لما كان مفروغاً عنه أجاب بما أجاب و لا مجال حينئذٍ للارتياب.

و فيه أوّلًا: انّ هذه الرواية قد وردت في النبيذ و الكلام في المقام انّما هو في العصير.

و ثانياً: أنّ التأمّل في الجواب يعطي انّ مراده (عليه السّلام) منه انّه يلزم عليك النظر في النبيذ و ملاحظة انّه هل يكون مسكراً أم لا، فإن كان مسكراً فهو حرام و إلّا فلا، و يرشدك إلى ذلك ملاحظة هذا المثال و هو انّه لو سألت عن حكم الرمّان فأجاب المسئول بأن كل حامض حرام فهل يستفاد من هذا الجواب انّ كل رمّان حامض و حرام أو انّ الرمان على قسمين حامض و هو حرام و غير حامض و هو ليس بحرام أو انّك ترى بطلان هذا الجواب بعد ثبوت القسمين للرمّان؟ الظاهر هو الثاني كما هو غير خفيّ.

و ثالثاً: انّ موضوع

السؤال في الرواية هو النبيذ الذي قد سكن غليانه لا أنّه حدث فيه الغليان و لم يسكن بعد فلو فرض ثبوت وصف الإسكار للأوّل فهو لا دلالة له على مسكرية الثاني إذ من المحتمل قويّاً أن يكون السبب في سكون غليانه هي صيرورته مسكراً.

فانقدح من جميع ما ذكرنا بطلان التفصيل المذكور و انّ العصير العنبي طاهر مطلقاً بمقتضى قاعدة الطهارة بعد عدم الدليل على النجاسة و اللّٰه هو العالم بالحقيقة.

بقي الكلام في هذا المقام في حكم العصير العنبي من جهة الحرمة و قد عرفت انّه نفى الإشكال في المتن عنها إذا غلى بالنار و لم يذهب ثلثاه و هو كذلك فإنّ حرمة العصير في الجملة مقطوع بها و قد استفاضت الروايات الدالّة عليها و انّما الإشكال و الخلاف قد وقع من جهات:

الجهة الاولى: في انّ حرمة العصير هل تتحقّق بمجرّد النشيش و إن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 173

..........

______________________________

لم يصل إلى حدّ الغليان كما قوّاه السيّد (قدّس سرّه) في «العروة» أو لا تتحقّق قبل الوصول إلى حدّ الغليان و تتوقّف عليه و لا بدّ أوّلًا من بيان معنى النشيش و الغليان فنقول: امّا النشيش فقد زعم بعض انّه عبارة عن الصوت الحاصل في الشي ء قبل الشروع في الغليان و لكن اللغة لا تساعد ذلك ففي «أقرب الموارد»: نش النبيذ: غلا، و عن «القاموس» انّه الصوت الحادث مقارناً للغليان و أمّا الغليان فهو كما عرفت سابقاً عن «المجمع» و «المنجد» هو القلب و اشتداد الفوران.

فالبحث في هذه الجهة يتوقّف على كون النشيش حاصلًا قبل الغليان و انّه هل يحرم العصير بمجرّده أو يتوقّف على الوصول إلى حدّ الغليان و

لا بدّ في استكشافه من ملاحظة الروايات الواردة في الباب فنقول:

منها: صحيحة حمّاد بن عثمان المتقدّمة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا يحرم العصير حتّى يغلي. «1» و منها: صحيحته الأُخرى المتقدّمة أيضاً عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن شرب العصير قال: تشرب ما لم يغل فإذا غلا فلا تشربه، قلت: أيّ شي ء الغليان؟ قال: القلب «2» و هاتان الروايتان ظاهرتان في توقّف التحريم على الغليان و عدم حصوله قبله.

و منها: ما عن ابن أبي عمير عن محمد بن عاصم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا بأس بشرب العصير ستّة أيّام. قال ابن أبي عمير: معناه ما لم يغل. «3» و منها: مرسلة محمد بن الهيثم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغيّر عن

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثالث ح 1.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثالث ح 3.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثالث ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 174

..........

______________________________

حاله و غلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه. «1» و منها: صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه. «2» و الظاهر و لو بقرينة الروايات الأُخر انّ المراد من إصابة النار إيّاه هو غليانه بالنار.

و منها: موثقة ذريح قال: سمعت أبا عبد اللّٰه يقول: إذا نشّ العصير أو غلا حرم. «3» و ظاهر عطف الغليان على النشيش ب «أو» انّهما متغايران لا

بنحو يكون النشيش مقدّمة له و حاصلًا قبله فإنّه على هذا التقدير يكون اعتبار الغليان لغواً فإنّ الحرمة في جميع الموارد تحدث بالنشيش الحاصل قبله و لا معنى لتحصيل الحاصل. نعم لو كان العطف بالواو كما اعتقده شيخ الشريعة فيما تقدّم من كلامه فيمكن أن يكون المراد منهما واحداً كما قال به أقرب الموارد و يمكن أن يكونا أمرين متقارنين كما عن القاموس.

و كيف كان فالظاهر انّ مستند السيّد (قدّس سرّه) فيما قوّاه من حصول الحرمة بمجرّد النشيش للعصير هي هذه الموثقة و قد عرفت انّه على تقدير الرواية المعروفة لا مجال لفرض كون النشيش حاصلًا قبل الغليان و إلّا تلزم اللغوية فلا محالة يكونان أمرين متغايرين و لعل التغاير انّما هو من جهة كون النشيش هو الغليان الحاصل للعصير بنفسه أي لأجل الهواء و نحوها و الغليان هو ما يتحقّق بالنار و يحصل بإصابتها و يؤيّده مضافاً إلى انصراف لفظ الغليان إلى ما يحصل بالنار تفسيره بالقلب في صحيحة حمّاد المتقدّمة فإنّ المراد بالقلب هو تصاعد الأجزاء المتنازلة و انتقالها و تنازل الأجزاء المتصاعدة و تحوّلها و هذا أمر لا يتحقّق بغير النار و لو أبيت عن ذلك

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 7.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 1.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثالث ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 175

..........

______________________________

فاللازم بمقتضى الجمع بينها و بين الروايات الظاهرة بل الصريحة في عدم حصول الحرمة قبل الغليان هو حمل النشيش على ما ذكرنا و إن كان إطلاق النشيش في مورد الغليان أو العكس كما في رواية ابن أبي عمير المتقدّمة صحيحاً

أيضاً و عليه فلا يبقى مجال لدعوى ثبوت الحرمة بمجرّد النشيش الحاصل قبل الغليان و إن كان الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

الجهة الثانية: في انّ ذهاب الثلثين هل يكون غاية للحرمة الحاصلة للعصير مطلقاً أو لخصوص العصير المغلي بالنار، و أمّا المغلي بنفسه فغايتها تبدّل العنوان و زوال الموضوع؟ صرّح السيّد (قدّس سرّه) في «العروة» بأنّ ذهاب الثلثين يصيّره حلالًا سواء غلى بالنار أو بنفسه و لكن جماعة من الأصحاب زعموا انّ ذهاب الثلثين غاية الحرمة في خصوص المغلي بالنار، و أمّا المغلي بنفسه فغاية حرمته تبدّل العنوان و هو ظاهر عبارتي الشيخ و ابن حمزة في النهاية و الوسيلة المتقدّمتين، و ربّما يستدلّ لهما بمفهوم صحيحة عبد اللّٰه بن سنان المتقدّمة الدالّة على انّ كل عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه حيث إنّ مفادها انّ كل عصير لم تصبه النار فهو ليس بحرام بالحرمة الكذائية المغياة بذهاب الثلثين فغاية حرمة العصير الذي لم تصبه النار ليست ذهاب الثلثين و ليس هناك شي ء آخر فلا بدّ من الالتزام ببقاء حرمته إلى أن يتبدّل العنوان و يصير خلّاً مثلًا.

و يرد عليه ما عرفت من انّ مفهوم القضية الوصفية انّ الموصوف وحده مع تجرّده عن الوصف لا يكون موضوعاً للحكم و لا ينافي ذلك قيام وصف آخر مقامه في ثبوت سنخ ذلك الحكم فقوله: «أكرم الإنسان العادل» يستفاد منه انّ طبيعي الإنسان لا يكون موضوعاً لوجوب الإكرام و لا ينافي ذلك قيام العلم مقام العدالة و ثبوت وجوب الإكرام للإنسان العالم بدليل آخر و لا يكون بين الدليلين منافاة أصلًا و إن أبيت إلّا عن كون الوصف علّة منحصرة وحيدة فنحن نمنع

المفهوم حينئذٍ جدّاً ففي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 176

..........

______________________________

المقام نقول إنّ المستفاد من الصحيحة عدم كون العصير بنفسه موضوعاً تامّاً للحكم بالحرمة بل لا بدّ من ثبوت وصف زائد على كونه عصيراً فلا ينافي قيام وصف آخر مثل حرارة الشمس و الهواء مقام إصابة النار و عليه فالرواية لا تنفي غايتية الذهاب بالإضافة إلى العصير الذي لم تصبه النار فتدبّر.

و ممّا ذكرنا ظهر الجواب عن الاستدلال لهما برواية أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و سُئل عن الطلاء فقال: إن طبخ حتّى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال و ما كان دون ذلك فليس فيه خير «1». بتقريب انّ مفهومها انّه إن لم يطبخ حتّى يصير كذا فليس بحلال و يشمل المفهوم ما لو لم يطبخ أصلًا. فإنّه يرد عليه مضافاً إلى ضعف المفهوم بهذا النحو فيها جدّاً بعد كون الموضوع هو الطلاء الذي هو العصير المطبوخ انّ مفهومها انّ ما طبخ لا حتّى يذهب منه اثنان فليس بحلال كيف و إلّا يلزم دلالتها على حرمة العصير قبل الطبخ أيضاً.

و قد يستدلّ على كون الغاية مطلقاً ذهاب الثلثين بروايات:

منها: رواية أبي الربيع الشامي المتقدّمة الواردة في منازعة آدم و إبليس، المشتملة على انّ الثلث الباقي بعد دخول النار و ذهاب الثلثين انّما هو لآدم. «2» بتقريب انّ المستفاد منها انّ التثليث مطلقاً موجب لزوال الحرمة.

و منها: موثقة زرارة المتقدّمة أيضاً المشتملة على معارضة إبليس و نوح في النخلة، الدالّة على قول أبي جعفر (عليه السّلام): «فإذا أخذت عصيراً فطبخته حتّى يذهب الثلثان نصيب الشيطان فكل و اشرب «3». بتقريب انّ المستفاد منها

أيضاً انّ حظّ إبليس هو الثلثان فإذا ذهب فليس فيه نصيب له فهو حلال.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 6.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 2.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 177

..........

______________________________

و منها: سائر الروايات الواردة بهذا المضمون.

و الحقّ انّه لا دلالة لشي ء منها على ذلك لعدم كون الروايات بصدد بيان غاية الحرمة بوجه و لا إطلاق فيها من هذه الجهة فهل ترى من نفسك أن تقول بأنّه يستفاد منها حرمة نفس العنب أيضاً لوجود نصيب الشيطان فيه أو حرمة طبيعة العصير و إن لم يغل بل و لم ينش على تقدير كون النشيش حاصلًا قبل الغليان لوجوب نصيب الشيطان فيه أيضاً.

نعم مرسلة ابن الهيثم المتقدّمة المشتملة على قوله (عليه السّلام): «إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «1». تدلّ على العموم بناءً على ما ذكرنا من عموم الجواب و عدم اختصاصه بالعصير المطبوخ بالنار، المذكور في السؤال و لكنّها مرسلة لا مساغ للاتكال عليها و الفتوى على طبقها.

و بالجملة: لا دليل على حلّية العصير المغلي بنفسه بذهاب الثلثين و المرجع بعد عدم الدليل استصحاب الحرمة الحاصلة قبل التثليث و لا مجال لإجراء قاعدة الحلّية.

الجهة الثالثة: في انّ التثليث الذي يوجب حلية العصير المغلي بالنار هل يلزم أن يتحقّق بالنار أو يتحقّق بمثل الشمس و الهواء أيضاً؟ قد صرّح السيّد (قدّس سرّه) في «العروة» بالثاني حيث قال: و إذا ذهب ثلثاه صار حلالًا سواء كان بالنار أو بالشمس أو بالهواء. و الظاهر انّ مستنده في ذلك هي الإطلاقات مع

انّه لا إطلاق في المقام يمكن التمسّك به و الأخبار المشتملة على حلّية العصير بذهاب الثلثين انّما وردت في خصوص ذهابهما بالنار نحو قوله (عليه السّلام): إن طبخ العصير حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه و نظير ذلك.

نعم رواية: «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه» يمكن

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 178

..........

______________________________

الاستدلال بها على مذهب السيّد لو كان بصدد بيان أصل الحرمة و غايتها معاً و لكنّه خلاف الظاهر فانّ الظاهر كونها في مقام بيان الحرمة فقط و أمّا ذكر الغاية فيصير مجملًا لا يمكن أن يتمسّك بها لغير موردها.

كما انّ مرسلة محمد بن الهيثم يمكن التمسّك بإطلاقها له بناءً على ما ذكرنا في معناها من عموم الجواب و لكنّها مرسلة لا يجوز الاستناد بها.

فلم يبق ممّا يمكن التمسّك به له إلّا ما ورد في بعض الأخبار من انّ العصير إذا طبخ حتّى يذهب منه ثلاثة دوانيق و نصف ثمّ يترك حتّى يبرد فقد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه «1». نظراً إلى انّها تدلّ على انّ ذهاب ثلثي العصير الذي هو عبارة عن أربعة دوانيق لا يعتبر أن يكون حال غليانه بالنار بل لو ذهب منه مقدار كثلاثة دوانيق و نصف بسبب النار و ذهب نصف الدانق بعد رفعه عنها كفى و من الواضح عدم الفرق بين مقدار من الثلثين و بين مجموعهما.

و لكن الحقّ انّها أيضاً لا تدلّ على كفاية الذهاب بمثل الشمس و الهواء لأنّ ذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار أيضاً يكون مستنداً إلى النار لأنّها صارت موجبة لغليانه و محدثة فيه الحرارة

المستلزمة للذهاب و النقصان ففي الحقيقة مفاد الرواية انّ ذهاب الثلثين الذي لا بدّ منه في الحلّية لا يلزم أن يتحقّق حال كونه على النار و مجاوراً لها بل يكفي في الحلّية ذهاب البعض كثلاثة دوانيق و نصف كذلك و ذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار و أين هذا من كفاية قيام الشمس أو الهواء مقام النار في إذهاب الثلثين فتأمّل فما صرّح به السيّد من عدم الفرق ممّا لا يساعده الدليل.

ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في انّ حرمة العصير المغلي لا تختصّ بما إذا استخرج ماء العنب بالعصر بل تعمّ ما إذا خرج مائه من غير عصر ثمّ غلا بالنار أو بنفسه لعدم الفرق بينهما

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الخامس ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 179

..........

______________________________

بنظر العرف أصلًا و إن كان عنوان «العصير» بمعناه الحقيقي اللغوي يختصّ بالأوّل إلّا انّ الحكم عام لعدم مدخلية للعصر في ذلك بل الموضوع هو ماء العنب المغلي كما لا يخفى.

إنّما الإشكال فيما إذا غلى ماء العنب في جوفه بحرارة الشمس قبل أن يخرج منه، و الظاهر انّ هذه المسألة مجرّد فرض و لا يبتني على أمر واقع لأنّ الماء في جوف العنب لا يكون منفصلًا عن سائر الأجزاء بل هو مشتمل على لحم فيه رطوبة كسائر الفواكه و عليه فلا ماء في جوف العنب حتّى يعرض له الغليان لأنّ الغليان كما مرّ هو القلب و التصاعد و التنازل و لا يتصوّر هذا في مثل العنب قبل خروج الماء منه، و على تقدير إمكان ذلك نقول الظاهر حرمته لشمول الدليل له و عدم الفرق بينه و بين غيره

بحسب نظر العرف أصلًا. هذا تمام الكلام في أحكام العصير العنبي.

المقام الرابع: في حكم العصير الزبيبي و التمري و يطلق على عصيرهما النبيذ اصطلاحاً خصوصاً في عصير التمر كما عن صاحب الحدائق (قدّس سرّه) كما انّه يطلق على عصير الزبيب النقيع و المراد من عصير التمر أو الزبيب ماء نبذ فيه أحدهما و صار ذا حلاوة لأجل المجاورة و الملاصقة و الكلام تارة في حكمه من حيث النجاسة و الطهارة و أُخرى فيه من جهة الحلّية و الحرمة.

امّا من جهة النجاسة فالظاهر الاتفاق على عدمها و لكن عن المحقّق الأردبيلي (قدّس سرّه) انّه يظهر من الذكرى اختيار نجاسة عصير التمر و الزبيب، و عن مفتاح الكرامة إنكار النسبة.

و كيف كان فقد يستدل على نجاسة العصير الزبيبي بعد البناء على نجاسة العصير العنبي تارة بالاستصحاب التعليقي و أُخرى بالاستصحاب التنجيزي أي استصحاب سببية غليانه للنجاسة فإنّه سابقاً كان غليانه سبباً للنجاسة حسب الفرض و الآن تستصحب تلك السببية و يحكم ببقائها.

و لا بدّ أوّلًا من ملاحظة انّ الأدلّة الواردة في العصير الدالّة على نجاسته على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 180

..........

______________________________

ما هو المفروض هل يكون مفادها ثبوت حكم تعليقي مرجعه إلى انّ العصير إذا غلى ينجس بحيث يكون موضوع الحكم ذات العصير و نفسه، و الغليان واسطة في الثبوت كالنار التي تكون واسطة لثبوت الحرارة لنفس الماء، أو يكون مفادها ثبوت حكم تنجيزي قد رتّب على العصير المغلي بحيث يكون الموضوع العصير الموصوف بهذا الوصف؟ و بين الصورتين فرق فاحش في باب الاستصحاب ضرورة انّه لو كان الموضوع في قوله: «الماء المتغيّر بالنجاسة نجس» هو الماء الموصوف بوصف التغيّر

و كان الوصف من مقدّمات الموضوع كما هو ظاهر الكلام فلا مجال لاستصحاب النجاسة فيما إذا زال التغيّر من قبل نفسه لتغاير الموضوع و اعتبار وحدته في جريان الاستصحاب، و أمّا لو كان الموضوع هو نفس الماء و التغيّر واسطة في الثبوت كما هو مفاد قوله: «الماء إذا تغيّر بالنجاسة ينجس» فلا مانع من إجراء الاستصحاب في الفرض بعد بقاء الموضوع الذي هو ذات الماء على ما هو المفروض.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ ظواهر الأدلّة التي استدلّ بها على نجاسة العصير مختلفة فإنّ ظاهر بعضها جعل الحكم التنجيزي للعصير المطبوخ أو المغلي، و ظاهر بعضها الآخر كمرسلة محمد بن الهيثم: «إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه» جعل الحكم التعليقي لنفس العصير بل و كذا خبر أبي بصير المشتمل على قوله (عليه السّلام): «إن طبخ حتّى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال» فإن قلنا: بأنّ نجاسة العصير حكم تعليقي قد ثبت للعصير قبل غليانه و يتوقّف فعلية الحكم و تنجّزه على وجود المعلّق عليه و هو الغليان فلا مانع من استصحاب الحكم التعليقي الذي ثبت في العصير العنبي و إبقائه في العصير الزبيبي. و أمّا لو كان الحكم ثابتاً بنحو التنجّز فلا مجال للاستصحاب أصلًا كما عرفت.

نعم على فرض ثبوت الحكم التعليقي ربّما يستشكل في استصحابه من وجوه أُخر:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 181

..........

______________________________

الأوّل: انّ موضوع القضية المتيقّنة غير باق في المشكوكة و لا اتحاد بين القضيتين في الموضوع أصلًا و لذا لا يمكن التمسّك بدليل حكم عصير العنب على حكم عصير الزبيب و لا وجه له إلّا تغاير الموضوع بنظر العرف.

و أُجيب عنه

بأنّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة لا وحدة موضوع المستصحب مع موضوع الدليل الاجتهادي، كيف و لو كان الموضوع في الدليل الاجتهادي متّحداً مع موضوع المستصحب لم تكن حاجة إلى الاستصحاب بل كان الحكم ثابتاً بنفس الدليل الاجتهادي، فإنّه مع عدم زوال التغيّر الثابت للماء في المثال و بقاء الموضوع الذي هو الماء الموصوف بوصف التغيّر يكون الدليل المبين لحكمه هو نفس الدليل الاجتهادي الدال على انّ الماء إذا تغيّر يصير نجساً و لا حاجة إلى الاستصحاب بوجه.

و الظاهر انّ هذا الجواب تامّ بالنسبة إلى مثال الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من قبل نفسه لأنّه إذا حدث وصف التغيّر يعرض له النجاسة بمقتضى الدليل الاجتهادي فإذا زال تغيّره من قبل نفسه و شكّ في بقاء نجاسته لا مانع من أن يقال: إنّ هذا الماء المشار إليه الموجود في الخارج كان نجساً و الآن كما كان بمقتضى دليل الاستصحاب لا الدليل الاجتهادي لأنّه قاصر عن إفادة حكمه بعد زوال التغيّر و لا دلالة له عليه نفياً و لا إثباتاً.

و لكنّه بالإضافة إلى المقام غير صحيح لأنّ الموضوع في لسان الدليل الاجتهادي هو عصير العنب و هو الذي كانت نجاسته التعليقية معلومة على ما هو المفروض و الموضوع الذي نشكّ في حكمه هو العصير الزبيبي و أين هذا من ذاك. نعم لو كان الحكم في السابق مترتّباً على العنب نفسه و شككنا في بقائه بعد صيرورته زبيباً لم يكن هناك مانع من أن يقال: إنّ هذا الشي ء الموجود في الخارج كان في السابق محكوماً بحكم كذا و الآن نشكّ في بقاء حكمه لأجل تبدّل بعض

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و

أحكامها، ص: 182

..........

______________________________

حالاته و صيرورته يابساً بعد كونه رطباً فتستصحب لأن تبدّل الحال لا يقدح في بقاء الموضوع بل لو لم يكن التبدّل لم يحتجّ إلى الاستصحاب.

و بالجملة: القضية المتيقّنة عبارة عن «العصير العنبي إذا غلى ينجس» و القضية المشكوكة عبارة عن «العصير الزبيبي إذا غلى ينجس» و لا مجال لتوهّم الاتّحاد أصلًا خصوصاً بعد ملاحظة أنّ عصير العنب هو ماء نفس العنب و يستخرج منه بالعصر و نحوه و أمّا عصير الزبيب فهو ماء خارجي اكتسب الحلاوة من الزبيب الذي نبذ فيه فالعصيران متغايران بتمام المعنى فلا وجه للرجوع إلى الاستصحاب كما هو ظاهر.

الثاني: انّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من ثبوت حكم وضعياً كان أو تكليفياً أو موضوع ذي حكم قد شكّ في بقائه، و في الاستصحاب التعليقي لم يثبت حكم في السابق مشكوك البقاء لأنّ الحكم الكلّي الإلهي الثابت لموضوعه الدال عليه قوله: «العصير العنبي إذا غلا ينجس» لا شكّ في بقائه فلا مجال لاستصحابه و الحكم الجزئي أي نجاسة هذا الفرد من العصير المسبّب بعصير الزبيب لم يكن ثابتاً في زمان حتّى يثبت بقائه بالاستصحاب.

و الجواب: إنّ كيفية ثبوت الأحكام مختلفة فإنّها تارة تثبت لموضوعاتها بنحو الفعلية و التنجّز و أُخرى بنحو الاشتراط و التعليق، و الحكم التعليقي أيضاً أمر مجعول ثابت محقّق في دعائه و لا مجال لدعوى عدم ثبوته فهل يمكن الالتزام بأن جعل وجوب الإكرام لزيد على تقدير مجيئه قبل أن يتحقّق منه المجي ء يكون كعدم جعله لعدم تحقّق شرطه؟! فالإشكال من هذا الوجه واضح الدفع.

الثالث: انّ الاستصحاب التعليقي معارض دائماً بالاستصحاب التنجيزي فانّ العصير الزبيبي كما انّه محكوم بالنجاسة لأجل استصحابها بنحو التعليق كذلك محكوم بالطهارة

لاستصحاب الطهارة الثابتة له قبل عروض الغليان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 183

..........

______________________________

بلا ارتياب فمقتضى استصحابها بقاء الطهارة فهو يعارض الاستصحاب التعليقي و المرجع بعد التعارض و التساقط قاعدة الطهارة.

و الجواب: إنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي المعارض له دائماً فإنّ الأصل في التعليقي سببي و في التنجيزي مسبّبي و لتوضيح السببية و المسبّبية لا بأس بذكر مثال فنقول: إذا شكّ في بقاء نجاسة الثوب الذي غسل بالماء الذي يكون مشكوك الكرية مع كونه كرّاً في السابق قلنا استصحابان: استصحاب كرية الماء و استصحاب نجاسة الثوب و لكن الأوّل مقدّم على الثاني و حاكم عليه و لا مجال للثاني معه لأنّ استصحاب الكرية ينقح موضوع الدليل الاجتهادي الذي يدل على انّ الكر مطهّر للثوب المغسول به فانّ بقاء كرية الماء يوجب اندراجه في موضوع الدليل الاجتهادي الذي حكم عليه بالمطهرية و رفع النجاسة و هذا بخلاف استصحاب نجاسة الثوب فإنّه لا ينقح بسببه الدليل الاجتهادي و لا يوجب اندراج شي ء من الأدلّة على موضوعه فانّ بقاء نجاسة الثوب على ما هو مقتضى الاستصحاب لا يوجب انطباق الدليل الاجتهادي في المورد و حينئذٍ نقول: مقتضى الاستصحاب بقاء نجاسة الثوب و مقتضى الدليل الاجتهادي الذي نقح موضوعه باستصحاب الكرية طهارته و من المعلوم انّ الدليل الاجتهادي مقدّم على الأصل العملي لأنّ الأدلّة الاجتهادية ناظرة إلى ذوات الموضوعات بعناوينها الأوّلية و حاكمة عليها كذلك، و أمّا الأُصول فهي ناظرة إليها بعناوينها الثانوية الراجعة إلى كونها مشكوكة الحكم فمفاد ذلك الدليل الاجتهادي المتولّد بالاستصحاب انّ هذا الثوب طاهر و مفاد الاستصحاب بقاء نجاسته إذا كان مشكوك النجاسة و من الواضح انّه

لا شكّ في نجاسته مع شمول الدليل الاجتهادي فلا مجال لاستصحاب النجاسة.

و بالجملة: التعارض في المثال ليس بين استصحاب الكرية و استصحاب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 184

..........

______________________________

النجاسة لتعدّد الموضوع فيهما فإنّ نجاسة الثوب و كرية الماء لا تتّحدان في جهة بل التعارض بين مفاد الدليل الاجتهادي المتولّد من استصحاب الكرية و مفاد استصحاب نجاسة الثوب و الأوّل مقدّم بلسانه على الثاني و هذا في نظائر المثال واضح.

و أمّا في المقدم الذي يكون التعارض بين استصحاب طهارة عصير الزبيب و استصحاب نجاسته التعليقية موجوداً بلا وساطة الدليل الاجتهادي فالوجه في تقديم الاستصحاب التعليقي انّما هو جريانه قبل تحقّق الغليان فإنّه في زمان لم يتحقّق الغليان بعد، تكون نجاسته التعليقية مشكوكة فالاستصحاب يجري و يحكم ببقائها و أمّا بعد تحقّق الغليان الذي هو زمان الشكّ في بقاء طهارته التنجيزية ضرورة انّه ما لم يتحقّق الغليان لا مجال لهذا الشكّ أصلًا فلا يبقى شكّ في الطهارة و النجاسة بعد جريان الاستصحاب التعليقي قبل الغليان و صيرورة الحكم تنجيزياً بعده بالوجدان فلا يكون مشكوك الحكم بعده تعبّداً فتدبّر.

فانقدح انّ الحقّ عدم ورود بعض الإشكالات الواردة على الاستصحاب التعليقي و إن كان الحقّ عدم جريانه في المقام لعدم نجاسة عصير العنب أولًا و عدم بقاء الموضوع ثانياً كما عرفت هذا كلّه في حكم العصير الزبيبي من جهة الطهارة و النجاسة.

و أمّا من جهة الحلّية و الحرمة فنقول: المشهور كما عن الحدائق و طهارة الشيخ الحلية و لكن ذهب بعض إلى الحرمة و نسب ذلك إلى جملة من متأخّري المتأخّرين. و ما يمكن الاستدلال به على الحرمة أمران:

الأوّل: الاستصحاب و قد عرفت عدم

جريانه و العمدة فيه عدم اتحاد الموضوع في القضيتين: المتيقّنة و المشكوكة.

الثاني: الروايات التي تكون عمدتها رواية زيد النرسي في أصله قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الزبيب يدق و يلقى في القدر ثمّ يصب عليه الماء و يوقد تحته؟ فقال: لا تأكله حتّى يذهب الثلثان و يبقى الثلث فانّ النار

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 185

..........

______________________________

قد أصابته، قلت: فالزبيب كما هو في القدر و يصبّ عليه الماء ثمّ يطبخ و يصفى عنه الماء؟ فقال: كذلك هو سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حلواً بمنزلة العصير ثمّ نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم، و كذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد. «1» و قد روى هذه الرواية العلّامة المجلسي (قدّس سرّه) عن نسخة عتيقة وجدها بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي. و الكلام فيها تارة من حيث السند، و أُخرى من جهة المتن و ثالثة من حيث المفاد و الدلالة فهنا جهات ثلاث:

الجهة الأُولى: فيما يتعلّق بالسند من جهة وثاقة زيد النرسي و انّه هل يكون له أصل أم لا و أنت النسخة التي وصلت إلى أيدي الناقلين عنها كالمجلسي (قدّس سرّه) هل تكون نسخة كتاب زيد واصلة أم لا؟

امّا وثاقة زيد النرسي فالظاهر انّه لم يرد في شي ء من الكتب الرجالية و التراجم بالإضافة إليه مدح و لا قدح و من أجله ربّما يتوهّم عدم وثاقته لأنّ الموثق عبارة عمّن كان له توثيق في شي ء من تلك الكتب، مضافاً إلى انّ الصدوق و شيخه ابن الوليد لم ينقلا عنه أصلًا بل ضعفا كتابه و قالا: انّه موضوع وضعه محمد بن موسى الهمداني.

نعم

قد حاول العلّامة الطباطبائي (قدّس سرّه) تصحيح سندها استناداً إلى انّ الشيخ قال في حقّه: «له أصل» و قال النجاشي: «له كتاب» قال: إنّ تسمية كتابه «أصلًا» ممّا يشهد بحسن حاله و اعتبار كتابه فإنّ الأصل في اصطلاح المحدّثين من أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر، و ليس بمعنى مطلق الكتاب و لهذا نقل عن المفيد (قدّس سرّه) انّه قال: صنّفت الإمامية من عهد أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى عهد أبي محمد الحسن العسكري (عليه السّلام) أربعمائة كتاب تسمّى «الأُصول» و معلوم انّ مصنّفات الإمامية فيما ذكر من المدّة تزيد على ذلك بكثير كما يشهد به تتبّع كتب الرجال، فالأصل أخصّ من الكتاب و لا يكفي

______________________________

(1) مستدرك الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 186

..........

______________________________

فيه مجرّد عدم انتزاعه من كتاب آخر بل لا بدّ أن يكون معتمداً.

و قال أيضاً: إنّ «الأصل» يؤخذ في كلمات الأصحاب مدحاً لصاحبه و وجهاً للاعتماد على ما تضمّنه، و ربما يضعفون بعض الروايات لعدم وجدان متنها في شي ء من الأُصول إلى أن قال (قدّس سرّه): إنّ سكوت ابن الغضائري عن الطعن فيه مع طعنه في جملة من المشايخ يدل على وثاقته حتّى قيل: «السالم من رجال الحديث من سلم من طعنه» و مع ذلك لم يطعن فيه بل قال: إنّ زيد النرسي و زيد الزراد قد رويا عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام). و قال أبو جعفر ابن بابويه: إنّ كتابهما موضوع وضعه محمد بن موسى السمّان، و غلط أبو جعفر في هذا القول فإنّي رأيت كتبهما مسموعة من محمد بن أبي عمير

انتهى.

أضف إلى ذلك ان ابن أبي عمير قد روى عنه و عن كتابه و هو لا يروي إلّا عمّن يثق به و من أجله قد اشتهر بين الأصحاب انّ مراسيله كمسانيد غيره فضلًا عن مسانيده و هو من أصحاب الإجماع و في غاية الوثاقة و العدالة و الورع و الضبط على ما يستفاد من تتبّع كتب الرجال.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا وثاقة زيد النرسي و ثبوت الأصل له، و العجب من الصدوق (قدّس سرّه) حيث إنّه مع تضعيفه كتاب زيد و إنكاره كونه له كما عرفت قد روى في «الفقيه» رواية عن ابن أبي عمير عن زيد النرسي مع التزامه في ديباجته بأن لا يورد فيها إلّا ما كان حجّة بينه و بين اللّٰه تعالىٰ.

و أمّا كون النسخة التي بيد المجلسي هي النسخة الصحيحة المطابقة لكتاب زيد النرسي فثباته مشكل جدّاً مع كثرة الفصل الزماني بينهما لكون زيد في سنة مأة و خمسين بعد الهجرة و المجلسي فيما يقرب الألف بعدها، و ذكر انّ تاريخ كتابتها 374، و ممّا يؤيّد عدم اعتبار تلك النسخة انّ صاحب الوسائل (قدّس سرّه) لم ينقل عنها في وسائله مع كونها موجودة عنده على ما نقله الشيخ الخبير المتتبّع الشريعة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 187

..........

______________________________

الأصبهاني (قدّس سرّه) اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ وجود الأخبار المروية في كتب الأصحاب عن زيد النرسي كتفسير علي بن إبراهيم و كامل الزيارة لجعفر بن قولويه أستاذ الشيخ المفيد (قدّس سرّه) و ثواب الأعمال للصدوق و كتاب العروس لجعفر بن أحمد القمي و عدّة الداعي لابن فهد المعروف و الزهد لحسين بن سعيد و الكافي للكليني و

الفقيه كما عرفت بأجمعها في تلك النسخة يوجب الاطمئنان بصحّتها. و دعوى احتمال كون النسخة موضوعة و انّما أدرج فيها هذه الأخبار المنقولة في غيرها تثبيتاً للمدّعى و إيهاماً على انّها كتاب زيد واصلة، بعيدة جدّاً بعد عدم وجود الداعي إلى ذلك، و العجب انّ من جملة الأفراد التي وقعت في سند رواية كامل الزيارة المنتهية إلى زيد النرسي عن أبي الحسن موسى (عليه السّلام) هو علي بن بابويه والد الصدوق و شيخ القميين الذي خاطبه الإمام العسكري (عليه السّلام) في توقيعه بقوله: يا شيخي و معتمدي، و عليه فيمكن المناقشة في النسبة إلى ولده الصدوق كون أصله موضوعاً فإنّه كيف يمكن الجمع بين رواية الوالد عنه و بين اعتقاد الولد كونه موضوعاً و يؤيّده روايته بنفسه عن أصل زيد في الفقيه و ثواب الأعمال كما عرفت.

و الإنصاف: انّه لا دليل على وثاقة زيد النرسي و لو كان له أصل لأنّ ما قيل من ان ابن أبي عمير قد روى عنه و هو لا يروي إلّا عن الثقة فهو رجم بالغيب لعدم التزامه بذلك و لم ينقل إلينا التزامه أصلًا، و دعوى استفادته من التتبّع في الروايات مدفوعة بأنّه فرع ثبوت وثاقة جميع من روى عنهم و أنّى لكم بإثباته فمجرّد نقل ابن أبي عمير عنه لا يكشف عن وثاقته، و أمّا ما عرفت من العلّامة الطباطبائي من استفادة الوثاقة من طريق ثبوت الأصل له ففيه انّه لم يدلّ دليل على كون «الأصل» في الاصطلاح بهذا المعنى و من المحتمل أن يكون المراد منه ثبوت كتاب له في أُصول العقائد من الإمامة و غيرها كما انّه يحتمل قوياً تبعاً لسيّدنا الأستاذ دام ظلّه أن يكون

الأصل قسماً من الكتاب قسيماً للمصنف نظراً إلى انّ الأصل عبارة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 188

..........

______________________________

عن الكتاب الموضوع لنقل الحديث سواء كان مسموعاً عن الإمام بلا واسطة أو عنها، و سواء كان مأخوذاً من كتاب و أصل آخر أم لا، و لا يبعد أن يكون غالب استعماله فيما لم يؤخذ من كتاب آخر، و أمّا المصنّف فهو عبارة عن كتاب موضوع لغير نقل الحديث كالتاريخ و التفسير و الرجال و نحوها، و الشاهد عليه مقابلة المصنّف بالأُصول في كثير من العبارات و جعل كليهما قسمين من الكتاب في بعضها و قول بعضهم في عدّة من الموارد: له أصل معتمد.

أضف إلى ذلك انّ اقتصار المشايخ الثلاثة من روايات أصل زيد النرسي على حديثين أو ثلاث أحاديث يدلّ على عدم اعتمادهم عليه مع وضوح كونهم مجدّين في نقل الأخبار و جميع الروايات و عليه فلم يثبت وثاقة زيد النرسي و لو كانت المناقشة في النسخة غير تامّة.

الجهة الثانية: في متنها و قد وقع فيه اختلاف، قال في المستدرك: «عن زيد النرسي في أصله قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الزبيب يدق و يلقى في القدر ثمّ يصبّ عليه الماء و يقود تحته؟ فقال: لا تأكله حتّى يذهب الثلثان و يبقى الثلث فإنّ النار قد أصابته، قلت: فالزبيب كما هو في القدر و يصبّ عليه الماء ثمّ يطبخ و يصفّى عنه الماء فقال: كذلك هو سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصارت حلواً بمنزلة العصير ثمّ نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم و كذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد. قلت: هكذا متن الخبر في نسختين

من الأصل و كذا نقله المجلسي (قدّس سرّه) فيما عندنا من نسخ البحار و نقله في المستند عنه، و لكن في كتاب الطهارة للشيخ الأعظم تبعاً للجواهر ساقا كذلك: عن الصادق (عليه السّلام) في الزبيب يدق و يلقى في القدر و يصبّ عليه الماء؟ فقال: حرام حتّى يذهب الثلثان و في الثاني الجواهر إلّا أن يذهب ثلثاه، قلت: الزبيب كما هو يلقى في القدر؟ قال: هو كذلك سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فقد فسد، كلّما غلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 189

..........

______________________________

بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم حتّى يذهب ثلثاه. بل فيه نسبة الخبر إلى زيد الزراد و زيد النرسي، و لا يخفى ما في المتن الذي ساقاه من التحريف و التصحيف و الزيادة و كذا نسبته إلى الزراد».

و العجب من شيخ الشريعة (قدّس سرّه) حيث إنّه لمّا أرى صراحة الرواية بهذا المتن في خلاف مدّعاه السابق أخذ في الإشكال و الطعن على الأكابر فقال: هذا الذي اتّفق من هؤلاء الأكابر أمر ينبغي الاسترجاع عند تذكّر مثله و الاستعاذة باللّٰه العاصم عن الوقوع في شبهه. ثمّ نقل الرواية على طبق نقل المجلسي الموافق لما نقلناه أولًا عن المستدرك ثمّ قال بعد كلام-: و أوّل من عثرت عليه ممّن وقع في تلك الورطة الموحشة و الهوّة المظلمة الشيخ الفاضل المتبحِّر الشيخ سليمان الماحوزي البحراني فتبعه من تبعه، ثمّ ذكر وصية الفاضل الهندي في آخر كشف اللثام المتضمّنة للزوم الرجوع إلى كتب الأخبار في نقلها و عدم صحّة الاعتماد على الكتب الفرعية.

و أنت خبير بأنّه ينبغي أن يسترجع عند تذكّر مثل هذا الكلام من إطالة اللسان و الطعن

على الأكابر الإعلام فإنّ الشيخ سليمان البحراني على ما يظهر من ترجمته كان زميلًا للعلّامة المجلسي و عديلًا له و كان محقّقاً عالماً عاملًا فقيهاً محدثاً، و عن بعض تلامذته انّ هذا الشيخ كان أعجوبة في الحفظ و الدقّة و سرعة الانتقال في الجواب و المناظرة و كان ثقة في النقل إماماً في عصره، وحيداً في دهره، أذعنت له جميع العلماء، و أقرّت بفضله جميع الحكماء و كان جامعاً لجميع العلوم علّامة في الفنون حسن التقرير عجيب التحرير خطيباً شاعراً مفوّهاً، و نقل ما يقرب منه عن صاحب الحدائق.

و بالجملة كان هذا الشيخ الجليل معاصراً للمجلسي و هو قد روى الحديث بالمتن المطابق لرواية الشيخ في الطهارة تبعاً للجواهر على ما أفاده المستدرك،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 190

..........

______________________________

و كيف يمكن نسبة الغلط و التصحيف إليه بمجرّد مخالفة حديثه لنسخة المجلسي بعد انّه يحتمل قوياً وجود نسخة اخرى عنده غير ما عند المجلسي.

و كيف كان فالرواية مختلفة المتن لا مجال للاتكال على خصوص نسخة أصلًا.

الجهة الثالثة: في دلالتها و الإنصاف انّ دلالتها على حرمة عصير الزبيب بعد الغليان لو أغمض عن سندها و اختلاف متنها تامّة، و ما يقال: من انّ التعبير في ذيلها بالفساد دون التحريم على نقل المجلسي لا يبعد أن يستظهر منه صيرورته معرضاً لطرو الفساد و الإسكار عليه فلا دلالة له على الحرمة، مدفوع بانّ المتفاهم عند العرف من التعبير بالفساد في لسان الشارع هو الحرمة و ليس من شأن الإمام (عليه السّلام) بيان ما لا يرتبط بالشرع من فساده تكويناً أو إسكاره كذلك.

و قد يتمسّك للتحريم بروايات أُخر:

منها: صحيحة عبد اللّٰه بن سنان أو

حسنته المتقدّمة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كل ع صير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «1». بدعوى شمولها بمقتضى لفظ العموم لعصير الزبيب أيضاً.

و فيه أوّلًا: انصراف العصير إلى خصوص العنبي، و يؤيّده انّه لا يصحّ أن يكون مطلق العصير موضوعاً للحكم بالحرمة و لو مع قيد إصابة النار إيّاه، و دعوى انّه لا مانع من خروج ما خرج مدفوعة بلزوم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً فلا بدّ من الحمل على خصوص العصير العنبي.

و ثانياً: لو فرض العموم و الشمول لكل عصير من أيّة فاكهة كان لكن نقول العصير الزبيبي ليس بعصير أصلًا فإنّ العصير ماء يخرج من جوف الفاكهة مثلًا بالعصر و الزبيب ليس مشتملًا على ماء أصلًا بل المراد بعصيره كما عرفت هو ماء نبذ فيه الزبيب و اكتسب الحلاوة منه للمجاورة فهو ليس بعصير حقيقة

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 191

..........

______________________________

فلا معنى لشمول الدليل له.

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى أبي الحسن (عليه السّلام) قال: سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتّى يخرج طعمه ثمّ يؤخذ الماء فيطبخ حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه ثمّ يرفع فيشرب منه السنة؟ فقال: لا بأس به. «1» و التعبير عنها بالصحيحة يبتني على وثاقة سهل بن زياد كما هو الأصحّ و هي تشتمل على تقرير الإمام (عليه السّلام) السائل بما كان في ذهنه من حرمة عصير الزبيب قبل ذهاب ثلثيه و نفي البأس عنه بعد ذهابهما.

و فيه: انّ الظاهر انّ السائل لم يكن شكّه إلّا من جهة انّ ماء الزبيب

المطبوخ إذا ذهب ثلثاه و بقي ثلثه هل يجوز شربه في طول السنة أو انّه معرّض للفساد و الإسكار و لا يجوز شربه. و بعبارة أُخرى: السؤال إنّما هو من جهة عروض الإسكار له أو عدمه بعد ذهاب ثلثيه و لا دلالة له على تحقّق التحريم بمجرّد الغليان و توقّف رفعه على التثليث.

و منها: موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث انّه سُئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث؟ فقال: إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً (مأموناً) فلا بأس أن يشرب. «2» و نحوها: رواية علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب يزعم انّه على الثلث فيحلّ شربه؟ قال: لا يصدق إلّا أن يكون مسلماً عارفاً «3». بتقريب انّ الشراب في الروايتين بإطلاقه يشمل كل عصير و يستفاد منهما لزوم التثليث و لا وجه له إلّا رفع الحرمة.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثامن ح 2.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع ح 6.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثالث ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 192

..........

______________________________

و فيه: انّهما بصدد بيان جواز الاعتماد على أخبار من يخبر بذهاب الثلثين في مورد يحتاج إليه و عدم جوازه و لا دلالة لهما على لزوم ذهابهما في كل عصير و لا تكونان بصدد بيانه أصلًا، مع انّ شمول «الشراب» لكل عصير لم يقم عليه دليل.

و منها: موثقة عمّار أو مرسلته قال: وصف لي أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالًا فقال لي: تأخذ ربعاً من زبيب و تنقيه ثمّ تصبّ عليه

الماء إلى أن قال: فلا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان و يبقى الثلث الحديث «1». فإنّها ظاهرة في انّ الزبيب المطبوخ لا يصير حلالًا إلّا بعد التثليث.

و الإنصاف انّ إشعارها بذلك بل دلالتها عليه لا ينبغي المناقشة فيه أصلًا إلّا أنّ الرواية مردّدة بين الموثقة و المرسلة و المتن المذكور الدالّ على الحرمة انّما يكون سندها مرسلًا لا يجوز الاعتماد عليه، و أمّا الموثقة فمتنها هكذا. قال: سُئل عن الزبيب كيف يحلّ طبخه حتّى يشرب حلالًا؟ قال: تأخذ ربعاً من زبيب فتنقيه ثمّ تطرح عليه اثنى عشر رطلًا من ماء إلى أن قال: ثمّ توقد تحته النار حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه و تحته النار الحديث «2». و هذا لا يكون ظاهراً في المدعى لأنّ محطّ نظر السائل على هذا المتن هو انّ الزبيب كيف يطبخ حتّى يبقى عدّة أيّام كسنة أو أزيد من دون أن يعرضه الفساد و الإسكار فهو نظير صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة الواردة في السؤال عن طبخه بنحو يجوز أن يشرب منه السنة.

و منها: الرواية الواردة في منازعة إبليس (لع) مع آدم و نوح (عليهما السّلام) الدالّة على انّ ثلثا العنب له لع و ثلثه لغيره.

و فيه: ما عرفت من منع دلالة مثلها على ذلك و إلّا لكان اللازم أن يتحقّق التثليث في المادة العنبية مطلقاً و هو لا يلتزم به أحد.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الخامس ح 2.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الخامس ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 193

..........

______________________________

فانقدح: من جميع ما ذكرنا انّه لا دليل على حرمة عصير الزبيب و نجاسته فهو طاهر و حلال بمقتضى قاعدتي

الطهارة و الحلّية و أوضح منه في الحكمين عصير التمر الذي يعبّر عنه ب «النبيذ» لعدم توهّم جريان الاستصحاب التعليقي فيه أو دلالة روايات المنازعة عليه بوجه. نعم هنا روايات تدلّ على انّ النبيذ قسمين: مسكر و هو الحرام منه و غير مسكر و هو الحلال منه مثل:

صحيحة: معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّ رجلًا من بني عمّي و هو من صلحاء مواليك يأمرني أن أسألك عن النبيذ و أصفه لك. فقال: أنا أصف لك قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام، قال: فقلت له: فقليل الحرام يحلّه كثير الماء؟ فردّ بكفّه مرّتين: لا، لا. «1» و صحيحة صفوان الجمّال قال: كنت مبتلى بالنبيذ معجباً به فقلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أصف لك النبيذ؟ فقال: بل أنا أصف لك قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): كلّ مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام الحديث. «2» و حديث وفد اليمن و فيه بعد ما سألوا النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) عن النبيذ و أطالوا في وصفه انّه (صلّى اللّٰه عليه و آله) قال: يا هذا قد أكثرت عليّ أ فيسكر؟ قال: نعم، قال: كل مسكر حرام. «3» و في مقابلها رواية ظاهرها حرمته مطلقاً بمجرّد الغليان و هي ما عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) انّه قال: الحلال من النبيذ أن تنبذه و تشربه من يومه و من الغد فإذا تغيّر فلا تشربه و نحن نشربه حلواً قبل أن يغلي. «4» فإنّ الظاهر انّ المراد من التغيّر فيها الغليان و يشهد له قوله

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع عشر ح 1.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع عشر ح 3.

(3) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الرابع و العشرون ح 3.

(4) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثاني ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 194

..........

______________________________

(عليه السّلام) في الذيل: «قبل أن يغلي».

و فيه مضافاً إلى ضعف سندها و إرسالها انّه يمكن أن يكون المراد بالتغيّر الإسكار و يمكن أن يستشهد عليه بقوله (عليه السّلام): «نحن نشربه حلواً قبل أن يغلي» حيث يشعر بأنّ عدم الشرب بعد الغليان ليس حكماً إلزاميّاً على الناس بل أهل البيت (عليهم السّلام) كانوا لا يشربونه للزوم البعد الكثير بينهم و بين المسكر الذي ورد فيه ما ورد فحينئذٍ يكون التغيّر مقابلًا للغليان و يرجع إلى صيرورته مسكراً فلا منافاة بينها و بين الروايات المتقدّمة.

فتحصّل انّه لا دليل على حرمة النبيذ مطلقاً، و أمّا نجاسته فقد يتمسّك لها بروايات:

منها: موثقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن النضوح قال: يطبخ التمر حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه ثمّ يمتشطن. «1» و منها: موثقته الأُخرى عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث انّه سُئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتّى يحلّ؟ قال: خذ ماء التمر فاغسله (فاسخنه ظ) حتّى يذهب ثلثا ماء التمر. «2» و في التمسّك بهما نظر لأنّ الظاهر انّ محطّ نظر السائل في الروايتين انّه كيف يصنع النضوح و هو الطيب الخاص حتّى لا يصير مع بقائه و صيرورته عتيقاً فاسداً و مسكراً فالأمر بإذهاب الثلثين يكون لدفع طروّ الفساد عليه.

و ممّا ذكرنا ظهر انّ الأمر بالاغتسال منه في بعض الروايات

انّما يكون مورده النبيذ المسكر الذي عرفت نجاسته في المقام الثاني و الرواية هي ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال: سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أ يصلح

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و الثلاثون ح 1.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و الثلاثون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 195

..........

______________________________

للمرأة أن تصلّي و هو على رأسها؟ قال: لا حتّى تغتسل منه «1». و الشاهد عليه رواية علي الواسطي قال: دخلت الجويرية و كانت تحت عيسى بن موسى على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و كانت صالحة فقالت: إنّي أتطيّب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر و أجعله في رأسي؟ قال: لا بأس «2». فإنّها تشهد بكون المجعول في المشطة قد يكون هو الخمر، و نفي البأس عن ذلك ظاهر في عدم الحرمة تكليفاً و انّه لا مانع من الامتشاط بالمشطة الكذائية فلا ينافي وجوب الغسل لأجل الصلاة الذي هو مفاد رواية علي بن جعفر فتدبّر.

و قد تحصّل من جميع ما ذكرنا في مسألة العصير إنّ العنبي منه الذي يطلق عليه نوعاً العصير من دون إضافة طاهر مطلقاً و حرام بعد تحقّق الغليان له و غاية الحرمة فيما إذا غلى بالنار هو ذهاب الثلثين و فيما نشّ بنفسه تبدّل العنوان و تغيّر الموضوع و أمّا عصير التمر المصطلح عليه بالنبيذ و كذا عصير الزبيب المعروف بالنقيع فالظاهر طهارتهما و حلّيتهما ما لم يعرض لهما الإسكار. نعم لا تنبغي المناقشة في انّ مقتضى الاحتياط الاجتناب.

و مقتضى إطلاق المتن ثبوت الحرمة فيما إذا غلى بالنار مع عدم ذهاب الثلثين انّ صيرورته

دبساً بعد الغليان قبل التثليث لا يوجب التحليل و إن احتمل ذلك تارة من جهة انّ الحرمة انّما كانت في الروايات مترتّبة على شرب العصير فإذا فرض انّه صار مأكولًا لصيرورته دبساً فقد ارتفع موضوع الحرمة و تبدّل إلى عنوان آخر.

و أُخرى من جهة انّه يستفاد من التتبّع في الروايات انّ الغاية المقصودة من ذهاب الثلثين هي صيرورة العصير مصوناً من عروض الإسكار عليه و تلك الغاية

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و الثلاثون ح 3.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و الثلاثون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 196

..........

______________________________

حاصلة عند صيرورته دبساً فلا وجه لبقاء الحرمة، و ثالثة من جهة ما حكى عن الشهيد الثاني (قدّس سرّه) من انّ العصير إذا صار دبساً فقد انقلب من حال إلى حال و الانقلاب من أحد موجبات الطهارة و الحلّ كما في انقلاب الخمر و العصير خلّاً.

و الظاهر عدم تمامية شي ء من الوجوه الثلاثة:

أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه أوّلًا: عدم كون عنوان «الشرب» مستعملًا في مقابل «الأكل» دائماً بل كثيراً ما يطلق على معنى عام يشمل مثل شرب التتن أيضاً فضلًا عن المأكول، و ثانياً لا نسلّم أن يكون الموضوع في جميع الروايات هو الشرب فإنّ الحرمة قد علقت في بعضها على نفس العصير كما في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان أو حسنته المتقدّمة-: «كل عصير أصابته النار فهو حرام» و الإطلاق يشمل ما إذا صار العصير دبساً كما هو ظاهر.

و أمّا الوجه الثاني فيرد عليه انّه حدس ظنّي لم يقم الدليل على اعتباره و ليس لأخبار الباب ظهور في انّ الغاية من ذهاب الثلثين هي صيرورته

كذلك و هل ترى من نفسك أن تقول بأنّه لو صبّ على العصير بعد غليانه مادّة مزيلة لمادّته الالكلية بحيث يقطع بأنّه لا يصير مسكراً يتحقّق له الحلّية بذلك الحصول الغاية المقصودة؟! و أمّا الوجه الثالث فيرد عليه انّ الانقلاب غايته أن يكون مطهّراً لا محلّلًا و الكلام في الحلّية لا في الطهارة، و دعوى: انّ مراد الشهيد (قدّس سرّه) من الانقلاب لعلّه هو الاستحالة و هي مغيّرة للموضوع رافعة للحكم بالحرمة، غير مسموعة إذ الاستحالة عبارة عن انعدام الشي ء و وجود شي ء آخر، و بعبارة اخرى: الاستحالة هي تبدّل الشي ء عمّا كانت شيئيته به من الصورة النوعية فهي انعدام صورة نوعية و وجود صورة أُخرى كاستحالة الكلب ملحاً و الخشبة المتنجسة رماداً و منه يظهر انّ إطلاق «المطهر» على الاستحالة و عدّها من جملة المطهّرات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 197

[مسألة 11 لا بأس بأكل الزبيب و التمر إذا غليا في الدهن]

مسألة 11 لا بأس بأكل الزبيب و التمر إذا غليا في الدهن أو جعلا في المحشي و الطبيخ أو في الأمراق مطلقاً سيّما إذا شكّ في غليان ما في جوفهما كما هو الغالب (1).

______________________________

مبني على التسامح لأنّها مغيّرة للموضوع و بتبعه يتغيّر الحكم بمقتضى الأدلّة المثبتة للأحكام على العناوين و الموضوعات. و أمّا الانقلاب فهو عبارة عن تبدّل وصف إلى وصف آخر كتبدّل الحنطة خبزاً و الخمر خلّاً من دون أن يكون هناك تبدّل في الصورة النوعية، و صيرورة العصير دبساً إنّما هي من مصاديق الانقلاب دون الاستحالة و لم يقم دليل على كونه محلّلًا بل و لا على كونه مطهّراً كما سيأتي البحث عنه نعم خرجنا عن ذلك في خصوص انقلاب الخمر خلّاً و عكسه

بالنص و لا يمكن التعدّي عن مورده إلى غيره.

و الحاصل: انّه لا دليل على حلّية العصير قبل ذهاب الثلثين و إن صار دبساً و عدم إمكان التثليث في هذه الصورة أو إمكانه بنحو أفاده السيّد (قدّس سرّه) في «العروة» من صبّ مقدار من الماء عليه فإذا ذهب ثلثاه يصير حلالًا لبعد سدّ الشارع طريق الاستفادة منه حينئذٍ فتأمّل لا يوجب تغييراً في أصل الحكم كما لا يخفىٰ.

(1) هذه المسألة مبتنية على ما قدّمناه في العصير الزبيبي و التمري و حيث قلنا بطهارتهما و حلّيتهما فلا مجال للإشكال في جواز أكلهما في الصور المذكورة في المتن.

و أمّا على تقدير القول بالنجاسة في العصيرين فلا بدّ من أن يفصل في المقام بين ما إذا اختلط الزبيب أو التمر مع ما كان فيه ماء أو شبهه و صار حلواً بذلك و لو كانت حلاوته قليلة فينجس و بين غيره سواء لم يكن فيه ماء أو كان و لكن لم يصرّ حلواً بذلك أصلًا فلا تتحقّق النجاسة لعدم كونه من العصير بوجه.

كما انّه على تقدير القول بالحرمة لا بدّ أن يفصل في خصوص ما كان فيه ماء بين ما إذا صار جميع الماء حلواً فيحرم لصيرورته عصيراً مغلياً إلّا أن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 198

[التاسع: الفقاع و هو شراب مخصوص متّخذ من الشعير غالباً]

التاسع: الفقاع و هو شراب مخصوص متّخذ من الشعير غالباً، امّا المتّخذ من غيره ففي حرمته و نجاسته تأمّل و إن سمّي فقاعاً، إلّا إذا كان مسكراً 1.

______________________________

يقال بأنّ العصير الزبيبي الذي يحرم بالغليان هو الذي صار حلواً قبل الغليان لا ما يصير كذلك حاله و بين ما إذا صار المقدار القليل المجاور لهما من الماء

حلواً فلا يحرم و يجوز الانتفاع بالجميع لاستهلاك المقدار القليل الحرام و لكن الذي يسهل الخطب انّ العصيرين محكومان بالطهارة و الحلّية فضلًا عمّا إذا اختلط الزبيب و التمر بهذا النحو.

(1) لا ريب في نجاسة الفقاع و قد حكى مستفيضاً الإجماع عليها، و عن المدارك التأمّل في نجاسته حيث قال: وردت به رواية ضعيفة، و الظاهر انّ مراده منها هي رواية أبي جميلة البصري قال: كنت مع يونس ببغداد و أنا أمشي معه في السوق ففتح صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب يونس فرأيته قد اغتمّ لذلك حتّى زالت الشمس فقلت له: يا أبا محمّد إلا تصلّي؟ قال، فقال لي: ليس أريد أن أُصلّي حتّى أرجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي، فقلت له: هذا رأي رأيته أو شي ء ترويه؟ فقال: أخبرني هشام بن الحكم انّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنّه خمر مجهول فإذا أصاب ثوبك فاغسله. «1» و هذه الرواية و إن نوقش فيها بضعف السند و الإرسال إلّا انّه يكون في المقام روايات معتبرة ظاهرة الدلالة:

كموثقة ابن فضّال قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السّلام) أسأله عن الفقاع

______________________________

(1) رواه في الكافي في كتاب الصلاة في باب «الرجل يصلى في الثوب و هو غير طاهر عالما أو جاهلا» الرواية الخامسة عشر بهذه الكيفية و لكن في الوسائل حكاه عن الكليني في الباب السابع و العشرين من كتاب الأطعمة و الأشربة في أبواب الأشربة المحرمة الرواية الثامنة و لكن مع حذف قصة يونس من صدر الرواية و اضافة «عمن ذكره» في سندها نم دون ان يكون موجودا في الكافي الذي عندنا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

النجاسات و أحكامها، ص: 199

..........

______________________________

فقال: هو الخمر و فيه حدّ شارب الخمر «1». و المراد من قوله (عليه السّلام): «هو الخمر» انّه خمر تنزيلًا فيترتّب عليه جميع آثار الخمر و أحكامه التي منها النجاسة و التصريح بثبوت حدّ شارب الخمر فيه انّما هو لاحتياجه إلى التصريح به دفعاً لاستبعاد ثبوته فيه.

و موثقة عمّار بن موسى قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الفقاع فقال: هو خمر «2».

و رواية محمد بن سنان عن حسين القلانسي قال: كتبت إلى أبي الحسن الماضي أسأله عن الفقاع فقال: لا تقربه فإنّه من الخمر. «3» و ما عن حسن بن الجهم و ابن فضّال قالا: سألنا أبا الحسن (عليه السّلام) عن الفقاع فقال: هو خمر مجهول و فيه حدّ شارب الخمر. «4» و هل هذه التعبيرات تدلّ على كون الفقاع خمراً واقعاً بحيث كانت الروايات بصدد بيان انّ الخمر له عنوان عام يشمل الفقاع، و عليه فلا بدّ في استفادة حكمه من الرجوع إلى الأدلّة الواردة في الخمر أيضاً أو انّها تدلّ على مجرّد التنزيل منزلته حكماً؟ و الحق هو الثاني لعدم كون الفقاع خمراً حقيقة و لم يسم باسم الخمر عرفاً و لغةً و من أجله قد اتّفق أهل الخلاف على عدم حرمته مع اتّفاقهم على حرمة الخمر. مضافاً إلى انّه يستفاد ذلك من الأخبار و كلمات الأصحاب:

امّا الأخبار فقد تقدّم الكلام فيها و عرفت انّ الظاهر منها انّ الخمر اسم للمادّة المأخوذة من العنب، و في بعضها انّ اللّٰه لم يحرّم الخمر لاسمها بل حرّمها

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و العشرون ح 2.

(2) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و العشرون ح 4.

(3)

الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و العشرون ح 6.

(4) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب السابع و العشرون ح 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 200

..........

______________________________

لعاقبتها و قد وردت جملة منها في منازعة آدم و إبليس في شجر العنب.

و أمّا كلمات الأصحاب فبعضها ظاهرة في ذلك لأنّ مقابلة المسكرات للفقاع في كلماتهم ظاهرة في انّ الفقاع بعنوانه موضوع للحكم لا للإسكار، و لا لصدق اسم الخمر عليه، و لذا لم يستدلّوا في مقابل العامّة القائلين بالحلّية بالكتاب الظاهر في حرمة الخمر مع انّه لو أمكن لاستدلّوا به بل كان هذا الاستدلال واقعاً في الروايات أيضاً، و بعضها كالصريحة في ذلك فعن الانتصار: «ممّا انفردت به الإمامية القول بتحريم الفقاع و انّه جارٍ مجرى الخمر في جميع الأحكام».

ثمّ إنّه بعد عدم كونه من مصاديق الخمر حقيقة فلا محيص من حمل الروايات الدالّة على انّ الفقاع خمر أو من الخمر أو خمر استصغره الناس كما في رواية الوشاء قال: قال أبو الحسن الأخير (عليه السّلام): حدّه أي الفقاع حدّ شارب الخمر و قال: هي خمرة استصغرها الناس. «1» على نحو من التنزيل فيدور الأمر بين احتمالين:

أحدهما: البناء على التنزيل بلحاظ جميع الآثار و الأحكام.

و ثانيهما: التنزيل بلحاظ أظهر الخواص و الآثار. ربّما يقال بأولية الثاني لأنّ التنزيل لو لم يبين وجهه لكان ظاهراً في كونه بلحاظ الأثر الظاهر و الحكم المعروف فإذا قيل: زيد أسد فهو ظاهر في كون التشبيه بلحاظ الشجاعة التي هي المعروفة في المشبه به لا سائر الجهات و هكذا في المقام فإنّ ظاهر قوله (عليه السّلام): «الفقاع خمر» انّه كالخمر في أظهر خواصّه و آثاره و ليس

ذلك إلّا الحرمة لأنّها هي التي يدلّ عليها الكتاب و أجمع كلا الفريقين عليها، و أمّا النجاسة فلا دلالة للكتاب عليها و لم يقل بها جماعة من العامّة، و لعل ما ذكرنا هو الوجه في تأمّل صاحب المدارك في النجاسة فإنّ رواية أبي جميلة الظاهرة في النجاسة على تقدير

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب الثامن و العشرون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 201

..........

______________________________

كون «فإذا أصاب ..» من تتمّة كلام الإمام (عليه السّلام) كما هو الظاهر لا من كلام يونس لا تكون معتبرة سنداً و الروايات المعتبرة فاقدة للظهور من حيث الدلالة لاحتمال كون التنزيل في خصوص الحرمة لو لم يكن ظاهراً في ذلك.

و الإنصاف انّه و لو سلم كون التنزيل بلحاظ خصوص الأثر الظاهر لكن نقول إنّ النجاسة مثل الحرمة في كونه أثراً ظاهراً بحسب المذهب و تشتركان في الاتّصاف بالأظهرية و إن كانت مرتبة الظهور مختلفة. نعم غيرهما من الآثار يحتاج ثبوته إلى التصريح و لذا عرفت انّه لو لم يقع التصريح بثبوت حدّ شرب الخمر فيه لم يكن يستفاد ذلك من التنزيل بمجرّده لعدم كون الحدّ أثراً ظاهراً و بالجملة الظاهر هو ما استفاده الأصحاب من الروايات من دلالتها على التنزيل في النجاسة أيضاً.

و هل يفصل في الحكم بنجاسة الفقاع بين ما إذا تحقّق الغليان له و بين ما إذا لم يتحقّق؟ يظهر من كلمات بعض أهل اللغة انّه لا يصدق ما لم يتحقّق الغليان، فعن القاموس: «الفقاع كرمان الذي يشرب سمّي به لما يرتفع في رأسه من الزبد» و نحوه ما عن «المجمع» و عن الشهيد أيضاً اعتبار الغليان في الصدق، و عليه

فلا إشكال في اختصاص الحكم بالحرمة و النجاسة بما بعد الغليان.

و لو فرض صدقه مطلقاً فظاهر بعض الأخبار التفصيل بين الصورتين كصحيحة ابن أبي عمير عن مرازم قال: كان يعمل لأبي الحسن (عليه السّلام) الفقاع في منزله قال ابن أبي عمير: و لم يعمل فقاع يغلي. «1» و الظاهر انّ ابن أبي عمير كان بصدد دفع توهّم عمل الفقاع الحرام.

و موثّقة عثمان بن عيسى قال: كتب عبد اللّٰه بن محمد الرازي إلى أبي جعفر الثاني (عليه السّلام): إن رأيت أن تفسّر لي الفقاع فإنّه قد اشتبه علينا أ مكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب (عليه السّلام): لا تقرب الفقاع إلّا ما لم يضرّ آنيته أو كان جديداً.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأشربة المحرمة الباب التاسع و الثلاثون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 202

..........

______________________________

فأعاد الكتاب إليه: كتبت أسأل عن الفقاع ما لم يغل فأتاني ان اشربه ما كان في إناء جديد أو غير ضار و لم أعرف حدّ الضرارة و الجديد و سُئل أن يفسّر ذلك له، و هل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة و الزجاج و الخشب و نحوه من الأواني. فكتب (عليه السّلام): يفعل الفقاع في الزجاج و في الفخار الجديد إلى قدر ثلاث عملات ثمّ لا يعدّ منه بعد ثلاث عملات إلّا في إناء جديد و الخشب مثل ذلك. «1» و الظاهر انّ النهي عن هذه الظروف انّما هو لأجل حصول النشيش و الغليان له إذ نبذ فيها، و يمكن أن يكون لأجل حصول الإسكار له فيها إلّا انّه مجرّد احتمال لا يمكن رفع اليد به عن إطلاق الأدلّة و شمولها للمسكر منه و غيره

مع جعل الفقهاء إيّاه في مقابل المسكرات عنواناً مستقلا و نجساً على حدة، و تصريح بعض أهل اللغة بأنّه ليس بمسكر أصلًا فالحرمة و النجاسة فيه كل واحدة مشروطة بالغليان فقد دون الإسكار، و عدم تفصيل الفقهاء بين الحالتين لعلّه لعدم كونه فقاعاً عندهم قبل الغليان و اللّٰه أعلم.

ثمّ إنّه وقع الاختلاف بينهم بعد الاتفاق على كون المتّخذ من الشعير على وجه مخصوص فقاعاً في اختصاص عنوان الفقاع بذلك و عدمه، و الأوّل محكي عن علم الهدى (قدّس سرّه) قال في الانتصار: «قد روى أصحاب الحديث من طرق معروفة انّ قوماً من العرب سألوا رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) عن الشراب المتّخذ من القمح فقال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): يسكر؟ قالوا: نعم، فقال: لا تقربوه و لم يسأل عن الشراب المتّخذ من الشعير عن الإسكار بل حرم ذلك على الإطلاق».

و يظهر من المحكي عن الشهيد (قدّس سرّه) انّ الفقاع كان يعمل في السابق من ماء الشعير، و في زمانه (قدّس سرّه) قد يعمل من الزبيب أيضاً. و عن «مخزن الأدوية» انّه يعمل من أكثر الحبوبات و من العسل و الخبز.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع و الثلاثون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 203

..........

______________________________

و الحاصل: انّه مفهوم مردّد بين خصوص ما يعمل من ماء الشعير و بين ما يعمّ ذلك و ما يتّخذ من غيره و المرجع حينئذٍ البراءة عن لزوم الاجتناب عن غير ما هو القدر المتيقّن منه و قاعدتا الطهارة و الحلّية كما هو الحال في جميع الموارد التي يدور الأمر فيها بين الأقلّ و الأكثر.

و دعوى استعمال الفقاع في غير

ما يتّخذ من ماء الشعير أيضاً فيدور الأمر بين كونه حقيقة فيه أيضاً أو مجازاً أو منقولًا و الأصل عدم النقل و عدم تحقّق المجاز.

مدفوعة: بأنّ تقديم الاشتراك على المجاز أو العكس أو تقديمه على النقل أو النقل عليهما و كذا ما يشابه ذلك من الترجيحات المشهورة المذكورة في الكتب الأُصولية سيّما القديمة منها ممّا لا يرجع إلى محصل و لم يدل عليه دليل كما اعترف به المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في مباحث الألفاظ من «الكفاية» مع انّ هذه الأُصول لا تكون شرعية بوجه و لا عقلائية. نعم أصالة عدم النقل من الأُصول العقلائية لكن لا يلتزم العقلاء بمثبتاتها و لا يتمسّكون بها في جميع الموارد كما لا يخفىٰ.

ثمّ إنّه قد انقدح ممّا ذكرنا انّ المتّخذ من الشعير على وجه مخصوص الذي يسمّى بالفقاع يكون حراماً و إن لم يكن مسكراً فلا فرق بين ثبوت السكر الخفيف فيه كما ربّما يقال و عدمه، كما انّه ظهر انّ المتّخذ من غير ماء الشعير ليس بحرام و لا نجس إلّا إذا كان مسكراً لعدم ظهور إطلاق عنوان الفقاع عليه، و أمّا ماء الشعير الذي يستعمله الأطبّاء في معالجاتهم فهو ليس من الفقاع بل طاهر و حلال فانّ الفقاع هو المتّخذ من ماء الشعير على وجه مخصوص يعرفه أهله و لا يكون كلّ ماء الشعير فقاعاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 204

[العاشر: الكافر]

اشارة

العاشر: الكافر: و هو من انتحل غير الإسلام، أو انتحله و جحد ما يعلم من الدين ضرورة بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة أو تكذيب النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) أو تنقيص شريعته المطهّرة، أو صدر منه ما يقتضي

كفره من قول أو فعل، من غير فرق بين المرتدّ و الكافر الأصلي، الحربي و الذمّي، و أمّا النواصب و الخوارج لعنهم اللّٰه تعالى فهما نجسان من غير توقّف ذلك على جحودهما الراجع إلى إنكار الرسالة، و أمّا الغالي فإن كان غلوّه مستلزماً لإنكار الألوهية أو التوحيد أو النبوّة فهو كافر و إلّا فلا (1).

______________________________

(1) الكلام في هذا النوع يقع في مقامات:

المقام الأوّل: هل الكافر في الجملة نجس أم لا؟ و بعبارة اخرى هل يكون الكافر نوعاً من أنواع النجاسات في مقابل الأنواع الأُخر أم لا؟ و نقول: إنّ الحكم بنجاسة الكفّار في الجملة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، و هو ممّا انفردت به الإمامية كما قال به السيّد المرتضى-، و من شعار الشيعة بحيث إنّ جميع الشيعة يعرفون انّ هذا مذهبهم كما عن حاشية المدارك-، و ممّا انعقد عليه إجماع الشيعة كما عن صريح المنتهي و ظاهر التذكرة و عليه إجماع المسلمين المفسّر بالمؤمنين كما عن التهذيب و بالجملة لا يرى مخالف في المسألة من الإمامية.

نعم ذهب العامّة إلى طهارتهم و لم يلتزم بنجاسته منهم إلّا القليل كالفخر الرازي فإنّه نقل عن صاحب الكشّاف عن ابن عبّاس ان أعيانهم نجسة كالكلاب و الخنازير ثمّ نقل اتّفاق الفقهاء على الطهارة ثمّ قال ظاهر القرآن يدلّ على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلّا بدليل منفصل و لا يمكن ادّعاء الإجماع فيه لما بيّنا انّ الاختلاف فيه حاصل.

و كيف كان يدلّ على نجاسته في الجملة بعد الإجماع بل ضرورة المذهب، من الكتاب، الآية الكريمة:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 205

..........

______________________________

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا «1» الآية.

و قد وقعت هذه الآية الكريمة مورد التنازع بين الأصحاب من جهة انّ المراد من المشركين فيها هل هو جميع المشركين، أو صنف مخصوص منهم، و من جهة أنّها هل تدلّ على نجاستهم بالنجاسة المصطلحة عند المتشرّعة أم لا، و بعبارة اخرى هل المراد من النجس بالفتح هو النجس بالكسر الاصطلاحي أو يكون بينهما فرق؟

و التحقيق في هذه الجهة الأخيرة ثبوت الفرق بينهما فانّ النجس بالكسر صفة مشبهة كالقذر بالكسر و يقوم مقام اسم الفاعل بخلاف النجس بالفتح فانّ الظاهر انّه اسم المصدر و عنوانه عنوان المصدر كالنجاسة، و إذا حمل على ذات فهو من باب حمل المعنى على الذات و يشعر بالمبالغة نحو زيد عدل.

فإنّه يدلّ على انّ زيداً متمحّض في العدالة و لا مغايرة بينه و بينها و هذا واضح لا كلام فيه.

انّما الكلام في انّه هل للشارع في النجس بالفتح اصطلاح مخصوص و له معنى عنده غير معناه الحقيقي بأن يكون له حقيقة شرعية مغايرة للمعنى اللغوي و العرفي أم لا؟

و الإنصاف: انّه لا دليل لنا على إثبات هذا المطلب و من البعيد أن يكون للشارع في النجاسة و القذارة اصطلاح خاص مغاير للمعنى المقصود لدى العرف لا سيّما مع ملاحظة انّه لم تستعمل هذه المادّة في الكتاب الكريم إلّا في هذه الآية الشريفة فإنّه كيف يتحقّق مع استعماله دفعة واحدة و كيف يثبت الاصطلاح بمثل ذلك، فمعنى النجاسة و القذارة في كلمات الشارع خصوصاً في القرآن الكريم ليس إلّا المعنى العرفي لهما و هو الأمر المستكره عند العقلاء و مورد التنفّر بينهم، نعم لا تنبغي المناقشة في انّه قد تصرّف الشارع في بعض المصاديق بالتوسعة و التضييق

______________________________

(1) التوبة: 28.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 206

..........

______________________________

فأدخل بعض ما ليس في نظر أهل العرف قذراً في النجاسات و القذارات كالمشرك و الخمر و الخنزير و نحوها و إخراج بعض ما كان بنظر العرف قذراً عنهما كالنخامة و الوذي و نحوهما.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ حمل النجس بالفتح الذي يكون بمعنى النجاسة على المشركين يفيد انّ المشركين لا يكون لهم شأن و حقيقة إلّا النجاسة بالمعنى المصدري و حيث إنّ النجاسة في كلام الشارع تكون بالمعنى العرفي لها على ما مرّ، و العرف لا يفهم من النجاسة إلّا الظاهرية منها فتدلّ الآية الكريمة على انّ المشركين نجس بالنجاسة الظاهرية و لا يناسب كونهم نجاسة مع كونهم طاهراً ظاهراً و نجساً باطناً كما هو شأن المشرك من حيث كونه مشركاً.

و بهذا يندفع ما قد يقال من انّ الآية تدلّ على انّ المشركين نجس معنى و قذر باطناً لا يصلح قربهم إلى المسجد الحرام الذي هو محل العبادة الخالصة للّٰه تعالى فانّ الشرك لا يلائم العبادة الخالصة، فإنّه من بشاعة القول أن يقال: إنّ الكافر ليس إلّا عين النجاسة و القذارة لكنّه طاهر و نظيف في ظاهره كسائر الأعيان الطاهرة.

و قد تحصّل من جميع ما ذكرنا انّ الآية الكريمة تدلّ على نجاسة المشركين بالنجاسة الظاهرية العرفية فلا بدّ و أن لا يقربوا المسجد الحرام لعدم مناسبة الموجود النجس القذر مع البيت الحرام و المسجد الحرام الذي لا بدّ و أن يكون طاهراً كما إذا قيل: إنّ الكلب نجس فلا يقرب المسجد.

و قد يستدلّ على نجاسة الكافر بقوله تعالى كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ «1» بتقريب انّ الرجس فيها بمعنى النجاسة.

و لكنّه

يرد عليه انّ الرجس في هذه الآية كسائر الموارد التي استعمل فيها في الكتاب يكون بمعنى القذارة الباطنية التي يعبّر عنها في الفارسية ب «پليدى»

______________________________

(1) الأنعام: 125.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 207

..........

______________________________

و الإجماع المدّعى على كونه في الآية بمعنى النجاسة غير حجّة لأنّه لا معنى لحجّية الإجماع في اللغة إلّا أن يرجع إلى الإجماع في الحكم.

المقام الثاني: في أنّه هل الكافر نجس بجميع أقسامه فيشمل الحكم بالنجاسة أهل الكتاب أيضاً كما هو ظاهر المتن أم لا؟ و لا بدّ من النظر أوّلًا في الآية الكريمة المذكورة، و ثانياً إلى الأقوال الواردة من أصحابنا الإمامية في أهل الكتاب، و ثالثاً في الروايات الكثيرة المختلفة الواردة في أهل الكتاب بعمومهم أو بعض أقسامهم فنقول:

امّا الآية الكريمة فيبحث فيها في هذا المقام من جهتين:

الاولى: في كلمة «إنّما» التي هي من أداة الحصر و إن مفادها في الآية الشريفة هل هو حصر المشركين في النجاسة و انّه ليس لهم شأن و لا حقيقة سوى النجاسة فلا ينافي نجاسة غيرهم أيضاً، أو انّ مفادها حصر النجاسة في المشركين و انّه ليس غير المشرك نجساً فتصير الآية دليلًا على طهارة غير المشركين؟

الظاهر هو الأوّل و انّ سياق الآية يعطي كونها في مقام بيان حصر المشركين في النجاسة و لذا فرع عليه قوله: «فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ ..» و بعبارة اخرى الظاهر كون الآية في مقام بيان حال المشركين و وصفهم و هذا لا يلائم إلّا مع كون الحصر على النحو الأوّل ضرورة انّه على النحو الثاني لا بدّ من الالتزام بكونها مسوقة لإفادة نفي نجاسة غير المشرك كما هو شأن الحصر على هذا

النحو و هو لا يلائم ظاهر الآية أصلًا، مع انّه يمكن أن يقال بأنّ الحصر على النحو الثاني لا دلالة له على عدم كون غير المشرك نجساً بالكسر فانّ مقتضى الآية على هذا التقرير حصر النجس بالفتح الذي هو بمعنى النجاسة في المشرك فلا يكون غيره نجساً بالفتح و هذا لا ينافي أن يكون نجساً بالكسر لأنّ النجاسة لها مراتب و من الممكن أن تكون المرتبة الكاملة من النجاسة ثابتة للمشرك بحيث

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 208

..........

______________________________

يصحّ أن يقال إنّه نجاسة، و أمّا غيره من فرق الكفّار فلا يكون لها هذه المرتبة بل المرتبة المتوسطة أو الضعيفة و لا ينطبق عليه النجاسة بل يطلق عليه النجس بالكسر فتأمّل.

الثانية: في المراد من المشركين في الآية الكريمة و انّه هل يكون للمشرك معنى وسيع يشمل أهل الكتاب أيضاً فنقول:

المشرك في الحقيقة من يعتقد بثبوت الشريك للّٰه تعالى امّا في الذات و وجوب الوجود و أمّا في الفعل، و أمّا في العبادة و الخضوع لديه كالمشركين الذين كانوا يعيشون في عصر البعثة و زمان نزول الوحي و القرآن الكريم فإنّهم كانوا يعتقدون بأنّ اللّٰه خالق السماوات و الأرضين لقوله تعالىٰ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّٰهُ «1» و مع ذلك كانوا يعبدون غير اللّٰه من الأصنام و الآلهة ليقرّبوهم إلى اللّٰه زلفى قال اللّٰه تعالىٰ حكاية عنهم- مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلّٰا لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اللّٰهِ زُلْفىٰ «2» و من المعلوم انّ اليهود و النصارى ليسا بما هم كذلك بمشركين.

نعم قد يقال إنّ مقتضى بعض الآيات الواردة فيهم انّهم من المشركين و عليه فتشملهم الآية الدالّة على نجاستهم كقوله

تعالى وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ وَ قٰالَتِ النَّصٰارىٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّٰهِ إلى قوله سبحانه وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا إِلٰهاً وٰاحِداً لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «3».

و فيه: انّ قوله تعالى سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ قد وقع عقيب قوله تعالى اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ مٰا أُمِرُوا الآية و المراد من اتخاذهم أرباباً ليس ما هو ظاهره لعدم قولهم بألوهيتهم لما روى عن الثعلبي عن عدي بن حاتم في حديث قال: انتهيت إليه يعني إلى رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله)

______________________________

(1) لقمان: 25.

(2) الزمر: 3.

(3) البراءة: 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 209

..........

______________________________

و هو يقرأ سورة البراءة هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ الآية حتّى فرغ منها فقلت له: لسنا نعبدهم؟ فقال: أ ليس يحرِّمون ما أحلّ اللّٰه فتحرّمونه و يحلّون ما حرّم اللّٰه فتستحلّونه؟ قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم. «1» فانّ المستفاد من الرواية انّ إطلاق المشرك على النصارى انّما كان بنحو من العناية و التسامح لا بنحو الحقيقة فإنّ تبعيتهم في التحليل و التحريم لا تكون عبادتهم حقيقة فلا يتحقّق الشرك في العبادة كذلك. و من المعلوم انّ المراد من المشركين في الآية الكريمة التي هي محلّ البحث هو المشركون بالمعنى الحقيقي فلا تشمل الآية من يطلق عليه المشرك مجازاً و مسامحة.

مع انّ النصارى على ما يستفاد من الآيات الواردة فيهم طوائف مختلفة، قال اللّٰه تعالى مخاطباً لعيسى أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّٰهِ «2» و قال تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلٰاثَةٍ «3» و قال

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «4» و غير ذلك من الآيات الواردة فيهم و لا يمكن لنا إثبات الشرك لجميع طوائفهم و لا إثباته أيضاً لليهود مطلقاً و إن كان اليهود و النصارى بأجمعهم كفّاراً قاتلهم اللّٰه أنّى يؤفكون.

مضافاً إلى انّ محطّ النظر في آية إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ انّما هو المشركون في ذلك العصر لا اليهود و النصارى و بعبارة اخرى: عنوان «المشرك» في الآية عنوان مشير إلى المشركين المعاصرين للنبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) الواقعين في مقابل اليهود و النصارى و إن كان الحكم ثابتاً لمن كان مشركاً اصطلاحياً و لو لم يكن في ذلك العصر.

أضف إلى ذلك كلّه انّ توجّه اليهود و النصارى و قربهم إلى المسجد الحرام

______________________________

(1) مجمع البيان ج 3.

(2) المائدة: 116.

(3) المائدة: 73.

(4) المائدة: 72.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 210

..........

______________________________

و الكعبة المعظّمة و دخولهم فيهما غير معلوم بل مظنون العدم و عليه فلا وجه لشمول الآية لهم لأنّها مسوقة لبيان حكم المشركين الذين كانوا يتوجّهون إلى المسجد الحرام كما هو مقتضى قوله تعالى فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ.

و قد انقدح من جميع ذلك انّ الآية الكريمة الدالّة على نجاسة المشركين لا تشمل اليهود و النصارى بما هم كذلك، نعم يشمل المشركين منهم في إحدى الجهات المتقدّمة.

هذا بالنظر إلى الآية الكريمة.

و أمّا بالنظر إلى أقوال علمائنا الإمامية رضوان اللّٰه تعالى عليهم فلم يقل بطهارة أهل الكتاب منهم إلّا القليل، و النجاسة هي المشهورة بين المتقدّمين و المتأخّرين بل لعلّها تعدّ من الأُمور الواضحة عندهم حتّى ألحقها بعضهم بالبديهيات، و قال بعضهم إنّ نجاسة الكفّار بأجمعهم من شعار الشيعة

أو من متفرّدات الإمامية.

نعم قد نسب إلى جمع من الأصحاب كابن الجنيد و ابن أبي عقيل و الشيخ و المفيد من المتقدّمين-، و صاحب المدارك و المحدِّث الكاشاني من المتأخّرين القول بطهارة أهل الكتاب، و في النسبة نظر:

امّا ابن الجنيد فلم يعلم منه ذلك و العبارة المنقولة عنه غير ظاهرة في المخالفة للمشهور.

و أمّا ابن أبي عقيل فإنّه قد خصّص عدم النجاسة باسئارهم و لعل نظره إلى عدم انفعال الماء القليل و عدم تأثّره بالملاقاة كما هو اعتقاده فيه.

و أمّا ما نسب إلى نهاية الشيخ (قدّس سرّه) ففي غير محلّه قطعاً قال فيها: «و لا تجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم، و لا استعمال آنيتهم إلّا بعد غسلها بالماء و كلّ طعام تولّاه بعض الكفّار بأيديهم و باشروه بنفوسهم لم يجز أكله لأنّهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إيّاه إلى أن قال: و يكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل منه و إن دعاه فليأمر بغسل يديه».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 211

..........

______________________________

و هذا الكلام كما ترى أوّله صريح في نجاسة الكفّار على اختلاف مللهم، و أمّا آخره فإنّه و إن كان موهماً للخلاف إلّا انّه لا بدّ من التأويل و الحمل على الطعام اليابس كالتمر و الخبز و نحوهما و الأمر بغسل اليد لدفع القذارة العرفيّة فتأمّل.

و أمّا المفيد (قدّس سرّه) فإنّه قال: تكره الاستفادة عن سؤر اليهود و النصارى. و لعلّه أراد بالكراهة معناها اللغوي الذي يلائم مع الحرمة أيضاً هو الاستقذار.

و أمّا صاحب المدارك فلا يستفاد من مداركه هذا القول أصلًا.

و أمّا المحدِّث الكاشاني فمخالفته مع المشهور في «المفاتيح» غير معلومة بل الوحيد البهبهاني

(قدّس سرّه) قال في شرح المفاتيح: إنّ نجاسة أهل الكتاب من شعار الشيعة و امتيازاتهم، نعم يظهر ذلك عن كتاب «الوافي» له فإنّه بعد ذكر الأخبار الواردة في الباب قال على ما حكى عنه-: «و قد مضى في باب طهارة الماء خبر في جواز الشرب من كوز شرب منه اليهودي، و التطهير من مسّهم ممّا لا ينبغي تركه» و فيه إشعار على رجحان التطهير منه لا اللزوم و الوجوب.

و أمّا الأخبار الواردة فما يمكن أن يستدلّ به على النجاسة منها تكون على طوائف:

الطائفة الأُولى: ما ورد في النهي عن مصافحتهم و الأمر بغسل اليد إن صافحهم و هي كثيرة:

منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) في رجل صافح رجلًا مجوسيّاً، فقال: يغسل يده و لا يتوضّأ «1». فإنّ الظاهر انّ الأمر بغسل اليد انّما هو لأجل سراية النجاسة الحاصلة بالمصافحة.

و فيه: انّه لا محيص من التصرّف في الرواية امّا بإضافة قيد الرطوبة في المصافحة أي صافح رجلًا مجوسياً مع الرطوبة أي رطوبة يده أو يد المجوسي-

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 212

..........

______________________________

ضرورة أنّ المصافحة مع المجوسي مع عدم رطوبة اليد لا توجب النجاسة و إن كان المجوسي نجساً، و أمّا بحمل الأمر بغسل اليد على الاستحباب، أي استحباب غسل اليد بعد المصافحة معه مطلقاً سواء كانت المصافحة مع الرطوبة أو بدونها فلا بدّ من التصرّف بأحد الوجهين و لا ترجيح لأحدهما على الآخر لو لم نقل بكون الترجيح مع التصرّف في الأمر بالغسل لكون استعمال الأمر و ما بمعناه في الندب شائعاً في لسان الأئمّة (عليهم السّلام) مع

انّ تقييد الأمر بالغسل و تخصيصه بالمصافحة المشتملة على الرطوبة تقييد بالفرد النادر لندرة المصافحة مع رطوبة اليد و قلّتها بالإضافة إلى غيرها.

و بالجملة الظاهر دلالة الرواية على استحباب غسل اليد بعد المصافحة مع المجوسي مطلقاً لإظهار التنفّر و الانزجار عنهم و لأنّ الشارع لا يرضى بالمحبّة و المودّة معهم التي يشعر بها المصافحة بين المسلم و غيره، مع انّ مقتضى خواص المصافحة و آثارها التي منها شمول رحمة اللّٰه للمتصافحين و وقوع يد اللّٰه تبارك و تعالى في يديهما أو مع أيديهما، اختصاصها بالمؤمنين و كونها من خواص الاخوّة في الدين فلا يشمل مصافحة المؤمن و الكافرين كما يظهر ذلك لمن تتبّع الروايات الواردة في المصافحة و تأمّل فيها، فإذا اتّفقت المصافحة مع غير الأخ في الدين فليغسل يده استحباباً تنفّراً منهم و انزجاراً عمّا يعتقدونه.

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة، و ارقد معه على فراش واحد، و أُصافحه؟ قال: لا. «1» و هذه الرواية أيضاً كسابقتها لا تدلّ على نجاستهم لأنّ الرقود معهم على فراش واحد و المصافحة معهم لا يوجب نجاسة المسلم و إن كان المجوسي نجساً

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 213

..........

______________________________

لأنّه يعتبر في التأثّر السراية التي لا تتحقّق بدون الرطوبة و لم يفرض وجودها في الرواية، و النهي عن المؤاكلة معهم في قصعة واحدة أيضاً لا دلالة له على النجاسة لأنّه يمكن أن يكون الطعام يابساً فالنهي عن المؤاكلة معهم و الرقود في فراش واحد و المصافحة معهم انّما هو

لأجل ترك المحابّة و الموادّة معهم لا لأجل النجاسة كيف و النجاسة لا تقتضي النهي بوجه لأنّ غايتها السراية و هي ترتفع بالغسل فلا موجب للتحريم بل و لا الكراهة فتدبّر جيّداً.

و منها: صحيحته الأُخرى عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن فراش اليهودي و النصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس، و لا يصلّى في ثيابهما، و قال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة و لا يقعده على فراشه و لا مسجده، و لا يصافحه، قال: و سألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصلِّ فيه، و إن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله. «1» و هذه الرواية أيضاً لا تكون في مقام بيان نجاسة اليهود و النصارى و المجوس بل تكون مسوقة لبيان ترك الموادّة معهم، و الشاهد له مضافاً إلى ما عرفت في بيان مفاد الروايتين السابقتين نفي البأس في هذه الرواية عن النوم على فراش اليهودي و النصراني، و النهي عن إقعاد المجوسي على فراشه أو مسجده فإنّه لو كان النهي عن إقعاده عليه لنجاسته فما وجه عدم النهي عن النوم على فراش اليهودي و النصراني و لا مجال لتوهّم الفرق بينهما و بين المجوسي من جهة الطهارة و النجاسة كما انّ النهي عن الصلاة في ثيابهما أو في ثوب اشتراه من نصراني حتّى يغسله انّما هو لأجل تنجّسه بالنجاسات الأُخر غالباً لا لأجل نجاستهما العينية مع قطع النظر عن النجاسات العرضية، و ما ذكرنا من كون الرواية مسوقة لبيان ترك الموادّة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر ح 10.

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 214

..........

______________________________

معهم لا ينافي نفي البأس عن النوم على فراش اليهودي و النصراني فإنّه ليس مجرّد النوم على فراشهما دليلًا على الموادّة و المحابّة لإمكان أن لا يكون مجانياً بل بطريق الإجارة أو شبهها كما انّه يمكن أن يكون بعد الاشتراء منهما كما يدلّ عليه ذيل الرواية. و بالجملة لا دلالة للرواية على ما هو محل البحث في هذا المقام من نجاسة المجوسي و اليهودي و النصراني.

و منها: رواية خالد القلانسي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) ألقى الذمّي فيصافحني قال: امسحها بالتراب و بالحائط، قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها. «1» و في الرواية احتمالات:

أحدها: التفصيل بين الذمّي و الناصب في النجاسة و عدمها.

ثانيها: انّها لا ترتبط بباب النجاسة و الطهارة أصلًا بل نظره (عليه السّلام) إلى انّه حيث كانت المصافحة المفروضة مبتدئة من جانبهما فأجبهما و صافح معهما و لكنّك اغسل يدك بعد المصافحة مع الناصبي و امسحها بالتراب أو بالحائط بعد المصافحة مع الذمّي انزجاراً و تنفّراً و الفرق اختلاف مرتبتي التنفّر و الانزجار الظاهر بالغسل و المسح.

ثالثها: أن تكون الرواية في مقام بيان نجاسة الذمّي أيضاً، غاية الأمر أنّه لا بدّ من حملها على كون المصافحة مقرونة برطوبة إحدى اليدين، و الفرق بين نجاسة الذمّي و نجاسة الناصب انّ الاولى ترتفع بالمسح بالتراب أو الحائط و الثانية لا تزول إلّا بالغسل بالماء.

و الاستدلال بالرواية إنّما يبتني على هذا الاحتمال الأخير و حمل الرواية عليه مشكل في نفسه و على تقدير العدم فلا مرجح له على الاحتمالين الأوّلين فلا مجال للاستدلال بها على المقام.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر ح 4.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 215

..........

______________________________

و منها: رواية أبي بصير عن أحدهما (عليهما السّلام) في مصافحة المسلم، اليهودي و النصراني، قال: من وراء الثوب، فانّ صافحك بيده فاغسل يدك. «1» و هذه الرواية نظير الرواية الاولى من هذه الطائفة في انّه يلزم التصرّف فيها امّا بتقييد المصافحة بكونها مقرونة بالرطوبة في إحدى اليدين، أو بحمل الأمر بالغسل الظاهر في الوجوب على الاستحباب فلا يكشف حينئذٍ عن النجاسة، و لا مرجح للأوّل لو لم نقل بثبوت الترجيح للثاني في هذه الرواية من جهة وجود القرينة عليه و هي انّه لو كانت المصافحة مقرونة بالرطوبة و كان اليهودي و النصراني نجسين لكان اللازم غسل الثوب أيضاً فيما كانت المصافحة من ورائه مع انّه لم يؤمر بغسله في الرواية فيصير ذلك قرينة على انّ الأمر بالغسل يكون المراد به هو الاستحباب لأجل التنفّر و الانزجار كما انّ المصافحة من وراء الثوب تشعر بذلك.

فانقدح ممّا ذكرنا انّ هذه الطائفة من الروايات الواردة في أهل الكتاب لم تنهض لإثبات نجاستهم أصلًا.

الطائفة الثانية: ما ورد في المؤاكلة معهم و هي كثيرة أيضاً:

منها: صحيحتا علي بن جعفر (عليه السّلام) المتقدّمتان في الطائفة الأُولى.

و منها: صحيحة هارون: قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): انّي أُخالط المجوسي فآكل من طعامهم؟ فقال: لا. «2» و هذه أيضاً لا دلالة لها على نجاسة المجوس و لا تكون في مقام بيانها أصلًا بل تكون مسوقة لبيان ترك الموادة و المخالطة معهم بحيث ينتهي إلى المؤاكلة من طعامهم، فإنّ الأكل من طعامهم لا يكون مستلزماً لنجاسة الإنسان دائماً-

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر ح 5.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر

ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 216

..........

______________________________

على تقدير نجاستهم لأنّه لا يمكن الحكم بنجاسة طعامهم مطلقاً لاختلاف الأطعمة من حيث مسّ الإنسان لها و عدمه فالنهي عن الأكل من طعامهم مطلقاً ناظر إلى ما ذكرنا من مبغوضية الموادّة و المخالطة بالنحو المذكور فتدبّر.

و منها: حسنة الكاهلي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن قوم مسلمين يأكلون و حضرهم رجل مجوسي أ يدعونه إلى طعامهم؟ فقال: امّا أنا فلا أواكل المجوسي، و أكره أن أحرّم عليكم شيئاً تصنعون في بلادكم. «1» و هذه الرواية أيضاً كما ترى ظاهرة في كراهة دعوة المجوسي إلى الطعام كراهة لا يرتكبها الإمام (عليه السّلام) لبشاعة شركة إمام المسلمين مع مجوسي مخالف لمرامه في الأكل و الجلوس على مائدة واحدة سيّما إذا كانت مسبوقة بدعوته فالرواية لا ارتباط لها بباب النجاسة و الطهارة أصلًا و ليس في كلام السائل إشعار بكون النظر إلى ذلك فانّ مورد السؤال نفس دعوة المجوسي إلى الطعام الكاشفة عن مرتبة من الموادّة و المحابّة كما هو غير خفي.

و منها: صحيحة عيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن مؤاكلة اليهودي و النصراني و المجوسي فقال: إن كان من طعامك و توضّأ فلا بأس. «2» و التقييد بطعام المسلم امّا لأجل حفظ عزّة المسلم و عدم ذلّته من جهة مجي ء الكافر إلى طعامه دون العكس، و أمّا من جهة حلّية طعام المسلم دون الكافر لاشتماله نوعاً على مثل الخنزير و الميتة. و على أي حال لو لم تكن في الرواية دلالة على طهارة أهل الكتاب من جهة التقييد بالتوضّي الظاهر في غسل اليد لا دلالة فيها

على النجاسة قطعاً.

و منها: صحيحته الأُخرى قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن مؤاكلة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر ح 2.

(2) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الخمسون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 217

..........

______________________________

اليهودي و النصراني فقال: لا بأس إذا كان من طعامك، و سألت عن مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضّأ فلا بأس. «1» و الظاهر عدم كونه رواية أُخرى بل هي بعينها الرواية الأُولى لأنّه من البعيد أن يسأل العيص عن حكم مسألة واحدة مرّتين خصوصاً مع وضوح المراد من الجواب و عدم وجود الإبهام فيه و يؤيّده بعد الفرق بين المجوسي و بين اليهودي و النصراني بهذه الكيفية المذكورة في هذه الرواية من تقييد نفي البأس فيهما بما إذا كان من طعام المسلم و نفي البأس فيه بما إذا توضّأ و غسل يديه، فالظاهر انّها هي الرواية الأُولى و قد عرفت عدم دلالتها على النجاسة لو لم نقل بظهورهها في الطهارة.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على النهي عن الأكل من آنيتهم.

كصحيحة إسماعيل بن جابر و عبد اللّٰه بن طلحة قالا: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): لا تأكل من ذبيحة اليهودي و لا تأكل في آنيتهم. «2» و صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن آنية أهل الذمّة و المجوس فقال؛ لا تأكلوا في آنيتهم، و لا من طعامهم الذي يطبخون و لا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر. «3» و هذه الرواية لو كان ذيلها مقيّداً لصدرها لتصير من الروايات الدالّة على طهارتهم حيث قيّد النهي عن الأكل في آنيتهم بما إذا كانت الآنية يشرب فيها

الخمر فالآنية من حيث هي لا تكون نجسة و لو كانت ممسوسة لهم مع الرطوبة أيضاً على ما هو مقتضى الإطلاق و لو بقي الصدر على إطلاقه لتكون مثل الروايات السابقة في انّه يحتمل أن يكون النهي لترك المعاشرة و الاختلاط معهم لا للنجاسة

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الثالث و الخمسون ح 4.

(2) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الرابع و الخمسون ح 7.

(3) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الرابع و الخمسون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 218

..........

______________________________

فلا دلالة لها عليها بوجه.

و أمّا النهي عن أكل طعامهم الذي يطبخون فيحتمل أن يكون منشأه انّ أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير و شحمه، و المطبوخ من الطعام لا يكون خالياً عن اللحم و الشحم عادةً، أو لأنّ آنيتهم التي يطبخون فيها الطعام يتنجّس بطبخ مثل لحم الخنزير فيها و من المعلوم انّها بعد ما تنجّست لا يرد عليه غسل مطهر على الوجه الشرعي نوعاً، و يؤيّد هذا الاحتمال ذيل الرواية خصوصاً لو كان مقيّداً للصدر أيضاً.

و رواية زكريا بن إبراهيم قال: دخلت على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقلت: إنّي رجل من أهل الكتاب و انّي أسلمت و بقي أهلي كلّهم على النصرانية و أنا معهم في بيت واحد لم أُفارقهم بعد فآكل من طعامهم؟ فقال لي: يأكلون الخنزير؟ فقلت: لا و لكنّهم يشربون الخمر فقال لي: كُلْ معهم و اشرب. «1» و فيما رواه الكليني انّه قال: فأكون معهم في بيت واحد و آكل من آنيتهم.

و هذه الرواية لها دلالة ظاهرة على عدم نجاسة النصرانية من حيث هم كذلك بل نجاستهم انّما هي من جهة الأُمور العارضة

كالخنزير و شرب الخمر، و لعلّ الفرق بين الخمر و لحم الخنزير مع اشتراكهما في النجاسة انّما هو من جهة انّهم لو كانوا يأكلون الخنزير فقد كانت مادّة طعامهم نجسة أمّا بلحم الخنزير أو بشحمه بخلاف ما لو كانوا يشربون الخمر لعدم ارتباط الخمر بأطعمتهم. و بعبارة اخرى الاختلاط يوجب الارتباط نوعاً مع لحم الخنزير الذي هو مادّة الطعام دون الخمر الذي لا ارتباط لها بالطعام و الشراب فإنّ شرب الخمر أمر زائد على الأكل و الشرب العاديين اللذين لا بدّ منهما لحفظ الحياة و إدامة العيش فتدبّر.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الرابع و الخمسون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 219

..........

______________________________

و صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة و الدم و لحم الخنزير. «1» و صحيحة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال: لا تأكله، ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال: لا تأكله و لا تتركه تقول إنّه حرام و لكن تتركه تتنزّه عنه انّ في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير.

«2» و هاتان الروايتان أيضاً ظاهرتان في عدم نجاستهم الذاتية و إنّ النهي عن الأكل في آنيتهم تحريماً كما هو ظاهر صحيحة محمد بن مسلم أو تنزيهاً كما هو ظاهر الصحيحة الأُخرى انّما هو لأجل وجود النجاسات الأُخر فيها كالميتة و لحم الخنزير و الخمر امّا يقيناً كما عليه يحمل الصحيحة الأُولى أو احتمالًا كما عليه يحمل الثانية جمعاً بينهما كما لا يخفى.

و

صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في آنية المجوس فقال: إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء. «3» و الظاهر منها في بادئ النظر الدلالة على نجاسة آنية المجوس لظهور الأمر بالغسل بالماء فيها و لكنّه يمكن أن يقال: إنّ تقييد الغسل بصورة الاضطرار الظاهر في انّه مع الاختيار لا يجوز الأكل من آنيتهم و لو مع الغسل بالماء يوجب صرف ظهورها الابتدائي في النجاسة لاحتمال أن يكون المراد انّ المسلم ما دام لم يضطرّ فلا يصلح له أن يميل إلى المجوس و آنيتهم و لا يأكل فيها اختياراً و لو مع الغسل و إن اضطرّ

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الرابع و الخمسون ح 6.

(2) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الرابع و الخمسون ح 4.

(3) الوسائل أبواب الأطعمة المحرمة الباب الرابع و الخمسون ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 220

..........

______________________________

فعليه أن يغسل آنيتهم تنفّراً منهم و حذراً من أن تقع محبّتهم في قلبه، و عليه فلا تدلّ الرواية على النجاسة أصلًا.

الطائفة الرابعة: ما ورد في سؤر أهل الكتاب:

كصحيحة سعيد الأعرج أو حسنته قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن سؤر اليهودي و النصراني فقال: لا «1». و فيما رواه الصدوق إضافة «أ يؤكل أو يشرب» في السؤال.

و في الاستدلال بهذه الرواية و نحوها ممّا ورد في أسئارهم ممّا يدلّ على النهي عنها نظر فإنّه بعد التأمّل فيها يظهر انّ السؤال فيها إنّما يكون عن السؤر بما هو سؤر من جهة انّ له أحكاماً مخصوصة و آثاراً غير مرتبطة بباب الطهارة و النجاسة أصلًا فإنّ سؤر الحيوانات بأجمعها مكروهة إلّا الهرّة مع عدم كونها نجسة، و

من الممكن بل الظاهر انّ سؤال السائل انّما كان عن سؤرهم مع اعتقاد كونهم طاهرين.

و يؤيّد ما استظهرناه مرسلة الوشاء عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) انّه كره سؤر ولد الزنا و سؤر اليهودي و النصراني، و المشرك، و كل من خالف الإسلام، و كان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب «2». فإنّه من الواضح انّ ولد الزنا و كذا سؤره لا يكون نجساً فيظهر انّ محط النظر ليس هي النجاسة و الطهارة خصوصاً مع التعبير بالكراهة أيضاً و إن كان هذا التعبير ليس له ظهور في المعنى المصطلح كما مرّ مراراً.

و موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على انّه يهودي؟ فقال: نعم، فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم. «3» و الظاهر انّ المراد بقوله «على

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأسئار الباب الثالث ح 1.

(2) الوسائل أبواب الأسئار الباب الثالث ح 2.

(3) الوسائل أبواب الأسئار الباب الثالث ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 221

..........

______________________________

أنّه يهودي» انّه على فرض كون الرجل يهودياً. و أنت خبير بأنّ هذه الرواية أيضاً ممّا تدلّ على الطهارة و تكون قرينة على انّ السؤال في الروايات السابقة انّما كان عن السؤر بما سؤر و أمّا في هذه الرواية فالسؤال عن النجاسة و الطهارة اللّتين لهما دخالة في باب الوضوء و الجواب حاكم بالطهارة.

الطائفة الخامسة: ما ورد في الابتلاء بهم في الحمّام:

كموثّقة عبد اللّٰه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث قال: و إيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها تجتمع غسالة اليهودي

و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت فهو شرّهم فانّ اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، و انّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه «1».

و هذه الرواية و إن كانت ظاهرة في النجاسة حيث عطف الناصب فيها على أهل الكتاب مع التصريح بأنّ الناصب أنجس من الكلب إلّا انّه من الممكن أن تكون مسوقة لبيان الكراهة و الشاهد عليه ما ورد في حديث آخر من قوله (عليه السّلام): «لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام فإنّه يغتسل فيه من الزنا أو يغتسل فيه ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم». «2» فإنّ غسالة المغتسل من الزنا و كذا غسالة ولد الزنا لا تكونان نجستين و مع ذلك قد نهى في هذه الرواية عن الاغتسال من غسالة الحمّام لوجودهما فيها فيظهر انّ عطف الناصب عليهما ليس لأجل النجاسة هذا مع انّ تخصيص النهي بالاغتسال و التحذير في الموثقة عن خصوصه لا مطلق التقلّب فيها و التطهير بها لا يلائم مع كون المنظور هي النجاسة كما لا يخفى.

و يشهد لما قلنا أيضاً رواية محمد بن علي بن جعفر (عليه السّلام) عن أبي الحسن الرضا

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب الحادي عشر ح 5.

(2) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب الحادي عشر ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 222

..........

______________________________

(عليه السّلام) في حديث قال: من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنَّ إلّا نفسه، فقلت لأبي الحسن (عليه السّلام): إنّ أهل المدينة يقولون: إنّ فيه شفاء من العين فقال: كذبوا يغتسل فيه المجنب من الحرام و الزاني و الناصب الذي

هو شرّهما، و كل من خلق اللّٰه ثمّ يكون فيه شفاء من العين «1». فإنّه من الواضح عدم كون النجاسة محطّاً للنظر فيها لعدم نجاسة الزاني و كذا الجنب من الحرام على ما يأتي.

أضف إلى ذلك كلّه انّ الغسالة المجتمعة في الحمّام لا بدّ و أن يكون أكثر من الكرّ كما هو كذلك عادةً إذ لو كانت أقلّ منه تصير نجسة بمجرّد ورود غسالة المسلم الذي ينجس بدنه فيها كما هو الغالب في الواردين في الحمّام و لم يقع التعرّض لذلك فيها، و من الواضح انّ الكرّ لا ينفعل بورود غسالة اليهودي و النصراني فيه و لو كانت نجسة فمن ذلك يظهر انّ مثل هذه الروايات الواردة في الغسالة لا تكون ناظرة إلى حيثية الطهارة و النجاسة أصلًا.

و من جملة روايات الطائفة الخامسة صحيحة علي بن جعفر (عليه السّلام) انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام؟ قال: إذا علم انّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام إلّا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل، و سألته عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلّا أن يضطرّ إليه. «2» و الظاهر منها ابتداء و إن كان هو نجاستهم لأمر الإمام (عليه السّلام) بغسل الحوض الذي قد اغتسل فيه النصراني، إلّا انّك قد عرفت سابقاً في مباحث ماء الحمّام انّه معتصم لا يكاد ينفعل بالملاقاة و إن لم يكن متّصلًا بالمخزن الذي يشتمل على

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب الحادي عشر ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص:

223

..........

______________________________

أزيد من الكرّ نوعاً فلا بدّ من حمل هذه الرواية على النهي عن الاغتسال بماء قد اغتسل فيه النصراني و النهي عن الاغتسال أعمّ من كونه نجساً، و يرشدك إلى ما قلنا قوله (عليه السّلام) في ذيل الرواية: «إلّا أن يضطرّ إليه» فإنّه على تقدير النجاسة لا فرق بين حالة الاضطرار و غيرها بل استثناء هذه الحالة من شواهد الطهارة كما هو غير خفيّ على أهل الدراية.

و قد استدلّ على طهارة أهل الكتاب بوجهين:

الأوّل: قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ، وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ «1» بتقريب انّ الظاهر من «الطعام» ما يكون مطبوخاً، و حلّية ما يكون مطبوخاً بيد الكتابي تستلزم طهارته لأنّه لو كان نجساً يصير الطعام متنجّساً أيضاً فلا يمكن أن يكون حلالًا.

و فيه أوّلًا انّ الطعام ليس بمعنى المطبوخ لا لغةً و لا اصطلاحاً في الحجاز بل يكون بمعنى خصوص الحنطة على قول اللغويين و قد يطلق على الأعمّ منها و من الشعير، و قد يطلق على مطلق الحبوبات، و على ذلك فلا تستلزم طهارة الطعام طهارة صاحبه لكونه جافّاً لا ينجس بمجرّد الملاقاة فيصير المعنى انّ اشتراء الطعام و التصرّف فيه من الذين أُوتوا الكتاب حلال للمسلمين.

و يؤيّده قوله تعالىٰ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ إذ لو كان المراد بيان الحلّية من جهة عدم النجاسة يشكل الأمر في هذا القول لعدم اعتقاد أحد من أهل الكتاب نجاسة المسلم، و عدم ترتّب أثر عليه مع فرض اعتقادهم ذلك بخلاف ما لو كان المراد ما ذكرنا فانّ معنى هذا القول حينئذٍ انّ بيع الطعام من الذين أُوتوا الكتاب حلال فتدبّر.

و ثانياً: لو كان المراد من الطعام

ما يكون مطبوخاً و كانت الآية مسوقة

______________________________

(1) المائدة: 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 224

..........

______________________________

لبيان حلّيته مطلقاً فلا بدّ من الالتزام بدلالة الآية على حلّية طعامهم حتّى فيما إذا كان بعض موادّة حراماً كالميتة و لحم الخنزير، إذ ليست الحلّية من جهة الطباخ أولى منها من جهة المادّة بالنظر إلى الآية الكريمة على هذا التقدير مع انّه ممّا لا يمكن أن يتفوّه به فلا محيص عن حمل الآية على ما ذكرنا بعد كونه موافقاً لمعنى الطعام على ما عرفت.

إن قلت: لو كان كذلك فما وجه تخصيص أهل الكتاب بذلك فإنّ طعام المشركين و الحنطة المرتبطة بهم أيضاً حلال.

قلت: وجه التخصيص أحد أمرين امّا وقوع السؤال عن خصوصهم كما في قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ «1» و أمّا كونهم محلّ الابتلاء للمسلمين فإنّ الآية قد نزلت في أواخر عمر رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) بالمدينة و قد كان المسلمون في ذلك العصر معاشرين لأهل الكتاب و لم يكن للمشركين عدّة و عدّة أصلًا.

و بالجملة قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ مسوق لبيان حلّية الطيّبات بما هي طيّبات، و قوله تعالى وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ مسوق لبيان حلية طعامهم بما هو طعامهم و إنّ مالكه أهل الكتاب، كما انّ قوله تعالى: و طعامكم حلٌّ لكم مفاده حلّية طعام المسلمين لهم بالنقل إليهم.

و بهذا يظهر الخلل فيما أفاده الفاضل المقداد صاحب كنز العرفان و هو أوّل كتاب قد أُلِّف في آيات الأحكام من انّ قوله تعالى وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ ذكر الخاص بعد العام و لا بدّ له من نكتة لا

نفهمها. فإنّك عرفت عدم كونه من هذا الباب و ثبوت المغايرة بين الأمرين.

و قد ذهب العامّة إلى انّ «الطعام» في الآية بمعنى الذبيحة و تبعهم في ذلك

______________________________

(1) المائدة: 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 225

..........

______________________________

بعض أصحابنا الإمامية، و عليه فيمكن الاستدلال بها على حلّية ذبيحة أهل الكتاب.

و لكن يرد عليهم انّ الطعام لا يكون بمعنى الذبيحة لا لغةً و لا اصطلاحاً، مع انّه لو كان بمعنى الذبيحة لا يترتّب على قوله تعالى: و طعامكم حِلٌّ لَهُمْ أثر. فانقدح انّ الآية أجنبية عن الدلالة على طهارة أهل الكتاب أو حلّية ذبائحهم.

الوجه الثاني: دلالة كثير من الروايات على طهارتهم و قد تقدّمت جملة منها كصحيحة عيص بن القاسم المشتملة على قوله (عليه السّلام): «إذا كان من طعامك و توضّأ فلا بأس» و رواية زكريا بن إبراهيم المشتملة على قوله (عليه السّلام): «كُلْ معهم و اشرب» و صحيحة إسماعيل بن جابر التي فيها هذه العبارة الشريفة: «و لا تتركه تقول انّه حرام» و غيرها من الروايات التي يمكن الاستشهاد بها على الطهارة.

و أمّا ما لم يتقدّم فمنها ما ورد في جواز تزويج الكتابية استدامة أو متعة و جواز كون المرضعة كتابية، و جواز تغسيل الذمّي الميّت المسلم مع عدم المسلم أو عدم إقدامه على التغسيل أو عدم إمكانه له.

و منها: صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (عليه السّلام): الجارية النصرانية تخدمك و أنت تعلم أنّها نصرانية لا تتوضّأ و لا تغتسل من الجنابة؟ قال: لا بأس تغسل يديها «1». و هذه صريحة في عدم نجاستها ذاتاً لأنّها لو كانت نجسة بالنجاسة الذاتية لما كان غسل اليدين رافعاً لها بل

موجباً لسرايتها بل يظهر من الرواية انّ عدم النجاسة الذاتية كان مفروغاً عنه عند السائل لأنّ الشبهة العارضة له انّما كانت من جهة عدم التوضّي و الاغتسال من الجنابة. و الظاهر انّ المراد ليس هو الوضوء و الغسل بل نفس استعمال الماء لإزالة خبث البول و الغائط و المني.

و منها: صحيحته الأُخرى: قال: قلت للرضا (عليه السّلام): الخيّاط أو القصّار يكون يهودياً أو نصرانياً و أنت تعلم انّه يبول و لا يتوضّأ؟ قال: لا بأس. «2»

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع عشر ح 11.

(2) التهذيب المجلد الثاني من الطبع القديم ص 115.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 226

..........

______________________________

و هذه الرواية و إن أمكن حملها بالإضافة إلى خصوص الخيّاط على صورة عدم العلم بالملاقاة رطباً إلّا انّها بالنسبة إلى القصّار لا مجال لهذا الحمل فيها لأنّه يغسل الثوب بيده فنفي البأس يستفاد منه طهارته و عدم تنجّس الثوب بقصارته الملازمة للملاقاة مع الرطوبة.

و قد تحصّل من جميع ما ذكرنا انّ الروايات التي استدلّ بها على النجاسة لا يمكن الاستناد بها عليها لعدم تماميتها من حيث الدلالة و انّ أخبار الطهارة ظاهرة الدلالة فلا وجه لتوهّم المعارضة بينهما و لكن صاحب الحدائق (قدّس سرّه) حيث اعتقد ثبوت المعارضة بينهما و لزوم الرجوع إلى الأخبار العلاجية في الباب قال: «إنّ أخبار الطهارة مخالفة للكتاب لقوله عزّ من قائل- إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و موافقة للعامّة فإنّهم صرّحوا بطهارة الآدمي مطلقاً، و أخبار النجاسة موافقة للكتاب و مخالفة للعامّة و قد بيّن في محلّه انّ موافقة الكتاب و مخالفة العامّة من المرجّحات، و قد ورد في رواياتنا الأمر بأخذ ما يخالف مذهب المخالفين من

المتعارضين، و مقتضى ذلك الأخذ بما دلّ على نجاسة أهل الكتاب و حمل أخبار الطهارة على التقية».

و قد تعجّب من صاحب المدارك (قدّس سرّه) و اعترض عليه اعتراضاً شديداً و قال: إنّ قاعدة حمل الظاهر على النص ممّا أحدثوه بعقولهم و لا دليل عليه من كتاب أو سنّة و هي جرأة واضحة لذوي الألباب، إلى أن قال: ما هذا إلّا عجب عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب.

و قال سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه في «رسالة النجاسات» بعد ذكر أخبار الباب التي استدلّ بها على النجاسة «فتحصّل من جميع ذلك انّ لا دليل على نجاسة أهل الكتاب و لا الملحدين ما عدا المشركين بل مقتضى الأصل طهارتهم بل قامت الأدلّة على طهارة الطائفة الاولى، إلى أن قال: فالمسألة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 227

..........

______________________________

مع هذه الحال التي نراها لا ينبغي وقوع خطأ عمّن له قدم في الصناعة فيها فضلًا عن أكابر أصحاب الفن و مهرة الصناعة فكيف بجميع طبقاتهم، و من ذلك يعلم انّ المسألة معروفة بينهم من الأوّل و أخذ كل طائفة من سابقتها و هكذا إلى عصر الأئمّة (عليهم السّلام) و التمسّك بالأدلّة أحياناً ليس لابتناء الفتوى عليها. و لقد أجاد العَلَم المحقّق صاحب الجواهر قدّس اللّٰه نفسه حيث قال: فتطويل البحث في المقام تضييع للأيّام في غير ما أعدّها له الملك العلّام، و تعريض بعض الأجلّة عليه وقع في غير محلّه».

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، در يك جلد، مؤلف، قم - ايران، اول، 1409 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها؛ ص:

227

و يمكن أن يوجّه الحكم بالنجاسة مع الأخبار المتعارضة التي عرفتها بوجه ثالث، و هو انّ روايات الطهارة و إن كانت تامّة من حيث السند و الدلالة إلّا انّ إعراض المشهور عنها يوجب سقوطها عن الاعتبار و الحجّية، فإنّ الإعراض موجب للسقوط فيما إذا لم يكن هناك معارض ففي المقام الذي يكون المعارض موجوداً يوجب السقوط بطريق أولى فالترجيح لا محالة مع أخبار النجاسة هذا غاية ما يمكن أن يقال تأييداً لهذا القول الموافق للمشهور كما عرفت.

و التحقيق إنّ شيئاً من الوجوه الثلاثة التي قد ذكرت لترجيح أخبار النجاسة لا يكون تامّاً:

امّا ما أفاده صاحب الحدائق (قدّس سرّه) فيرد عليه أوّلًا انّه قد فرض في كلامه ثبوت المعارضة بين الروايات الواردة في الباب و تمامية دلالة بعضها على النجاسة و بعضها على الطهارة مع انّك عرفت عدم تمامية شي ء من أخبار النجاسة من حيث الدلالة و التعارض انّما يكون بعد تمامية دلالة الخبرين المتعارضين فلا وجه للرجوع إلى الأخبار العلاجية.

و ثانياً: إنّ أخبار النجاسة على فرض الدلالة تكون ظاهرة فيها بخلاف أخبار الطهارة فإنّها لو لم تكن نصّاً فيها فلا أقلّ من أن تكون أظهر في مفادها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 228

..........

______________________________

من أخبار النجاسة، و تقديم النص أو الأظهر على الظاهر مع انّه ممّا اتفق عليه عند العقلاء و العرف الذين هم الملاك في فهم المرادات من الألفاظ و الروايات انّما تكون واردة على طبق هذه القاعدة و مثلها ممّا لا محيص عنه و لولاه يكون قولك: «رأيت أسداً يرمي» مجملًا من حيث المراد لأنّ لفظة «يرمي» ظاهرة باعتبار كون الرمي رمي السهم المتحقّق باليد في الرجل

الشجاع، و «الأسد» ظاهر في الحيوان المفترس غاية الأمر انّ الدلالة الأُولى أظهر من الثانية و لأجل تقدّم عليها فلا وجه لإنكار القاعدة و نفيها و إلّا يلزم سدّ باب المحاورات و إفادة المرادات في كثير من المقامات فتدبّر.

نعم لو تحقّق التعارض المتوقّف على أصل الدلالة و اتحاد مرتبتها لكان تقديم أخبار النجاسة لأجل الموافقة للشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجّحات على ما قرّر في محلّه لا لأجل كون أخبار الطهارة مخالفة للكتاب مضافاً إلى ما عرفت من عدم دلالة الكتاب على نجاسة غير المشركين و لم يثبت انّ أهل الكتاب بأجمعهم يكونون مشركين، نعم مثل القائل بالأقانيم الثلاثة أو ثبوت الابن للّٰه تعالى و تصرّفه في عالم الوجود مستقلا يكون مشركاً.

و أمّا ما أفاده سيّدنا الأستاذ دام ظلّه من استظهار عدم استناد الأصحاب في الفتوى بالنجاسة إلى أخبارها لعدم تمامية دلالتها على ذلك ففيه:

أوّلًا: انّا إذا راجعنا كلمات الأصحاب لا نرى انّ أحداً منهم تفوّه بأن المسألة لا تحتاج إلى إقامة الدليل على النجاسة فيها بل نرى استنادهم فيها إلى الأخبار جدّاً و النقض و الإبرام فيها أو إلى الآية الكريمة مع ضميمة دعوى توسعة المشركين بحيث يعمّ أهل الكتاب أيضاً بل صرّح في الحدائق بأنّ المشهور قد أعرضوا عن أخبار الطهارة و استندوا إلى أخبار النجاسة و لو كان الحكم مسلماً لم يكن حاجة إلى الاستناد إلى هذه الأخبار كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 229

..........

______________________________

و ثانياً: لو كانت نجاستهم ممّا لا تحتاج إلى الدليل فلا بدّ و إن كانت واضحة عند أصحاب الأئمّة (عليهم السّلام) مع عدم وضوحها عندهم بل وضوح خلافه و الدليل

عليه سؤالات الأصحاب عنهم (عليهم السّلام) بنحو يكشف عن ارتكاز الطهارة الذاتية عندهم و إنّ منشأ السؤال هو عروض النجاسة لعدم المبالاة بالنجاسة و شرب الخمر و أكل الميتة و لحم الخنزير و لا بأس بإيراد بعضها مضافاً إلى ما تقدّم فنقول:

منها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس و هم أخباث (إجناب خ ل) و هم يشربون الخمر، و نسائهم على تلك الحال، ألبسها و لا أغسلها و أُصلّي فيها؟ قال: نعم. «1» و منها: صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر: إنّي أُعير الذمّي ثوبي و أنا أعلم انّه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن أُصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): صلِّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر و لم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه. «2» و منها: ما رواه في الاحتجاج عن محمد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري انّه كتب إلى صاحب الزمان عج عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة و لا يغتسلون من الجنابة و ينجّسون لنا ثياباً فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل؟ فكتب إليه في الجواب: لا بأس بالصلاة فيها. «3» و منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي جميلة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و السبعون ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع و السبعون ح 1.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و السبعون ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة

- النجاسات و أحكامها، ص: 230

..........

______________________________

انّه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه و أُصلّي فيه؟ قال: نعم، قلت: يشربون الخمر؟! قال: نعم نحن نشتري الثياب السابرية فنلبسها و لا نغسلها. «1» و أنت ترى انّ الظاهر من هذه الروايات و مثلها ممّا تقدّم من الروايات السابقة و ما لم يتقدّم انّ المرتكز في أذهان أصحاب الأئمّة (عليهم السّلام) من الصدر الأوّل إلى زمان الغيبة هي الطهارة و ما أوجب ذهاب أصحابنا الإمامية من الفقهاء المتأخّرين عن ذلك العصر إلى النجاسة هو الروايات الواردة الظاهرة باعتقادهم في النجاسة و قد عرفت انّه بعد إمعان النظر فيها لا دلالة لها على النجاسة فكيف تكون النجاسة مسلمة مأخوذة من الأئمّة (عليهم السّلام) بحيث لم تكن قابلة للمناقشة و لا تكون حاجة إلى الاستدلال عليها أصلًا.

و أمّا حديث إعراض المشهور عن الروايات الدالّة على الطهارة فلو سلّم لكان مقتضاه سقوطها عن الاعتبار و الحجّية و قد بيّنا انّ أخبار النجاسة لا دلالة لها عليها فتصبح المسألة فاقدة للدليل على أحد الطرفين فلا محيص عن الرجوع إلى قاعدة الطهارة بعد عدم وجود الدليل في البين.

مع انّ إعراض المشهور عن روايات الطهارة لو أوجب الكشف عن وجود خلل فيها فامّا أن يكون كاشفاً قطعياً عن ذلك و أمّا أن يكشف بالكشف الظنّي؟

لو كان الأوّل فلا بحث فيه لأنّ القطع حجّة من أي طريق حصل و القاطع مجبول على ابتاع قطعه و لكنّه لم يحصل هذا القطع لنا بعد.

و لو كان الثاني فنقول: الخلل المكشوف بالاعراض بالكشف الظنّي امّا أن يكون من حيث أصل الصدور و أمّا أن يكون من حيث جهة الصدور و أمّا أن يكون من جهة الدلالة و أمّا

أن يكون من جهة الابتلاء بالمعارض الأقوى؟

امّا من حيث أصل الصدور فوجود الامارة الظنّية التي لم يقم دليل على

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و السبعون ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 231

..........

______________________________

اعتبارها على ما هو المفروض لا يمنع عن شمول أدلّة حجّية خبر الواحد لعدم ابتناء حجّيته على عدم حصول الظنّ الشخصي على الخلاف و عدم اشتراط اعتباره بذلك و بالجملة الامارة الظنّية غير المعتبرة لا تزاحم دليل الحجّية بوجه.

و أمّا من حيث جهة الصدور فلا يمكن رفع اليد عن ظهور كلام المتكلِّم في كونه مسوقاً لبيان الحكم الواقعي و حمل الروايات على كونها صادرة تقية لأنّ التقية امّا أن تكون في مقام بيان الإمام (عليه السّلام) و حكمه بجواز معاملة الطهارة مع أهل الكتاب لكون آراء أهل السنّة متوافقة على عدم نجاسة الآدمي خلافاً للكتاب المصرّح بنجاسة المشركين و أمّا أن تكون في مقام العمل بأن يكون مرادهم (عليهم السّلام) معاملة السائلين و غيرهم من الشيعة معاملة الطهارة مع أهل الكتاب حفظاً لنفوسهم و تحفّظاً لهم و كلاهما بعيدان في الغاية:

أمّا التقية في مقام البيان و إفادة الحكم فلأنّه من البعيد أن يكون بحضرتهم في جميع مجالسهم التي صدرت فيها أخبار الطهارة من كانوا يتّقون عنه خصوصاً مع صدور بعضها عن الناحية المقدّسة كمكاتبة الحميري المتقدّمة.

و أمّا التقية في مقام العمل حفظاً لنفوس الشيعة عن المهلكة ففيه انّه كيف يمكن أن يأمر الإمام (عليه السّلام) بمعاملة الطهارة معهم و لا يأمرهم بغسل أيديهم و ألبستهم بعد الرجوع إلى منازلهم و زوال موضوع التقية خصوصاً مع ملاحظة ما للنجاسة من الآثار و الأحكام الوضعية الكثيرة.

و الحاصل:

انّ مجرّد الامارة الظنّية غير المعتبرة لا تقاوم أصالة الصدور لا للتقية و نحوها التي هي من الأُصول العقلائية و عليها المدار في باب الألفاظ و كشف المرادات الواقعية منها.

و أمّا من حيث الدلالة بأن كان إعراض المشهور موجباً لثبوت الوهن في أخبار الطهارة من حيث الدلالة ففيه:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 232

..........

______________________________

أوّلًا: انّ الدلالة في بعضها قطعية لا مجال للخدشة فيها و احتمال الخلاف أصلًا كما عرفت.

و ثانياً: انّها على فرض كون الدلالة في جميعها غير متجاوزة عن مرتبة الظهور نقول: إنّ أصالة الظهور تكفي في حجّية الظهور بعد كونها من الأُصول العقلائية المعتبرة و عدم اشتراط اعتبارها بعدم حصول الظنّ الشخصي على الخلاف فالأمارة الظنّية غير المعتبرة على تقدير وجودها لا تنهض في مقابل أصالة الظهور أصلًا.

و أمّا من حيث احتمال وجود معارض أقوى فهل ذلك المعارض اخبار لم تصل إلينا و مفادها النجاسة أو هو الأخبار التي استدلّ بها عليها ممّا قد تقدّمت؟

امّا الأوّل فلا أكثر من الظنّ بذلك و لم يقم دليل على اعتباره كما هو المفروض و أمّا الثاني فقد عرفت عدم دلالتها على النجاسة أولًا و عدم كونها في الظهور بمثابة يمكن أن تتعارض مع أخبار الطهارة ثانياً.

فقد انقدح انّ إعراض المشهور عن روايات الطهارة على تقدير لا يوجب خللًا فيها من حيث الصدور و لا من حيث جهة الصدور و لا وهناً فيها من حيث الدلالة أو الابتلاء بالمعارض الأقوى فمقتضى القواعد المحكمة و الروايات المعتبرة طهارة أهل الكتاب و الشهرة الفتوائية و إن كانت متحقّقة على خلاف ما قلنا إلّا انّها ليست بحجّة شرعية و الإجماع المنقول أيضاً كذلك و

المحصل منه على تقديره لا يكون كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السّلام) لأنّه يحتمل قويّاً بل الظاهر انّ مستند المجمعين هي أخبار النجاسة التي عرفت حالها.

و هذه الشهرة صارت مانعة لبعض المحقّقين عن الفتوى الصريح بالطهارة و أوجبت الالتزام بالجمع بين الأدلّة بطريق آخر حيث قال في «مصباحه»: «إنّ الحقّ انّ المسألة في غاية الإشكال و لو قيل بنجاستهم بالذات و العفو عنها لدى عموم الابتلاء أو شدّة الحاجة إلى معاشرتهم و مساورتهم أو معاشرة من يعاشرهم كما يؤيّده أدلّة نفي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 233

..........

______________________________

الحرج و يشهد له صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة الدالّة على جواز الوضوء بما باشره اليهودي و النصراني لدى الضرورة و المنع منه في غيرها لم يكن بعيداً عمّا يقتضيه الجمع بين الأدلّة، و قد التزم بذلك صاحب الحدائق (قدّس سرّه) في العامة حيث قال بنجاستهم و العفو عنها لدى عموم الابتلاء بهم لمكان الحرج و اللّٰه تعالى عالم بحقائق أحكامه».

و أنت خبير بأنّ هذا الجمع ممّا لا مانع منه لو كانت أخبار النجاسة تامّة دلالة و قد عرفت عدم تماميتها.

ثمّ إنّه لو بنينا على نجاسة أهل الكتاب بمقتضى الأدلّة المتقدّمة فغير خفي انّ تلك الأدلّة تختص باليهود و النصارى و المجوس و يحتاج الحكم بالنجاسة في بقيّة أصناف الكفّار كمنكر الضروري من المسلمين إلى دليل و هو مفقود. و أمّا المرتدّ فإن صدق عليه أحد عناوين أهل الكتاب فهو محكوم بحكمه كما إذا ارتدّ بتهوّده أو تنصّره أو تمجّسه، و أمّا إذا لم يصدق عليه شي ء من تلك العناوين فهو و إن كان كافراً كما سيجي ء في البحث عن معنى الكافر

إلّا انّ الحكم بنجاسة ما لم يكن مشركاً مشمولًا للآية الكريمة مشكل جدّاً.

و قد يستدلّ على نجاسة بقيّة أصناف الكفّار بالأولوية بدعوى انّ أهل الكتاب لو كانوا محكومين بالنجاسة مع اعتقادهم لأصل التوحيد و النبوّة العامة فمن ينكر أصل وجود الصانع أو التوحيد أو النبوّة فهو نجس بطريق أولى.

و لا يخفى انّ هذه الأولوية مسلمة بالإضافة إلى بعض أصناف الكفّار كالمذكورين في مقام الاستدلال و أمّا بالنسبة إلى البعض الآخر كالمرتدّ غير المشرك أو منكر الضروري من المسلمين فلا مجال لها و عليه فتعميم الحكم بالنحو المذكور في المتن مشكل و لو التزمنا بنجاسة الذمّي أيضاً.

المقام الثالث: في معنى الكافر و المراد منه و قد صرّح في المتن بأنّه من انتحل غير الإسلام أو جحد ما يعلم من الدين ضرورة بحيث يرجع جحده إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 234

..........

______________________________

إنكار الرسالة أو تكذيب النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) أو تنقيص الشريعة أو صدر منه ما يقتضي كفره من قول أو فعل و الظاهر انّ المراد من القسم الأخير هو صدور القول أو الفعل بمجرّده و إن لم يعلم بكونهما ناشيين عن الاعتقاد كما انّ المراد بالأوّلين هو الاعتقاد في الانتحال أو الجحد و هذا إنّما يبتني على عدم كون الكفر أمراً اعتقادياً محضاً بل قد يكون بالقول أو الفعل لكن أخذ «الكفر» في تعريف الكافر و بيان المراد منه مع انّه أخذ الشي ء في تعريفه ربّما يشعر بخلاف ما ذكر فتدبّر.

و التحقيق في هذا المقام انّ «الكفر» عنوان في مقابل عنوان «الإسلام» فمن لا يكون مسلماً يكون كافراً لا محالة سواء كان منكراً لوجود الصانع تعالى أو

لم يتوجّه إليه أصلًا أو توجّه و كان شاكّاً في وجوده و الدليل على نجاسة هؤلاء الآية الكريمة الدالّة على نجاسة المشركين لأنّه لو كان المشرك المعتقد بأصل وجوده تعالى نجساً فمن كان منكراً له أو غير متوجّه إلى أصل وجوده حتّى يعتقده نفياً أو إثباتاً، أو شاكّاً فيه بعد التوجّه و الالتفات يكون نجساً بطريق أولى أو كان منكراً لنبوّة نبيّنا محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و إن كان معتقداً بالنبوّة العامّة، أو جعل شريكاً للّٰه تعالى في الذات أو في تدبير العالم و إدارته أو في مقام العبادة فالمشرك على ثلاثة أقسام: الأوّل: المشرك بحسب الذات القائل بتعدّد واجب الوجود و عدم كون الوجوب ملازماً للوحدة و عدم قيام دليل عليها. الثاني: المشرك في الأفعال و هو الذي جعل شريكاً له تعالى في الأفعال و تدبير العالم. الثالث: المشرك في مقام العبادة كالمشركين المعاصرين لزمان البعثة و نزول الوحي.

و لا بدّ في توضيح معنى الشرك في العبادة من بيان معنى العبادة و أقسامها فنقول: إنّها قد تطلق على مجرّد الإطاعة و التبعية كقوله تعالى أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰا بَنِي آدَمَ أَنْ لٰا تَعْبُدُوا الشَّيْطٰانَ «1» و قد تطلق على الخضوع و التذلّل كقوله تعالى

______________________________

(1) يس: 60.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 235

..........

______________________________

حكاية أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنٰا وَ قَوْمُهُمٰا لَنٰا عٰابِدُونَ «1» أي خاضعون ذليلون و هذان المعنيان غير المعنى الذي تكون العبادة منصرفة إليه عند الإطلاق و تستعمل فيه بنحو الشيوع، و المعنى الشائع المنصرف إليه هو التخضّع في مقابل المعبود بعنوان الألوهية و هذا المعنى هو المراد من قوله تعالى في

مقام التعليم إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ «2» الظاهر في الانحصار به تعالى و المشركون في عصر الإسلام كانوا يعبدون الأصنام و يجعلونها آلهة و يتوهّمون انّ الإنسان لا يمكن له أن يتقرّب بنفسه إلى اللّٰه الخالق للسماوات و الأرض الوحيد في ذاته و فعله و انّ الأصنام قادرة على أن يشفعوا لهم عند اللّٰه و يقرّبهم إلى اللّٰه زلفى. و من هنا يمكن أن يقال: إنّ كلمة التوحيد الموجبة للفلاح و الخروج عن ظلمة الشرك إنّما تكون ناظرة إلى التوحيد في العبادة و انّ المراد بالأدلّة المنفي فيها هو الصالح للعبودية لشيوع الشرك في العبادة في ذلك العصر.

لا يقال: إنّ ما يعتقده الشيعة الإمامية بالإضافة إلى أئمّتهم (عليهم السّلام) من كونهم شفعاء عند اللّٰه تعالى و ما يراعونه من احترام قبورهم المقدّسة و زيارتهم و تقبيل الضرائح الموضوعة عليها و طلب الحاجة منهم لعلّه يشبه الشرك كما هو معتقد فرقة ضالّة من العامّة العمياء و بعض من ينتحل التشيّع ممّن لا تحصيل له و لأجله يتحرّك بحركة تلك الفرقة و تقلّبه الأيادي السياسية التي هدفها المحض تفرقة الشيعة و إيجاد الاختلاف بينهم لئلّا ينتشر مرامهم الذي هو المرام الوحيد الذي يقبله العقل السليم و يؤيّده العلم العصري مع بلوغه إلى المرتبة التي لا يتوقّع مثلها.

لأنّا نقول: و إن كان البحث الفقهي لا يناسب هذه المباحث إلّا انّ الإشارة الإجمالية الموجزة لعلّها لم تكن خالية عن المناسبة خصوصاً بعد ملاحظة إمكان التأثير في بعض القلوب الصافية غير المظلمة على حقيقة الأمر فنقول:

امّا احترام قبورهم و زيارتها و تقبيل الضرائح المقدّسة فهو مضافاً إلى

______________________________

(1) المؤمنون: 47.

(2) الفاتحة: 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات

و أحكامها، ص: 236

..........

______________________________

انّه ليس بشرك دليل على كمال التوحيد لأنّه مضافاً إلى عدم كونه عبادة فإنّ احترام القبر و زيارته و التقبيل أمر و العبادة أمر آخر فهل ترى انّ احترام العالم الحي عبادة له أو انّ زيارة المؤمن كذلك التي هي من المستحبّات الشرعية تعدّ عبادة له، أو انّ تقبيل الطفل محبّة أو الرجل المحترم احتراماً و تعظيماً عبادة له فكيف يتفوّه بذلك فيما يتعلّق بالقبور المقدّسة و هل فرق بين تقبيل الحجر الأسود الذي هو من المستحبّات و تقبيل الضرائح المقدّسة؟! و هل يمكن أن يتوهّم أحد انّ الأوّل مع كونه شركاً صار مستثنى؟! و هل الشرك يمكن أن يقع الاستثناء من حكمه مع انّه لا يغفر أن يشرك به؟! يكون كاشفاً عن التعظيم و تكريم جماعة أكرمهم اللّٰه بتاج الكرامة و اصطفاهم للخلافة و الولاية بما انّهم كذلك ففي الحقيقة يكون تكريمهم لإضافتهم الخاصّة إلى اللّٰه تعالى و قربهم في نظره و هذا دليل على كمال التوحيد.

و أمّا التوسّل إليهم و جعلهم شفعاء و طلب الحاجة منهم فلأجل انّ اللّٰه تعالى قد أعطاهم هذه المزايا و فضّلهم بهذه الفضائل و مع ذلك يصدر الجميع بإذن اللّٰه فهل ترى من نفسك انّ مولى من الموالي العرفية إذا أعطى عبده دراهم و جعلها باختياره في أن يصرفه في أي فقير شاء فإذا اطلع فقير على ذلك و طلب من العبد درهماً مثلًا يكون هذا الطلب منافياً لمقام المولى و مضادّاً لمولويته و شركاً له؟! فاللّٰه تعالى أقدر الأئمّة (عليهم السّلام) على التصرّف في العالم و جعلهم شفعاء فالتوسّل إليهم و طلب الحاجة منهم في الحقيقة إمضاء لفعل اللّٰه و تسليم لعنايته لا

انّه شرك و مضاد للألوهية و الخالقية.

نعم لا مجال لإنكار انّ السجود لغير اللّٰه محرّم شرعاً لقوله تعالى لٰا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لٰا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ «1» فمن سجد لغير اللّٰه ارتكب محرماً

______________________________

(1) فصّلت: 37.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 237

..........

______________________________

لكن نقول:

أوّلًا: انّه لم نر أحداً من الشيعة مع اختلاف طبقاتهم في العلم و المعرفة و ثبوت الخواص و العوام بينهم أن يسجد للأئمّة (عليهم السّلام) أو لقبورهم المطهّرة و الشاهد الوجدان.

و ثانياً: انّ الكلام في الشرك و هو أمر لا يلائم الاستثناء بوجه، و السجود لغير اللّٰه غايته انّه محرم و ليس كل حرام موجباً للشرك و الدليل على عدم كونه شركاً انّ السجود لآدم كان مأموراً به للملائكة بأجمعهم و الشيطان الذي كان من الجنّ و لو كان السجود لغير اللّٰه شركاً كيف يمكن أن يكون مأموراً به و هل يجتمع الأمر بالشرك و لو في مورد مع عدم صلاحية الشرك للمغفرة أصلًا، فلو فرض انّ الشيعة تسجد للأئمّة (عليهم السّلام) فغايته تحقّق الفعل الحرام لا الشرك غير القابل للغفران نعوذ باللّٰه من الجهل و عدم العرفان.

ثمّ إنّ السجود على التربة خارجة عن هذا البحث كلّا لأنّ المحرّم انّما هو السجود لغير اللّٰه و السجود على التربة انّما هو سجود للّٰه على التربة و فرق واضح بين السجود للشي ء و على الشي ء و الدليل عليه إمكان اجتماعهما فإنّ المصلّي في سجوده لا يسجد إلّا للّٰه و في هذه الحالة يضع جبينه على التربة فتوهّم الشرك في ذلك لا يكاد ينشأ إلّا عن الجهل الأكيد و البُعد الشديد عن الحقّ السديد و اختيار تربة

قبر الحسين (عليه السّلام) انّما هو للتبرّك بها لأجل أنّه بذل نفسه و أبنائه و أصحابه في اللّٰه تبارك و تعالى و دينه و قانونه ففي الحقيقة يرجع ذلك إلى تكريم الدين الإلهي و تعظيم القانون السماوي و توحيد اللّٰه تعالىٰ.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان أصناف المشركين و أحكامهم فنقول: قد عرفت انّ الشرك امّا أن يكون في الذات أو في الفعل أو في العبادة و قد أطلق الشرك في كتاب اللّٰه على جميع الأصناف الثلاثة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 238

..........

______________________________

امّا الأوّل: فقد أطلق عليه في مثل قوله تعالى لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «1» و قوله تعالى قُلْ إِنَّمٰا هُوَ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ «2».

و أمّا الثاني: فقد أطلق عليه في مثل قوله تعالى خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «3» و قوله تعالى وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ «4» أي في الأعمال و السلطنة.

و أمّا الثالث: ففي مثل قوله تعالى قُلْ إِنَّمٰا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّٰهَ وَ لٰا أُشْرِكَ بِهِ «5» و قوله تعالى وَ قٰالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ مٰا عَبَدْنٰا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ «6».

و هل يستفاد نجاسة المشرك بجميع أصنافه الثلاثة من الآية الكريمة إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أم لا؟ وجهان مبنيان على انّ الألف و اللام في الآية هل لإفادة العموم نظراً إلى انّ الجمع المحلّى باللام يفيد العموم فتدلّ الآية على نجاسة جميع الأصناف من المشركين، أو للعهد فيختصّ بالمشركين المعهود في ذلك العصر و هم المشركون في خصوص

العبادة لما عرفت من شيوعهم في عصر نزول الوحي و بعثة النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه و آله) الظاهر هو الثاني و لكن مع ذلك تدلّ الآية على نجاسة جميع الأصناف غاية الأمر انّ دلالتها على نجاسة المشرك في خصوص العبادة انّما تكون بالمنطوق و على نجاسة القسمين الآخرين بمفهوم الموافقة الذي يتوقّف على الأولوية كما هو غير خفي. هذا كلّه في المشرك.

و أمّا الكافر الذي هو محطّ النظر في المقام فقد عرفت انّ التقابل بين الكفر و الإسلام تقابل العدم و الملكة و انّ الكافر من لا يكون مسلماً و شأنه أن يكون ذلك فلا بدّ في تحصيل مفهوم الكفر من تحصيل مفهوم الإسلام حتّى يتّضح ما يقابله من الكفر.

______________________________

(1) التوبة: 9.

(2) الأنعام: 6.

(3) النحل: 3.

(4) الإسراء: 111.

(5) الرعد: 36.

(6) النمل: 35.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 239

..........

______________________________

فنقول: هل الإسلام عبارة عن مجرّد الاعتقاد القلبي بالتوحيد و الرسالة و لو لم يقترن بالإقرار باللسان، أو انّه عبارة عن مجرّد الإقرار باللسان و لو لم يكن ناشئاً عن الإذعان بالجنان، أو انّه عبارة عن اجتماع كلا الأمرين: الاعتقاد بالجنان و الإقرار باللسان، أو انّه لا بدّ من التفصيل بين الكافر الذي أسلم و بين من ولد في دار الإسلام و اشتدّ في حجر المسلمين و كان أبواه كلاهما أو أحدهما مسلماً؟ وجوه و احتمالات أقواها هو الوجه الثاني الذي يرجع إلى انّ الإسلام لا يتجاوز عن اللسان و انّه عبارة عن مجرّد الإقرار به و لو لم يكن هناك اعتقاد أصلًا.

و يمكن أن يستدلّ عليه من الكتاب بقوله تعالى قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا

وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ «1»، فإنّ ظاهره الذي لا ينبغي الخدشة فيه ان ما يفتقر إلى الاعتقاد القلبي هو الايمان دون الإسلام فإنّه يتحقّق بمجرّد القول.

و قوله تعالى إِذٰا جٰاءَكَ الْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ إلى قوله تعالى وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ «2» أي كاذبون في شهادتهم بأنّك رسول اللّٰه فإنّه لا خفاء في انّ النبي كان يعامل مع المنافقين معاملة المسلمين و لم يكن يجري عليهم حكم الكافرين مع وضوح عدم اعتقادهم بصدق النبي في نبوّته و قد شهد اللّٰه بكذبهم في دعوى اعتقاد ذلك، و عليه فكون المنافقين غير الكافرين دليل على انّ الإسلام مجرّد الإقرار باللسان و إن لم يكن مقروناً بالاعتقاد القلبي أصلًا، و يؤيّده قوله تعالى في أوائل سورة البقرة وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «3» و من السنّة بروايات: منها ما عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن قوله عزّ و جلّ قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا قال (عليه السّلام): أ لا ترى انّ الإسلام غير الإيمان. «4»

______________________________

(1) الحجرات: 14.

(2) المنافقون: 1.

(3) البقرة: 8.

(4) أصول الكافي باب ان الإسلام يحقن به الدم ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 240

..........

______________________________

و منها: ما عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سمعته يقول قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا فمن زعم أنّهم آمنوا فقد كذب و من زعم انّهم لم يسلموا فقد كذب». «1» و منها: موثقة سماعة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام):

أخبرني عن الإسلام و الإيمان أ هما مختلفان؟ فقال: إنّ الايمان يشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الايمان، فقلت: فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّٰه و التصديق برسول اللّٰه، به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الإيمان: الهدى و ما يثبت في القلوب مع صفة الإسلام و ما ظهر من العمل به، و الإيمان أرفع من الإسلام بدرجة، انّ الايمان يشارك الإسلام في الظاهر و الإسلام لا يشارك الايمان في الباطن و إن اجتمعا في القول و الصفة. «2» و منها: غير ذلك من الروايات الظاهرة في مغايرة الإسلام و الإيمان و إنّ الأوّل مجرّد الإقرار اللساني بالوحدانية و الرسالة.

و قد فصل بعض الأعلام على ما تقريرات بحثه بين حدوث الإسلام و بقائه قائلًا: إنّ الحدوث يحتاج إلى الإقرار باللسان دون البقاء و الاستمرار فان ولد المسلم لا يحتاج في إسلامه إلى شي ء من الإقرار باللسان و الاعتقاد بالقلب فإنّه ما لم ينكر وحدانيته تعالى أو رسالة الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) فمسلم و إن لم يظهر و لم يعتقد بهما و استدل عليه مضافاً إلى السيرة القطعية المتّصلة بزمانهم (عليهم السّلام) حيث إنّه لم يسمع إلزامهم أحداً من المسلمين بالإقرار بالشهادتين حين بلوغه بجملة من الروايات:

منها: ما عن زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا و لم يكفروا. «3» حيث رتّب الكفر في المسلمين على الجحود لأنّهم المراد

______________________________

(1) أصول الكافي باب ان الإسلام يحقن به الدم ح 5.

(2) أصول الكافي باب ان الايمان يشرك الإسلام .. ح 1

(3) الوسائل أبواب

مقدمة العبادات الباب الثاني ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 241

..........

______________________________

ب «العباد» في الرواية ضرورة انّه لا معنى للجملة المذكورة بالإضافة إلى الكفّار و عليه فما دام المسلم لم يجحد لشي ء من الأحكام الإسلامية فهو محكوم بالطهارة و الإسلام.

و منها: ما عن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) جالساً عن يساره، و زرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) ما تقول فيمن شكّ في اللّٰه؟ فقال: كافر يا أبا محمّد، قال: فشكّ في رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله)؟ فقال: كافر، ثمّ التفت إلى زرارة فقال: إنّما يكفر إذا جحد «1». إلى أن قال: و منها غير ذلك من الأخبار التي تدلّ على عدم اعتبار شي ء من الأمرين المتقدّمين في إسلام من حكم بإسلامه من الابتداء، و أمّا من حكم بكفره كذلك فالحكم بطهارته يتوقّف على أن يظهر الإسلام بالإقرار بالشهادتين.

و يمكن أن يورد عليه بأنّ جريان السيرة على الحكم بإسلام أولاد المسلمين بعد البلوغ و عدم إلزامهم أحداً منهم بالإقرار بالشهادتين انّما هو لعلمهم بأنّهم يعتقدون بالعقائد الحقّة أو مع شكّهم في ذلك أيضاً، و أمّا لو علم عدم اعتقاده بها و لم يظهر الإسلام فلم يعلم جريان السيرة على ذلك لو لم ندع العلم بخلافه.

و أمّا الروايات فالإنصاف أنّها بصدد بيان ما يحصل به الكفر لا ما به يتحقّق الإسلام و كيف يمكن الحكم بإسلام من نعلم عدم اعتقاده بشي ء من العقائد الحقّة و لم يظهر الإسلام أصلًا بمجرّد كون أحد أبويه مسلماً فتدبّر جيّداً فالإسلام مطلقاً هو الإقرار باللسان فقط.

ثمّ إنّ هنا

روايات قد حكم في بعضها بكفر من شكّ، و في بعضها بأنّه لا يكفر إلّا بالجحود و الاستحلال، و في البعض الثالث بكفر المنكر و الشاكّ بمعنى انّه قد جمع بين الشاكّ و المنكر.

______________________________

(1) الوسائل أبواب حد المرتد الباب السادس.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 242

..........

______________________________

فمن الطائفة الأُولى ما عن عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: من شكّ في اللّٰه و رسوله فهو كافر «1». و الظاهر منها انّه كافر إذا شكّ و لو لم يظهر. و مثلها صحيحة منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): من شكّ في رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله)؟ قال: كافر. قال: قلت: فمن شكّ في كفر الشاكّ فهو كافر؟ فأمسك عنّي فرددت عليه ثلاث مرّات فاستبنت في وجهه الغضب. «2» و الظاهر منها أيضاً كفر الشاكّ و لو لم يظهر.

و من الطائفة الثانية صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا. «3» فإنّ مفهومها توقّف الكفر على الجحد فقط. و رواية عبد الرحيم القصير: و لا يخرجه إلى الكفر إلّا الجحود و الاستحلال. «4» و من الطائفة الثالثة التي قد جمع فيها بين الشاكّ و المنكر صحيحة محمد ابن مسلم المتقدّمة التي تدلّ بصدرها على انّ من شكّ في اللّٰه أو في رسول اللّٰه فهو كافر، و بذيلها على انّ الكفر متوقّف على الجحود فظاهرها التنافي بين الصدر و الذيل و لا مجال لتوهّم كون الذيل قرينة على تقييد الصدر بصورة الجحود بعد كون طرف الخطاب في الصدر هو أبا بصير

و في الذيل هو زرارة فلا وجه للتقييد.

و يمكن أن يكون قوله (عليه السّلام) في الصحيحة: «انّما الكفر ..» بالتشديد

______________________________

(1) أصول الكافي باب الكفر ح 10.

(2) أصول الكافي باب الكفر ح 11.

(3) الوسائل أبواب مقدمة العبادات الباب الثاني ح 8 و أصول الكافي باب الكفر ح 19.

(4) أصول الكافي الباب الثاني من أبواب ان الايمان يشرك مع الإسلام ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 243

..........

______________________________

من باب التفعيل و عليه فيمكن الجمع بين الصدر و الذيل و تقرير عدم التنافي بينهما بأنّ من شكّ في اللّٰه أو في رسول اللّٰه فهو كافر بينه و بين اللّٰه، و أمّا الحكم بكفره في الخارج و ترتيب آثاره عليه فهو يتوقّف على جحوده و إنكاره و بهذا يمكن الجمع بين الطائفتين الأوليين بحمل الطائفة الأُولى الدالّة على كفاية مجرّد الشكّ في الكفر على الكفر بينه و بين اللّٰه و حمل الطائفة الثانية الدالّة على توقّف الكفر على الجحود على الكفر في الخارج و عند الناس و هو الذي يكون موضوعاً للآثار المترتّبة عندهم.

نعم يبقى الكلام في انّ مقتضى هذه الروايات بناءً على ما ذكرنا في الجمع بينها هو انّ الكفر أمر وجودي يتوقّف على الجحود و الإنكار الذي هو عبارة بحسب الظاهر عن اللفظ الدال عليه أو الأعمّ منه و من الفعل و على أي تقدير فهو أمر وجودي حادث بعد الجحود الذي هو أيضاً كذلك، و قد تقدّم منّا انّ تقابل الكفر و الإسلام تقابل العدم و الملكة فإذا كان الإسلام عبارة عن الإقرار باللسان كما حقّقناه فالكفر لا محالة يرجع إلى عدم الإقرار و لا يتوقّف على الجحود فكيف

يجمع بين هذه الروايات و الروايات التي استندنا إليها في معنى الإسلام.

و لا محيص من أن يقال إمّا بكونهما ضدّين و أمرين وجوديين سواء قلنا بثبوت الثالث لهما أو لم نقل به بل كانا ضدّين لا ثالث لهما، أو يقال بأنّ الجحود في هذه الروايات هو مجرّد عدم الإقرار الذي هو أمر عدمي أو يقال بأنّ الروايات الدالّة على توقّف الكفر على الجحود انّما يكون موردها مسبوقيّة الإسلام بدليل قوله (عليه السّلام) في رواية القصير: «لا يخرجه» الظاهر في إخراج المسلم من إسلامه إلى الكفر و كذا قوله (عليه السّلام) في صحيحة زرارة: «لو انّ العباد ..» الظاهر في كون المراد هو المسلمين، كما انّ قوله (عليه السّلام) في صحيحة ابن مسلم:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 244

..........

______________________________

«انّما يكفر» لا يخلو عن إشعار بذلك لو لم ندع الدلالة. و عليه فنقول: إنّ المسلم الذي أقرّ باللسان إذا أُريد الحكم بكفره لا يتحقّق له طريق غير الجحد و الإنكار فإنّه ما دام لم يجحد يكون محكوماً بالإسلام بمقتضى إقراره إذ لا يلزم تكرار الإقرار دائماً فالطريق المنحصر هو الجحد و الإنكار لإثبات كونه من الكفّار، و أمّا الكفر غير المسبوق بالإسلام فلا يتوقّف على الجحد بل يكفي فيه مجرّد عدم الإقرار باللسان فلا ينافي روايات الجحد ما ذكرنا من كون تقابل الأمرين تقابل العدم و الملكة. نعم في الكفر المسبوق لا طريق له غير الجحد.

و قد انقدح ممّا ذكرنا انّ التفصيل المتقدّم من بعض الأعلام في معنى الإسلام لا بدّ من الالتزام بمثله في الكفر بالكيفية التي ذكرناها فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا انّ عدم الإقرار بالصانع أو

بالوحدانية في الذات أو في الفعل أو في العبادة يوجب تحقّق مفهوم الكفر بلا إشكال، كما انّه ظهر من الروايات المتقدّمة إنّ إنكار الرسالة أيضاً موجب للكفر و انّ الإسلام يتقوّم بالإقرار بالشهادتين و يدلّ على الثاني أيضاً قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إلى قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّٰارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّٰاسُ وَ الْحِجٰارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ «1» فإنّ ظاهرها إنّ إنكار إعجاز القرآن الملازم لإنكار الرسالة بل مجرّد الريب و عدم الإقرار موجب لتحقّق عنوان الكفر كما لا يخفىٰ.

و الظاهر انّ إنكار الخاتمية لا يكون سبباً للكفر في مقابل إنكار الرسالة بل إيجابه للكفر انّما هو من جهة استلزامه لإنكار الرسالة فإنّ الخاتمية من ضروريات دين الإسلام و ملازمتها له من الواضحات و القرآن معجزة خالدة أبدية و نفسه تدلّ على اتصافه بهذه الصفة فإنكار الخاتمية ملازم لإنكار الرسالة و لا دليل على استقلاله في حصول الكفر.

______________________________

(1) البقرة: 23.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 245

..........

______________________________

و أمّا إنكار المعاد فلم يقع التعرّض له في كلمات الأصحاب من جهة كونه سبباً مستقلا لحصول الكفر أو كونه مستلزماً لإنكار الرسالة فلا يكون مستقلا في السببية؟ قال بعض الأعلام: إنّا لا نرى لإهمال اعتباره وجهاً و قد قرن الايمان به بالايمان باللّٰه سبحانه في غير واحد من الموارد كما في قوله عزّ و جلّ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ «1» و قوله تعالى مَنْ كٰانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ «2» و قوله تعالى إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ «3».

و

فيه: إنّ صرف المقارنة بين الايمان به و الإيمان باللّٰه لا دلالة له على انّ إنكاره سبب لتحقّق الكفر مستقلا فإنّه مضافاً إلى عدم كون المقارنة في جميع الموارد كقوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ إلى قوله تعالى وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «4» فإنّك ترى عدم المقارنة في الآية تكون المقارنة في بعض الآيات لأجل كونها بصدد بيان حال المؤمنين و تعريف الايمان دون الإسلام و المسلمين، و في مقام بيان بعض الآثار التي يكون الايمان باليوم الآخر دخيلًا فيها.

و بالجملة: إنّ تلك الآيات المشتملة على المقارنة مسوقة لبيان مثل أوصاف المتّقين و العامرين للمساجد و المستحقّين لأنعُم اللّٰه في الدار الآخرة لا لبيان أركان الإسلام في مقابل الكفر الذي يكون من آثاره الطهارة و حقن الدماء فكيف يمكن أن يرفع اليد بسببها عن الروايات الكثيرة الدالّة على انّ الإسلام هو الإقرار بالشهادتين أو الالتزام بتقييدها بها. نعم قد عرفت انّه لا محيص عن الالتزام بكون إنكار المعاد موجباً للكفر لأنّ الاعتقاد به من ضروريات الإسلام بحيث لا يكاد

______________________________

(1) النساء: 59.

(2) البقرة: 232.

(3) التوبة: 18.

(4) البقرة: 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 246

..........

______________________________

يخفى على من اعتقد بالنبي و معجزته الباهرة فإنكاره يستلزم إنكار النبوّة و لأجله يوجب الكفر فلا يكون له موضوعية أصلًا.

بقي الكلام في هذا المقام في إنكار ضروري من ضروريات الدين و انّه هل يكون سبباً للكفر مستقلا فيوجب تحقّق الكفر و لو لم يلتفت إلى كونه ضرورياً بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة مثلًا أو انّه سبب غير مستقلّ و لا يكون له موضوعية في حصول الكفر أصلًا بل

انّما يوجبه في خصوص ما إذا رجع إنكاره إلى مثل إنكار الرسالة و لازمه التوجّه و الالتفات إلى كونه ضرورياً في الدين؟ وجهان بل قولان نسب في مفتاح الكرامة إلى ظاهر الأصحاب انّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر بنفسه.

و قد استدلّ عليه بوجهين: الوجه الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) من انّ الإسلام عرفاً و شرعاً عبارة عن التديّن بهذا الدين الخاص الذي يراد منه مجموع حدود شرعية منجزة على العباد كما قال اللّٰه تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ ثمّ قال: و أمّا ما دل على كفاية الشهادتين في الإسلام فالظاهر انّ المراد منه حدوث الإسلام ممّن ينكرهما من غير منتحلي الإسلام فلا ينافي ما ذكرنا من انّ عدم التديّن ببعض الشريعة أو التديّن بخلافه موجب للخروج عن الإسلام. و كيف كان فلا إشكال في انّ عدم التديّن بالشريعة كلّاً أو بعضاً مخرج عن الدين و الإسلام.

و يرد عليه أوّلًا: انّ مقتضى هذا الاستدلال ثبوت الكفر على كل منكر لأيّ حكم من الأحكام الثابتة في الشريعة قاصراً كان المنكر أو مقصّراً، منجزاً كان ذلك الحكم أو غير منجّز لأنّه لو كان المناط إنكار حكم من أحكام الإسلام فلا فرق فيه بين المنجز و غيره لأنّ عدم التنجّز على المكلّف لا يوجب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 247

..........

______________________________

خروج غير المنجز عن كونه من أحكام الإسلام و قواعده فلا وجه للتقييد بالمنجز، مع انّه ينافي ما قاله في ذيل كلامه تأييداً لعموم كلام الفقهاء في نجاسة الخوارج و النواصب و شموله للقاصر و المقصر من أنّه يؤيّدها ما ذكرنا من انّ التارك للتديّن ببعض الدين خارج عن

الدين. و أنت خبير بأنّ التكليف بالإضافة إلى القاصر لا يكاد يتّصف بالتنجّز أصلًا.

و ثانياً: قد عرفت انّ مقتضى الآيات و الروايات انّ الإسلام غير الايمان و انّه عبارة عن مجرّد الشهادتين من دون أن يكون هناك فرق بين الحدوث و البقاء و عدم إشعار شي ء من الروايات بذلك فضلًا عن الدلالة، مع انّه ورد بعضها في مورد المسلمين و من زعم الشيخ (قدّس سرّه) انّ إسلامه هو التديّن بمجموع الأحكام كصحيحة حمران بن أعين أو حسنته عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سمعته يقول: الايمان ما استقرّ في القلب و أفضى به إلى اللّٰه عزّ و جلّ و صدقه العمل بالطاعة للّٰه و التسليم لأمره، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها. الحديث. «1» الوجه الثاني: بعض الروايات الواردة في معنى الإسلام و الكفر كصحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السّلام): من شهد أن لا إلٰه إلّا اللّٰه و انّ محمّداً (صلّى اللّٰه عليه و آله) رسول اللّٰه كان مؤمناً؟ قال: فأين فرائض اللّٰه؟! قال: و سمعته يقول: كان علي (عليه السّلام) يقول: لو كان الايمان كلاماً لم ينزل فيه صوم و لا صلاة و لا حلال و لا حرام. قال: و قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): انّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلّا اللّٰه و انّ محمّداً رسول اللّٰه فهو مؤمن، قال: فلم يضربون الحدود و لم تقطّع أيديهم؟! و ما خلق اللّٰه عزّ و جلّ خلقاً أكرم على اللّٰه عزّ و جلّ من المؤمن لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين و إن جوار

اللّٰه

______________________________

(1) أصول الكافي باب ان الايمان يشرك الإسلام ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 248

..........

______________________________

للمؤمنين و انّ الجنّة للمؤمنين و إنّ الحور العين للمؤمنين ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟ «1» و عن شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) انّ هذه الرواية واضحة الدلالة على أن التشريع بالفرائض أي التديّن بها مأخوذ في الايمان المرادف للإسلام.

و الحقّ انّ صدرها واضحة الدلالة على انّ المراد من الايمان ليس هو الإسلام بل الإيمان الكامل المنافي لترك ما فرضه اللّٰه كيف و عدم ضرب الحدود و عدم قطع الأيدي من أوصاف المؤمن بالمعنى الأخصّ لا المسلم و لا المؤمن بالمعنى الوسيع كما هو واضح.

و أمّا ذيلها أي قوله (عليه السّلام): «فما بال من جحد الفرائض كان كافراً» فالظاهر انّ مفاده انّ جحد الفرائض موجب للكفر و لكنّه من الممكن أن يكون المراد جحد جميع الفرائض حيث إنّ الفرائض جمع محلّى باللّام و من الواضح انّ إنكار جميع الفرائض يستلزم إنكار النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) و هو يوجب الكفر بلا خلاف كما تقدّم، أو يكون الجحود مغايراً للإنكار كما هو الظاهر فإنّ الجحد هو الإنكار عن علم نحو إنكار وجوب الصلاة مع العلم بوجوبها و هو أيضاً مستلزم لإنكار النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) كما هو غير خفيّ، فالرواية لا دلالة لها على اعتبار أمر زائد على الاعتقاد بالرسالة بعد الاعتقاد بالألوهية و شؤونها في معنى الإسلام المقابل للكفر.

و رواية حمران بن أعين قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن قوله عزّ و جلّ- إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً قال: امّا آخذ فهو

شاكر و أمّا تارك فهو كافر. «2» و يمكن أن يكون المراد من التارك هو من ترك الجميع لأنّ الترك لا يكاد يتحقّق إلّا به، و من الآخذ من أخذ و لو

______________________________

(1) أصول الكافي أبواب ان الإسلام يشرك للايمان الباب الأخر ح 2.

(2) أصول الكافي باب الكفر ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 249

..........

______________________________

بالبعض فإنّه يتحقّق بأخذ البعض أيضاً فتدبّر.

و رواية عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن قول اللّٰه عزّ و جلّ- وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمٰانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قال: ترك العمل الذي أقرَّ به، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم و لا شغل. «1» و رواية مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و سُئل ما بال الزاني لا تسمّيه كافراً و تارك الصلاة قد سمّيته كافراً و ما الحجّة في ذلك؟ فقال: لأنّ الزاني و ما أشبهه إنّما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنّها تغلبه، و تارك الصلاة لا يتركها إلّا استخفافاً بها، و ذلك لأنّك لا تجد الزاني يأتي المرأة إلّا و هو مستلذّ لإتيانه إيّاها قاصداً إليها، و كلّ من ترك الصلاة قاصداً إليها فليس يكون قصده لتركها اللذّة، فإذا نفيت اللذّة وقع الاستخفاف و إذا وقع الاستخفاف وقع الكفر الحديث. «2» و رواية أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث طويل في بيان وجوه الكفر: و الوجه الرابع من الكفر، ترك ما أمر اللّٰه عزّ و جلّ به و هو قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَكُمْ لٰا تَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ وَ لٰا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ ثُمَّ

أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هٰؤُلٰاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيٰارِهِمْ تَظٰاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسٰارىٰ تُفٰادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرٰاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتٰابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فكفرهم بترك ما أمر اللّٰه به عزّ و جلّ به و نسبهم إلى الايمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ إِلّٰا خِزْيٌ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ الْعَذٰابِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ

______________________________

(1) أصول الكافي باب الكفر ح 5.

(2) أصول الكافي باب الكفر ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 250

..........

______________________________

الحديث. «1» و الظاهر من هذه الروايات انّ ترك بعض ما أمر اللّٰه تعالى به يوجب الكفر، و يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ «2» بناءً على أن يكون المراد هو الكفر بسبب الترك.

و ظاهر بعض الأخبار انّ إنكار بعض ما أمر اللّٰه به يوجب الكفر كرواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: ذكر عنده سالم بن أبي حفصة و أصحابه فقال: إنّهم ينكرون أن يكون من حارب عليّاً (عليه السّلام) مشركين فقال أبو جعفر (عليه السّلام): فإنّهم يزعمون انّهم كفّار، ثمّ قال لي: إنّ الكفر أقدم من الشرك ثمّ ذكر كفر إبليس حين قال له: اسجد فأبى أن يسجد قال: الكفر أقدم من الشرك فمن اجترى على اللّٰه فأبى الطاعة و أقام على الكبائر فهو كافر يعني مستخفّ كافر «3». و روى هذه

بسند آخر عن زرارة عنه (عليه السّلام) مع اختلاف يسير نحو: «و من اختار على اللّٰه عزّ و جلّ و أبى الطاعة فهو كافر».

و الظاهر منها خصوصاً من قوله: و من اختار على اللّٰه، في الطريق الآخر انّ من أنكر بعض ما أمر اللّٰه به فهو كافر و هو القدر المتيقّن منها و إن أمكن أن يقال: إنّها تدلّ على انّ من خالف اللّٰه و أقام على الكبائر و فعلها فهو كافر و إن لم يكن هناك إنكار.

و صحيحة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السّلام) يقول: كلّ شي ء يجره الإقرار و التسليم فهو الايمان، و كلّ شي ء يجره الإنكار و الجحود فهو الكفر. «4»

______________________________

(1) أصول الكافي باب وجوه الكفر ح 1.

(2) آل عمران: 97.

(3) أصول الكافي باب الكفر ح 3.

(4) أصول الكافي باب الكفر ح 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 251

..........

______________________________

و رواية عبد الرحيم القصير و فيها: فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى اللّٰه عزّ و جلّ عنها كان خارجاً من الايمان ساقطاً عنه اسم الايمان و ثابتاً عليه اسم الإسلام، فإن تاب و استغفر عاد إلى دار الايمان و لا يخرجه إلى الكفر إلّا الجحود و الاستحلال: أن يقول للحلال: هذا حرام، و للحرام: هذا حلال، و دان بذلك فعندها يكون خارجاً من الإسلام و الإيمان داخلًا في الكفر، و كان بمنزلة من دخل الحرم ثمّ دخل الكعبة و أحدث في الكعبة حدثاً فاخرج عن الكعبة و عن الحرم فضربت عنقه و صار إلى النار. «1» هذه هي الروايات الواردة في المقام و قد عرفت انّ

مقتضى بعضها انّ الإنكار أي إنكار بعض ما أمر اللّٰه تعالى به يوجب الكفر، و مقتضى بعضها الآخر، انّ استحلال الحرام موجب للكفر و كذا العكس، و ظاهر بعضها انّ مجرّد ترك الواجبات أو بعضها موجب للكفر.

فقيل في مقام الجمع بين الروايات انّ المراد من الترك هو ترك الضروري مع ضميمة الإنكار، و من الحلال و الحرام الضروري منهما.

و فيه: إنّه ليس في الروايات من «الضروري» عين و لا أثر و لم يقم دليل على كون المراد ذلك.

فالحقّ أن يقال: امّا بأنّ المراد من الاستحلال هو أن يقول للحرام مع العلم بكونه حراماً: هذا حلال و بالعكس، أو بأنّه لا بدّ من حمل الروايات على بيان مراتب الكفر و الشرك و الإيمان و الإسلام فإنّ للمذكورات مراتب كثيره فإنّه قد يطلق المشرك مثلًا على المرائي، و قد أطلق أيضاً في رواية أُخرى على أن يقال للنواة: هذا حصاة، و للحصاة: هذا نواة فإنّه قد ورد انّ أدنى الشرك

______________________________

(1) أصول الكافي الباب الثاني من أبواب ان الايمان يشرك مع الإسلام ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 252

..........

______________________________

أن يقال كذلك، و هكذا الكفر فانّ منه ما يكون مقابلًا للإسلام و هو محطّ النظر في المقام و مورد البحث و الكلام، و منه ما يكون مقابلًا للايمان بمراتبه الكثيرة فإنّ مقابل كل مرتبة من مراتب الايمان مرتبة من مراتب الكفر لا محالة.

و الحاصل انّ الروايات الواردة في انّ إنكار بعض ما أمر اللّٰه أو مجرّد تركه كفر لا تكون في مقام بيان الكفر المقابل للإسلام بل الكفر المقابل للايمان.

فتلخّص ممّا ذكرنا إنّ إنكار الضروري بنفسه لا يكون من أسباب الكفر

لعدم الدليل عليه و لا إجماع في المسألة بل و لا شهرة بعد إمكان حمل كلمات الأصحاب على إرادة المعاني المختلفة منه.

المقام الرابع: في نجاسة الخوارج و النواصب و الغلاة و قد حكم في المتن في الأوّلين بنجاستهما مطلقاً من غير توقّف على جحودهما الراجع إلى إنكار الرسالة و فصل في الأخير بأنّه إن كان الغلو مستلزماً لإنكار الألوهية أو الوحدانية أو الرسالة فهو يوجب الكفر و النجاسة و إلّا فلا و نقول:

امّا الخارجي: فالظاهر انّ المراد منه من خرج على إمام زمانه و لا بدّ من ملاحظة انّ مطلق الخروج على الإمام (عليه السّلام) هل يوجب الكفر و النجاسة، أو انّه لا بدّ من ملاحظة ما هو الباعث له على الخروج، و المحرّك له على الطغيان فلو كان باعثه على الخروج الوظيفة الدينية التي قد اعتقد بها كالذين كانوا معتقدين بكفر أمير المؤمنين (عليه السّلام) نعوذ باللّٰه من مثل هذا اليقين فهو من النواصب و سيأتي الكلام فيهم، و لو لم يكن الباعث له على ذلك هي الوظيفة لدينية بل طلب الجاه و الرياسة المعارضة في الملك و السلطنة كطلحة و الزبير و أمثالهما فلا دليل على كونه بمجرّده موجباً للكفر لعدم ثبوت إجماع أو غيره في ذلك، و عليه فمجرّد عنوان الخارجي لا يوجب ظاهراً الكفر و النجاسة.

و أمّا الناصبي فقد ورد في الروايات نجاسته و صرّح بها في موثقة ابن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 253

..........

______________________________

أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث قال: و إيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها تجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل

البيت و هو شرّهم فإنّ اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب و انّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه «1». مضافاً إلى انعقاد الإجماع على نجاسته و عدم ثبوت الخلاف فيها و الإشكال أصلًا.

إنّما الإشكال في انّ المراد من الناصب ماذا؟ و انّه هل هو مطلق من أظهر العداوة و البغضاء لأهل البيت (عليهم السّلام) من دون أن يكون هناك فرق من جهة منشأ الإظهار و الداعي على الأعمال أو انّ المراد بالناصب أمر آخر؟

لا مجال للاحتمال الأوّل لأنّه بناءً عليه لا بدّ من الحكم بأنّ جميع المحاربين مع أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلِّين نصاب محكومون بالنجاسة و لا يمكن الالتزام بذلك لأنّه لم ينقل مجانبة أمير المؤمنين (عليه السّلام) و أصحابه عن عائشة أو طلحة أو زبير أو سائر المبغضين له من أصحاب الجمل و صفّين و كثير من أهالي الحرمين الشريفين. و دعوى: انّ الحكم لم يكن معلوماً في ذلك الزمان و انّما صار معلوماً في عصر الصادقين (عليهما السّلام) الذي هو عصر انتشار الأحكام و الاطّلاع عليها.

مدفوعة: بأنّه لو ثبت انّ الناصب في الموثقة و نحوها هو كلّ من أظهر العداوة و البغضاء فلا محيص عن توجيه عدم نقل المجانبة عنهم بمثل ما ذكر و لكنّه مع عدم ثبوت ذلك فلا مجال لهذا التوجيه خصوصاً مع ملاحظة انّ اجتناب الأئمّة (عليهم السّلام) و أصحابهم عن جميع المخالفين و المعاندين لهم كالعبّاسيين و غيرهم بعد عصر الصادقين (عليهما السّلام) أيضاً غير معلوم.

فالحقّ انّ المراد من الناصب الذي حكم بنجاسته هو من جعل النصب

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب الحادي عشر ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة

- النجاسات و أحكامها، ص: 254

..........

______________________________

و العداوة لأهل البيت (عليهم السّلام) جزء من دينه و فريضة من فرائضه و به يتقرّب إلى اللّٰه عزّ و جلّ و هو الذي يكون أنجس من الكلب كما صرّح به في الموثقة.

و قد يناقش في دلالة الموثّقة على النجاسة الظاهرية من جهتين:

الاولى: انّه من الممكن أن يكون المراد من النجاسة فيها هي الخباثة و ما يعبّر عنه بالفارسية ب «پليدى» كما مرّ سابقاً في معنى «الرجس».

الثانية: انّه لو قيل بنجاسة الطوائف الثلاث الذين عطف الناصب عليهم فالظاهر حينئذٍ الحكم بنجاسة الناصب للموثقة، و أمّا مع القول بطهارة تلك الطوائف فلا يمكن الحكم بنجاسة الناصب استناداً إليها كما لا يخفىٰ.

و الجواب عن الاولى انّه لا مجال لإنكار كون الظاهر من الموثقة هي النجاسة الظاهرية لأنّ الكلب قد امتاز من بين النجاسات بأنّه قد وقع التصريح بنجاسته، و المتفاهم العرفي من قوله (عليه السّلام): «الكلب نجس» ليس إلّا النجاسة الظاهرية فلو قيل: إنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه فلا محيص من حمل النجاسة فيه أيضاً على النجاسة الظاهرية، و أنجسيته من الكلب لوجود المرتبة الفاضلة من النجاسة فيه فالمناقشة من هذه الجهة مندفعة.

و عن الثانية؛ أوّلًا: بأنّه مع الإغماض عن صدر الموثقة بدعوى إجمالها لأجل دلالتها على نجاسة أهل الكتاب مع انّ مقتضى الروايات المعتبرة المتقدّمة هي طهارتهم أو الإعراض عنه لأجل ذلك لا مجال للمناقشة في الذيل الوارد في حكم الناصب خصوصاً مع التعليل الصريح في نجاسته فإنّ ثبوت الإجمال في الصدر لا يلازم وجوده في الذيل و هكذا الإعراض فإنّ المنشأ وجود روايات معتبرة صريحة في الطهارة و لم يرد شي ء من هذه الروايات في الناصب أصلًا.

و

ثانياً: انّ صدر الرواية ليست في مقام بيان نجاسة أهل الكتاب و لا دلالة له عليها حتّى يدّعى الإغماض أو الأعراض لما مرّ سابقاً من انّ غسالة الحمّام

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 255

..........

______________________________

تكون أضعافاً من الكرّ نوعاً و الواردون في الحمّام لا ينحصرون بأهل الكتاب و الناصب بل عدد هؤلاء قليل بالإضافة إلى المسلمين الواردين فيه و عليه فالظاهر عدم ابتناء النهي عن الاغتسال في غسالة الحمّام على نجاستها بل النهي تنزيهي منشأه عدم مناسبة وقوع الاغتسال الذي هو عمل عبادي يوجب القرب منه تعالى في الغسالة التي قد اجتمعت من غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و غيرهم فلا إجمال في الصدر بوجه حتّى يسري إلى الذيل و يوجب عدم جواز الاستناد إليه فالإنصاف انّ دلالة الموثقة على نجاسة الناصب بالمعنى المصطلح فيه ممّا لا ريب فيه أصلًا.

هذا و قد وردت روايات ظاهر بعضها انّ كلّ من اعتقد بإمامة الشيخين فهو ناصبي، و ظاهر بعضها الآخر انّه ليس الناصب من نصب للأئمّة (عليهم السّلام) بل الناصب من نصب لشيعتهم، و في بعضها الاشتمال على التعليل بأنّك لا تجد أحداً يقول إنّي أبغض محمّداً و آل محمّد عليه و عليهم السلام.

و الإنصاف: انّها مجملة يرد علمها إلى أهلها و مصادرها و لا نفهمها نحن لأنّه لو أبغض أحد للشيعة و نصب لهم لكونهم موالين لأهل البيت (عليهم السّلام) كيف يمكن أن لا يكون مبغضاً للأئمّة (عليهم السّلام)، مع انّ بغض رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و عداوته لا يكون له مدخل في النصب لأنّ الناصب هو المسلم ظاهراً فما معنى قوله (عليه السّلام): «لأنّك لا

تجد أحداً يقول انّي أبغض محمّداً و آل محمّد» مع انّه لا يمكن القول بأنّ كلّ عامّي ناصب فانّ النواصب طائفة مخصوصة منهم و هم الذين يتديّنون بنصبهم و يتقرّبون إلى اللّٰه بعداوتهم كما يشهد به ما في القاموس: «انّ الناصب من يبغض علياً و يتديّن بذلك» و هو المتيقّن من معاقد الإجماعات و موارد الروايات.

و أمّا الغلاة فهم على طوائف:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 256

..........

______________________________

الاولى: من يعتقد الرّبوبية لأمير المؤمنين (عليه السّلام) أو لأحد من الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) فيعتقد بأنّه هو اللّٰه تعالى و انّه الربّ الجليل و الإله المجسّم الذي نزل إلى الأرض و هذه الطائفة لو ثبت اعتقادهم بذلك فلا إشكال في كفرهم و نجاستهم لأنّه إنكار لألوهيته سبحانه و هو من أحد الأسباب الموجبة للكفر و النجاسة.

الثانية: من يعتقد بشركة عليّ أو أحد الأئمّة عليه و عليهم السلام مع اللّٰه تعالى في تدبير العالم و إدارته و هو أيضاً نجس لكونه مشركاً كما عرفت.

الثالثة: من اعتقد بأنّ اللّٰه تعالى قد اتّحد مع عليّ (عليه السّلام) أو حلَّ فيه، و هذه الطائفة لو أعتقوا انّ علياً (عليه السّلام) قد صار بعد الحلول أو الاتّحاد إلٰهاً في مقابل اللّٰه تعالى فهم مشركون لا إشكال في نجاستهم، و لو اعتقدوا انّ العبد قد يفنى في اللّٰه فناء الظلّ في ذي الظلّ بحيث تزول الاثنينية و تجي ء الوحدة و قد تحقّق هذا في عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) فهذه العقيدة و إن كانت باطلة واقعاً إلّا انّها لا توجب الكفر و النجاسة.

الرابعة: المفوّضة و هم الذين يعتقدون انّ اللّٰه تعالىٰ هو خالق السماوات و الأرضين و ما

بينهما و بارئها و يعترفون بألوهيته سبحانه مع الاعتقاد بأنّ الأُمور الراجعة إلى التشريع و التكوين كلّها بيد أمير المؤمنين أو أحدهم (عليهم السّلام) و انّه هو المحيي و المُميت و الرازق و انّ اللّٰه قد عزل نفسه عمّا يرجع إلى تدبير العالم و فوّض الأُمور إليه (عليه السّلام) كسلطان عزل نفسه عمّا يرجع إلى تدبير مملكته و فوّض امورها إلى أحد وزرائه، و هذه العقيدة و إن كانت باطلة و إنكاراً للضروري لأنّ الأُمور الراجعة إلى التكوين و التشريع كلّها مختصّة بذات الواجب تعالى إلّا انّها لا توجب الكفر مستقلّة و لا تكون من أسبابه كذلك، نعم لو رجع إلى تكذيب النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) كما إذا كان المعتقد بها عالماً بأنّ ما ينكره ممّا ثبت بالدين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 257

..........

______________________________

ضرورة فهو كافر لذلك، و إلّا فلا.

الخامسة: من لا يعتقد بربوبية أمير المؤمنين (عليه السّلام) و لا يعتقد بتفويض الأُمور إليه أو إلى أحد من ولده و انّما يعتقد بأنّه و غيره من المعصومين بعده ولاة الأمر و انّهم كما ثبت لهم الولاية التشريعية ثبت لهم الولاية التكوينية فيقدرون على الإماتة و الإحياء و الشفاء و الإغناء بإذن اللّٰه تبارك و تعالى و إقداره لهم مع حفظ كمال قدرته و استقلاله و عدم انعزاله و إنّ كلّ شي ء بيده و لا حول و لا قوّة إلّا به و كون أزمّة الأُمور طرّاً بيده فهذا مع انّه لا يكون مستلزماً للكفر يكون كمال التوحيد لأنّ المعتقد بهذه العقيدة الصحيحة يعتقد بأنّ دائرة قدرة اللّٰه ليس لها حدّ محدود و انّه تعالى كما يقدر نفسه

المقدّسة على الإماتة و الإحياء و نحوهما كذلك يقدر على إقدار الغير على ذلك و إعطاء هذه المزية له مع حفظ قدرته و ثبوت المزية لنفسه فكيف يكون هذا من الكفر و الشرك مع انّه لا محيص عن الالتزام بذلك بالإضافة إلى طائفة اصطفاهم اللّٰه من بين الناس و فضّلهم على غيرهم بمقتضى الآيات و الروايات الكثيرة في هذا الباب أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللّٰه من فضله.

و من العجب بعد ذلك من بعض المنتحلين للتشيّع المعتقدين بالإمامة كيف يرى انّه لا فضيلة للأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) على غيرهم و انّ امتيازهم في مجرّد استجابة الدعاء و انّهم لا يقدرون على شي ء من الأُمور المذكورة فإذا كان المسيح قادراً على إحياء الموتى غاية الأمر بإذن اللّٰه كيف لا يكون الإمام قادراً عليه و تأويل الآية الظاهرة في ذلك من دون قيام دليل على خلاف ظاهره لا مجال له أصلًا، و دعوى رجوعه إلى الشرك واضحة الفساد فإنّ الشرك لا يتحقّق إلّا بالاعتقاد باتّحاد الرتبة في الذات أو في الفعل أو في العبادة و ما نعتقده في أئمّتنا (عليهم السّلام) لا يرجع إلى ذلك بوجه فانّ قدرتهم تابعة لقدرة اللّٰه و لا تكون واقعة في عرضها و هذا من الوضوح بمكان فإنّ قدرة العبد من شؤون قدرة المولى و قدرة الوكيل في طول قدرة الموكّل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 258

[مسألة 12 غير الاثني عشرية من فرق الشيعة إذا لم يظهر منهم نصب و معاداة و سبّ لسائر الأئمّة (عليهم السّلام) الذين لا يعتقدون بإمامتهم طاهرون]

مسألة 12 غير الاثني عشرية من فرق الشيعة إذا لم يظهر منهم نصب و معاداة و سبّ لسائر الأئمّة (عليهم السّلام) الذين لا يعتقدون بإمامتهم طاهرون و أمّا مع ظهور ذلك منهم فهم مثل سائر النواصب (1).

______________________________

و

لا وجه لجعل القدرتين في عرض واحد مع التحفّظ على مقامي العبودية و المولوية و الوكيلية و الموكلية.

و بالجملة لا بدّ للنافي من الالتزام بأحد أمرين: امّا بأنّ اللّٰه تعالى مع عموم قدرته و شمولها لكلّ شي ء لا يقدر على إعطاء مزية الإماتة و الإحياء و شبههما لبعض المخلوقات و لا يمكن له إقدار غيره على ذلك و من المعلوم انّ هذا يرجع إلى تحديد قدرته و نفي ما فرض من عموم القدرة و شمولها و دعوى انّ عدم العموم انّما هو لعدم قابلية المقدور لاستلزامه الشرك مدفوعة بما عرفت من عدم الاستلزام بل كونه مؤيّداً للتوحيد و انحصار منبع القدرة فيه تعالىٰ.

و أمّا بأنّه تعالى مع ثبوت القدرة له على ذلك لم يتحقّق منه هذا الأمر المقدور فنقول: لا وجه حينئذٍ لعدم التحقّق بعد ما نرى من فضل الأئمّة (عليهم السّلام) على جميع المخلوقين و امتيازهم عليهم و قابليتهم لهذه العناية العظيمة.

و حيث إنّ الالتزام بالأمرين على ما عرفت ممّا لا مجال له فلا محيص عن الرجوع إلى محض الحقيقة و الصراط المستقيم الذي دلَّ عليه الكتاب و السنّة في عليّ و الأئمّة (عليهم السّلام) و عند ذلك نسأل اللّٰه القول الثابت و العقيدة الراسخة المستقيمة و أن يخرج عن قلوبنا حبّ الدنيا الذي هو الأساس للانحرافات و الداعي إلى الضلالة و الغواية كما هو غير خفيّ على أهل البصيرة و الدراية.

(1) و الأولى طرح البحث بهذه الصورة و هي انّ إنكار الولاية لجميع الأئمّة (عليهم السّلام) أو لبعضهم هل يكون مثل إنكار الرسالة موجباً للكفر و النجاسة أم لا؟ فنقول: المشهور بين الأصحاب طهارة أهل الخلاف و غيرهم من الفرق المخالفة للشيعة الاثني

عشرية المعروفة بالإمامية، و لكن صاحب الحدائق (قدّس سرّه) قد اعتقد

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 259

..........

______________________________

بكفرهم و نجاستهم و نسبه إلى المشهور بين المتقدّمين و إلى السيّد المرتضى (قدّس سرّه) و غيره و لم يقتصر على الحكم بنجاسة غير الشيعة بل عمّم الحكم بها للشيعة غير الاثني عشرية و قال: بأنّ أوّل من قال بالطهارة هو المحقّق (قدّس سرّه) ثمّ اعترض عليه شديداً قائلًا بأنّه لا دليل على طهارتهم أصلًا.

و ليعلم انّه يكون هناك دليلان قطعيان مقتضاهما طهارة كلّ مسلم إمامياً كان أم غيره من فرق المسلمين:

الأوّل: ما ورد في غير واحد من الروايات من انّ المناط في الإسلام و حقن الدماء و التوارث و جواز النكاح انّما هو شهادة أن لا إله إلّا اللّٰه و أنّ محمّداً (صلّى اللّٰه عليه و آله) رسول اللّٰه، و في بعضها زيادة «انّه هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها».

الثاني: السيرة القطعية المستمرّة القائمة على معاملة الطهارة مع المخالفين بأجمعهم حيث إنّ المتشرّعة في زمان الأئمّة (عليهم السّلام) و كذلك الأئمّة بأنفسهم كانوا يشترون منهم اللحم و يرون حلّية ذبائحهم و يباشرونهم و يعاملون معهم معاملة الطهارة مطلقاً و يفرّقون بينهم و بين الكفّار بل و لا يفرّقون بينهم و بين متابعيهم في الجهات الراجعة إلى أصل الإسلام و الطهارة المترتّبة عليه كما هو واضح. و عليه فدعوى كون ذلك لعلّه لأجل الحرج الرافع للحكم مدفوعة جدّاً.

و عن صاحب الحدائق (قدّس سرّه) انّه قد استدلّ على نجاستهم بوجوه:

الأوّل: الروايات الكثيرة المستفيضة الدالّة على انّ المخالف لهم كافر نحو ما ورد من اللّٰه جعل علياً (عليه السّلام) علماً بينه و

بين خلقه ليس بينه و بينهم علم غيره فمن تبعه كان مؤمناً و من جحده كان كافراً. «1» و ما يدلّ على انّ علياً (عليه السّلام) باب هدى من خالفه كان كافراً. «2» و ما دلّ على انّ الإسلام قد بُني

______________________________

(1) أصول الكافي الطبع الحديث ج 1، ص 89.

(2) المحاسن ص 89.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 260

..........

______________________________

على خمس الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الولاية و انّه ما نودي أحد بشي ء مثل ما نودي بالولاية «1». و غير ذلك من الروايات الظاهرة في مغايرة الإسلام مع إنكار الولاية.

و الجواب عن هذا الوجه:

أوّلًا: انّ المراد من الكافر في مثل هذه الروايات ليس ما يقابل الإسلام لما عرفت من انّ الكافر ربّما يطلق على ما يقابل الايمان كإطلاقه على تارك الصلاة أو الزكاة أو الحجّ على ما ورد في آيته، و قد يطلق على المعنى اللغوي منه و هو مجرّد الستر و الإخفاء. و الدليل على انّ الكافر قد أطلق في الروايات المذكورة على غير المؤمن قوله (عليه السّلام) في الرواية الأُولى: «فمن تبعه كان مؤمناً». و أمّا ما يدلّ على انّ الإسلام قد بُني على خمس و منها الولاية فالجواب عن الاستدلال به عدم إمكان الالتزام بمفاده لعدم مدخلية فعل غير الولاية من الخمسة المذكورة فيها و هي الصلاة و الزكاة و الحجّ و الصوم في معنى الإسلام ضرورة انّه كيف يمكن الحكم بكفر من ترك إحدى الأُمور الأربعة المذكورة، و عليه فيمكن أن يكون المراد من الإسلام فيها هو الإيمان.

و ثانياً: لو سلم انّ إنكار الولاية يستلزم الكفر لكنّه لا دليل على نجاسة كلّ كافر

إذ لا إجماع في المسألة مع انّ الفاضلين و جمعاً آخر قد اعتقدوا كفر أهل الخلاف و مع ذلك قد حكموا بطهارتهم فمجرّد الكفر لا يلازم النجاسة، و لعل نسبة صاحب الحدائق نجاسة أهل الخلاف إلى المشهور بين المتقدّمين قد نشأت من انّه قد رأى حكمهم بكفرهم فزعم الملازمة بينه و بين الحكم بالنجاسة.

الثاني: الروايات الدالّة على انّ المخالف لهم ناصب «2». و في بعضها: «انّ

______________________________

(1) الوسائل أبواب مقدمة العبادات الباب الأول ح 10.

(2) رواه في البحار عن مستطرفات السرائر ج 3، من المجلد 15، ص 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 261

..........

______________________________

الناصب ليس من نصب لنا أهل البيت لأنّك لا تجد أحداً يقول: إنّي أبغض محمّداً و آل محمّد و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم انّكم تتولّونا و انّكم من شيعتنا». «1» و الجواب أوّلًا: انّ هذه الروايات مخالفة لما يدلّ على انّ الناصب من نصب لأهل البيت (عليهم السّلام) لا مجرّد من اعتقد عدم إمامتهم.

و ثانياً: انّا لا نفهم المراد من التعليل المذكور الواقع في الرواية الثانية إذ لم يقل أحد بأنّ النصب هو بغض محمّد و آله (عليهم السّلام) جميعاً إذ الناصب ينتحل الإسلام ظاهراً و لا يجتمع ذلك مع بغض الرسول كما لا يخفى.

و ثالثاً: لو نصب أحد للشيعة لأنّهم يحبّون علياً و أولاده (عليهم السّلام) و يعتقدون بإمامتهم فهل يمكن أن لا يكون ناصباً لهم (عليهم السّلام) فالنصب للشيعة بما هم كذلك نصب لهم و من المعلوم انّ كلّ مخالف لا يتّصف بهذه الصفة.

الثالث: انّ أهل الخلاف منكرون لما ثبت بالضرورة من الدين و هو ولاية أمير المؤمنين (عليه السّلام)

حيث بيّنها لهما النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) و أمرهم بقبولها و هم منكرون لولايته و قد مرّ انّ إنكار الضروري يستلزم الكفر.

و الجواب: انّ الولاية بالنحو الذي هو معتقد الشيعة لا تكون من ضروريات الدين بحيث يعلم بها كلّ من دخل في الإسلام، فإنّ الضروري عبارة عن أمر واضح بديهي يعرفه جميع طبقات المسلمين، نعم هي من ضروريات المذهب و كلّ من أنكرها خارج عنه.

مع انّك عرفت انّ مجرّد إنكار الضروري لا يكون موجباً للكفر و انّما يوجبه في خصوص ما إذا كان مستلزماً لإنكار الرسالة و تكذيب النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) و لأجله لا نضائق من الحكم بكفر كلّ من حضر غدير خم و رأى نصب رسول اللّٰه علياً و جعله خليفة بعده و زعيماً للمسلمين و مع ذلك أنكره فإنّ هذا النحو من الإنكار

______________________________

(1) عقاب الاعمال، ص 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 262

..........

______________________________

تكذيب النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) و هو موجب للكفر و أما غير هؤلاء الطائفة فلا دليل على كفرهم و نجاستهم بل يحكم بطهارتهم للروايات الكثيرة الدالّة على ابتناء الإسلام على الشهادتين فقط للسيرة القطعية المتّصلة بزمان المعصوم (عليه السّلام) الجارية على المعاشرة و المؤاكلة معهم ومساورتهم و أكل ذبائحهم و ترتيب آثار سوق المسلمين على أسواقهم و غير ذلك من آثار طهارتهم من دون إشعار شي ء من ذلك بكون الباعث لهم على هذه المعاملة هو دليل نفي الحرج و انّ الحرج أوجب رفع الحكم بالنجاسة و إلّا فالحكم الأوّلى هي النجاسة المترتّبة على كفرهم. هذا كلّه بناءً على القول بنجاسة أهل الكتاب أيضاً، و أمّا بناءً على

القول بطهارتهم كما اخترناه لعدم الدليل على نجاستهم مضافاً إلى قيام الدليل على الطهارة زائداً على اقتضاء الأصل لها فلا مجال لهذا البحث أصلًا إذ المخالف له مزية على أهل الكتاب و هو الاعتقاد بالرسالة فلا وجه حينئذٍ لتوهّم نجاستهم أصلًا.

نعم لو كان ناصباً لهم أو لأحدهم (عليهم السّلام) فيحكم بكفره و نجاسته، و أمّا السابّ لهم فلو كان سبّه ناشئاً عن نصبه لأهل البيت (عليهم السّلام) فلا إشكال حينئذٍ في نجاسته لأنّه بعينه نصب و هو يوجبها، و أمّا لو لم يكن سبّه لأهل البيت (عليهم السّلام) لأجل النصب لهم بل يكون لداع آخر كما إذا قتل ولده بيده في معركة القتال مثلًا فيشكل الحكم بنجاسته و إن كان يجوز قتله بلا إشكال إلّا انّ جواز القتل أمر و النجاسة أمر آخر إذ ربّما يحكم بجواز قتل شخص من دون أن يكون محكوماً بالنجاسة كمن أفطر صومه الواجب عمداً فإنّه يقتل في المرّة الثالثة أو الرابعة و لا يحكم بالنجاسة، فمقتضى القاعدة حينئذٍ طهارة هذا السابّ و إن كان أخبث من الخنازير و الكلاب و مستحقّاً لأشدّ العذاب و العقاب بلا شكّ و لا ارتياب.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 263

[الحادي عشر: عرق الإبل الجلالة]

الحادي عشر: عرق الإبل الجلالة، و الأقوى طهارة عرق ما عداها من الحيوانات الجلالة، و الأحوط الاجتناب منه، كما انّ الأقوى طهارة عرق الجنب من الحرام، و الأحوط التجنّب عنه في الصلاة و ينبغي الاحتياط منه مطلقاً (1).

______________________________

(1) الكلام في هذا الأمر يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في الحيوان الجلال و إن عرقه نجس أم لا؟ فنقول: الأشهر بين القدماء نجاسة عرق الإبل الجلالة و بين المتأخّرين عدم

نجاسته و ممّن أصرّ على ذلك صاحب الجواهر (قدّس سرّه) و قد أفتى باستحباب غسله و استدلّ على طهارته بما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى و الظاهر انّه مذهب صاحب الوسائل من المحدّثين حيث إنّه أورد الروايتين الواردتين في الباب الظاهرتين في النجاسة في باب كراهة عرق الجلال. هذا في الإبل، و أمّا غيرها فلم يقع خلاف في طهارة عرقه عدا ما يحكى عن نزهة ابن سعيد (رحمه اللّٰه).

و كيف كان المستند في نجاسة عرق الإبل الجلالة روايتان:

إحداهما: صحيحة حفص بن البختري أو حسنته عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، و إن أصابك شي ء من عرقها فاغسله. «1» ثانيتهما: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا تأكل اللحوم الجلالة، و إن أصابك من عرقها شي ء فاغسله. «2» و الظاهر منهما هي النجاسة للأمر بالغسل فيهما كالأمر بالغسل في أبوال ما لا يؤكل لحمه الذي استفيد منه النجاسة من دون أن يقع التصريح بها و إن كان الظهور في النجاسة في المقام دون الظهور فيها في أبوال ما لا يؤكل لأنّه قد أمر في المقام بغسل العرق الذي أصاب الشخص أو ثوبه و في ذلك المقام قد أمر بغسل الثوب الذي أصابه

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس عشر ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس عشر ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 264

..........

______________________________

البول حيث قال: «اغسل ثوبك من أبواب ما لا يؤكل لحمه» و من المعلوم انّ ظهور الثاني في النجاسة أقوى من ظهور الأوّل و إن كان أصل الظهور ممّا لا ينبغي أن ينكر فدلالة

الروايتين بحسب المتفاهم العرفي على نجاسة عرق الإبل الجلالة ممّا لا وجه للمناقشة فيها أصلًا كما لا يخفى.

و قد خالف فيما ذكرنا صاحب الجواهر (قدّس سرّه) و بالغ في تأييد ما أفاده و تمسّك له بالأُصول و عمومات طهارة الحيوان أو سورة بدعوى ملازمة طهارة سؤره لطهارة عرقه و استبعاد الفرق بين الإبل و سائر الجلالات بل بينها و بين ما حرم أكله أصالة كالهرة، بل و بين عرقه و سائر فضلاتها، إلى أن قال: «إنّ صحيحة هشام لا اختصاص فيها بالإبل و لا قائل بالأعمّ غير النزهة، و التخصيص إلى واحد غير جائز و الحمل على العهد تكلّف، فلا بدّ من الحمل على غير الوجوب و إلّا لكان الخبر من الشواذ، و مجاز الندب أولى من عموم المجاز حتّى قيل إنّه مساو للحقيقة فيكون قرينة على إرادة الندب بالنسبة إلى الإبل أيضاً حتّى في حسنة حفص».

و الجواب عنه أوّلًا: إنّ القول بالأعمّ الذي قال به ابن سعيد صاحب «النزهة» لا يكون شاذّاً بحيث يكون مطروحاً لأجل الشذوذ و لذا قد احتاط صاحب «العروة» بالاجتناب عن عرق الجلال مطلقاً من دون أن يفرق في أصل الحكم بين الإبل و غيرها و إن فرّق بينهما في التعبير، و قد عبّر في المتن بأنّ الأقوى طهارة عرق ما عدا الإبل من الحيوانات الجلالة، و ظاهره عدم كون القول المخالف متّصفاً بالشذوذ.

و ثانياً: إنّ القول بالتفصيل و عدم نجاسة عرق ما عدا الإبل من الحيوانات الجلالة لا يوجب الاستهجان لعدم استلزامه التخصيص إلى واحد و ذلك لما أفاده سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه في مباحثه الأُصولية من انّ هيئة الأمر لا دلالة لها على خصوص الوجوب بالدلالة اللفظية

الوضعية، بل هي موضوعة لنفس البعث كما انّ هيئة النهي موضوعة لمجرّد الزجر، غاية الأمر انّه مع عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 265

..........

______________________________

قيام دليل على الترخيص يكون حجّة على العبد، لحكم العقل و العقلاء بلزوم تبعية بعث المولى و زجره مع عدم ورود الترخيص من قبله، و في المقام نقول: كما انّه يجوز ورود الترخيص بالإضافة إلى جميع الأفراد و لازمه الاستحباب و الكراهة مطلقاً كذلك يجوز ورود الترخيص بالإضافة إلى بعض الأفراد دون بعض بل يجوز الترخيص إلى واحد و لا يوجب الاستهجان بوجه فإنّ الترخيص كاشف عن عدم الإرادة الإلزامية بالنسبة إلى غير الإبل و ثبوتها فيها فأين الاستهجان.

و ثالثاً: لو سلم جميع ذلك بالنسبة إلى صحيحة هشام فما الموجب لرفع اليد عن الحسنة الواردة في خصوص الإبل الجلالة الظاهرة في النجاسة الخالية عن المناقشة فإنّ عدم إمكان الالتزام بمقتضى ظاهر الصحيحة لأجل ما ذكر لا يسوغ التصرّف في ظاهر الحسنة بالحمل على الندب مع الاعتراف بكونه مغايراً للحقيقة فتدبّر، فما أفاده صاحب الجواهر (قدّس سرّه) ضعيف جدّاً.

و أضعف منه ما أفاده بعض الأعلام في شرح العروة ممّا يرجع إلى انّ الإمام (عليه السّلام) نهى عن شرب ألبان الإبل الجلالة في الحسنة أوّلًا ثمّ فرع عليه الأمر بغسل عرقها، و سبق الأمر بغسله بالنهي عن شرب الألبان أو أكل اللحوم قرينة أو انّه صالح للقرينية على انّ وجوب غسل العرق مستند إلى صيرورة الجلال من الإبل و غيرها محرم الأكل عرضاً، و لا تجوز الصلاة في شي ء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه كانت حرمته ذاتية أو عرضية و لأجل ذلك فرع عليه الأمر بغسل

عرقه حتّى يزول و لا يمنع عن الصلاة و إن كان محكوماً بالطهارة في نفسه كما هو الحال في ريق فم الهرّة، و على الجملة انّ الأمر بغسل عرق الجلال في الروايتين امّا ظاهر فيما ذكر من كونه للمانعية لا للنجاسة أو انّه محتمل له، و معه لا يبقى مجال للاستدلال بهما على نجاسة العرق.

و أنت خبير بما فيه امّا أوّلًا فلأنّه لو كان الأمر بغسل العرق في الحيوان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 266

..........

______________________________

الذي صار محرم الأكل بالعرض لأجل الجلل مثلًا محمولًا على بيان المانعية بحيث لم يكن له ارتباط بالنجاسة أصلًا لكونه مسبوقاً بالنهي عن شرب الألبان أو أكل اللحوم فلا بدّ من أن يحمل الأمر بالغسل عن أبوال ما لا يؤكل لحمه بالذات على بيان المانعية بطريق أولى لكونه مأخوذاً في الموضوع من دون أن يكون هناك حاجة إلى المسبوقية فإذا كانت المسبوقية قرينة على بيان المانعية فأخذ عنوان غير المأكول في موضوع الأمر بالغسل يكون قرينة على ذلك بطريق أولى و عليه فمثل قوله (عليه السّلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» لا دلالة له حينئذٍ على النجاسة بل غايته بيان المانعية لما ورد في باب الصلاة من كون استصحاب أجزاء غير المأكول يمنع عن صحّتها.

و بالجملة لو كان الأمر بالغسل للمانعية فيما يكون محرماً بالعرض لسبقه بالنهي عن شرب لبنة أو أكل لحمه فلا محيص من حمل الأمر بالغسل فيما لا يؤكل لحمه ذاتاً على بيان المانعية للتصريح في مقام بيان إفادة نفس الحكم بأنّ الأمر بالغسل فيه انّما هو لأجل كونه ممّا لا يؤكل لحمه.

و أمّا ثانياً فلأنّه لو كان

الكلام مسوقاً لبيان المانعية من دون ارتباط له بالنجاسة فما وجه ذكر خصوص العرق فيهما مع كون جميع أجزاء ما لا يؤكل لحمه مانعاً عن الصلاة و لذا قد صرّح بمانعية جميع الأجزاء في الروايات الواردة لبيانها كموثّقة ابن بكير المعروفة المصرّحة بمانعية الشعر و الوبر و حتّى الروث، و البول خصوصاً مع ملاحظة أنّ الابتلاء بخصوص العرق من بين سائر الأجزاء لو لم يكن أقلّ فلا محالة لا يكون أكثر فتدبّر. و هل يحسن تخصيص العرق بذلك مع التعرّض قبله للّبن و اشتراكهما في المانعية من حيث الجزئية.

و أمّا ثالثاً فلأنّ الأمر بالغسل ظاهر في النجاسة كما مرّ سابقاً في مباحث

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 267

..........

______________________________

نجاسة البول و الدم و غيرهما و قد تقدّم انّ نجاسة أكثر النجاسات انّما استفيدت من الأمر بالغسل فيها فلو كان الغرض بيان المانعية لكان ينبغي التعبير بالأمر بالإزالة بأيّة كيفية دون الأمر بالغسل الظاهر في الغسل بالماء و هو لا يلائم إلّا مع النجاسة.

و أمّا رابعاً فلأنّ إلحاق ما لا يؤكل لحمه بالعرض بما لا يؤكل لحمه بالذات في كون أجزائه مانعة عن الصلاة لا يكون مسلّماً في باب المانعية أصلًا.

فالحقّ نجاسة عرق الإبل الجلالة بمقتضى الرواية و هي حكم تعبّدي كسائر الأحكام التعبّدية و الاستبعادات كلّها غير تامّة و عدم معرفة وجهها غير مانعة.

المقام الثاني: في عرق الجنب من الحرام، و قد وقع الخلاف في ذلك، فعن جملة من المتقدّمين كالصدوقين و الشيخين و القاضي و ابن الجنيد القول بالنجاسة، بل عن الخلاف دعوى الإجماع عليه، و عن الأستاذ و الرياض دعوى الشهرة العظيمة، و عن أمالي الصدوق انّه

من دين الإمامية، و عن المراسم و الغنية نسبته إلى أصحابنا و عن المبسوط إلى رواية أصحابنا. و عن الحلّي دعوى الإجماع على الطهارة و إن من قال بنجاسته في كتاب رجع عنه في كتاب آخر.

و أمّا الاحتمالات في المسألة فثلاثة: الأول: الطهارة. الثاني: النجاسة. الثالث: المانعية عن الصلاة فيه مع كونه طاهراً.

و أمّا الأدلّة فقد وردت روايات يتمسّك بها على النجاسة:

منها: رواية إدريس بن داود الكفرثوثي انّه كان يقول بالوقف فدخل سرّ من رأى في عهد أبي الحسن (عليه السّلام) فأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أ يُصلّى فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب لانتظاره إذ حرّكه أبو الحسن (عليه السّلام) بمقرعة و قال مبتدئاً: إن كان من حلال فصلِّ فيه، و إن كان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 268

..........

______________________________

من حرام فلا تصلِّ فيه. «1» و فيه: إنّ هذه الرواية مخدوشة سنداً مضافاً إلى عدم ظهورها في النجاسة.

و منها: ما نقله المجلسي في البحار من كتاب المناقب لابن شهرآشوب نقلًا من كتاب المعتمد في الأُصول قال عليّ بن مهزيار: وردت العسكر و أنا شاكّ في الإمامة فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم من الربيع إلّا انّه صائف و الناس عليهم ثياب الصيف، و على أبي الحسن (عليه السّلام) لباد (لبابيد) و على فرسه تجفاف لبود، و قد عقد ذنب الفرسة و الناس يتعجّبون منه و يقولون: أ لا ترون إلى هذا المدني و ما قد فعل بنفسه، فقلت في نفسي: لو كان إماماً ما فعل هذا، فلمّا خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا ان ارتفعت سحابة هطلت فلم يبق أحد إلّا

ابتل حتّى غرق بالمطر، و عاد (عليه السّلام) و هو سالم من جميعه فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام، ثمّ قلت: أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب، فقلت في نفسي: إن كشف وجهه فهو الإمام فلما قرب منّي كشف وجهه ثمّ قال: إن كان عرق الجنب في الثوب و جنابته من حرام لا تجوز الصلاة فيه، و إن كان جنابته من حلال فلا بأس فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة «2». و هذه أيضاً غير معتبرة سنداً و غير واضحة دلالة.

و منها: ما عن البحار أيضاً: قال بعد نقل الخبر المتقدّم: وجدت في كتاب عتيق من مؤلّفات قدماء أصحابنا رواه عن أبي الفتح غازي بن محمد الطرائفي عن علي بن عبد اللّٰه الميمون، عن محمد بن علي بن معمر عن علي بن يقطين بن موسى الأهوازي عنه (عليه السّلام) مثله و قال: إن كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال و إن كان من حرام فالصلاة في الثوب حرام. «3»

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و العشرون ح 12.

(2) بحار ج 2، ص 139، و في المستدرك باب 20 ح 6.

(3) بحار ج 2، ص 139، و في المستدرك باب 20 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 269

..........

______________________________

و منها: ما عن الفقه الرضوي: «إن عرقت في ثوبك و أنت جنب فكانت الجنابة من الحلال فتجوز الصلاة فيه، و إن كان حراماً فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل. «1» و لم ينقله في «المستدرك» مع نقله روايات الفقه الرضوي. و هذه الرواية و إن كانت ظاهرة دلالة حيث جعل فيها غاية الحكم بعدم

جواز الصلاة في الثوب الذي عرق فيه الغسل لا زواله بأيّ نحو اتّفق و من الظاهر انّ المراد بالغسل هو الغسل بالماء الظاهر في النجاسة إلّا انّها لا تكون تامّة من حيث السند لعدم ثبوت كون الفقه الرضوي المعروف رواية فضلًا عن أن تكون معتبرة.

و منها: مرسلة علي بن الحكم عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام فإنّه يغتسل فيه من الزنا و يغتسل فيه ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم. «2» و هذه أيضاً لا تكون معتبرة سنداً للإرسال و غير ظاهرة دلالةً لعدم العلم بوجود العرق في بدن من يغتسل من الزنا حتّى يكون النهي عن الاغتسال في غسالته لمكان عرقه خصوصاً مع ذكر ولد الزنا عقيبه.

و الحاصل انّه لا دليل على نجاسة عرق الجنب من الحرام، نعم قال الشيخ (قدّس سرّه) في محكي كلامه: «و إن كانت الجنابة من حرام وجب غسل ما عرق فيه على ما رواه بعض أصحابنا» و لكن الظاهر انّ مراده ممّا رواه بعض أصحابنا هي رواية علي بن الحكم المذكورة آنفاً لأنّه لو كانت هناك رواية أُخرى دالّة على النجاسة لكان اللازم نقلها في كتابي التهذيب و الاستبصار المعدّين لنقل الروايات المأثورة أو الجمع بين الأخبار المتعارضة.

و بالجملة الروايات الواردة في المقام بأجمعها غير معتبرة من حيث السند

______________________________

(1) فقه الرضا ص 4.

(2) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب الحادي عشر ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 270

..........

______________________________

و دعوى انجبار ضعف سندها بالشهرة الفتوائية بين القدماء حيث إنّ المشهور بينهم النجاسة كما يظهر من مطاوي كلماتهم مدفوعة:

أوّلًا: بمنع اشتهار النجاسة بينهم لما

تقدّم من الحلّي بعد ادّعاء الإجماع على الطهارة من انّ من ذهب إلى نجاسته في كتاب ذهب إلى طهارته في كتاب آخر و عليه فالشهرة على النجاسة غير ثابتة، نعم الظاهر انّ المشهور بين القدماء هي المانعية عن الصلاة لظهور كلماتهم فيها لا في النجاسة.

و ثانياً: بأنّه لو سلّم انّ الشهرة كانت قائمة على النجاسة لكن الشهرة الجابرة لضعف السّند انّما هي الشهرة المقابلة للنادر الشاذّ على ما هو مقتضى مقبولة ابن حنظلة لا الشهرة التي في مقابلها شهرة اخرى بناء على إمكان وجود شهرتين كما يظهر من المقبولة أيضاً.

و قد انقدح ممّا ذكرنا انّه بعد عدم قيام الدليل على نجاسة عرق الجنب من الحرام لا بدّ من الالتزام بالطهارة على ما هو مقتضى الأصل و القاعدة، بل لو قصرنا النظر إلى الأدلّة لا نرى دليلًا معتبراً على المانعية أيضاً لانحصاره في الروايات المذكورة التي عرفت حالها.

و ممّا يؤيّد عدم النجاسة و عدم المانعية عن الصلاة انّ السؤال في الأخبار المتقدّمة انّما كان عن عرق مطلق الجنب لا خصوص الجنب عن الحرام، و هذا يكشف عن عدم معهودية النجاسة و المانعية إلى زمان العسكري (عليه السّلام) و إنّ التفصيل بين القسمين من الجنب قد صدر منه (عليه السّلام) مع انّه من البعيد أن تكون النجاسة أو المانعية مخفية عند المسلمين إلى عصر العسكري (عليه السّلام) مع شدّة ابتلائهم به فيظهر من ذلك انّه لا مناص من حمل الأخبار المانعة على تقدير اعتبارها على التنزّه و الكراهة كيف و قد ورد في جملة من الأخبار انّه لا بأس بعرق الجنب و انّ الثوب و العرق لا يجنبان كما عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال:

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 271

..........

______________________________

سألت رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) عن الجنب و الحائض يعرقان في الثوب حتّى يلصق عليهما؟ فقال: إنّ الحيض و الجنابة حيث جعلهما اللّٰه عزّ و جلّ ليس في العرق فلا يغسلان ثوبهما «1». و ما عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): لا يجنب الثوب الرجل و لا يجنب الرجل الثوب. «2» فالحقّ بعد ذلك طهارة عرق الجنب من الحرام و عدم مانعيته و إن كان الأحوط الاجتناب عنه خصوصاً في الصلاة.

بقي في هذا المقام فروع: الأوّل: انّه بناء على القول بالنجاسة أو مجرّد المانعية هل يختص ذلك بما إذا كانت الحرمة ذاتية كما إذا كان من زنا أو وطئ البهيمة أو الاستمناء أو نحوها أو يعمّ ما إذا كانت الحرمة غير ذاتية كوطي الحائض و الجماع في يوم الصوم الواجب المعيّن؟ وجهان مبنيان على انّ المراد بالحلال و الحرام في الروايات المتقدّمة هل هي الحرمة و الحلّية الفعليتان فيحكم بنجاسة أو مانعية عرق من جامع زوجته و هي حائض و طهارة عرق من اكره على الزنا أو اضطرّ إليه و ذلك لثبوت الحرمة الفعلية في الأوّل و الحلّية الفعلية في الثاني، أو انّ المراد منهما هي الحلّية و الحرمة الذاتيتان فيحكم بالعكس؟

لا تبعد دعوى انصراف الحلال و الحرام إلى الذاتيتين فانّ ظاهر قوله (عليه السّلام): «إذا كان عرق الجنب و جنابته من حرام لا تجوز الصلاة فيه، و إن كانت جنابته من حلال فلا بأس» أن تكون الجنابة من حرام ذاتي كما انّ المتبادر من النهي عن الصلاة في أجزاء غير المأكول هو ما لا يؤكل لحمه ذاتاً و إن اضطرّ إليه فعلًا

و لأجله جاز له الأكل فالمراد من الحلال و الحرام هما الذاتيان بحكم

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و العشرون ح 9.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و العشرون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 272

..........

______________________________

الانصراف فتدبّر.

الثاني: في كيفية الاغتسال من الجنابة على تقدير نجاسة العرق قال السيّد (قدّس سرّه) في العروة بعد الحكم بأنّ العرق الخارج منه حال الاغتسال قبل تمامه نجس: «و على هذا فليغتسل في الماء البارد، و إن لم يتمكّن فليرتمس في الماء الحار و ينوي الغسل حال الخروج أو يحرّك بدنه تحت الماء بقصد الغسل».

أقول: امّا نيّة الغسل حال الخروج من الماء الحار ففيه انّ خروجه منه دفعة ممّا لا يكاد يمكن عادة فإنّه يخرج من تحت الماء تدريجاً و عليه فإذا خرج رأسه من الماء قبل خروج سائر الأعضاء و عرق فإنّه لا محالة يكون عرقاً خارجاً منه قبل تمام الغسل إذ لم يتحقّق الخروج الذي نوى الغسل حاله بجميع الأعضاء فلا بدّ من أن يحكم بنجاسته إلّا أن يقال: إنّ المقصود صحّة الغسل و العرق الخارج في الفرض لا يضرّ بصحّته و لكن يجاب عنه بأنّ الفرض الصحّة مع حصول طهارة البدن و إلّا لم تكن حاجة إلى الكيفيات المذكورة أصلًا كما لا يخفى.

و أمّا تحريك البدن تحت الماء بقصد الغسل فهو يبتني على القول بكفاية الارتماس بحسب البقاء في صحّة الغسل و عدم لزوم احداثه، و أمّا على القول باعتبار احداثه من الأوّل فلا بدّ أن يكون حدوث الارتماس بنيّة الغسل و لا يكفي تحريك البدن تحت الماء بقصده، مع انّه على فرض عدم اعتبار الأحداث في صحّة الغسل

الارتماسي يمكن أن يقال بعدم لزوم تحريك البدن أيضاً بل يكفي مجرّد البقاء تحت الماء بنيّة الغسل. و الذي يسهل الخطب ما عرفت من ابتناء مثل هذه المسائل على القول بالنجاسة و قد عرفت انّ الأقوى عدمها.

الثالث: انّ الصبي غير البالغ إذا أجنب من حرام فبناء على القول بنجاسة العرق من المجنب عن حرام يقع الكلام فيه من جهتين:

الجهة الاولى: في نجاسة عرقه و عدمها و هما مبنيان على ما يمكن أن يقال

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 273

..........

______________________________

به في نظائر المقام من انّ المراد من الحرام المأخوذ في الروايات الدالّة على النجاسة هل هو الحرام الفعلي الذي يستحق فاعله العقاب بحيث يكون لعنوان «الحرام» دخالة في ترتّب الحكم أو انّ الحرام المأخوذ فيها قد أُخذ مشيراً إلى العناوين المحرمة مثل الزنا و اللواط و الاستمناء فكأنّه قيل: عرق الزاني أو اللاطي أو المستمني نجس؟ فعلى الأوّل لا يحكم بنجاسة عرق الصبي إذا أجنب من حرام لعدم اتّصاف الفعل الصادر منه بالحرمة و عدم استحقاق فاعله للعقوبة. و على الثاني لا بدّ من الحكم بنجاسته لتحقّق السبب منه و إن لم يتّصف بالحرمة الفعلية بالإضافة إليه.

و الظاهر هو الوجه الأوّل لأنت ظاهر أخذ الحرام موضوعاً انّ لعنوانه مدخلية في ترتّب الحكم فحمله على كون أخذه للإشارة إلى أمر آخر خلاف الظاهر، و يؤيّده انّ الوطي بالشبهة مع انّه عمل مبغوض ذاتاً لم يلتزموا فيه بنجاسة عرق الواطي و ليس هو إلّا لعدم كونه محرماً فعلياً و عليه فلا يمكن الالتزام بنجاسة عرق الصبي.

الجهة الثانية: في صحّة الغسل من الصبي و فساده بعد ابتلائه بنجاسة عرقه على ما هو

المفروض و ملخّص الكلام في هذه الجهة انّها من صغريات الكبرى المعروفة و هي انّ عبادات الصبي هل تكون محكومة بالصحّة و المشروعية أم لا، و إجمال البحث فيها انّ المشهور المعروف بين الفقهاء (قدّس سرّهم) صحّة عبادات الصبي و مشروعيتها غاية الأمر انّها لا تتّصف بالوجوب و اللزوم.

و قد استدل عليها بأمرين:

الأوّل: إطلاقات أدلّة التكليف كالأوامر المتعلّقة بالصلاة و الصوم و نحوهما حيث إنّ إطلاقها يشمل الصبيان. و أمّا حديث رفع القلم فقد يقال فيه انّه يدلّ على مجرّد رفع قلم المؤاخذة عنهم. و بعبارة اخرى يدلّ على رفع التكليف عنهم في مرحلة التنجّز مع بقائه مشتركاً بينهم و بين المكلّفين إلى المرحلة الفعلية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 274

..........

______________________________

و فيه: انّه من البعيد أن يكون المرفوع هو قلم المؤاخذة لعدم مناسبة القلم مع المؤاخذة أصلًا.

و قد يقال: إنّ رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم بمعنى رفع قلم فعلية التكليف مع بقائه مشتركاً بينه و بين غيره في مرحلة الإنشاء.

و فيه أيضاً انّه لا مناسبة بين رفع القلم و الفعلية فانّ بلوغ التكليف إلى مرحلتها أمر يتحقّق مع وجود شرائط الفعلية و لا حاجة إلى وضع القلم حتّى يكون مرفوعاً في الصبي فتدبّر.

و قد يقال: إنّ رفع القلم بمعنى رفع قلم الإنشاء مع بقاء ملاك التكليف و مناطه مشتركاً بين البالغ و غيره. و بعبارة اخرى اشتراكهما في مرحلة الاقتضاء و افتراقهما في مرتبة الإنشاء بضميمة انّ وجود الملاك و المناط و ثبوت هذه المرتبة كاف في الاتصاف بالصحّة و المشروعية.

و فيه انّه لو سلم كفاية الاقتضاء و الملاك في الصحّة لكن لا طريق لنا إلى استكشافه في

أعمال الصبي و عباداته فانّ الكاشف عن ملاكات الأحكام و مناطاتها هو الأوامر الصادرة من الشارع و المفروض اختصاصها بالبالغين فمن أين يستكشف وجود الملاك في عبادة الصبي، و دعوى انّه من المعلوم انّه لا فرق في الملاك بين عمله و عمل البالغ مدفوعة بعدم حصول هذا القطع لنا و لا طريق إلى الكشف أصلًا.

مع انّ إثبات هذه المراحل الأربعة أو الخمسة لكل حكم من الأحكام التكليفية و تفسير الإنشائية و الفعلية بالكيفية المعروفة يحتاج إلى بحث لا يسعه المقام. و كيف كان فهذا الأمر لا يقتضي مشروعية عبادات الصبي إلّا أن يقال بعد الفراغ عن شمول الإطلاقات للصبيان و عدم اختصاصها من أوّل الأمر بالمكلّفين بأنّه قد انعقد الإجماع في مقابلها على عدم اللزوم على الصبي و القدر المتيقّن من الإجماع نفي اللزوم لا نفي المشروعية و الاستحباب ففي الحقيقة الإجماع قرينة على التصرّف فيها بالحمل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 275

..........

______________________________

على الاستحباب في مورد الصبي و شبهه خصوصاً لو قلنا بعدم كون مفاد الهيئة هو الوجوب بل مجرّد البعث الملائم مع الاستحباب أيضاً كما مرّ.

الثاني: الأمر الوارد بأمر الصبيان بالصلاة و غيرها من العبادات، فإنّ الأمر بالأمر بالشي ء أمر بذلك الشي ء حقيقة، و حيث إنّ الشارع أمر أولياء الصبيان بأمر أطفالهم بالصلاة مثلًا فيثبت بذلك انّه أمر الشارع الأطفال بها. غاية الأمر انّ شيئاً من الأمرين لا يكون على سبيل الوجوب بل على سبيل الاستحباب فالدليل على محبوبية عبادات الصبي و مشروعيتها تعلّق الأمر الاستحبابي بها بالكيفية المذكورة.

و فيه انّ هذا الأمر انّما يتمّ لو كان أولياء الأطفال مأمورين بأمرهم بجميع العبادات و لكن ذلك لم

يثبت إلّا في خصوص الصلاة إلّا أن يقال بعدم القول بالفصل بين الصلاة و غيرها من أعمال الصبي و عباداته. هذا تمام الكلام في مباحث النجاسات و يتلوه البحث عن أحكام النجاسات إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

و قد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق التي هي جزء من كتابنا الموسوم ب «تفصيل الشريعة» في شرح «تحرير الوسيلة» بيد العبد المفتاق إلى رحمة ربّه المفضال محمد الموحّدي اللنكراني الشهير بالفاضل ابن العلّامة الفقيه الفقيد آية اللّٰه المرحوم فاضل اللنكراني حشره اللّٰه مع من يحبّه و يتولّاه من النبي و الأئمّة المعصومين صلوات اللّٰه و سلامه عليه و عليهم أجمعين و وفّقني اللّٰه لأداء بعض حقوقه الواجبة التي هي أكثر من أن تحصى و لا يحرمني من دعائه في ذلك العالم الذي لا بدّ من الانتقال إليه، و كان ذلك في اليوم الحادي عشر من شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1395 من الهجرة النبوية على مهاجرها آلاف الثناء و التحية في مكتبة الوزيري في بلدة «يزد» المعروفة بدار العبادة و أنا مقيم فيها بالإقامة الموقتة الإجبارية مع عدم استقامة الحال و تشويش البال و الهموم المتعدّدة و الغموم المتكثّرة بمعزل من الناس أجمعين حتّى ممّن ينتحل منهم العلم و الدين و قد جعلهما

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 276

..........

______________________________

وسيلة للوصول إلى حطام الدنيا و ذريعة للبلوغ إلى الأغراض السفلى نسأل اللّٰه تبارك و تعالى أن يحفظنا من شرور أنفسنا و يوفّقنا لما هو وظيفتنا من تحصيل معالم الدين و ترويج شريعة سيّد المرسلين و نشر معارف أئمّة الحقّ و اليقين و أن يعجّل في فرج الإمام المنتظر و الحجّة الثاني

عشر بحق آبائه الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

اللهمّ انّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزُّ بها الإسلام و أهله و تذلُّ بها النفاق و أهله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 277

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

[القول في أحكام النجاسات]

اشارة

القول في أحكام النجاسات

[مسألة 1 يشترط في صحّة الصلاة و الطواف واجبهما و مندوبهما طهارة البدن]

مسألة 1 يشترط في صحّة الصلاة و الطواف واجبهما و مندوبهما طهارة البدن حتّى الشعر و الظفر و غيرهما ممّا هو من توابع الجسد، و اللباس الساتر منه و غيره، عدا ما استثنى من النجاسات و ما في حكمها من متنجّس بها، و قليلها و لو مثل رأس الإبرة ككثيرها عدا ما استثنى منها، و يشترط في صحّة الصلاة أيضاً طهارة موضع الجبهة في حال السجود دون المواضع الأُخر فلا بأس بنجاستها ما دامت غير سارية إلى بدنه أو لباسه بنجاسة غير معفوّ عنها و تجب إزالة النجاسة عن المساجد بجميع أجزائها من أرضها و بنائها حتّى الطرف الخارج من جدرانها على الأحوط، كما انّه يحرم تنجيسها، و يلحق بها المشاهد المشرّفة و الضرائح المقدّسة، و كل ما علم من الشرع وجوب تعظيمه على وجه ينافيه التنجيس كالتربة الحسينية بل و تربة الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) و سائر الأئمّة (عليهم السّلام) و المصحف الكريم حتّى جلده و غلافه، بل و كتب الأحاديث عن المعصومين (عليهم السّلام) على الأحوط بل الأقوى لو لزم الهتك بل مطلقاً في بعضها، و وجوب تطهير ما ذكر كفائي لا يختص بمن نجّسها، كما انّه تجب المبادرة مع القدرة على تطهيرها، و لو توقّف ذلك على صرف مال وجب، و هل يرجع به على من نجّسها لا يخلو من وجه، و لو توقّف تطهير المسجد مثلًا على حفر أرضه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 278

أو تخريب شي ء منه جاز بل وجب، و في ضمان من نجّسه لخسارة التعمير وجه قوي، و لو رأى نجاسة في المسجد مثلًا و قد

حضر وقت الصلاة تجب المبادرة إلى إزالتها مقدّماً على الصلاة مع سعة وقتها فلو تركها مع القدرة و اشتغل بالصلاة عصىٰ لكن الأقوى صحّتها، و مع ضيق الوقت قدّمها على الإزالة (1).

______________________________

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في اعتبار طهارة البدن و اللباس في صحّة الصلاة و الطواف.

أمّا الصلاة فقد اتّفقوا على اعتبار طهارتهما فيها و قد دلّت عليه الأخبار الكثيرة المتواترة إلّا انّها وردت في موارد خاصّة من البول و المني و مثلهما و لم ترد رواية في اعتبار إزالة النجس بعنوانه أو طهارة الثوب و البدن كي تكون جامعة لجميع الأفراد و مثبتة للحكم بنحو العموم. نعم يمكن استفادته من صحيحة زرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من مني إلى أن قال: فإن ظننت انّه قد أصابه و لم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أرَ شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال: تغسل و لا تعيد الصلاة. قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. الحديث. «1» فإنّه على تقدير كون الضمير في «غيره» راجعاً إلى الدم و كون الخير مرفوعاً معطوفاً عليه تدلّ على مانعية مطلق النجاسات في الصلاة لكن هذا التقدير لا يلائمه ذكر «شي ء من مني» عقيب «غيره» ضرورة انّه على هذا التقدير لا حاجة إليه أصلًا. نعم يمكن الاستفادة من الصحيحة من طريق آخر و هو انّ الإمام (عليه السّلام) قد عبّر في مقام الجواب عن السؤال عن علّة عدم الإعادة في صورة عدم التيقّن بقوله (عليه السّلام): لأنّك كنت على يقين من طهارتك و هذا التعبير بلحاظ اشتماله على

كلمة الطهارة و إضافتها إلى المصلّي مع كون مورد السؤال هو الثوب يعطي انّ المعتبر في الصلاة طهارة المصلّي. غاية الأمر انّ المراد

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و الثلاثون ح- 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 279

..........

______________________________

بالمصلّي ليس خصوص بدنه بل أعمّ منه و من الثوب الذي هو مورد السؤال، فالمستفاد من الصحيحة اعتبار عنوان عام شامل لجميع النجاسات كما هو ظاهر.

كما انّه يمكن استفادة ذلك من السؤال في بعض الروايات بلحاظ دلالته على مفروغية اعتبار الخلو عن النجاسة في صحّة الصلاة عند السائل و تقرير الإمام (عليه السّلام) له على ذلك، ففي رواية أبي العلاء عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي ء ينجسه فينسى أن يغسله فيصلّي فيه ثمّ يذكر انّه لم يكن غسله أ يعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد قد مضت الصلاة و كتبت له. «1» و دلالته على اعتبار طهارة البدن امّا بالأولوية و أمّا بعدم القول بالفصل.

كما انّه يمكن الاستفادة من بعض الروايات الواردة في مثل التكة و الجورب و القلنسوة المشتملة على لفظ «القذر» الظاهرة في اعتبار إزالته في غير الأُمور المذكورة ممّا تتمّ الصلاة فيه منفرداً، ففي رواية إبراهيم بن أبي البلاد عمّن حدثّهم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): لا بأس بالصلاة في الشي ء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر مثل القلنسوة و التكة و الجورب. «2» و أمّا استفادته من حديث «لا تعاد» المشتمل على لفظ «الطهور» أو مثل قوله (عليه السّلام): «لا صلاة إلّا بطهور.» فمورد الإشكال بل المنع. نعم يمكن الاستفادة من صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام)

قال: لا صلاة إلّا بطهور و يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنّة عن رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله)، و أمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله. «3» فانّ الظاهر بقرينة الذيل انّه لا تختص الطهارة المعتبرة في الصلاة بالطهارة من الاحداث بل تعمّ الطهارة من مطلق الخبائث كما لا يخفى، و لكن مقتضاها

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الأربعون ح 3.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الثلاثون ح 4.

(3) الوسائل أبواب أحكام الخلوة الباب التاسع ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 280

..........

______________________________

اعتبار طهارة البدن و أمّا استفادة اعتبار طهارة الثوب أيضاً فمشكلة فتأمّل، و الذي يسهل الخطب ما عرفت من كون المسألة اتفاقية لا كلام فيها. هذا بالنسبة إلى الصلاة.

و أمّا الطواف فاعتبار إزالة النجاسة عن الثوب و البدن فيه محكي عن الأكثر بل عن الغنية الإجماع عليه و قد استدلّ عليه بالنبوي المعروف: الطواف بالبيت صلاة. و بخبر يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل يرى في ثوبه الدم و هو في الطواف؟ قال: ينظر الموضع الذي رأى فيه الدم فيعرفه ثمّ يخرج فيغسله ثمّ يعود فيتمّ طوافه «1». و بتحريم إدخال النجاسة و إن لم تسر و استلزام الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه.

و عن ابن الجنيد كراهته في ثوب أصابه دم لا يعفى عنه في الصلاة، و عن ابن حمزة كراهته مع النجاسة في ثوبه أو بدنه. و مال إليه في محكي المدارك استناداً إلى الأصل بعد تضعيف الخبرين و مع حرمة إدخال النجاسة غير المتعدّية و الهاتكة حرمة المسجد.

و الظاهر انّ النبوي لا

دلالة له على كون التنزيل بلحاظ الأحكام المترتّبة على الصلاة جميعها أو الظاهرة منها التي منها الطهارة لأنّه مضافاً إلى عدم اشتراط الطهارة الحدثية التي هي من أظهر آثار الصلاة في الطواف المندوب على ما استظهر و عدم العفو عن الأقلّ من الدرهم من الدم و فيما لا تتمّ الصلاة به عند بعض القائلين باعتبار الطهارة في الطواف كصاحب الجواهر (قدّس سرّه) يكون الظاهر من النبوي التشبيه في الفضيلة و الثواب نظراً إلى انّه حيث يكون المغروس في أذهان المتشرّعة أنّ تحية المسجد عبارة عن الصلاة فيه فالنبوي مسوق لبيان انّ مسجد الحرام له خصوصية و هي انّ الطواف بالبيت فيه صلاة في الفضيلة و رعاية التحية فتدبّر.

و أمّا خبر يونس فمورده الدم و لا يدل على الشمول لجميع النجاسات

______________________________

(1) الوسائل أبواب الطواف الباب الثاني و الخمسون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 281

..........

______________________________

إلّا بضميمة عدم القول بالفصل.

و أمّا الدليل الثالث فواضح المنع بعد عدم كون مطلق الإدخال و لو لم تكن النجاسة مسرية و لا هاتكة محرماً و عدم كون الأمر بالشي ء مستلزماً للنهي عن الضدّ و عدم ثبوت الأمر هنا أصلًا حتّى يكون مستلزماً للنهي و غير ذلك من المناقشات الواردة عليه.

و لكن مع ذلك لا محيص عن الالتزام باعتبار الطهارة في الطواف لخبر يونس المتمّم بعدم القول بالفصل و لا يعارضه مرسل البزنطي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: رجل في ثوبه دم ممّا لا تجوز الصلاة في مثله و طاف في ثوبه؟ فقال: أجزء الطواف فيه ثمّ ينزعه و يصلّي في صوب طاهر «1». و ذلك لإرساله و عدم ظهوره

في وقوع الطواف مع العلم بثبوت الدم في الثوب لأنّه يحتمل أن يكون العلم متأخّراً عن وقوع الطواف فيه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة الواردة في الصلاة و الطواف عدم اختصاص اعتبار الطهارة بخصوص الواجب منهما بل هي معتبرة في المندوب منهما أيضاً كما انّه لا فرق في الصلوات الواجبة بين الأداء و القضاء ضرورة عدم كون الفرق بينهما إلّا من ناحية الزمان فقط.

و أمّا اعتبار طهارة الشعر و الظفر و غيرهما من توابع الجسد فمضافاً إلى انّه لم يحك الخلاف فيه من الأصحاب يدلّ عليه ما دلَّ على اعتبار طهارة البدن لأنّها أيضاً من أجزاء البدن ما دام كونها متّصلة به غير منفصلة عنه خصوصاً بالتقريب الذي استفدناه من صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة على اعتبار طهارة الشخص بالمعنى الذي يعمّ ثوبه أيضاً فإذا كانت طهارة الثوب دخيلة في اتّصاف الشخص بالطهارة فطهارة مثل الشعر و الظفر تكون مدخليتها بطريق أولى كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الطواف الباب الثاني و الخمسون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 282

..........

______________________________

ثمّ إنّ المراد باللباس الذي تعتبر إزالة النجاسة عنه أعمّ ممّا يكون ساتراً لعورتي المصلّي و ما لا يكون بمعنى انّ ما على المصلّي من اللباس الذي يعدّ بنظر العرف كذلك يعتبر أن يكون طاهراً سواء كان واحداً أو متعدّداً، و أمّا ما لا يعد من اللباس كالخيمة التي يصلّي فيها أو اللحاف الذي يكون على المصلّي فلا دليل على اعتبار طهارته. نعم في المصلّي مضطجعاً إيماء إذا فرض كون اللحاف لباساً له كما إذا لفّه مثلًا على بدنه يعتبر طهارة اللحاف لأنّه معدود حينئذٍ لباساً له من دون

فرق بين أن يكون له ساتر غيره أم لا.

و أمّا الاستثناء بالإضافة إلى مقدار بعض أنواع النجاسات و كذا نفس بعض الأصناف و كذا بالنسبة إلى بعض أنواع الألبسة فسيأتي الكلام فيه في بعض المسائل الآتية، كما انّ اختلاف حالات المصلّي من جهة العلم و الجهل و النسيان و الالتفات يأتي البحث فيه مفصّلًا إن شاء اللّٰه تعالى فانتظر.

المقام الثاني: في اعتبار طهارة موضع الجبهة في حال السجود في صحّة الصلاة، و اعتبار طهارة خصوص موضع الجبهة هو المعروف بين الأصحاب بل عن جملة من الأصحاب دعوى الإجماع عليه لكن المحكيّ عن أبي الصّلاح اعتبار الطهارة في مواضع المساجد السبعة بأجمعها كما حكي عن المرتضى (قدّس سرّه) اشتراطها في مطلق مكان المصلّي سواء كان من مواضع المساجد أو غيرها.

و الظاهر انّ محل الكلام في هذا المقام انّما هو النجاسة غير المتعدّية إلى البدن أو اللباس ضرورة انّه مع فرض التعدّي تبطل الصلاة لأجل كونها فاقدة لشرط طهارة الثوب أو البدن و إن حكى عن الفخر (قدّس سرّه) انّ اعتبار خلوّ المكان عن النجاسة المسرية انّما هو لأجل اعتبار الطهارة في نفس المكان و تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا كانت النجاسة المسرية ممّا يعفى عنه في الثوب و البدن كما إذا كان أقلّ من مقدار الدرهم من الدم مثلًا فإنّه على قول الفخر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 283

..........

______________________________

تكون الصلاة باطلة لفقدانها لشرط طهارة المكان التي تكون خالية عن الاستثناء و على قول غيره لا تبطل الصلاة لكونها معفوّاً عنها على ما هو المفروض.

و كيف كان فالدليل على اعتبار طهارة موضع الجبهة مضافاً إلى كون المسألة إجماعية لم

يقع فيها خلاف بين الأصحاب و إن كان ربّما يتوهّم الخلاف من جماعة منهم المحقّق (قدّس سرّه) حيث استجود ما حكاه في المعتبر عن الراوندي و صاحب الوسيلة من القول بجواز السجدة على الأرض و البواري و الحصر المتنجّسة بالبول فيما إذا تجفّفت بالشمس مع عدم كون الشمس عندهم من المطهّرات لكن التوهّم في غير محلّه لاحتمال كون الترخيص انّما هو من جهة ثبوت العفو عن السجود في خصوص الفرض المذكور، و من هنا لم يرخصوا في السجود عليها فقط فهو مؤكّد للإجماع على عدم جواز السجود على النجس الذي لم يثبت العفو عنه صحيحة حسن بن محبوب عن أبي الحسن (عليه السّلام) انّه كتب إليه يسأله عن الجص يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى ثمّ يجصص به المسجد أ يسجد عليه؟ فكتب (عليه السّلام) إليَّ بخطّه: إنّ الماء و النار قد طهّراه «1». فانّ ظهور السؤال في كون المنع عن السجود على النجس من الأُمور المسلّمة المفروغ عنها لدى السائل و تقرير الإمام (عليه السّلام) له على هذا الاعتقاد و تصريحه بحصول الطهارة للجص بسبب النار و الماء الظاهر في أنّه لولا حصول الطهارة لما جاز السجود عليه ممّا لا ينبغي أن ينكر فالصحيحة تامّة الدلالة على اعتبار طهارة موضع السجدة و قد مرّت انّ المسألة إجماعية فلا يبقى مجال للإشكال في أصل الحكم. نعم ربّما يشكل معنى الرواية و انّ الماء و النار كيف طهّرا الجصّ و ما المراد بالماء

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الثمانون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 284

..........

______________________________

و النار المطهّرين و إن كان الجهل بذلك لا يكاد يقدح في

الاستدلال بالرواية على اعتبار الطهارة في موضع السجدة بعد ظهور السؤال في المفروغية و الجواب في التقرير و الدلالة على انّه لولا الطهارة لما جاز السجود على الجص مع النجاسة كما لا يخفى على اولي الدراية.

إلّا انّه ربّما يقال: إنّ المراد بالنار حرارة الشمس و بالماء رطوبة الجص الحاصلة بصبّ الماء عليه لعدم إمكان التجصيص بالجص اليابس فمرجع الرواية إلى انّ الجصّ المشتمل على الرطوبة و المتنجّس بالعذرة و عظام الموتى يطهر بإشراق الشمس عليه.

و لا يخفى عدم تمامية هذا القول لأنّ حمل النار على حرارة الشمس مع عدم إشعار في الصحيحة بوقوع ذلك في محلّ تراه الشمس و يصل إليه نورها بعيد جدّاً خصوصاً مع ملاحظة انّ النار و الشمس عنوانان متغايران عند العرف كما انّ حمل الماء على الرطوبة الحاصلة بصبّ الماء عليه أيضاً كذلك.

و ذكر بعض الأعلام في الشرح انّ الماء و النار في الصحيحة باقيان على معناهما الحقيقي و انّ الجص قد طهر بهما لأنّ النار توجب طهارة العذرة و العظام النجستين بالاستحالة حيث تقلبهما رماداً و الاستحالة من المطهّرات، و أمّا الماء فلأنّ مجرّد صدق الغسل يكفي في تطهير مطلق المتنجّس إلّا ما قام الدليل على اعتبار تعدّد الغسل فيه و خروج الغسالة و انفصالها غير معتبر فإذا صبّ الماء على الجص المتنجّس أو جعل الجص على الماء فلا محالة يحكم بطهارته و إن لم تخرج غسالته فصحّ أن يقال: إنّ الماء و النار قد طهّراه كما يصحّ أن يسجد عليه و لا يمنع الطبخ عنه لأنّ الجص من الأرض و لا تخرج الأرض عن كونها أرضاً بطبخها أصلًا.

و أنت خبير بأنّ انقلاب العذرة و عظام الموتى رماداً بسبب النار

انّما يوجب طهارتهما للاستحالة لا طهارة الجص المتنجّس الذي لم يعرض له الاستحالة ضرورة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 285

..........

______________________________

أنّ الاستحالة تطهر معروضها لا شيئاً آخر مع عروض النجاسة له قبل تحقّقها و دعوى انّ النار قد طهرت العذرة و عظام الموتى و الماء قد طهّر الجص المتنجّس بهما مدفوعة بكونها خلاف ظاهر الصحيحة فإنّ ظاهرها مدخلية الأمرين في تطهير الجصّ.

و الإنصاف انّه لا يمكن الوصول إلى معنى الرواية لا من جهة التعليل الواقع في الجواب و لا من جهة أصل السؤال الظاهر في حصول النجاسة للجص مع انّ الجص لا يتّصف بالنجاسة في مفروض الرواية سواء كان الإيقاد عليه بنحو كان الجص في ظرف واقع على العذرة أو عظام الموتى أو بنحو كان ملاقياً لهما. امّا على الأوّل فواضح ضرورة أنّ الإيقاد عليه بهذا النحو لا يوجب نجاسته، و أمّا على الثاني فلأنّ الملاقاة الحاصلة بين الجص اليابس و العذرة اليابسة إذ هي التي يمكن أن توقد كيف يوجب عروض النجاسة للجص و هكذا عظام الموتى و دعوى كون العظام تشمل المخّ و فيه دهن و دسومة مدفوعة بعدم كون النظر إلى هذه الجهة و على تقديره فبالنسبة إلى العذرة التي هي مستقلّة في عروض الشبهة للسائل و لا مجال لإنكار كونها يابسة و إلّا لا تكون صالحة لأن توقد لا موقع لهذا الكلام فالوصول إلى معنى الرواية و فقه الحديث غير ممكن و لكنّه لا يقدح في الاستدلال بها على المقام كما عرفت.

و أمّا اعتبار طهارة سائر المواضع السبعة كما قد حكى عن أبي الصلاح فلم يظهر له وجه و ربّما يستدلّ له بالنبوي: «جنّبوا مساجدكم

النجاسة» «1» نظراً إلى شمول الجميع للمساجد السبعة بأجمعها و لكن يرد عليه مضافاً إلى ضعف سند الرواية و عدم معلولية الجابر له انّه يحتمل قوياً أن يكون المراد بالمساجد هي الأمكنة الشريفة المعدّة للعبادة سيّما الصلاة المسمّاة بالمسجد في الكتاب و السنّة في مثل

______________________________

(1) الوسائل أبواب أحكام المساجد الباب الرابع و العشرون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 286

..........

______________________________

قوله تعالى وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «1» و قوله تعالى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ «2» و قوله تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ «3» و قوله تعالى إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ «4» و قوله (عليه السّلام) في الرواية: «جنّبوا مساجدكم البيع و الشراء و المجانين و الصبيان» «5» و غير ذلك من الموارد الكثيرة، ثمّ إنّه على تقدير كون المراد هي مواضع السجود فالمتبادر منه موضع الجبهة لأنّه المنسبق إلى الذهن و المتبادر إليه و التعبير بالجمع انّما هو بلحاظ تكثّر المخاطبين و أفراد المصلّين كما لا يخفى.

و أضعف من ذلك الاستدلال له بصحيحة ابن محبوب المتقدّمة الواردة في الجص فانّ مفادها مجرّد انّه لولا تطهير الماء و النار لما جاز السجود على الجص المتنجّس، و أمّا ان عدم الجواز هل يكون مستنداً إلى وجود المانع في خصوص مسجد الجبهة أو إلى وجوده في جميع المواضع السبعة فلا دلالة للصحيحة عليه لو لم نقل بظهور السؤال في نفسه في جواز السجود بمعنى وضع الجبهة عليه نظراً إلى الانسباق و التبادر المتقدّم آنفاً فهذا القول ممّا لا يساعده الدليل بوجه.

و أمّا القول

المحكي عن السيّد من اعتبار طهارة مكان المصلّي بأجمعه من غير اختصاص بالمواضع السبعة فضلًا عن خصوص موضع الجبهة فقد استدلّ له مضافاً إلى النهي عن الصلاة في المجزرة و هي المواضع التي تذبح فيها الأنعام، و المزبلة و الحمّامات و هي مواطن النجاسة فتكون الطهارة معتبرة إلى الروايات المتعدّدة:

منها: موثقة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الشاذكونة يصيبها

______________________________

(1) الأعراف: 29.

(2) التوبة: 108.

(3) البقرة: 114.

(4) التوبة: 18.

(5) الوسائل أبواب أحكام المساجد الباب السابع و العشرون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 287

..........

______________________________

الاحتلام أ يُصلّي عليه؟ قال: لا «1». قال في محكي الوافي: «الشاذكونة بالفارسية الفراش الذي ينام عليه».

و منها: موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث قال: سُئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس و لكنّه قد يبس الموضع القذر؟ قال: لا يصلّى عليه و اعلم موضعه حتّى تغسله، و عن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال: إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثمّ يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة، و إن أصابته الشمس و لم ييبس الموضع القذر و كان رطباً فلا يجوز الصلاة حتّى ييبس، و إن كانت رجلك رطبة و جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلِّ على ذلك الموضع حتّى ييبس، و إن كان غير الشمس أصابه حتّى ييبس فإنّه لا يجوز ذلك. «2» و منها: صحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلّى فيه؟ فقال: إذا جففته الشمس فصلِّ عليه

فهو طاهر. «3» و منها: صحيحة زرارة و حديد بن حكيم الأزدي جميعاً قالا: قلنا لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): السطح يصيبه البول، أو يُبال عليه يصلّى في ذلك المكان؟ فقال: إن كان تصيبه الشمس و الريح و كان جافّاً فلا بأس به إلّا أن يكون يتّخذ مبالًا. «4»

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 6.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع و العشرون ح 4.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع و العشرون ح 1.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع و العشرون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 288

..........

______________________________

و أُجيب عن الدليل الأوّل انّه يمكن أن يكون النهي عن الصلاة في هذه المواضع من جهة عدم التناسب بين الصلاة التي هي عمود الدين و معراج المتّقين و قربان المؤمنين و بين هذه الأمكنة لاستقذارها و استخباثها و دلالتها على مهانة نفس من يستقربها و يؤيّده تعلّق النهي بالأماكن المذكورة بعناوينها الأوّلية غير الملازمة للنجاسة فإنّ مثل عنوان المزبلة لا يلازمها بوجه مع انّه يمكن اتخاذ موضع لا يعلم نجاسته بل علم طهارته بالتطهير و شبهه مع انّ إطلاق النهي يشمل هذه الصورة أيضاً فيكشف ذلك عن عدم كون النهي لأجل النجاسة الموجودة في تلك الأمكنة و على تقديره فغاية مفادها مانعية النجاسة عن الصلاة في مثلها، و أمّا أنّ المانعية انّما هو لأجل اعتبار طهارة المكان بأجمعه فلا دلالة للروايات عليه فمن الممكن أن يكون المعتبر طهارة المواضع السبعة أو خصوص مسجد الجبهة كما لا يخفى. و الإنصاف ما عرفت من كون النهي فيها نهي تنزيه و لا يكون ناظراً إلى النجاسة و إطلاقه يشمل صورة عدمها أيضاً.

و أمّا

الموثّقتان الدالّتان على النهي عن الصلاة في المكان النجس الشاملتان بإطلاقهما لما إذا كانت طهارة موضع الجبهة أو جميع المواضع السبعة معلومة بالخصوص فالجواب عن الاستدلال بهما انّهما معارضتان بما يدلّ صريحاً على الجواز في نفس موردهما كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن الشاذكونة يكون عليها الجنابة أ يصلّى عليها في المحمل؟ قال: لا بأس. «1» و رواية محمّد بن أبي عمير قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أُصلّي على الشاذكونة و قد أصابتها الجنابة؟ فقال: لا بأس. «2»

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 3 و في رواية الصدوق انه ع قال: لا بأس بالصلاة عليها.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 289

..........

______________________________

و مقتضى الجمع حمل الموثقين على الكراهة لصراحة المعارضين في الجواز و تقييد مورد السؤال في الصحيحة بالمحمل لا يشعر باختصاص نفي البأس في الجواب به كما لا يخفىٰ.

و ربّما يجمع بينهما بطريق آخر أفاده بعض الأعلام في الشرح و هو انّ الصحيحتين و إن كانتا ظاهرتين في الإطلاق من حيث رطوبة الشاذكونة و جفافها إلّا انّه لا بدّ من تقييدهما بصورة الجفاف و عدم رطوبتهما للأخبار المعتبرة الدالّة على اعتبار الجفاف في مكان المصلّي إذا كان نجساً، فإذا قيّدناهما بصورة الجفاف فلا محالة تنقلب النسبة بينهما و بين موثقة ابن بكير من التباين إلى العموم المطلق فيتقيّد بهما إطلاق الموثقة و تكون محمولة على خصوص صورة الرطوبة.

و يرد عليه مضافاً إلى انّ هذا النحو من الجمع على تقدير تماميته انّما يجري في خصوص موثقة ابن بكير دون موثقة عمّار التي موردها صورة يبوسة الموضع

القذر ان حمل الموثقة على صورة الرطوبة حمل على الفرد النادر خصوصاً بعد ملاحظة انّ الجنابة لا تتّصف بالرطوبة إلّا في أوائل الإصابة سيّما في البلاد الحارّة فحملها عليه مع هذه الجهة غير مستقيم، و أمّا الأخبار التي أوجبت تقييد المعارضين بصورة الجفاف فلا بدّ من ملاحظتها و انّها هل تدلّ على اعتبار طهارة المكان بمعنى جفافه إذا كان نجساً و لو لم تكن النجاسة مسرية إلى المصلّي أو ثوبه أصلًا أم لا؟ فالإنصاف انّ الحمل على الكراهة جمع عقلائي بينهما.

و أمّا ما عدا الموثقتين من الصحيحتين المذكورتين دليلًا للسيّد فالجواب انّهما أيضاً معارضتان بالأخبار الدالّة على الجواز و هي كثيرة:

منها: صحيحة علي بن جعفر انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) عن البيت و الدار لا تصيبهما الشمس و يصيبهما البول، و يغتسل فيهما من الجنابة أ يُصلّى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 290

..........

______________________________

فيهما إذا جفّا؟ قال: نعم. «1» و منها: صحيحته الأُخرى عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) أيضاً قال: سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أ يصلّى عليه؟ قال: إذا يبست فلا بأس. «2» و منها: صحيحته الثالثة عنه أيضاً قال: سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن تغسل؟ قال: نعم لا بأس. «3» و منها: صحيحته الرابعة عنه أيضاً قال: سألته عن رجل مرّ بمكان قد رشّ فيه خمر قد شربته الأرض و بقي (بقيت) نداوته أ يصلّى فيه؟ قال: إن أصاب مكاناً غيره فليصل فيه و إن لم يصب فليصل و لا بأس. «4» و منها: موثقة عمّار الساباطي قال: سألت أبا عبد

اللّٰه (عليه السّلام) عن البارية يبل قصبها بماء قذر، هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال: إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها. «5» وجه المعارضة أنّ الصحيحتين تدلّان على عدم كفاية الجفاف بمجرّده بل لا بدّ من عروض المطهر و لو كان هي الشمس و أمّا هذه الأخبار فمفادها كفاية مجرّد الجفاف و لو لم يكن مستنداً إلى الشمس بل مورد بعضها صورة عدم إصابة الشمس أصلًا.

و الجمع بينهما امّا بحملهما على إرادة خصوص مسجد الجبهة و انّه لا بدّ من خلوّه عن مطلق النجاسة يابسة كانت أم رطبة و لا يشترط ذلك في بقية المواضع،

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 2.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع و العشرون ح 3.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 7.

(5) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 291

..........

______________________________

و أمّا بالحمل على الكراهة لصراحة هذه الأخبار في الجواز و يؤيّد هذا الجمع الاستثناء الواقع في صحيحة زرارة و حديد بن حكيم بقوله (عليه السّلام): «إلّا أن يكون يتّخذ مبالًا» فإنّه لا وجه للنهي عن صورة الاتخاذ مبالًا مع فرض حصول الجفاف بالشمس و الريح إلّا كونه غير ملائم لما هو أهمّ العبادات و القرب من الصلاة، و يمكن الجمع بنحو آخر و هو انّ تقييد الجفاف بالشمس فيهما ليس لأجل مدخلية الشمس في ترتّب الحكم بل انّما هو لأجل كون الجفاف في مثل السطح انّما يتحقّق به نوعاً فالمقصود مجرّد حصول الجفاف من أي طريق و يؤيّده عطف الريح على الشمس في إحداهما مع انّ الريح لا يكون مطهراً و إن

كان يبعده قوله (عليه السّلام) في صحيحة زرارة: «فهو طاهر».

و كيف كان فلا يمكن استفادة اعتبار طهارة مكان المصلّي من مثل الروايات المذكورة. نعم يقع الكلام بعد ذلك في استفادة اعتبار الجفاف في مكانه و لو بالنسبة إلى غير المواضع السبعة بحيث لو كانت في مكانه نجاسة رطبة غير مسرية إلى الثوب و البدن أصلًا لكانت مانعة من الصلاة فيه و عدمها، و الظاهر انّه لا يستفاد من هذه الأخبار الدالّة على اعتبار الجفاف مع ملاحظة الأخبار الدالّة على اشتراط طهارة الثوب و البدن إلّا انّ الرطوبة المانعة انّما هي ما إذا كانت موجبة للسراية إلى الثوب أو البدن فمجرّد وجود النجاسة غير المسرية في مكان المصلّي لا يمنع عن الصلاة. و من هنا يعلم انّ السراية وحدها غير كافية في المانعية بل فيما إذا كان الثوب أو البدن متنجّساً بسببها بما لا يعفى عنه في الصلاة فإذا كان هناك دم رطب و قد سرى إلى الثوب أو البدن و لكنّه كان أقلّ من الدرهم أو كان من القروح أو الجروح أو كان الثوب الساري إليه ممّا لا تتمّ الصلاة فيه وحده كالجورب و شبهه فلا يكون مانعاً عن صحّة الصلاة و بذلك يظهر بطلان ما حكى عن الفخر (قدّس سرّه) ممّا تقدّم من جعل اعتبار الطهارة من شرائط المكان من حيث هو، و إن حكى عن إيضاحه انّه حكى عن والده (قدّس سرّه) دعوى الإجماع على صحّة الصلاة في ذي المتعدّية و إن كانت معفوّاً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 292

..........

______________________________

عنها. فانّ الظاهر انّ دعوى الإجماع إنّما نشأت من إطلاقات كلماتهم و هي منصرفة إلى الإرادة من

تلك الجهة و كيف لا فقد صرّح غير واحد على ما حكي بخلاف ذلك و ربّما استدلّوا عليه باستلزامه تفويت شرط الثوب و البدن و من ذلك ظهر صحّة ما أفاده في المتن من قوله: «فلا بأس بنجاستها أي سائر المواضع ما دامت غير سارية إلى بدنه أو لباسه بنجاسة غير معفوّ عنها». كما انّه ظهر ممّا ذكرنا انّ اعتبار طهارة موضع الجبهة و مسجدها انّما هو لأجل تحقّق السجود على موضع طاهر و عليه فالمعتبر انّما هي الطهارة في حال السجود فلو كان مسجد الجبهة متنجّساً في غير حال السجود طاهراً حاله لا يقدح ذلك في صحّة الصلاة أصلًا كما لا يخفى.

المقام الثالث: في وجوب إزالة النجاسة عن المساجد و حرمة تنجيسها فالكلام يقع في حكمين:

الأوّل: وجوب الإزالة و قد ادّعى غير واحد الإجماع عليه و لم ينقل الخلاف فيه من أحد عدا ما عن صاحب المدارك (قدّس سرّه) من الميل إلى جواز تنجيسها الملازم عرفاً لعدم وجوب إزالة النجاسة عنها، و وافقه على ذلك صاحب الحدائق (قدّس سرّه) و لكن الارتكاز في أذهان المتشرّعة و انعقاد الإجماع القطعي في المسألة أوجبا شذوذ المخالفة مضافاً إلى الروايات الواردة الآتية.

و لكن الحدائق استدلّ على مرامه بموثقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدمل يكون بالرجل فينفجر و هو في الصلاة؟ قال: يمسحه و يمسح يده بالحائط أو بالأرض و لا يقطع الصلاة. «1» نظراً إلى انّ إطلاقها يشمل ما إذا كانت الصلاة في المسجد فتدلّ على جواز تنجيس أرض المسجد و حائطه.

و يرد عليه وضوح انّ الرواية مسوقة لبيان حكم آخر و هو انّ انفجار الدمل الملازم لخروج مقدار من الدم

نوعاً و تحقّق التنجّس به لا يمنع عن إدامة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و العشرون ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 293

..........

______________________________

الصلاة بل يمسحه و يمسح يده بالحائط أو بالأرض و لا يقطع الصلاة و لا دلالة لها على جواز المسح على حائط المسجد أو أرضه فهل يمكن التمسّك بإطلاقها لجواز تنجيس حائط الغير بدون اذنه فالظاهر انّ الرواية ناظرة إلى ما ذكر من عدم استلزام انفجار الدمل لبطلان الصلاة. نعم ربّما يقال في منشأ توهّم الاستلزام انّ مسح المنفجر من الدمل بمثل الحائط أو الأرض فعل كثير قاطع للصلاة و الجواب ناظر إلى عدمه و لكن هذا القول مندفع بكون المسح مذكوراً في الجواب دون السؤال بل محط نظر السائل هو الانفجار الملازم لخروج مقدار من الدم نوعاً كما لا يخفى. و منه يظهر فساد ما قيل في مقام الجواب من انّ انفجار الدماميل لا يستلزم وجود الدم بل الغالب العدم فتدبّر.

و أمّا الروايات الدالّة على وجوب الإزالة فمنها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدابة تبول فتصيب بولها المسجد أو حائطه أ يُصلّى فيه قبل أن يُغسل؟ قال: إذا جفّ فلا بأس. «1» بتقريب انّ المستفاد من الرواية انّ وجوب إزالة النجاسة عن المسجد كان مرتكزاً و مفروغاً عنه عند السائل و انّما كان مورد ترديده هو وقتها و انّه هل يكون على الفور أو انّه يجوز تأخيرها عن الصلاة و قد قرّره الإمام (عليه السّلام) على هذا الارتكاز و لم يردعه عن هذا الاعتقاد.

و يمكن المناقشة في الاستدلال بالصحيحة بوجوه:

أحدها: عدم وجوب الإزالة في خصوص موردها فانّ بول

الدابة لا يكون نجساً حتّى ينجس المسجد و يقع المصلّي في ضيق التكليف من هذه الجهة.

و قد أُجيب عنه بأنّ سؤاله عن بول الدابة يحتمل أن يكون مستنداً إلى احتماله نجاسة أبواب الدواب أو اعتقاده لها كما ذهب إليه جملة من فقهاء العامّة-

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع ح 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 294

..........

______________________________

و منه يظهر انّ عدم حكمه (عليه السّلام) بطهارته مستند إلى التقية و عدم إظهاره المخالفة مع المخالفين، كما انّ تعليق نفي البأس على صورة الجفاف لعلّه من جهة استقذاره مع الرطوبة و عدمه مع عدمها و لا يقدح ذلك في الاستدلال بالرواية أصلًا.

ثانيها: انّه يحتمل أن لا يكون السؤال في الرواية ظاهراً في الارتكاز و المفروغية عند السائل بل كان سؤاله راجعاً إلى حكم ترجيح أحد الأمرين المستحبّين على الآخر حيث انّ ظاهر الصحيحة سعة الوقت للصلاة و تمكّن المكلّف من الإتيان بها بعد الغسل و من الظاهر انّ المبادرة إلى الواجب الموسع مستحبّة كما انّ تنظيف المسجد عن القذارة و الكثافة و لو لم تكن نجسة أمر مرغوب فيه في الشريعة، فالسؤال إنّما يرجع إلى انّ المستحبّين أيّهما أولى بالتقديم من غيره و يؤيّد ذلك التفصيل في الجواب بين صورة الجفاف و عدمه فإنّه لا يلائم مع نجاسة بول الدابة مضافاً إلى انّه من البعيد في حق علي بن جعفر أن يكون محتملًا أو معتقداً بنجاسته بل يناسب التفصيل مع ما ذكر فإنّه مع عدم حصول الجفاف يكون استقذاره باقياً بحاله، فتقديم الغسل أولى، و أمّا مع الجفاف فتقديم الصلاة كذلك.

و فيه: انّ التعبير بعدم البأس لا يلائم مع كون السؤال عن

ترجيح أحد المستحبّين على الآخر كما هو ظاهر.

و الإنصاف: انّ الرواية سؤالًا و جواباً ناظرة إلى مطلب آخر و هو انّ تنجّس المسجد بإصابة بول الدابة النجس إليه هل يمنع عن الصلاة فيه باعتبار اشتراط طهارة مكان المصلّي أو خصوص مسجد الجبهة أو لا يمنع عن ذلك، امّا كون المفروض نجاسة بول الدابة فلدلالة قوله: «قبل أن يغسل» عليه ضرورة أن الغسل إنّما يطلق في موارد النجاسة فلا ينبغي الإشكال من هذه الجهة في كون المفروض نجاسة بول الدابة و عليه فالدابة انّما هي بمعناها العامّ الشامل لمثل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 295

..........

______________________________

الكلب أيضاً، و أمّا كون النظر إلى اعتبار طهارة المكان فمضافاً إلى ظهور السؤال فيه في نفسه و إلى دلالة الجواب المشتمل على خصوصية التعبير بنفي البأس و على تعليقه على صورة الجفاف الظاهر في انّ الرطوبة مانعة لأجل السراية يدلّ عليه كثير من روايات علي بن جعفر في المقام المتقدّم فانّ التعبير فيها و في هذه الرواية واحد و لنقتصر على ذكر واحدة منها و هي صحيحته عن أخيه (عليه السّلام) قال: سألته عن البيت و الدار لا تصيبهما الشمس و يصيبهما البول و يغتسل فيهما من الجنابة أ يصلّى فيهما إذا جفا؟ قال: نعم. «1» فهل ترى فرقاً بين السؤال في هذه الرواية و السؤال في رواية المقام و على ما ذكر فلا دلالة في الرواية على وجوب إزالة النجاسة عن المسجد أصلًا بل هي ناظرة إلى ما عرفت. نعم يبقى فيما ذكرنا شي ء و هو انّ إصابة البول إلى حائط المسجد لا يلائم معه و جوابه مضافاً إلى ورود هذا الإيراد على

الصحيحة الواردة في البيت و الدار أيضاً فإنّ إصابة البول إليهما لا ظهور فيها في إصابة أرضهما فمن الممكن أن يصيب البول إلى حائطهما ان ذكر الحائط بلحاظ تماس المصلّي معه في حال الجلوس أو القيام فتدبّر.

و كيف كان فهذه الصحيحة لا يمكن الاستدلال بها على وجوب إزالة النجاسة و ارتكازه و مفروغيته بوجه أصلًا.

و منها: موثقة محمد الحلبي قال: نزلنا في مكان بيننا و بين المسجد زقاق قذر فدخلت على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقال: أين نزلتم؟ فقلت: نزلنا في دار فلان، فقال: إنّ بينكم و بين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له: إنّ بيننا و بين المسجد زقاقاً قذراً؟ فقال: لا بأس؛ إنّ الأرض تطهّر بعضها بعضاً، قلت: و السرقين الرطب

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 296

..........

______________________________

أطأ عليه؟ فقال: لا يضرّك مثله. «1» و عن الحلبي بطريق آخر عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: إنّ طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه و ليس على حذاء فيلصق برجلي من نداوته؟ فقال: أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس انّ الأرض تطهر بعضها بعضاً، قلت: فأطأ على الروث الرطب؟ قال: لا بأس أنا و اللّٰه ربّما وطئت عليه ثمّ أُصلّي و لا أغسله. «2» و يرد على الاستشهاد بها انّ الظاهر من السؤال و الجواب كون النظر إلى نجاسة رجل المصلّي و بدنه المانعة عن الصلاة لا إلى تنجيس المسجد و تحريمه و يشهد لهذا الظهور قوله (عليه السّلام): «أنا و اللّٰه ربّما وطئت عليه ثمّ أُصلّي

..» بداهة عدم ارتباطه بالمسجد بل غرضه (عليه السّلام) حصول الطهارة للرجل و جواز الصلاة معه من دون حاجة إلى الغسل فإنّ الأرض يوجب حصول الطهارة له فهذه الرواية أيضاً أجنبية عن المقام.

و منها: الروايات المستفيضة الدالّة على جواز اتخاذ الكنيف مسجداً بعد تنظيفه أو طمّه مثل صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المكان يكون حشاً زماناً فينظف و يتّخذ مسجداً فقال: الق عليه من التراب حتّى يتوارى فإنّ ذلك يطهر إن شاء اللّٰه «3». و غيرها من الأخبار الواردة في ذلك فانّ مفادها مفروغية عدم ملائمة النجاسة و المسجدية و لزوم إزالتها عن المسجد.

لكن ربّما يقال: إنّ مقتضاها وجوب إزالة النجاسة عن ظاهر المسجد فقط و أمّا باطنه فلا تجب إزالة النجاسة عنه و لا يحرم تنجيسه لما يستفاد منها من عدم

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الثلاثون ح 4.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الثلاثون ح 9.

(3) الوسائل أبواب المساجد الباب الحادي عشر ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 297

..........

______________________________

منافاة نجاسة الباطن مع المسجدية و إلّا لم يكن الطمّ و إلقاء التراب كافياً في جواز اتّخاذ الكنيف مسجداً لأنّ إلقاء التراب لا يوجب حصول الطهارة المصطلحة له بل غايته منعه من السراية كما لا يخفى و عليه فقد وقع الكلام في انّه هل يستفاد من هذه الروايات حكم تعبّدي مخصوص بموردها أو انّ الحكم المذكور فيها يشمل جميع الموارد فقد ذهب صاحب الجواهر (قدّس سرّه) تبعاً للأردبيلي (قدّس سرّه) إلى اختصاص الحكم بخصوص موردها و ما يشبهه ممّا تتعذّر إزالة النجاسة عنه أو تتعسّر فلا يشمل

ما يتيسّر تطهيره.

و يرد عليه أمران:

الأوّل: إنّ ظاهر الروايات كون الطمّ و اخلقاء التراب مطهراً بل كونه أطهر من تنظيف المكان الذي يكون ظاهره التنظيف بالماء لا مجرّد جمع العذرات و الكثافات عنه و عليه فظاهرها كونه محقّقاً للطهارة المعتبرة في المسجدية لا انّه حكم تعبّدي مخصوص بما تتعذّر إزالة النجاسة عنه أو تتعسّر و يؤيّده عدم إشعار شي ء منها بثبوت الحكم التعبّدي الخاص خصوصاً مع اشتمال أكثرها على التعليل بكون إلقاء التراب مطهراً أو انّه أطهر من التنظيف و خصوصاً مع دلالة بعضها على اعتبار التنظيف و الإصلاح، ففي خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن بيت كان حشاً زماناً هل يصلح أن يجعل مسجداً؟ قال: إذا نظف و أُصلح فلا بأس. «1» فإنّ مقتضى الجمع بينه و بين غيرها اعتبار التنظيف و الإصلاح و انّه يحصل بإلقاء التراب و الطمّ أيضاً، و عليه فإلقاء التراب أحد الطريقين لحصول الطهارة المعتبرة في المسجدية مطلقاً من دون فرق بين صورة التعذّر و التعسّر و عدمهما.

الثاني: انّه لم يقم دليل على وجوب إزالة النجاسة عن باطن المسجد لأنّ

______________________________

(1) الوسائل أبواب المساجد الباب الحادي عشر ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 298

..........

______________________________

عمدة الأدلّة هي ارتكاز المتشرّعة و انعقاد الإجماع في المسألة. و من الواضح عدم ثبوت الارتكاز بالإضافة إلى الباطن و لم يعلم اندراجه في معقد الإجماع مع انّه دليل لبّي خصوصاً مع فتوى المجمعين بجواز اتّخاذ الكنيف مسجداً بعد طمّه بل بعد طرح التراب بمقدار يقطع ريحه من غير إشعار في كلامهم بكونه حكماً خاصّاً تعبّدياً مستثنى ممّا أجمعوا عليه من وجوب إزالة

النجاسة عن المساجد.

و أمّا صحيحة علي بن جعفر فهي على تقدير الدلالة واردة في نجاسة ظاهر المسجد أو جداره لأنّ المفروض فيها إصابة بول الدباة إليهما على خلاف العادة.

و أمّا هذه الروايات فموردها نجاسة الباطن و مفادها عدم لزوم التطهير على هذا الفرض فكيف يمكن تعميم الحكم بالإضافة إلى البواطن أيضاً.

و لكن الإنصاف أنّ الفتوى بعدم وجوب إزالة النجاسة عن باطن المسجد مشكلة لأنّه مضافاً إلى انّ المرتكز عند المتشرّعة منافاة المسجدية مع النجاسة و من الواضح انّ باطن المسجد لا يكون خارجاً عن عنوان المسجدية بمجرّد كونه متّصفاً بأنّه باطن يكون المستفاد من روايات اتخاذ الكنيف مسجداً الحاجة إلى التطهير، غاية الأمر كون طمّه بالتراب مطهّراً له بالطهارة المعتبرة في المسجدية و عليه فلا يمكن استفادة جواز تنجيس الباطن منها خصوصاً مع انّه لا يرى فرق بين الباطن و بين سقف المسجد مثلًا. نعم لو تنجّس الباطن لا يحتاج تطهيره إلى الماء بل يكفي إلقاء التراب عليه، و أمّا جواز التنجيس فلا دلالة لها عليه فيشكل الأمر فيما يقع في هذه الأزمنة أحياناً من جعل أرض المسجد بعد حفره بمقدار أذرع حشّا و محلّاً معدّاً للخلاء و جل محلّ الصلاة هو السقف الواقع على ذلك المحل.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ علىٰ وجوب إزالة النجاسة عن المساجد بقوله تعالىٰ مخاطباً لإبراهيم الخليل (عليه السّلام):

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 299

..........

______________________________

وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْقٰائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ «1» بتقريب انّ الأمر ظاهر في الوجوب و انّ الوجوب لا يختصّ بالمخاطب فقط كما انّه لا ينحصر بخصوص بيت اللّٰه الحرام لعدم القول بالفصل فيشمل جميع المساجد و لكنّه ربّما يقال

إنّ الطهارة المأمور بها لم يعلم كونها هي الطهارة المصطلح عليها في زماننا بل الظاهر كونها بمعناها اللغوي أعني النظافة من القذارات.

و يرد عليه انّ حمل الطهارة على معناها اللغوي إن كان مع حفظ ظهور الأمر في الوجوب كما هو الظاهر فاستفادة وجوب إزالة النجاسة المصطلحة عن الآية بطريق أولى. نعم تمكن المناقشة بأنّه لا يظهر من الآية كون وجوب تطهير المسجد من حيث نفس المسجد بل من جهة الواردين فيه و هو يغاير المطلوب فتدبّر.

ثمّ إنّ وجوب الإزالة لا يختصّ بأرض المسجد بل يشمل بنائها من حائطه و سقفه من الداخل قطعاً ضرورة اتصاف البناء بعنوان المسجدية و الجزئية له، و أمّا البناء من خارج المسجد كالطرف الخارج من الجدران و الواقع فوق السقف فمع فرض كونه جزءً من المسجد بأن جعله الواقف كذلك وقع الإشكال في وجوب إزالة النجاسة عنه مع عدم تحقّق الهتك و الإهانة و الظاهر انّ الدليل العمدة في الباب و هو الارتكاز و الإجماع لا دلالة له على الوجوب فيه بعد عدم ثبوت اللسان لهما حتّى يتمسّك بإطلاقه و الأخبار الواردة في اتّخاذ الكنيف مسجداً أيضاً لا تدلّ على وجوب إزالة النجاسة عن ذلك لأنّ غاية مفادها منافاة النجاسة في الظاهر مع المسجدية. نعم صحيحة علي بن جعفر على تقدير دلالتها يمكن التمسّك بإطلاقها و ترك الاستفصال على وجوب تطهير الطرف الخارج من الجدار أيضاً لكن عرفت كونها أجنبية عن المقام فلا دليل على الوجوب في هذه الصورة إلّا فيما إذا تحقّق الهتك و الإهانة

______________________________

(1) الحج: 26.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 300

..........

______________________________

و لكن الاحتياط لا ينبغي تركه. هذا تمام الكلام فيما

يتعلّق بوجوب الإزالة.

الحكم الثاني: حرمة التنجيس و الدليل عليها هي الملازمة العرفية فإنّه إذا ثبت وجوب إزالة النجاسة عن المسجد بمقتضى ارتكاز المتشرّعة و انعقاد الإجماع في المسألة تثبت حرمة التنجيس عند العرف لأنّ الملاك هي المنافاة بين النجاسة و المسجدية و هي كما تقتضي وجوب الإزالة مع ثبوتها كذلك تقتضي حرمة التنجيس مع عدمها كما لا يخفى مع انّ رواية الحلبي المتقدّمة على فرض عدم كونها أجنبية عن المقام واردة في مورد التنجيس كما انّ حرمة إدخال النجاسة في المسجد و لو لم تكن مسرية كما سيجي ء البحث فيه بعد هذا الحكم تدلّ بالأولوية على حرمة التنجيس.

و كيف كان فلا إشكال في أصل هذا الحكم و في انّ حرمة التنجيس تنحصر بالمواضع التي تجب إزالة النجاسة عنها فإذا لم نقل بوجوب الإزالة عن الطرف الخارج من جدار المسجد فلا يكون تنجيسه أيضاً بمحرم إذا لم يكن موجباً للهتك و الإهانة كما هو ظاهر.

بقي الكلام في هذا المقام في حرمة إدخال النجاسة في المسجد و محلّ البحث فيها ما إذا لم تكن مسرية موجبة لتنجّسها و إلّا فلا إشكال في الحرمة لما عرفت من حرمة التنجيس و ما إذا لم يكن موجباً للهتك و الإهانة و إلّا فلا إشكال أيضاً في الحرمة و لو لم يكن المدخل هي النجاسة بل القذارات العرفية لما يعلم بالضرورة من الشرع من وجوب تعظيم المساجد التي هي بيوت اللّٰه و محالّ العبادة و لا سيّما الصلاة التي أهمّها فالكلام في إدخال النجاسة غير المتعدية و الهاتكة.

و قد حكى القول بالحرمة عن أكثر أهل العلم بل عن الخلاف و السرائر و غيرهما نفي الخلاف عنه، و عن الشهيد (قدّس سرّه)

دعوى الإجماع عليه.

و المستند لهم في ذلك أمران:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 301

..........

______________________________

الأوّل: قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ «1» حيث فرع النهي عن قرب المشركين المسجد الحرام الذي هو كناية عن دخولهم فيه على نجاستهم فيستفاد منه عدم ملائمة النجاسة مع الكون في المسجد و لو لم تكن متعدية، و الفرق بين سائر المساجد و المسجد الحرام منفي بعدم القول بالفصل و قد نوقش في الاستدلال به بوجوه:

أحدها: ابتناء الاستدلال على كون المراد بالنجاسة هي النجاسة المصطلحة التي لها أحكام كثيرة كحرمة الأكل و المانعية عن الصلاة و غيرهما كما كانت تستعمل بهذا المعنى في عصر الأئمّة (عليهم السّلام) و لسانهم و أنّى للمستدلّ بإثبات ذلك فمن أين يعلم ثبوت النجاسة بهذا المعنى في زمان نزول الآية الشريفة بل الظاهر انّ المراد منها هي القذارة المعنوية و هي قذارة الشرك و يؤيّده تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلية و انّ الوجه في النهي هو الاتّصاف بوصف الشرك مع انّه يساعده الاعتبار أيضاً فإنّ المشرك لا تلائم بين اعتقاده و بين المسجد الحرام الذي هو مركز التوحيد و محلّ العبادة الخالصة فكيف يناسب مع من يعبد الأصنام فالآية أجنبية عن الدلالة على المقام.

ثانيها: انّه على فرض كون النجاسة في الآية بالمعنى الشرعي المصطلح عليه لكن لم يثبت كون منشأ النهي عن دخولهم في المسجد الحرام نجاستهم ذاتاً لقوّة احتمال ورودها مورد الغالب من كون تجويز الدخول لهم كما كانوا عليه قبل نزول الآية يستلزم سراية النجاسة إلى المسجد و عليه فلا يبعد أن يكون النهي عن دخولهم بهذه الملاحظة فلا يستفاد منها إلّا حرمة النجاسة

المتعدّية الخارجة عن فرض المسألة.

ثالثها: انّه لو كان النهي في الآية متفرّعاً على النجس بالكسر الذي

______________________________

(1) التوبة: 28.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 302

..........

______________________________

هو صفة مشبهة و معناه حامل النجاسة و واجدها لكان المستفاد منها حرمة إدخال جميع النجاسات لأنّها متّصفة بهذه الصفة التي لها معنى اشتقاقي بل يمكن التعميم إلى المتنجسات أيضاً فإنّها أيضاً نجس بالكسر لكن النهي فيها لم يتفرّع عليه بل فرع على النجس بالفتح الذي هو معنى حدثي يرجع إلى النجاسة و القذارة فكأنّه فرع النهي على نفس النجاسة. و من المعلوم انّ إطلاقها يحتاج إلى خصوصية مرخصة كالتوغّل فيها و ثبوت أعلى المراتب لها فالنهي عن الدخول من آثار هذه المرتبة الكاملة و لا يمكن استفادة ثبوتها بالإضافة إلى المراتب الدانية أيضاً، فإذا قيل: «زيد عدل فأكرمه» لا يستفاد منه وجوب إكرام كل عادل، بل مفاده وجوب إكرام من كان مثل زيد في البلوغ إلى المرتبة القوية من العدالة المصحّحة لإطلاق العدل عليه و عليه فلا يستفاد من الآية إلّا النهي عن دخول المسجد بالإضافة إلى من كان مثل المشرك في صحّة إطلاق النجاسة و القذارة عليه و لم يثبت له مثل فيما نحن بصدده من النجاسات التي يراد إدخالها في المسجد.

و الإنصاف: إنّ هذه المناقشة لا مفرّ عنها أصلًا، و أمّا المناقشة الثانية فالجواب عنها واضح ضرورة انّ المتبادر من الآية كون سبب المنع نجاستهم ذاتاً لا تنجيسهم للمسجد الذي قد يتّفق أحياناً. و بعبارة اخرى المستفاد منها كون السبب هي الجهة الموجودة في ذات المشرك بما هو مشرك لا أمراً عرضيا ربّما يتّفق نوعاً أو أحياناً فهذه المناقشة واضحة المنع كما

انّ المناقشة الأُولى أيضاً كذلك لما عرفت في أوائل مباحث النجاسات من انّ النجاسة و القذارة لها مصداقان أحدهما حقيقي و هو الذي يكون قذراً عند العرف و العقلاء و ثانيهما اعتباري جعلي و هو الذي لا يستقذره الناس لو خليت طباعهم و أنفسها و قد ألحق هذا المصداق الشارع بالقسم الأوّل موضوعاً و اعتبر القذارة و النجاسة له كذلك و نجاسة المشرك المجعولة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 303

..........

______________________________

في الآية من هذا القبيل و لا مجال لدعوى كونها بالمعنى العرفي بعد عدم ثبوت القذارة له عند العرف أصلًا و الحمل على القذارة المعنوية يحتاج إلى ارتكاب خلاف الظاهر.

الأمر الثاني: النبوي المرسل: «جنّبوا مساجدكم النجاسة» «1» فانّ ظهور الأمر في الوجوب و ظهور المساجد في الأمكنة المعهودة المعروفة عند المتشرّعة المعدّة للعبادة و الصلاة دون مساجد الجبهة أو المواضع السبعة و كذا ظهور النجاسة في النجاسة المصطلح عليها ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلًا فمقتضاه حينئذٍ لزوم إيجاد التباعد و التفاصل بين المسجد و النجاسة فلا يجوز إدخالها فيه و لو لم تكن متعدّية.

و لكن يرد على الاستدلال به مضافاً إلى إرسال الرواية بحيث نقلها صاحب الوسائل (قدّس سرّه) عن جماعة من أصحابنا في كتب الاستدلال المشتملة على النقل بهذا النحو انّ المتبادر من الأمر بالتجنيب هو كون المراد حفظ المساجد عن أن تتنجّس و مراقبتها من أن تتلوّث بالنجاسة، فغاية مفاده النهي عن تنجيس المساجد و لا دلالة له على حرمة إدخال النجاسة غير المتعدية التي هي المفروض في المسألة.

و بعبارة اخرى الاستدلال بالنبوي يبتني على أن يكون المراد بالنجاسة هي الأعيان النجسة التي تطلق عليها النجاسة

أحياناً مسامحة و تجوّزاً من باب زيد عدل كما عرفت نظيره في الأمر الأوّل في إطلاق النجس بالفتح على المشركين في الآية الشريفة، و أمّا لو كان المراد بها هي النجاسة المصدرية فمفاده ما ذكرنا من دلالته على حرمة التنجيس الخارج عن محلّ البحث و هذا الاحتمال لو لم تكن الرواية ظاهرة فيه كما هو الظاهر لا تكون ظاهرة في غيره الذي يبتنى عليه الاستدلال.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا انّه لم ينهض الدليل لإثبات حرمة إدخال النجاسة في المسجد فالأظهر هو الجواز كما ذهب إليه كثير من المتأخّرين بل لعلّه هو المشهور بينهم

______________________________

(1) الوسائل أبواب أحكام المساجد الباب الرابع و العشرون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 304

..........

______________________________

و يدلّ عليه مضافاً إلى الأصل بعد عدم قيام الدليل على الحرمة الروايات الدالّة على جواز مرور الحائض و الجنب مجتازين في المساجد و حملها على كون المراد بيان الجواز من حيث حدثي الحيض و الجنابة و دفع التوهّم من ناحيتهما مدفوع بغلبة مصاحبتهما للنجاسة خصوصاً في مثل الحائض التي لا تتصدّى للتطهير نوعاً قبل تمامية الحيض، و مثله ما دلّ على جواز دخول المستحاضة في المسجد من الروايات التي منها موثقة عبد الرّحمن التي وقع فيها السؤال عن المستحاضة و انّه أ يطؤها زوجها و هل تطوف بالبيت؟ إلى أن قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): فإن ظهر أي الدم على الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفاً آخر ثمّ تصلّي فإذا كان دماً سائلًا فلتؤخّر الصلاة إلى الصلاة ثمّ تصلّي صلاتين بغسل واحد، وكل شي ء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها و لتطف بالبيت «1». و لا وجه لتوهّم الاختصاص

بالطواف الواجب لأجل الضرورة بعد إطلاق السؤال و شموله للطواف المندوب أيضا فمفادها جواز دخول المستحاضة المسجد الحرام و الطواف بالبيت و إن كانت مستحاضة كثيرة و دمها سائلًا.

هذا مضافاً إلى استقرار السيرة خلفاً عن سلف على دخول من كان على بدنه قرح أو جرح المساجد لحضور الجماعات و نحوه و كذلك من كان بدنه أو ثيابه متنجّساً بغير دم القروح و الجروح أيضاً كذلك استقرّت السيرة على عدم منع دخول الأطفال المساجد مع العلم بنجاستهم غالباً لأنّهم لا يستنجون و لا يتطهّرون غالباً و عليه فلا يبقى مجال للإشكال في جواز إدخال النجاسة فضلًا عن المتنجّس في المسجد. نعم يمكن أن يقال بأنّ إدخال نفس النجاسة لعلّه لا يخلو عن الهتك إذا لم يكن هناك غرض عقلائي و ضرورة عرفية و قد عرفت انّ صورة الهتك خارجة عن محلّ الكلام لأنّه لا مجال للإشكال في الحرمة فيها.

و المستفاد من المتن أيضاً الجواز حيث اقتصر فيه على وجوب الإزالة و حرمة

______________________________

(1) الوسائل أبواب الطواف الباب الواحد و التسعون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 305

..........

______________________________

التنجيس و لم يتعرّض لتحريم الإدخال أصلًا.

المقام الرابع: في أنّه يلحق بالمساجد في الحكمين المذكورين وجوب الإزالة و حرمة التنجيس المشاهد المشرّفة و الضرائح المقدّسة و كل ما علم من الشرع وجوب تعظيمه على وجه ينافيه التنجيس كالتربة الحسينية بل و تربة الرسول و سائر الأئمّة (عليهم السّلام) و المصحف الكريم حتّى جلده و غلاه بل و كتب الأحاديث عن النبي أو الأئمّة صلوات اللّٰه عليه و عليهم أجمعين مع الهتك على الأقوى في جميعها و بدونه أيضاً في بعضها على ما وقع

به التصريح في المتن. و لكنّه أفاد السيّد (قدّس سرّه) في «العروة» أنّ المشاهد المشرّفة كالمساجد في حرمة التنجيس بل وجوب الإزالة إذا كان تركها هتكاً بل مطلقاً على الأحوط لكن الأقوى عدم وجوبها مع عدمه و يظهر منه التفكيك في المشاهد بين حرمة التنجيس و وجوب الإزالة بثبوت الأولى مطلقاً و الثاني في خصوص صورة الهتك و قد تصدّى بعض الأعلام في الشرح لتوجيهه بما يرجع إلى انّ حرمة تنجيس المشاهد لا تكون من جهة تبعيتها للمساجد بل هي ثابتة و لو لم يكن تنجيس المساجد محرماً و ذلك لأنّها بما تشتمل عليه من آلاتها و أسبابها امّا أن تكون ملكاً للإمام قد وقفت لأن يزار فيها و أمّا أن تكون ملكاً للمسلمين قد وقفت لأن يكون مزاراً لهم و لوحظ في وقفها نظافتها و طهارتها و الوقوف حسب ما يقفها أهلها فالتصرّف فيها في غير الجهة الموقوفة لأجلها محرّم شرعاً. نعم التنجيس فيما لا تنافي نجاسته جهة الوقف ممّا لا محذور فيه كالخانات الموقوفة للزوّار و المسافرين في مسيرهم و عليه فحرمة التنجيس في المشاهد على القاعدة و لا تحتاج إلى دليل كالمساجد.

و أمّا وجوب الإزالة فيما إذا لم يكن بقاء النجاسة فيها مستلزماً للهتك فلم يقم عليه دليل و تعظيم شعائر اللّٰه لا دليل على وجوبه على إطلاقه و لا يمكن الالتزام بوجوبه بما له من المراتب و إلّا يلزم وجوب إزالة القذارات الصورية أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 306

..........

______________________________

و يرد عليه مضافاً إلى عدم جريان ما أفاده من الدليل في مثل الصفا و المروة اللذين هما من شعائر اللّٰه و المشاهد المشرّفة إذا لم

يكن التنجيس في مورد موجباً للهتك لعدم كون مثلهما من مصاديق: الوقوف على حسب ما يقفها أهلها و إلى انّه لم يعلم كون الطهارة و النظافة ملحوظة للواقف أصلًا انّه على تقدير الملاحظة لا سبيل إلى إثبات حرمة التنجيس بعنوانه الذي هو ظاهر المدعى فانّ الوقوف على حسب ما يقفها أهلها انّما يقتضي وجوب رعاية الجهات الملحوظة للواقف المنظورة له، و أمّا حرمة الجهات المخالفة فلا يقتضيه سيّما إذا أُريد إثبات الحرمة للجهة المخالفة بعنوانها لا بعنوان المخالفة للجهة الملحوظة كما عرفت انّه ظاهر المدعى.

و بعبارة اخرى الظاهر انّ المراد حرمة التنجيس بعنوانه المغاير للاحترام و التعظيم و الدليل لا يفي بإثبات ذلك، مع انّ الحرمة لو كانت من الجهة المذكورة لكان مقتضاها وجوب الإزالة أيضاً فإنّه كما تجب رعاية الجهات الملحوظة للواقف كذلك تجب إعادتها على تقدير المخالفة و لو من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ضرورة انّه كما انّ إحداث النجاسة مخالف لنظر الواقف كذلك إبقائها بعد حدوثها فاللازم سدّ باب الإبقاء أيضاً و لو بالإزالة فتدبّر. فالإنصاف انّ ما أفاده لا يرجع إلى محصّل و انّ التفصيل بين الحكمين ممّا ليس إليه سبيل بل الظاهر ثبوت الحكمين في خصوص ما إذا تحقّق الهتك و الإهانة لعدم وجود الدليل على أزيد من ذلك فانّ القدر المتيقّن من التعظيم الواجب الذي علم من الدين ثبوته و منافاته للنجاسة انّما هو ما إذا كان تركه محقّقاً للإهانة و الاستخفاف، و أمّا إذا لم يكن كذلك فلم يثبت وجوبه. هذا كلّه بالإضافة إلى غير المصحف.

و أمّا المصحف الكريم الذي هو أساس الدين و أكبر الأمرين اللذين تركهما النبي في المسلمين حينما اختار لقاء ربّ

العالمين فلا إشكال في وجوب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 307

..........

______________________________

إزالة النجاسة عن ورقه و خطّه بل عن جلده و غلافه فيما إذا كان بقاء النجاسة فيه مستلزماً للهتك و موجباً للمهانة و كذلك لا إشكال في حرمة التنجيس في هذه الصورة بعد العلم بكونه أكمل الكتب السماوية و هتكه هتك اللّٰه سبحانه بل مطلق الهتك بالإضافة إليه محرم و لو لم يكن بالتنجيس أو ترك الإزالة بل ربّما يبلغ إلى حدّ الكفر و الارتداد كما لا يخفى.

و أمّا فيما لم يتحقّق الهتك و الإهانة أصلًا كما إذا كان مشتغلًا بقراءة القرآن فأخذ الورق باليد الرطبة المتنجّسة الخالية عن عين النجاسة فهل وجوب الإزالة أو حرمة التنجيس ثابت فيه أيضاً أم لا؟ يمكن أن يقال بدلالة المتن على ثبوت الحكمين في المصحف مطلقاً لأنّه و إن لم يصرّح بالمراد من البعض المذكور فيه إلّا انّ الظاهر كون المصحف مراداً امّا وحده أو مع بعض الأُمور المذكورة و ذلك لأهمّية المصحف بمرتبة لا يبلغها شي ء من المذكورات بعد كونه كلام اللّٰه النازل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور و هدايتهم أجمعين من الأوّلين و الآخرين و هي المعجزة الخالدة الوحيدة، و مع ذلك يقع الكلام في مدرك ثبوتهما فيه و لو مع عدم تحقّق الهتك أصلًا كما في المثال المذكور.

و قد استدلّ شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) على وجوب إزالة النجاسة عن خصوص خطّ المصحف بفحوىٰ حرمة مسّ المحدث له. و الظاهر انّ مراده من الفحوى و الأولوية انّه إذا كان مسّ المحدث للخطوط حراماً مع انّه لا تتأثّر الخطوط بمسّه أصلًا فتنجيسها المؤثّر في الخطوط يكون حراماً بطريق أولى.

و

يرد عليه مضافاً إلى انّ ملاك حرمة المسّ لعلّه كان مغايراً لملاك حرمة التنجيس على تقديرها و لم يعلم ملاك حرمة المسّ بوجه فكيف يمكن التشبّث بالفحوى معه و إلى اختصاص الدليل على فرض تماميته بخصوص الخطوط و لا ينطبق على الورق فضلًا عن الجلد و الغلاف انّ مقتضاه حرمة التنجيس و لا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 308

..........

______________________________

دلالة له على وجوب الإزالة إلّا على تقدير القول بمنع غير المتطهّر عن مسّ الكتاب و وجوب حفظه من أن يمسّه المحدث و إلّا فلا يقتضي الدليل وجوب الإزالة بوجه. فانقدح انّه لم ينهض دليل لثبوت الحكمين في المصحف مع عدم تحقّق الإهانة و الهتك إلّا انّه حيث يكون تعظيم القرآن مساوقاً لتعظيم الدين و تكريمه تكريم شريعة سيّد المرسلين فالأحوط لو لم يكن الأقوى لزوم التباعد و التفاصل بينه و بين النجاسات خصوصاً بعد نفي الإشكال عنه من مثل شيخ المشايخ أجمعين و بعد إمكان دعوى أولوية المصحف عن المسجد ضرورة انّ إضافته إلى اللّٰه تعالى أشدّ من إضافة المسجد إليه لأنّه المعجزة الوحيدة.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، در يك جلد، مؤلف، قم - ايران، اول، 1409 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها؛ ص: 308

و من المعلوم انّ عروض التنجّس له يوجب التنفّر و الانزجار و انحطاط مرتبته العالية في الأنظار العادية فاللازم مراعاة ذلك في نفس المصحف و شؤونه من الورق و الجلد و الغلاف فتدبّر.

المقام الخامس: في أحكام متعلّقة بالإزالة غير ما ذكر:

منها: انّ وجوب الإزالة في موارد ثبوته كفائي و لا

يختص بمن تحقّق منه التنجيس بل هو و غيره سواء في هذه الجهة و ذلك لعدم اختصاص أدلّة الوجوب ببعض دون بعض بل يشمل الخطاب جميع من استجمع شرائط هذا التكليف فهو متوجّه إلى العموم و حيث انّ الإزالة لا تكون قابلة للتكليف بها إذا قام بها بعض المكلّفين لعدم بقاء موضوعها بعد تحقّقها فلا محالة يصير الحكم بنحو الوجوب الكفائي.

و عن الشهيد في ظاهر «الذكرى» اختصاص الوجوب بمن أدخله.

و يرد عليه بعد وضوح كون مراده خصوص ما إذا كان من أدخله واجداً لشرائط التكليف و بعد الإيراد عليه بأنّه ربّما لا يكون الإدخال من فعل المكلّف أصلًا انّه إن كان المراد انّ الأمر بالإزالة متوجّه إلى خصوص الفاعل المختار العالم بثبوت هذا التكليف و لا تكليف بالإضافة إلى غيره أصلًا سواء تحقّق من المكلّف أم لم يتحقّق فالجواب عنه ما عرفت من عدم اختصاص أدلّة الوجوب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 309

..........

______________________________

و شموله لجميع المكلّفين.

و إن كان المراد انّ الأمر بالإزالة يتوجّه أوّلًا إلى خصوص الفاعل المذكور عيناً فإذا عصىٰ و خالف يتوجّه في المرتبة الثانية إلى العموم كفاية نظير ما ذكروه في إنفاق الوالد على ولده الفقير و بالعكس حيث انّه واجب عيني في حقّ المنفق و إذا عصىٰ و لم يتحقّق منه الإنفاق يجب علىٰ غيره كفاية فالجواب عنه انّه لا يستفاد ذلك من الدليل فإنّه ليس في شي ء من الأدلّة إشعار بتعدّد المرتبة و ثبوت العينية و الكفائية بل ليس هنا إلّا تكليف واحد متوجّه إلى العموم و لا محالة يكون كفائياً.

نعم وجّهه في المصباح بقوله: «و يمكن توجيهه فيما لو كان من أدخله

متعمّداً في فعله آثماً به بدعوى انّه يستفاد عرفاً ممّا دلّ على وجوب التجنيب حرمة التنجيس أعني جعل المسجد متنجّساً أعمّ من احداثه و إبقائه فيجب عليه عيناً رفعه تخلّصاً عن التنجيس المحرم كما انّه يجب عليه و علىٰ غيره من المكلّفين إزالته كفاية للأمر بالتجنيب الشامل للجميع فليتأمّل».

و يرد عليه إنّ حرمة التنجيس و إن كانت تستفاد من الأمر بالإزالة بالملازمة العرفية المتقدّمة إلّا انّها تتقدّم بحسب المورد على الأمر بالإزالة ضرورة انّ الأولى فيما إذا لم تتلوّث المسجد بعد و الثانية بعد تحقّق التنجيس و إن شئت قلت حرمة التنجيس لا معنى لثبوتها بالإضافة إلى البقاء أصلًا و إلّا يلزم أوّلًا ثبوت التكليفين و كون مخالفة واحدة مخالفة لهما معاً، و ثانياً انّه على هذا التقدير لا اختصاص له بمن أدخله فإنّه لو كان الدليل عليها وجوب الإزالة و هو ثابت على الجميع فالحرمة المستفادة منه أيضاً ثابتة عليهم فلا اختصاص و لعلّه لما ذكرنا أمر بالتأمّل.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا بطلان ما عرفت من الشهيد (قدّس سرّه) و انّ الوجوب في جميع الموارد لا يكون إلّا كفائياً.

و منها: إنّ وجوب الإزالة على الفور و قد استظهر نفي الخلاف فيه بل عن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 310

..........

______________________________

المدارك و الذخيرة نسبته إلى الأصحاب و الوجه فيه انّ المرتكز عند المتشرّعة و المستفاد من الفتاوى و الإجماعات المحكية ما عرفت من كون الملاك في هذا الحكم احترام المسجد و مثله و منافاة ذلك للنجاسة الموجبة للتنفّر نوعاً و هذا يقتضي أن يكون الوجوب على الفور كما انّ المستفاد من الروايات الدالّة على ذلك على تقدير

الإغماض عن المناقشة فيها هو وجوب حفظ المسجد عن النجاسة و حرمة إحداثها فيه أو إبقائها و لا مجال لاحتمال أن يكون المراد مجرّد تبعيدها عن المسجد في زمان من الأزمنة المستقبلة سيما بالنسبة إلى خبر علي بن جعفر (عليه السّلام) فتدبّر.

و منها: انّه لو توقّفت الإزالة على صرف مال وجب و لا يسقط لأجل ذلك فإنّه في هذه الصورة يكون صرف المال مقدّمة للإزالة الواجبة، و مقدّمة الواجب امّا واجبة عقلًا و شرعاً أو عقلًا فقط. و على أيّ حال لا ريب في وجوبها.

و لكنّه ربّما يقال: إنّ المال الذي يتوقّف الإزالة على بذله إن كان من أموال نفس المسجد كاجرة الدكاكين الموقوفة لمصالح المسجد أو كان بمقدار يسير لا يعدّ صرفه ضرراً على المتصدّي و لم يكن حرجياً في حقّه ففي هذه الصورة يجب بذله من باب وجوب المقدّمة، و أمّا إذا كان ضرريّاً أو موجباً للحرج فالظاهر عدم وجوب البذل لأنّ الإجماع أو مثله من الأدلّة اللبّية لا يشمل هذه الصورة بعد وجود القدر المتيقّن لها، و الروايات و إن كانت مطلقة إلّا أنّ حكومة أدلّة نفي الضرر أو الحرج على جميع الأحكام الشرعية التي منها وجوب الإزالة على ما هو المفروض تقتضي عدم الوجوب في المقام و قد ذهبوا إلى انّ الميّت إذا لم يكن له مال يشترى به الكفن و لم يكن من تجب عليه نفقته موسراً لا يجب عليه و لا على غيره شراء الكفن له و انّما يدفن عارياً أو يكفن من بعض أسهم الزكاة لأنّ الواجب الكفائي هو التكفين لا بذل الكفن، كما انّ الواجب هو التغسيل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها،

ص: 311

..........

______________________________

دون شراء الماء له و هذا الحكم لا دليل عليه سوى قاعدة نفي الضرر.

و يرد عليه مضافاً إلى انّ لازم ما أفاده التفصيل في باب التكفين أيضاً بأن يقال بذل الكفن إن لم يكن ضرراً على المتصدّي و لا حرجياً في حقّه يجب عليه في هذه الصورة مع انّ ظاهره ثبوت الحكم هناك بنحو الإطلاق، و إلى انّ لزوم الضرر و الحرج انّما هو إذا لم يجز الرجوع به على من نجّسه و لم يكن ضامناً له فمن الممكن أن نختار ضمانه فيما سيجي ء من البحث عنه فنفس الفرض يتوقّف على نفي الضمان و بدونه لا يتحقّق أصلًا الفرق بين المقام و بين باب التكفين و عدم كون المقايسة في محلّها ضرورة انّ الواجب هناك هو التكفين الذي هو من أعمال المكلّفين و بدون وجود الكفن يكاد لا يتحقّق الواجب فلا معنى لبقاء وجوبه بدونه. و أمّا الواجب في المقام فهو الإزالة التي يكون موضوعها متحقّقاً لفرض تلوّث المسجد بالنجاسة. غاية الأمر توقّفها على بذل الماء.

و بعبارة اخرى عمل المكلّف هنا يتوقّف على بذل المال، و أمّا هناك فالتكفين لا يتوقّف عليه بل الكفن محتاج إليه و المقايسة الصحيحة انّما هي مقايسة المقام بما إذا كان التكفين مع وجوب الكفن متوقّفاً على بذل مال كما إذا كان إحضار الكفن الموجود متوقّفاً عليه فهل لا يجب البذل في هذه الصورة أو يجب بعنوان المقدّمة مع انّ في دليلي الضرر و الحرج سيما الأوّل كلاماً مذكوراً في محلّه.

و منها: انّه فيما لو توقّفت الإزالة على بذل مال و قد بذلها لتحقّقها فهل يرجع به إلى من نجس المسجد على تقدير كون المتصدّي للإزالة غيره أم

لا؟ فيه وجهان و المذكور في المتن انّ الرجوع به لا يخلو عن وجه و المختار في «العروة» انّ عدم الرجوع لا يخلو عن قوّة.

و ذكر بعض الأعلام في توضيح كلام السيّد (قدّس سرّه) ما حاصله: «انّه إذا نجس أحد مال غيره و احتاج تطهيره إلى بذل الأُجرة عليه فالظاهر عدم ضمانه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 312

..........

______________________________

للأُجرة لأنّ أدلّة الضمان و إن كانت تشمل العين و أوصافها من دون فرق بين وصف الصحّة و غيرها من أوصاف الكمال إلّا انّ اجرة التطهير و الإرجاع إلى الحالة السابقة لا دليل على ضمانها، فإذا صار تنجيس مال الغير موجباً لسقوطه عن المالية كما إذا نجس لبن الغير مثلًا أو سبباً لنقصان في قيمته فلا إشكال في الضمان لنفس المال أو مقدار النقص الحاصل، و أمّا اجرة التطهير فلا وجه لضمانها فإذا كان هذا حال تنجيس ملك الغير فحال تنجيس المسجد الذي هو وقف و معنى وقفه تحريره واضح لأنّه لا معنى لشمول أدلّة الضمان له بعد اختصاصها بمال الغير و قد ثبت انّ إتلاف أرض المسجد و نفسه غير موجب للضمان فما ظنّك بإتلاف صفاتها الكمالية».

و العجب منه حيث زعم انّ القائل بالضمان في مفروض المسألة يقول بضمان من نجس المسجد بالإضافة إلى نفس المسجد أو مالكه التقديري حيث ينفي شمول أدلّة الضمان لاختصاص موردها بما إذا ثبت المالية أوّلًا و كونها للغير ثانياً مع انّ الضمان على تقديره انّما هو بالإضافة إلى المتصدّي للإزالة الباذل للمال لأجلها فإذا لم يتصدّ أحد للإزالة لا يكون هناك ضمان أصلًا كما انّه إذا تبرّع متبرِّع ببذل المال أيضاً كذلك فالضمان انّما

هو بالإضافة إليه و الوجه في ثبوته انّما هو كون عمله الذي هو التنجيس صار موجباً لثبوت تكليف على العموم بنحو الكفاية و المفروض انّ موافقته تتوقّف على بذل المال، فقياس المسجد بمال الغير الذي لا تجب إزالة النجاسة عنه بوجه في غير محلّه جدّاً. نعم تمكن المناقشة في انّ ذلك بمجرّده لا يثبت الضمان بعد عدم نهوض الدليل عليه إلّا أن يقال باستفادة ذلك من قاعدة الغرور المبتنية على ضمان الغار لكونه سبباً لضمان المغرور فإنّه إذا كانت السببية للضمان موجبة لضمان السبب فالسببية للتكليف المتوقّف على بذل المال أيضاً كذلك فتدبّر.

و منها: انّه لو توقّف تطهير المسجد على حفر أرضه أو تخريب شي ء منه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 313

..........

______________________________

فهل يجوز ذلك بل يجب أم لا؟ و على تقدير الجواز و تحقّق الحفر أو التخريب فهل يكون من نجّسه ضامناً لخسارة التعمير أم لا؟

امّا جواز الحفر أو التخريب بل وجوبهما فلتوقّف الإزالة المأمور بها عليهما فلا ينبغي التأمّل في الجواز بل الوجوب لكن ربّما يقال: إنّ ذلك انّما هو فيما إذا كان حفرة أو تخريبه بمقدار يسير و لم يعد إضراراً بالمسجد و مانعاً عن الصلاة و العبادة فيه، و أمّا إذا لم يكن كذلك فالحكم بالجواز فضلًا عن الوجوب محلّ إشكال و منع لتزاحم ما دلَّ على وجوب الإزالة مع الأدلّة الدالّة على حرمة الإضرار بالمسجد و حرمة الإضرار لو لم يكن أقوى و أهمّ فعلى الأقلّ يكون محتمل الأهمّية دون وجوب الإزالة فلا مسوغ للحكم بالجواز و لو استند في دليل الوجوب إلى الإجماع فالخطب سهل جدّاً لعدم شمول الإجماع للإزالة المستلزمة للإضرار بالمسجد.

كما

انّه ربّما يقال: إنّ حرمة تخريب المسجد تختصّ بما إذا لم يكن لمصلحة المسجد كالتوسعة و إحداث باب و نحوها ممّا يترتّب عليه مصلحة عامّة و تطهير المسجد من هذا القبيل فلا مزاحم لما دلَّ على وجوب إزالة النجاسة عنه.

و أورد عليه بأنّ المراد بالمصلحة المسوغة للتخريب الفائدة العائدة إلى المتردّدين و الطهارة ليست منها، و مجرّد الوجوب لا يقتضي ذلك فالتزاحم بحاله فإن أُحرزت الأهمية في أحدهما أو احتملت و إلّا فمقتضى ذلك جواز كل من الأمرين.

و الحقّ أن يقال إنّ المراد بالإضرار بالمسجد إن كان هو مجرّد تخريبه أو حفر أرضه الذي ينطبق عليه عنوان التخريب أيضاً، فمضافاً إلى عدم معلومية شمول دليل حرمته للمقام بعد كون الغرض حفظ احترام المسجد و بعده عن النجاسة غير الملائمة مع المسجدية فإنّ المنساق من دليله ما إذا كان الغرض هو الإضرار بالمسجد، نقول بأنّ ذلك الدليل على فرض شموله للمقام انّما يكون مورده التخريب من غير التعمير، و أمّا لو قلنا بوجوب التعمير بعده و إرجاعه إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 314

..........

______________________________

الحالة الأُولى فالظاهر عدم الشمول مع هذه الجهة و عليه فدليل وجوب الإزالة و لو كان هو الإجماع أو الارتكاز يشمل المقام و يحكم بوجوبها و لو كان التطهير متوقّفاً على التخريب أيضاً.

و أمّا لو كان المراد بالإضرار هي المانعية عن الصلاة و العبادة فيه فمجرّد المانعية في زمان محدود لا ينفي وجوب الإزالة و لا يزاحمه بعد عدم قيام الدليل على حرمة المانعية في هذه الصورة أصلًا. فالإنصاف جواز التخريب و الحفر بل وجوبهما مطلقاً كما هو ظاهر المتن.

و أمّا ضمان من نجّسه لخسارة التعمير

الذي مرجعه إلى ثبوت وجوب الطمّ و تعمير الخراب بالإضافة إليه فقط لا إلى ثبوت الوجوب على العموم و جواز الرجوع إليه كما في الحكم المتقدّم الذي كان مورده توقّف الإزالة على بذل المال فإنّه في المقام لا تكون الإزالة متوقّفة على بذله أصلًا بل تعمير الخراب و طمّ الحفر متوقّفان عليه و ظاهر الحكم بالضمان على خصوص من نجّسه كون التكليف ثابتاً في حقّه فقط.

و بالجملة فلا دليل على ضمان المتصدّي للإزالة المباشر للتطهير امّا لأجل أنّ الحفر و التخريب انّما صدر لمصلحة المسجد و تطهيره، و التصرّف فيما يرجع إلى الغير إذا كان لمصلحة الغير لا يكون مستتبعاً للضمان، و أمّا لاختصاص أدلّة الضمان بما إذا أتلف مال الغير و المساجد لا تكون مملوكة بل محرّرة و منفكّة عن الملكية لوجه اللّٰه كالعبيد المعتقة.

و أمّا ضمان من نجسه فيبتني على انّه لو تحقّق التخريب من مكلّف ابتداءً لا لمصلحة المسجد هل يجب عليه الإرجاع إلى الحالة الأُولى و تعمير المسجد كما كان أم لا؟ فعلى الأوّل يتحقّق الضمان في المقام لأنّ التنجيس صار موجباً لثبوت التكليف بالإزالة المتوقّف موافقته على التخريب، و على الثاني لا وجه لثبوته فيه.

و ممّا ذكرنا ظهر انّ الحكم بالضمان في هذه الصورة أشدّ إشكالًا من الحكم به

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 315

..........

______________________________

في الفرض السابق و إن كان المستفاد من المتن خلاف ذلك ضرورة انّ الضمان هناك كان بالإضافة إلى المتصدّي للإزالة المباشر لها، و أمّا هنا فالضمان انّما يكون بالنظر إلى نفس المسجد.

المقام السادس: في مزاحمة إزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة فيما إذا حضر وقتها و قد أُفيد في

المتن انّه مع سعة وقت الصلاة تكون الإزالة مقدّمة عليها و مع ذلك لو تركها و اشتغل بالصلاة تكون صلاته صحيحة. غاية الأمر تحقّق العصيان بترك الإزالة لأنّها كانت واجبة على الفور و مع ضيق وقت الصلاة تكون الصلاة مقدّمة على الإزالة، فالكلام يقع في موردين:

المورد الأوّل: ما إذا كان وقت الصلاة متّسعاً و البحث فيه عن حكمين:

الحكم الأوّل: تقدّم الإزالة على الصلاة و مرجعه إلى ثبوت التزاحم بين الحكمين و أهمية وجوب الإزالة بالإضافة إلى وجوب الصلاة أو كونه محتمل الأهمّية فقط، امّا التزاحم فلظهور ثبوت الملاك و المناط في كليهما ضرورة بقاء وجوب الصلاة على ملاكه و بقاء وجوب الإزالة على ملاكه أيضاً و عدم ارتفاعه بمجرّد المزاحمة، و أمّا الأهمّية فلكون وجوب الإزالة على الفور و كونها من الواجبات المضيقة و المفروض سعة وقت الصلاة. و من المعلوم انّ الواجب الموسّع لا مجال له مع الواجب المضيّق بل لا تزاحم بينهما أصلًا كما لا يخفى.

الحكم الثاني: صحّة الصلاة مع ترك الإزالة و تحقّق العصيان و الاشتغال بها و قدد ذكر لها وجوه:

الأوّل: صحّة الترتّب الراجعة إلى ثبوت الأمر بالمهمّ عند عصيان الأمر بالأهمّ و كون الأمر بالأهمّ مطلقاً و الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيانه و مخالفته و عليه فصحّة الصلاة في مفروض المسألة انّما هي لكونها مأموراً بها عند عصيان الأمر بالإزالة و تركها و هذه أي مسألة الترتّب مسألة معروفة محرّرة في الأُصول.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 316

..........

______________________________

الثاني: ما اختاره المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) بعد الحكم بامتناع الترتّب و استحالته من كفاية الملاك في تصحيح العبادة و عدم الحاجة إلى تعلّق الأمر بها أصلًا.

الثالث: ما

اختاره أيضاً في آخر كلامه من انّ الأمر في الواجب الموسّع انّما تعلّق بالطبيعي الجامع بين تمام الأفراد، و الفرد المزاحم مع الواجب المضيّق و إن كان لم يتعلّق به أمر حتّى في غير مورد التزاحم إلّا انّه لا مانع من الإتيان به بداعي الأمر المتعلّق بالطبيعة المفروض ثبوته و عدم ارتفاعه لأنّه لا وجه لارتفاعه بعد كونه بنحو الواجب الموسّع و المزاحمة مع المضيّق انّما هي بالإضافة إلى بعض أفراده. فالإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة لا مانع منه، فالصلاة في الفرض صحيحة و لو قلنا بعدم كفاية الملاك في صحّة العبادة و احتياجها إلى الأمر.

مع انّه ربّما يقال بأنّه لا طريق إلى إحراز الملاك غير الأمر المتعلّق بالعبادة فمع فرض سقوط الأمر لأجل المزاحمة من أين يستكشف ثبوت الملاك حتّى يكون كافياً و إن كان هذا الإيراد في غير محلّه ضرورة انّ فرض التزاحم مساوق مع إحراز الملاك في كلا الواجبين مضافاً إلى انّه من الواضح انّ الصلاة في الفرض لم يحدث لها جهة سوى المزاحمة و عدم إمكان الإتيان بالمتزاحمين في زمان واحد فلا مجال لخروجها عن الملاك الذي كانت عليه.

نعم ربّما يقال في الوجه الثالث إنّ تصحيح العبادة من طريقه إنّما يبتني على عدم كون الأمر بالشي ء مقتضياً للنهي عن ضدّه الخاص ضرورة انّه مع القول بالاقتضاء لا مناص من الحكم بالبطلان في مفروض المسألة.

مع انّه على هذا التقدير أيضاً تكون الصلاة صحيحة لأنّ النهي الناشئ من قبل الأمر بالضدّ على تقديره نهي غيري و هو لا يمتنع اجتماعه مع العبادة فإنّه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 317

..........

______________________________

كما انّ الأمر الغيري لا يكون مقرّباً

كذلك النهي الغيري لا يوجب تحقّق المبغوضية و مع انتفائها و صلاحية العمل للمقرّبية تقع العبادة صحيحة.

الرابع: ما هو الحقّ تبعاً لما أفاده سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه في مباحثه الأُصولية من تصوير الأمر بالأهمّ و المهمّ في عرض واحد من دون تقييد الأمر بالمهمّ بالعصيان للأمر بالأهمّ أو بالبناء عليه بل كلاهما ثابتان في رتبة واحدة و لا يلزم من ذلك محذور أصلًا و هو يبتني على مقدّمات كثيرة دقيقة مذكورة في محلّها و نتيجتها صحّة الصلاة في مفروض المسألة لعدم تفاوت بينها و بين سائر الأفراد في الجهة المرتبطة بالصحّة و العبادية أصلًا.

المورد الثاني: ما إذا كان وقت الصلاة مضيّقاً و لا خفاء حينئذٍ في تقدّمها على الإزالة لأنّه مضافاً إلى عدم شمول أدلّة الوجوب التي عرفت انّ عمدتها الإجماع و ارتكاز المتشرّعة لمثل هذا المورد الذي يستلزم الاشتغال بالإزالة ترك الصلاة في وقتها يدلّ على تقدّم الصلاة ما ورد فيها من كونها عمود الدين و انّها لا تترك بحال و مثل ذلك من التعبيرات التي تكشف عن أهمّيتها بالإضافة إلى سائر الواجبات و عليه فلا إشكال في تقدّمها على الإزالة و اتّصافها بالصحّة.

بقي في هذا المقام فرع: و هو انّه إذا وقع التزاحم بين الإزالة و الصلاة في أثناء الصلاة كما إذا تنجّس المسجد في حال الاشتغال بالصلاة و التفت المصلّي إليه أو علم في الأثناء بوقوعه قبل الصلاة أو كان عالماً به قبلها ثمّ غفل و صلّى فتذكّر في الأثناء و مثل الصورة الأخيرة ما إذا علم قبلها و صلّى مع الالتفات عصياناً ثمّ ندم و بنى على ترك العصيان في أثناء الصلاة فهل الحكم عبارة عن لزوم قطع الصلاة

و الاشتغال بالإزالة ثمّ إعادتها أو انّه عبارة عن لزوم الإتمام ثمّ الإزالة بعدها أو يمكن التفصيل بين الصور المذكورة؟ و من المعلوم انّ محلّ الكلام ما إذا لم يمكن الجمع بين الإزالة و الإتمام، و أمّا إذا أمكن كما إذا لم تكن الإزالة مستلزمة للانحراف

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 318

[مسألة 2 حصير المسجد و فرشه كنفس المسجد على الأحوط]

مسألة 2 حصير المسجد و فرشه كنفس المسجد على الأحوط في حرمة تلويثه و وجوب إزالته عنه و لو بقطع موضع النجس (1).

______________________________

و لا لتحقّق الفعل الكثير القاطع لها فلا إشكال في لزوم كلا الأمرين من دون أن يكون هناك شكّ و ارتياب في البين كما انّ محلّ الكلام ما إذا كان الإتمام موجباً للإخلال بالفورية العرفية، و أمّا مع عدم الإخلال كما إذا كان في أواخر صلاته فلا ريب في وجوب الإتمام.

و أمّا مع عدم الإمكان و استلزام الإتمام للإخلال بالفورية العرفية فالظاهر هو التخيير بين الأمرين لأنّ عمدة الدليل على كلا المطلبين هو الإجماع القائم في البين على حرمة قطع الصلاة المفروضة و كذا وجوب إزالة النجاسة بالفورية العرفية التي ينافيها إتمام الصلاة و إلّا لم يكن الاشتغال بها أيضاً منافياً و حيث لم يثبت أهمّية شي ء من الأمرين و لا يجري احتمالها في خصوص واحد من الحكمين فلا محيص عن الحكم بثبوت التخيير في البين.

و إن شئت قلت بعدم شمول شي ء من الإجماعين للمقام بعد ثبوت القدر المتيقّن لهما ضرورة انّ المتيقّن من الإجماع على حرمة القطع غير ما إذا كان القطع لغرض الاشتغال بواجب مثل الإزالة كما انّ المتيقّن من الإجماع على لزوم إزالة النجاسة فوراً فيتخيّر بين الإتمام و القطع و

الإزالة فتدبّر.

(1) القول بوجوب إزالة النجاسة عن حصير المسجد و فرشه و كذا حرمة تنجيسه محكي عن الأكثر من غير نقل خلاف مع انّه ربّما يقال بعدم شمول شي ء من الأدلّة له لأنّه إن كان المستند هو الإجماع فالمتيقّن من معقده هو نفس المسجد و إن كان هي الأخبار الواردة في جواز اتخاذ الكنيف مسجداً أو صحيحة علي بن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 319

[مسألة 3 لا فرق في المسجد بين المعمورة و المخروبة و المهجورة]

مسألة 3 لا فرق في المسجد بين المعمورة و المخروبة و المهجورة، بل الأحوط جريان الحكم فيما إذا تغيّر عنوانه كما إذا غصب و جعل داراً أو خاناً أو دكّاناً (1).

______________________________

جعفر المتقدّمة فمن الواضح اختصاص موردها بنفس المسجد. نعم لو كان المستند هو قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ .. أو قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «جنّبوا مساجدكم النجاسة» و حمل النجس على الأعمّ من المتنجسات لكان مدلولهما وجوب الإزالة عن مثل الحصير أيضاً، لكنّك عرفت عدم تمامية الاستدلال بشي ء منهما لنفس المسجد فضلًا عن آلاته، فيتحصّل من ذلك انّه لا دليل على جريان حكم المسجد من جهة النجاسة في الحصير و الفرش و شبهه. نعم يمكن القول بحرمة التنجيس دون وجوب الإزالة من جهة كونه تصرّفاً في غير تلك الجهة التي أوقف لها.

هذا و يمكن أن يقال: إنّ ارتكاز المتشرّعة كما هو ثابت بالإضافة إلى نفس المسجد كذلك هو ثابت بالنسبة إلى حصيرة و فرشه الذي هو محل ابتلاء المصلّي نوعاً و لا فرق عند المتشرّعة بين نفس المسجد و بين مثل حصيرة فالأحوط جريان الحكمين فيه و لا فرق بين أن تكون الإزالة متوقّفة على التطهير أو على قطع الموضع و

لا بدّ من مراعاة الأصلح منهما و هو تختلف باختلاف الموارد.

(1) امّا عدم الفرق بين أفراد المساجد المختلفة من جهة كونها معمورة أو مخروبة أو مهجورة فلإطلاق الدليل و شموله لها بعد عدم خروج شي ء منها عن عنوان المسجدية كما هو المفروض.

و أمّا ما إذا تغيّر عنوانه بالفعل كما إذا غصب و جعل داراً أو خاناً أو دكّاناً فالاحتمالات بل الأقوال فيه ثلاثة:

أحدها: جريان كلا الحكمين: وجوب الإزالة و حرمة التلويث فيه أيضاً نظراً إلى شمول الأدلّة و الأخبار الواردة فيهما للمقام لأنّ موردها ما كان مسجداً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 320

..........

______________________________

واقعاً و إن لم يصدق عليه عنوان المسجدية بالفعل لأجل جعله داراً أو مثله و من المعلوم انّ انطباق عنوان مثل الدار عليه لا يخرجه عن كونه مسجداً واقعاً و لذا لو ندم الغاصب أو استرجع من يده لا يحتاج إلى وقف جديد بل هو باق على ما كان عليه فتغيّر العنوان لا يوجب الخروج عن ذلك و مورد الأدلّة هو المسجد الواقعي، أو إلى انّ الأدلّة و إن كانت لا تشمله لأنّ موردها هو المسجد بالفعل كما هو ظاهر الأخبار الواردة في اتخاذ الكنيف مسجداً و صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة و الإجماع أيضاً غير محرز في مثل المقام إلّا انّ استصحاب الحكمين الثابتين فيه قبل الخروج عن كونه مسجداً فعليّاً يجري و يحكم بثبوتهما.

ثانيها: عدم جواز تنجيسه فقط لا وجوب الإزالة عنه إذا تنجّس نظراً إلى قصور الأدلّة عن الشمول للمقام و وصول النوبة إلى الأصل العملي و حيث إنّ الاستصحاب بالإضافة إلى حرمة التلويث تنجيزي و بالنسبة إلى وجوب الإزالة تعليقي لأنّه معلّق

على حصول التنجّس و الاستصحاب التعليقي غير جار فلا محيص عن التفصيل بين الحكمين و الحكم بثبوت الحرمة فقط في البين.

ثالثها: عدم جريان شي ء من الحكمين لقصور الأدلّة و عدم شمولها لما لا يكون مسجداً بالفعل و الاستصحاب في الأحكام الكلّية غير جارٍ من دون فرق بين المنجز و المعلّق فالأصل الحاكم هو أصالة البراءة عن الوجوب و الحرمة.

و الحقّ إنّ دعوى قصور الأدلّة و عدم شمولها للمقام خصوصاً بعد ما عرفت من عدم كون تغيّر العنوان موجباً للخروج عن كونه مسجداً واقعاً مشكلة جدّاً و انّ الاستصحاب الجاري في كلا الحكمين استصحاب تنجيزي فإنّ الاستصحاب التعليقي مورده ما إذا كان الحكم في ظاهر الدليل معلّقاً على شي ء كما في قوله (عليه السّلام): «العصير العنبي إذا غلا يحرم» فإنّ الحرمة قد علّقت في ظاهر الدليل على الغليان، و أمّا في مثل المقام فالحكم تنجيزي غاية الأمر انّه لا موضوع له مع عدم التنجّس.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 321

[مسألة 4 لو علم إخراج الواقف بعض أجزاء المسجد عنه لا يلحقه الحكم]

مسألة 4 لو علم إخراج الواقف بعض أجزاء المسجد عنه لا يلحقه الحكم، و مع الشكّ فيه لا يلحق به مع عدم امارة على المسجدية 1.

______________________________

و إن شئت قلت: انّه تعليق عقلي و هو خارج عن بحث الاستصحاب التعليقي و قد حقّق في محلّه جريان الاستصحاب في كلا القسمين و حجّيته في الأحكام الكلّية فالأحوط لو لم يكن أقوى جريان كل من الحكمين في مفروض المقام فتدبّر.

(1) امّا عدم اللحوق في صورة العلم بإخراج الواقف بعض أجزاء المسجد عنه كما إذا علم بأنّه لم يجعل صحن المسجد أو جدرانه أو سقفه جزء من المسجد فواضح لأنّ مورد الحكمين وجوب الإزالة

و حرمة التلويث هو المسجد و أجزائه و المفروض عدم اتّصافه بهذا العنوان و لا مانع من التفكيك بعد كون الاختيار بيد الواقف.

و أمّا عدم اللحوق أيضاً في صورة الشكّ مع عدم الأمارة على المسجدية فلكون الشبهة موضوعية تحريمية بالإضافة إلى أحد الحكمين و وجوبية بالنسبة إلى الحكم الآخر و الاحتياط في الشبهات الموضوعية و إن كان حسناً إلّا انّه لا يكون لازماً عقلًا.

و أمّا اللحوق مع وجود الأمارة عليها كمعاملة المسلمين معه معاملة المسجدية أو شهادة الحال بكونه مسجداً فلأنّه لو لم يكتف بمثلها في ذلك لا يمكن إثبات المسجدية في أكثر المساجد خصوصاً المساجد القديمة التي مات واقفها و لا تعلم كيفية وقفها و لا أصل الوقفية بوجه أصلًا.

مسألة 5 كما يحرم تنجيس المصحف تحرم كتابته بالمداد النجس، و لو كتب جهلًا أو عمداً يجب محوه فيما ينمحي، و في غيره كمداد الطبع يجب تطهيره 2.

(2) قد عرفت انّ حرمة التنجيس مطلقاً سواء تحقّق الهتك أم لا يمكن أن يستدلّ عليها مضافاً إلى وضوح أهمّية القرآن و عدم الملائمة بينه و بين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 322

[مسألة 6 من صلّى في النجاسة متعمّداً بطلت صلاته و وجبت إعادتها]

مسألة 6 من صلّى في النجاسة متعمّداً بطلت صلاته و وجبت إعادتها من غير فرق بين الوقت و خارجه، و الناسي كالعامد، و الجاهل بها حتّى فرغ من صلاته لا يعيد في الوقت و لا خارجه و إن كان الأحوط الإعادة، و أمّا لو علم بها في أثنائها فإن لم يعلم بسبقها و أمكنه إزالتها بنزع أو غيره على وجه لا ينافي الصلاة مع بقاء الستر فعل و مضىٰ في صلاته، و إن لم يمكنه استأنفها لو كان

الوقت واسعاً و إلّا فإن أمكن طرح الثوب و الصلاة عرياناً يصلّي كذلك على الأقوى، و إن لم يمكن صلّى بها، و كذا لو عرضت له في الأثناء، و لو علم بسبقها وجب الاستئناف مع سعة الوقت مطلقا. (1).

______________________________

النجاسة الموجبة للنفرة في الأنظار العادية مع انّه كتاب الهداية و لا بدّ من الرجوع إليه للاستضائة من نوره بأولويته من المسجد لأنّه أشدّ إضافة إلى اللّٰه من إضافة المسجد إليه، فحرمة التنجيس ثابتة، و عليه لا فرق بين التنجيس و بين الكتابة بالمداد النجس لو لم يكن الثاني أشدّ من الأوّل، و مع كتابته كذلك جهلًا أو عمداً لا يرتفع حكم وجوب الإزالة بل هو باق علىٰ قوّته فيجب تطهيره بأيّ نحو تحقّق، و إذا لم يتحقّق إلّا بمحوه كما إذا كان بغير مداد الطبع ممّا ينمحي بالغسل بالماء فاللازم محوه لكن لا بخصوص الغسل بالماء فإنّه لا فرق حينئذٍ بين أن يغسل بالماء فينمحي أو أن يمحىٰ بغيره كما هو ظاهر.

و امّا في مداد الطبع فتطهيره بالماء لا يوجب انمحاءه فيجب ذلك لكن هل يجوز محوه رأساً بدل التطهير بالماء فيه إشكال.

(1) في هذه المسألة فروع:

الأوّل: الصلاة في النجاسة متعمّداً و المراد بالمتعمّد هو العالم المتعمّد بقرينة ذكر الجاهل بعده، كما انّ المراد بالنجاسة ما تكون الصلاة مشروطة بطهارة الثوب و البدن منها و عليه فالدم إذا كان أقلّ من الدرهم أو الثوب المتنجّس الذي لا تتمّ الصلاة فيه خارج عن محلّ البحث لأنّه فيما لا يعفى عنه في الصلاة و الحكم فيها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 323

..........

______________________________

بطلان الصلاة و وجوب الإعادة في الوقت و القضاء في

خارجه و الدليل عليه مضافاً إلى ما عرفت من الدليل على اشتراط الصلاة بطهارة الثوب و البدن و القدر المتيقّن منه صورة العلم و التعمّد ضرورة انّه مع إخراجه أيضاً تلزم اللغوية بعض الروايات الدالّة عليه كحسنة عبد اللّٰه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال: إن كان قد علم انّه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه و لم يغسله فعليه أن يُعيد ما صلّى. الحديث. «1» و رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يصلّي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب، أ يعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد «2». و غير ذلك من الروايات الدالّة عليه فلا مجال للإشكال في هذا الفرع، كما انّ تعميم الحكم بالإعادة لما بعد الوقت يدلّ عليه مضافاً إلى إطلاق حسنة ابن سنان الدالّة على وجوب الإعادة كون ذلك مقتضى بطلان الصلاة الفاقدة للشرط على ما هو المفروض. و لا مجال للتمسّك بحديث لا تعاد كما سيأتي مضافاً إلى اقتضائه عدم وجوب الإعادة في الوقت أيضاً.

الفرع الثاني: الصلاة في النجاسة نسياناً و المسألة من جهة وجوب الإعادة مطلقاً و عدمه كذلك و التفصيل بين الوقت و خارجه محلّ خلاف بين الأصحاب فالأشهر بل المشهور هو القول الأوّل، و عن الشيخ في الاستبصار و العلّامة في بعض كتبه هو القول الأخير بل نسب إلى المشهور بين المتأخّرين و عن الشيخ أيضاً في بعض أقواله هو القول الثاني و استحسنه المحقّق في محكي المعتبر و جزم به صاحب المدارك على

ما حكى و منشأ الاختلاف، اختلاف الأخبار الواردة في حكم المسألة فطائفة منها ظاهرة في وجوب الإعادة مطلقاً و طائفة اخرى تدلّ على

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 3.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 324

..........

______________________________

عدمه كذلك، و واحدة منها ظاهرة الدلالة على التفصيل.

أمّا الطائفة الأُولى فكثيرة:

منها: صحيحة زرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من مني فعلمت أثره إلى أن أُصيب له الماء فأصبت و حضرت الصلاة و نسيت أنّ بثوبي شيئاً و صلّيت ثمّ إنّي تذكّرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة و تغسله. الحديث. «1» و منها: حسنة عبد اللّٰه بن سنان المتقدّمة آنفاً فانّ موردها امّا صورة النسيان نظراً إلى انّ العالم الملتفت المريد للامتثال لا تتحقّق منه الصلاة مع النجاسة و عليه فالاستدلال به في الفرع المتقدّم انّما هو بمفهوم الموافقة فإنّ الناسي إذا وجب عليه الإعادة مطلقاً فالعالم الملتفت بطريق أولى، و أمّا الأعمّ من الملتفت و الناسي. و كيف كان فدلالته على حكم هذا الفرع ممّا لا إشكال فيه.

و منها: مصحّحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال في الدم يكون في الثوب: إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، و إن كان أكثر من قدر الدرهم و كان رآه فلم يغسل حتّى صلّى فليعد صلاته، و إن لم يكن رآه حتّى صلّى فلا يعيد الصلاة. «2» و تقريب الدلالة ما ذكرناه في دلالة الحسنة.

و منها: رواية ابن مسكان قال: بعثت بمسألة إلى أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) مع إبراهيم بن ميمون قلت: سله عن الرجل يبول

فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله فيصلّي و يذكر بعد ذلك انّه لم يغسلها؟ قال: يغسلها و يعيد صلاته. «3» و منها: موثقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يرى في ثوبه الدم فينسى أن يغسله حتّى يصلّي؟ قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشي ء

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الأربعون ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 2.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الأربعون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 325

..........

______________________________

إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه قلت: فكيف يصنع من لم يعلم أ يعيد حين يرفعه؟ قال: لا و لكن يستأنف. «1» و منها: حسنة محمّد بن مسلم أو صحيحته المشتملة على قوله (عليه السّلام): و إذا كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله و صلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه. «2» و منها: غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في نسيان الاستنجاء الدالّة على وجوب إعادة الصلاة معه. «3» و أمّا الطائفة الثانية فكثيرة أيضاً:

منها: صحيحة أبي العلاء عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي ء ينجسه فينسى أن يغسله فيصلّي فيه ثمّ يذكر انّه لم يكن غسله أ يعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد قد مضت الصلاة و كتبت له. «4» و منها: رواية هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الرجل يتوضّأ و ينسى أن يغسل ذكره و قد بال، فقال: يغسل ذكره و لا يعيد الصلاة. «5» و منها: ما رواه عمّار بن موسى قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: لو

انّ رجلًا نسي أن يستنجي من الغائط حتّى يصلّي لم يعد الصلاة. «6» و أمّا الرواية المفصلة فهي رواية علي بن مهزيار قال: كتب إليه سليمان

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الأربعون ح 5.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 6.

(3) و هي مروية في الوسائل في الباب الثامن عشر من أبواب نواقض الوضوء.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الأربعون ح 3.

(5) الوسائل أبواب أحكام الخلوة الباب العاشر ح 2.

(6) الوسائل أبواب أحكام الخلوة الباب العاشر ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 326

..........

______________________________

بن رشيد يخبره انّه بال في ظلمة الليل و انّه أصاب كفّه برد نقطة من البول لم يشكّ أنّه أصابه و لم يره و انّه مسحه بخرقة ثمّ نسي أن يغسله و تمسح بدهن فمسح به كفّيه و وجهه و رأسه، ثمّ توضأ وضوء الصلاة فصلّى؟ فأجابه بجواب قرئته بخطّه: امّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشي ء إلّا ما تحقّق، فإن حقّقت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صلّيتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهنّ في وقتها، و ما فات وقتها فلا إعادة عليك لها من قبل انّ الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلّا ما كان في وقت، و إذا كان جنباً أو صلّى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته لأنّ الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء اللّٰه. «1» و ربّما تجعل هذه الرواية شاهدة للجمع بين الطائفتين الأولتين بحمل الطائفة الأُولى الدالّة على وجوب الإعادة على الوقت و الطائفة الثانية الدالّة على عدم الوجوب على خارجه و لكن ذلك متوقّف على

اعتبار الرواية في نفسها و خلوّها عن التشويش و الاضطراب الموجب للاطمئنان بعدم الصدور عن الإمام (عليه السّلام) خصوصاً مع كونها مضمرة و كون الكاتب مجعول الحال و إن كان يمكن أن يقال بأنّ علي بن مهزيار لا يروي عن غير الإمام (عليه السّلام) و الوجه في الإضمار انّه أشار في أوّل كتابه الذي جمع فيه أجوبة مسائل الرجال مع نفس المسائل بأنّ هذه الأجوبة من الإمام (عليه السّلام) لئلّا يحتاج إلى ذكر اسمه الشريف عند كل رواية. هذا و لكن ذلك لا يقاوم الوثوق الحاصل من تشويش العبارة و اضطراب المتن.

و وجهه انّ ذيل الرواية يدلّ على انّه لو صلّى مع نسيان إزالة النجاسة الحدثية بالوضوء أو الغسل تكون صلاته فاسدة يجب عليه إعادتها في الوقت و في خارجه و علّله بكون الثوب خلاف الجسد و مراده انّ النجاسة الخبثية تغاير القذارة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الأربعون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 327

..........

______________________________

الحدثية فإنّه يجب في الثاني الإعادة مطلقاً و لا يجب في الأوّل إلّا الإعادة في الوقت خاصّة مع انّ مورد الرواية الذي حكم فيه بالتفصيل بين الصلوات التي فات وقتها و بين ما كان منها في الوقت كما يدلّ عليه قوله: فإن حقّقت أخلي قوله: و إن كان جنباً، من قبيل الثاني و ذلك لأنّ موردها ما إذا توضّأ للصلاة مع نجاسة رأسه و وجهه و كفّيه، و حينئذٍ فإن قلنا ببطلان ذلك الوضوء فيدخل المورد في قوله: و إذا كان جنباً أو صلّى على غير وضوء، فتجب عليه الإعادة مطلقاً، و إن لم نقل ببطلان وضوئه امّا لعدم كون المتنجّس

منجساً و أمّا لحصول الطهارة المعتبرة في صحّة الصلاة و الغسل المعتبر في الوضوء معاً بصبّ الماء بقصد الوضوء فلا تجب عليه الإعادة مطلقاً لعدم وقوع صلاته لا في النجاسة الخبثية و لا في القذارة الحدثية إلّا أن يقال إنّ ظاهرها نجاسة الوجه و الكفّين و الرأس و الأوّلان و إن كان يمكن القول بارتفاع نجاستهما بصبّ ماء الوضوء عليهما إلّا انّ الأخير لا مساس له بأجزاء الوضوء و محلّه، و المقدار الذي له مساس لا تكاد ترتفع نجاسته بالمسح أو يقال إنّ تنجّس غير محل البول به يحتاج زوال النجاسة عنه إلى الغسل مرّتين و لم يفرض في الرواية التعدّد فوجوب الإعادة في الوقت دون خارجه انّما هو لأجل نجاسة البدن المعبّر عنها بنجاسة الثوب في ذيل الرواية.

و لكن قوله (عليه السّلام): صلّيتهن بذلك الوضوء بعينه، يشعر بل يدلّ على انّ المقتضى لوجوب الإعادة هو الخلل الحاصل في الوضوء و من ناحيته لا النجاسة الخبثية.

و بالجملة الاعتماد على الرواية مشكل من جهة الإضمار و اشتباه حال الكاتب و هذا القول الأخير المشعر بكون منشأ الحكم النقص في الوضوء، و التعليل بكون الثوب خلاف الجسد مع انّ المراد من الثوب هو البدن و من الجسد هو معروض القذارة الحدثية، و كون أجزاء الوضوء ممسوحة بالدهن مع انّ الدهن يمنع عن وصول الماء و عدم كون المتنجّس منجساً و غير ذلك من الجهات التي توجب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 328

..........

______________________________

سقوط الرواية عن درجة الاعتبار و تنفي الوثوق بصدورها من المعصوم (عليه السّلام) و قد شهد بإجمال الرواية المحدِّث الكاشاني (قدّس سرّه) حيث قال فيما حكي عنه-: إنّ الرواية

يشبه أن يكون قد وقع فيه غلط من النسّاخ. و معه لا يمكن أن تنهض حجّة لإثبات حكم شرعي، فلا تصلح لأن تكون شاهدة للجمع بين الطائفتين المتقدّمتين، فالواجب امّا الجمع بينهما بوجه آخر، و أمّا الرجوع إلى المرجّحات.

فنقول: ربّما يجمع بين الطائفتين بالتفصيل بين الوقت و خارجه نظراً إلى انّ المتيقّن من الطائفة الدالّة على عدم الوجوب هو عدم الوجوب في خارج الوقت، كما انّ المتيقّن من الطائفة الداّلة على الوجوب، هو الوجوب في الوقت فيرفع اليد عن ظاهر كلّ من الطائفتين بنصّ الطائفة الأُخرى لأنّه مقتضى الجمع العرفي بين المتعارضين، و النتيجة هو التفصيل بين الوقت و خارجه، و هذا كما جمع بعضهم بهذه الكيفية بين الطائفتين الواردتين في بيع العذرة، الدالّة إحداهما على بطلان بيع العذرة و أنت ثمنها سحت من غير فرق بين أنواعها، و ثانيتهما على الصحّة و انّه لا بأس ببيع العذرة كذلك حيث جمع بينهما بحمل الاولى على عذرة الإنسان و كلّ ما لا يؤكل لحمه و حمل الثانية على عذرة ما يؤكل لحمه نظراً إلى المتيقّن من الطائفتين.

و الجواب: إنّ هذا النحو من الجمع لا يعدّ جمعاً عرفياً موجباً لخروج الطائفتين عن عنوان المعارضة ضرورة انّ الجمع العرفي المعتبر هو ما يوجب ذلك لئلّا يشملهما الأخبار العلاجية التي موردها المتعارضان أو المتخالفان أو ما أشبهه و الجمع في المقام ليس كذلك لأنّ اللفظ في كلتيهما واحد و الدلالة فيهما في رتبة واحدة من دون أن تكون في إحداهما بنحو الظهور و في الأُخرى بنحو النصوصية و إلّا كان اللازم حمل الظاهر على النصّ مطلقاً من دون أن يفرق بين أنواع العذرة في المثال.

و بالجملة لا شاهد من

العرف على هذا النحو من الجمع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 329

..........

______________________________

فلا مجال للمصير إليه أصلًا.

و يؤيّده انّه لا يمكن حمل بعض الروايات الدالّة على وجوب الإعادة على كون المراد هي الإعادة في الوقت للتصريح فيها بأنّه صلّى فيه صلاة كثيرة، و معه كيف يمكن الحمل على الوقت و ذلك كما في حسنة محمد بن مسلم المتقدّمة و مثلها.

و ربّما يقال في مقام الجمع بأنّه يحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب لمكان وجود النص على الصحّة و عدم وجوب الإعادة فما نحن فيه من قبيل تعارض النص و الظاهر و لا محيص عن إرجاع الثاني إلى الأوّل و في الحقيقة لا تعارض بينهما بنظر العرف أصلًا.

و أجاب عنه سيّدنا المحقّق الأستاذ البروجردي قدّس سرّه الشريف في مجلس درسه بما قرّرناه في تقريراته ممّا حاصله انّ عدم التعارض و وجوب الحمل فيما إذا ورد الأمر من المولى ثمّ ورد الإذن في الترك و إن كان مسلماً كما يشهد بذلك حكم العرف بذلك بل قد حقّقنا في الأُصول انّ ظهور الأمر في الوجوب معلّق على عدم ورود الإذن في الترك، إلّا أن ذلك فيما إذا كان الأمر مولوياً مقتضياً لاستحقاق المكلّف العقوبة على تقدير المخالفة، و صحّة عقوبة المولى الأمر على ذلك التقدير، لا فيما إذا كان إرشادياً كالأوامر الواردة عن النبي و الأئمّة صلوات اللّٰه عليه و عليهم في مقام بيان الأحكام و تبليغها إلى الناس.

و توضيحه انّ الأوامر الصادرة عنهم (عليهم السّلام) على قسمين:

قسم يصدر منهم في مقام اعمال المولوية و السلطنة على الناس الثابتة لهم و لا إشكال في كون هذا القسم مولوياً تجب إطاعته لكون النبي

أولى بالمؤمنين من أنفسهم. و قسم يصدر منهم في مقام بيان الأحكام و تبليغ الشرائع كالأمر الصادر من المفتي في مقام الإفتاء بل هو عينه و كالأمر الصادر من الطبيب المعالج بالنسبة إلى المريض و لا إشكال في كون هذا القسم إرشادياً لا يترتّب على مخالفته

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 330

..........

______________________________

و موافقته عقوبة و مثوبة.

و الأمر في المقام من هذا القبيل ضرورة انّ الأمر بالإعادة إرشاد إلى بطلان الصلاة و عدم كونها واجدة للشرط أو فاقدة للمانع، و الحكم بالمضي و عدم وجوب الإعادة إرشاد إلى الصحّة و الواجدية و الفاقدية و كيف يمكن الجمع بين ما يدلّ على البطلان و ما يدل على الصحّة و التمامية و هذا كما فيما إذا أخبر أحد بالصحّة و الآخر بالبطلان فهل يمكن دعوى كون الخبرين صادقين و لا مانع من اجتماعهما و مطابقتهما للواقع؟! و يؤيّد ما أفاده (قدّس سرّه) انّ حمل الطائفة النافية للوجوب على الاستحباب و الحكم باستحباب إعادة الناسي في الوقت و خارجه يوجب التسوية بينه و بين الجاهل فإنّه لا مجال للإشكال في الاستحباب بالإضافة إليه مع انّ هنا روايات تدلّ بالصراحة على الفرق بين الناسي و الجاهل و سيأتي نقلها و لكن لا مانع من الإشارة إلى واحدة منها و هي رواية زرارة المعروفة المتقدّم نقل بعضها الدالّة على التفصيل بين الجاهل و الناسي.

ثمّ إنّه بعد عدم إمكان الجمع بين الطائفتين و لزوم الرجوع إلى المرجّحات لا محيص عن الأخذ بما دلّ على وجوب الإعادة مطلقاً امّا لما حقّقناه في محلّه من كون الشهرة الفتوائية أوّل المرجّحات على ما تدلّ عليه مقبولة ابن حنظلة

و غيرها و لا ريب في موافقتها لما دلَّ على وجوبها، و أمّا لما قيل من كون شذوذ الرواية المعارضة و ندرتها توجب سقوطها عن درجة الاعتبار و الحجّية رأساً و خروجها عن صلاحية المعارضة كلّاً لأنّها حينئذٍ تصير مخالفة للسنّة و قد أمرنا بطرح ما خالف الكتاب و السنّة و قد وصف الشيخ (قدّس سرّه) في محكي التهذيب صحيحة أبي العلاء المتقدّمة بكونه خبراً شاذّاً لا يعارض به الأخبار، و أمّا لكون ما دلّ على عدم الوجوب موافقاً للعامّة حيث نسبه الشيخ إلى جملة معظمة من علمائهم كأبي حنيفة و الشافعي في القديم و الأوزاعي و قال: روى ذلك عن ابن عمر، و نسب العلّامة في محكي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 331

..........

______________________________

التذكرة القول بعدم الوجوب في المسألة إلى أحمد أحد أئمّتهم الأربعة و عليه فاللازم حمل ما دلّ على عدم الوجوب على التقية. و كيف كان لا ينبغي مجال للإشكال في الالتزام بما ذهب إليه المشهور من لزوم الإعادة مطلقاً و قد أنكر بعضهم نسبة القول بعدم وجوب الإعادة إلى الشيخ (قدّس سرّه).

الفرع الثالث: ما يتضمّنه قول الماتن دام ظلّه-: «و الجاهل بها حتّى فرغ من صلاته لا يعيد في الوقت و لا خارجه و إن كان الأحوط الإعادة» و المأخوذ في الموضوع أمران أحدهما الجهل بالنجاسة أي بالموضوع بحيث لا يدري إصابة مثل الدم و البول إلى ثوبه مثلًا، و ثانيهما استدامة الجهل إلى ما بعد الصلاة و الفراغ منها، نعم الجهل بالموضوع قد يكون مع التوجّه و احتمال النجاسة، و قد يكون مع الغفلة و عدم الالتفات إليها رأساً. و الاحتمالات بل الأقوال فيه

أربعة:

أحدها: وجوب الإعادة في الوقت و في خارجه كالعالم المتعمّد نسب هذا القول إلى بعضهم من دون أن يسم قائله.

ثانيها: عدم وجوب الإعادة مطلقاً و هذا هو المشهور و اختاره الماتن.

ثالثها: التفصيل بين الوقت و خارجه بلزوم الإعادة في الأوّل دون الثاني و هو محكي عن المبسوط و مياه النهاية و النافع و القواعد و بعض الكتب الأُخر.

رابعها: التفصيل بين من شكّ في الطهارة و لم يتفحّص عنها قبل الصلاة فيعيد، و بين غيره فلا يعيد. و قد قوّاه في الحدائق و ادّعى انّه ظاهر الشيخين و الصدوق و احتمله الشهيد في الذكرى بل مال إليه في الدروس.

امّا القول المشهور فيدلّ عليه أُمور:

الأوّل: قاعدة الإجزاء المحقّقة في الأُصول في خصوص الجاهل المحتمل للنجاسة الجاري في حقّه استصحاب الطهارة أو قاعدتها بل مطلق الجاهل و حاصلها انّ المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي أو بالأمر الظاهري يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي و الوجه فيه انّ الأُصول العملية مثلًا ناظرة إلى المأمور

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 332

..........

______________________________

به بالأمر الواقعي الأوّلي و دالّة على توسعته و عدم تقيّده بالشرط الواقعي مثلًا بل يكفي في تحقّقه مجرّد الشك و عدم مسبوقية الخلاف فقاعدة الطهارة يكون مفاد دليل اعتبارها انّ الطهارة الواقعية لا تكون معتبرة في حق الشاك فيها بل الأعمّ منها و من الطهارة الظاهرية و إن شئت فقل: بأنّ مفادها نفي اعتبار الطهارة في حقّ الشاكّ فصلاته مع فقدان الطهارة واقعاً تكون صلاة صحيحة مطابقة لما هو المأمور به و منه يظهر انّ الأمر الظاهري لا يكون أمراً في قبال الأمر الواقعي بل مدلوله مجرّد التوسعة في المأمور به

بذلك الأمر و التفصيل في محلّه. و عليه فصلاة الجاهل في مفروض المسألة لا يكون فيها خلل موجب للإعادة في الوقت أو في خارجه.

نعم يمكن أن يتوهّم انّ العلم بالنجاسة بعد الفراغ يكشف عن عدم جريان الأصل العملي و بطلان مثل قاعدة الطهارة و لكن هذا التوهّم فاسد فإنّ الشكّ المأخوذ في مجرى الأصل العملي ليس هو الشكّ الباقي للتالي و إلّا تلزم لغوية جعل الأُصول العملية لعدم إحراز مورده غالباً بل مجرّد الشكّ و حدوثه و إن تبدّل إلى اليقين بعد زمان بل و مع العلم بالتبدّل أيضاً فانكشاف الخلاف بعد الفراغ لا يكشف عن عدم جريان القاعدة من الأوّل بل يوجب انتهاء أمدها و عدم استدامة جريانها و قد عرفت انّ جريانها بمجرّده يقتضي الاجزاء فتدبّر.

الثاني: حديث لا تعاد المعروف بناء على اختصاص الطهور الذي هو واحد من الخمسة المستثناة فيه بخصوص الطهارة من الحديث و عليه فالطهارة من الخبث باقية في المستثنى منه و لا تجب الإعادة من جهة الإخلال بها.

الثالث: الروايات الدالّة عليه و هي كثيرة:

منها: رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثمّ علم به؟ قال: عليه أن يبتدئ الصلاة، قال: و سألته عن رجل يصلّي و في ثوبه جناية أو دم حتّى فرغ من صلاته ثمّ علم؟ قال: مضت صلاته

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 333

..........

______________________________

و لا شي ء عليه. «1» و منها: رواية عبد اللّٰه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل أصاب ثوبه جناية أو دم؟ قال: إن كان قد ع لم انّه أصاب ثوبه جنابة أو

دم قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه و لم يغسله فعليه أن يعيد ما صلّى، و إن كان لم يعلم به فليس عليه إعادة، و إن كان يرى أنّه أصابه شي ء فنظر فلم يرَ شيئاً أجزأه أن ينضحه بالماء. «2» و منها: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يصلّي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب، أ يعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد. «3» و منها: رواية العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل صلّى في ثوب رجل أيّاماً. ثمّ إنّ صاحب الثوب أخبره انّه لا يصلّي فيه؟ قال: لا يعيد شيئاً من صلاته. «4» و من الظاهر انّ الحكم بعدم وجوب الإعادة ليس لأجل عدم حجّية خبر صاحب الثوب بل مع فرض الحجّية لأنّه ذو اليد و قوله حجّة فالحكم بعدم وجوبها انّما هو لأجل صحّة الصلاة الواقعة في النجاسة مع الجهل بها كما لا يخفى.

و منها: رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلّى فيه و هو لا يعلم فلا إعادة عليه، و إن هو علم قبل أن يصلّي فنسي و صلّى فيه فعليه الإعادة. «5»

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 3.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 5.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 6.

(5) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 334

..........

______________________________

و منها: ما رواه في قرب الاسناد عن عبد اللّٰه بن الحسن

عن جدّه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتّى أخذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال: إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلّي و لا ينقص منه شي ء، و إن كان رآه و قد صلّى فليعتدّ بتلك الصلاة ثمّ ليغسله. «1» و منها: صحيحة زرارة الطويلة المعروفة المشتملة على قوله: قلت: فإن ظننت انّه قد أصابه و لم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال: تغسله و لا تعيد الصلاة، قلت: لِمَ ذاك؟ قال: لأنّك كنت علىٰ يقين من طهارتك فشككت و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. الحديث. «2» بناءً على أن يكون المراد من قوله: فرأيت فيه، هو رؤيته النجاسة التي ظنّ قبل الصلاة انّها قد أصابته فالمفروض صورة العلم بوقوعها فيها كما لا يخفى.

و منها: رواية محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً و هو يصلّي، قال: لا يؤذيه (لا يؤذنه) حتّى ينصرف. «3» فإنّه لو كانت الصلاة مع النجاسة واقعاً مع عدم العلم بها فاسدة لما كان الاخبار بنجاسة ثوب أخيه المصلّي إيذاءً له بل إحساناً و تكريماً له، كما انّ النهي عن الاعلام بناء على كون الصادر «لا يؤذنه» قبل الانصراف الظاهر في عدم المنع عنه بعد الانصراف دليل على صحّة صلاته مع العلم بالنجاسة بعدها.

و أمّا القول بوجوب الإعادة مطلقاً فيمكن أن يستدلّ له بروايتين:

إحداهما: صحيحة وهب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات

الباب الأربعون ح 10.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الأربعون ح 1.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 335

..........

______________________________

الجنابة تصيب الثوب و لا يعلم به صاحبه فيصلّي فيه ثمّ يعلم بعد ذلك؟ قال: يعيد إذا لم يكن علم. «1» ثانيتهما: موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن رجل صلّى و في ثوبه بول أو جنابة؟ فقال: علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم. «2» و لكن يرد على الاستدلال بالرواية الاولى انّ تقييد وجوب الإعادة بما إذا لم يكن علم الظاهر في عدم الوجوب مع عدم القيد و هي صورة العلم بالنجاسة ربّما يدل على كون الصادر من الإمام (عليه السّلام) هي كلمة «لا يعيد» فسقط حرف النهي سهواً من الراوي أو الناسخ.

و يحتمل بعيداً الحمل على الاستفهام الإنكاري كما احتمله صاحب الوسائل (قدّس سرّه) و كيف كان فالرواية مجملة لا مساغ للاعتماد عليها.

و أمّا الموثقة فتقييد وجوب الإعادة بصورة العلم و تعميم المورد لصورتي العلم و عدمه يمكن أن يكون مرجعه إلى انّ وجوب الإعادة مشروط بالعلم بوقوع النجاسة في الصلاة لأنّ العلم من شرائط تنجّز التكليف، و يحتمل أن يكون المراد تخصيص وجوب الإعادة بخصوص صورة العلم و التعميم قبله انّما هو لبيان التشقيق في المسألة و انّ لها صورتين و وجوب الإعادة انّما يختصّ بخصوص الصورة الأُولى، هذا و لكن الاحتمال الأخير بعيد جدّاً و الظاهر هو الاحتمال الأوّل.

و الجمع بينهما و بين الروايات المتقدّمة الصريحة في عدم وجوب الإعادة هو حملهما على الاستحباب لظهورهما في الوجوب و صراحة تلك الأخبار

في عدم الوجوب فيحمل الظاهر على النصّ و لا ينافي ذلك اشتمال الموثقة على بيان

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 8.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 336

..........

______________________________

حكم العالم بناءً على ما هو الظاهر من معناها مع انّ العالم يجب عليه الإعادة قطعاً فانّ قيام الدليل على ورود الاذن في الترك بالنسبة إلى بعض مدلول الصيغة لا ينافي بقائها على ما هو ظاهرها بالإضافة إلى البعض الآخر خصوصاً لو قيل بأنّ ظهور الأمر في الوجوب انّما هو من قبيل ظهور الفعل و إلّا فنفس الصيغة لا تدلّ إلّا على إنشاء الطلب المشترك بين الوجوب و الاستحباب.

و لو أبيت إلّا عن ثبوت المعارضة بين الطائفتين و عدم إمكان الجمع العرفي فاللازم أيضاً الأخذ بالروايات الدالّة على عدم وجوب الإعادة لكونها موافقة لفتوى المشهور و مورداً لعمل الأصحاب فلا محيص عن الحكم بعدم الوجوب.

و أمّا القول الثالث و هو التفصيل بين الوقت و خارجه فيمكن أن يكون مستنده الجمع بين الطائفتين المتقدّمتين من الأخبار بحمل إطلاق ما ظاهره الوجوب على الوقت و إطلاق ما يدلّ على عدمه على خارج الوقت.

و يرد عليه انّ هذا بمجرّده جمع تبرّعي لا سبيل إليه. نعم لو كان في البين رواية دالّة على التفصيل لكان جعلها شاهدة للجمع بمكان من الإمكان و المفروض عدم وجودها و فتوى الشيخ (قدّس سرّه) بذلك في بعض كتبه و إن كان يمكن أن يقال بكشفها عن وجود نص في الجوامع الأوّلية شاهد على الجمع غير واصل إلينا إلّا انّه ليس بكاشف قطعي بل و لا ظنّي لوجود الشهرة المحقّقة على الخلاف و

مجرّد الاحتمال لا يقاوم الدليل.

و يمكن أن يكون مستند التفصيل ما ربّما يقال من انّ صحيحة وهب و موثقة أبي بصير المتقدّمتين و إن كان مدلولهما وجوب الإعادة مطلقاً و النسبة بينهما و بين الأخبار الدالّة على عدم الوجوب كذلك التي هي مستند المشهور هو التباين إلّا انّ القاعدة تقتضي تخصيصهما أولًا بما هو صريح في عدم وجوب الإعادة خارج الوقت لأنّ النسبة بينهما و بينه بالإضافة إلى الإعادة في خارج الوقت نسبة النص

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 337

..........

______________________________

أو الأظهر إلى الظاهر، و بعد ذلك تنقل النسبة بينها و بين الطائفة النافية إلى العموم المطلق فلا مناص من الجمع بينهما بحمل الطائفة النافية على إرادة الإعادة خارج الوقت و حملهما على الإعادة في الوقت فيتّجه التفصيل.

و يرد عليه مضافاً إلى وجود الإجمال أو الإشكال في نفس الروايتين كما عرفت ان حمل الأخبار النافية على إرادة الإعادة خارج الوقت لا يجري في جميعها كما في مثل صحيحة زرارة المشتملة على تعليل عدم وجوب الإعادة بثبوت استصحاب الطهارة ضرورة جريان التعليل في كلتا الصورتين بل لو كان الحكم هو عدم وجوب الإعادة في خصوص خارج الوقت لكان المتعيّن التعليل بذلك لا بالاستصحاب الجاري فيهما خصوصاً مع عدم كون الاستصحاب بمجرّده كافياً لذلك بل لا بدّ من ضمّ شي ء آخر إليه و هو انّ الحكم الظاهري يقتضي الإجزاء و يوجب الاكتفاء و لو انكشف الخلاف و لذا ربّما يستدلّ بهذا التعليل على مفروغية اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء نظراً إلى عدم تماميته بدونه، مع انّه يمكن أن يقال بأنّ مورد هذا الحكم منها هو قبل خروج الوقت لظهور عبارة السؤال في

تحقّق الرؤية بعد الفراغ بلا فصل و من الظاهر انّ الفراغ من الصلاة لا يكون مصادفاً لخروج الوقت غالباً.

و كيف كان فلا مجال لحمل مثل الصحيحة على خارج الوقت و عليه فالمعارضة بينه و بين الروايتين باقية و قد عرفت انّه لا محيص من حملهما على الاستحباب. نعم لا ينبغي ترك الاحتياط بملاحظة الروايتين في كلتا الصورتين كما احتاط الماتن دام ظلّه.

و أمّا القول الرابع و هو التفصيل بين المتفحّص قبل الصلاة و غيره بوجوب الإعادة على الثاني دون الأوّل فمستنده روايتان:

إحداهما: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: ذكر المنيّ فشدّده فجعله أشدّ من البول، ثمّ قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 338

..........

______________________________

فيه ثمّ رأيته بعد فلا إعادة عليك، و كذلك البول. «1» فإنّ تعليق الحكم بعدم وجوب الإعادة على النظر في الثوب و عدم رؤية المني أو البول ظاهر في انتفائه مع عدم النظر و عدم التفحّص.

ثانيتهما: رواية ميمون الصيقل عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل فلمّا أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة؟ فقال: الحمد للّٰه الذي لم يدع شيئاً إلّا و له حدّ؛ إن كان حين قام نظر فلم يرَ شيئاً فلا إعادة عليه، و إن كان حين قام لم ينظر، فعليه الإعادة. «2» و تؤيّد الروايتين صحيحة زرارة المتقدّمة المشتملة على قوله: «فإن ظننت انّه قد أصابه و لم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أرَ فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت

فيه ..».

و يرد على الاستدلال بصحيحة محمد بن مسلم انّ التأمّل فيها يقضي بكون المناط هو العلم بالنجاسة قبل الصلاة أو بعد ما يدخل فيها و عدم العلم بها كذلك و انّما عبّر عن العلم في الجملة الأُولى بالرؤية نظراً إلى حصول العلم بسببها غالباً كما انّه عبّر عن عدم العلم بعدمها بعد النظر لذلك، فالملاك في وجوب الإعادة و عدمه هو العلم و عدمه و يؤيّد ذلك مع انّه هو المتفاهم عند العرف من مثل الرواية انّه على غير هذا التقدير يلزم إهمال الرواية لحكم صورة ثالثة و هي صورة وجود النجاسة و عدم التفحّص عنها قبل الصلاة و دعوى إفادة الرواية لحكمها بالمفهوم مدفوعة بأنّ احتياجها إلى التصريح و الإفادة بالمنطوق كان أشدّ من احتياج صورة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الأربعون ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الأربعون ح 3 و المذكور في الوسائل في سند الحديث هو الحسن بن على بن عبد الله بن جبلة و الظاهر عدم وجود هذا الاسم بين الرواة و الصحيح كما هو الموجود في كتاب الكافي هو الحسن بن على عن عبد الله بن جبلة فلا تغفل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 339

..........

______________________________

العلم كما هو ظاهر، فالتأمّل في الرواية يعطي كون المناط ما ذكرنا فلا يتمّ الاستدلال بها على التفصيل.

و أمّا رواية ميمون الصيقل فربّما يقال بأنّ دلالتها على المدّعى غير قابلة للمناقشة مع انّه لا ارتباط لها بالمقام أصلًا فإنّ السؤال فيها لا يكون مرتبطاً بالصلاة بوجه و الجواب لا يتعرّض لحكم الصلاة أيضاً كذلك بل السؤال انّما هو عن أنّه أجنب الرجل بالليل و

اغتسل من الجنابة قطعاً ثمّ بعد ما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة و غرض السائل انّه هل يجب عليه الاغتسال من الجنابة ثانياً لأنّه يحتمل تجدّدها في حال النوم بعد ما اغتسل من الجنابة قبله أو انّه لا يجب عليه و لا نظر له إلى وقوع الصلاة في الثوب الكذائي بل و لا إشعار في السؤال بذلك بل محطّ النظر لزوم إعادة الاغتسال و عدمه و الجواب أيضاً ناظر إلى ذلك و انّه إن كان حين قام من النوم نظر إلى الثوب فلم يرَ شيئاً فلا تجب عليه إعادة الغسل و تكراره و إن كان حين قام منه لم ينظر إليه فوجود الجنابة في الثوب امارة عرفية على تحقّق الاحتلام و الجنابة حال النوم فيجب عليه الغسل ثانياً فالمراد من الإعادة و عدمها هي إعادة الغسل و عدمها كما انّ المراد من القيام هو القيام من النوم لا القيام للصلاة. و الإنصاف انّ الرواية لا يكون لها أيّ ارتباط بما نحن فيه، مع انّ ميمون الصيقل مجهول الحال و الرواية ضعيفة السند.

و أمّا صحيحة زرارة فالفحص و النظر فيها مفروض في كلام السائل و لا إشعار فيها بمدخليته في الحكم بعدم وجوب الإعادة خصوصاً مع ملاحظة التعليل بجريان الاستصحاب المشترك بين الصورتين و خصوصاً مع دلالة الصحيحة في موضع آخر منها على عدم وجوب الفحص و عدم ترتّب أثر عليه من جهة نفي وجوب الإعادة و هو قوله (عليه السّلام) بعد ما سأله زرارة بقوله: فهل عليَّ إن شككت في انّه أصابه شي ء أن أنظر فيه؟ قال: لا، و لكنّك تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

النجاسات و أحكامها، ص: 340

..........

______________________________

حيث يدلّ على انّ فائدة الفحص منحصرة في ذهاب الشكّ و زوال الوسوسة و لا أثر له في الحكم بعدم وجوب الإعادة و خصوصاً مع انعقاد الإجماع على عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية و إن كان ربّما يناقش فيه فيما يرتفع الشكّ بمجرّد النظر و الملاحظة و لكن المناقشة مدفوعة بهذه الصحيحة و مثلها فتدبّر. مع انّ هذه الروايات على تقدير تمامية دلالتها لا تقاوم الروايات النافية لوجوب الإعادة مطلقاً التي بعضها صريحة في كون الملاك لعدم وجوبها هو الجهل و عدم العلم بالنجاسة في حال الصلاة فهذا التفصيل أيضاً لا مجال له.

ثمّ إنّه ذكر السيّد (قدّس سرّه) في «العروة» انّه لو غسل ثوبه النجس و علم بطهارته ثمّ صلّى فيه و بعد ذلك تبيّن له بقاء نجاسته فالظاهر انّه من باب الجهل بالموضوع فلا تجب عليه الإعادة و القضاء.

و ربّما يقال في وجهه انّ المستفاد من صحيحة زرارة المتقدّمة و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلّى فيه و هو لا يعلم فلا إعادة عليه، و إن علم قبل أن يصلّي فنسي و صلّى فيه فعليه الإعادة «1». انّ المناط في صحّة الصلاة انّما هو عدم تنجّز النجاسة حالها كما هو مقتضى قوله (عليه السّلام): فصلّى فيه و هو لا يعلم، و لم يقل: لم يعلم فكل من صلّى في النجس و هو غير عالم به و لم تتنجّز النجاسة في حقّه يحكم بصحّة صلاته و انّما يستثني من ذلك خصوص من نسي موضوع النجاسة، مع انّ المسألة منصوصة لحسنة ميسر قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام):

أمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله فأُصلّي فيه فإذا هو يابس؟ قال: أعد صلاتك، امّا انّك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي ء «2». حيث صرّحت بأنّه لو غسلت ثوبك و صلّيت فيه ثمّ ظهر عدم زوال النجاسة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 7.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن عشر ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 341

..........

______________________________

عنه لم تجب إعادتها و حيث لا معارض لها فلا مناص من العمل على طبقها، و أمّا الأمر بالإعادة على تقدير ان غسله غيره فهو في الحقيقة تخصيص في الأدلّة المتقدّمة النافية للإعادة عن الجاهل بموضوع النجس و مرجعه إلى الردع عن العمل بأصالة الصحّة الجارية في عمل الغير بحسب البقاء و بعد انكشاف الخلاف لا بحسب الحدوث و إلّا لم يجز له الشروع في الصلاة، و يمكن حمله على استحباب إعادة الصلاة في هذه الصورة.

أقول: لا ينبغي الارتياب في عدم شمول الأخبار النافية لوجوب الإعادة لما إذا كان المصلّي عالماً بالطهارة و لو بنحو الجهل المركّب ضرورة انّ موردها الجاهل سواء كان متردّداً أو غافلًا غير ملتفت فكما انّها لا تشمل الناسي كذلك لا تشمل المعتقد لطهارة الثوب و البدن العالم بها أصلًا و لو كان جهلًا مركّباً و لا مجال لدعوى العموم ثمّ إخراج الناسي و استثنائه و الشاهد لما ذكرنا انّ المتفاهم عند العرف من تلك الأخبار ليس غير ما ذكرنا.

و أمّا حسنة ميسر أو صحيحته فالظاهر انّ المراد من قوله (عليه السّلام): «امّا انّك لو كنت غسلت ..» هو انّك لو كنت غسلت ثوبك لبالغت في غسله بحيث لا يبقى فيه

أثر المني أصلًا و لم يكن عليك حينئذٍ شي ء لا انّه لا يضرّ العلم بوقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها إذا علم بالطهارة قبلها مع انّه على تقدير الاستناد إلى هذه الرواية يلزم التفصيل بين ما إذا غسل المصلّي ثوبه و بين ما إذا وكّل الغير في غسله كما هو مفاد الرواية و حينئذٍ فلا موقع لما أفاده السيّد (قدّس سرّه) بعد ذلك من عدم وجوب الإعادة و القضاء في صورة التوكيل أيضاً. اللهمّ إلّا أن يقال بالفرق بين ما إذا أخبر الوكيل في تطهير الثوب بطهارته و بين ما إذا اعتقد الموكّل حصول التطهير من الوكيل من دون إخباره بذلك و مورد الرواية هو الثاني كما انّ مورد كلام السيّد هو الأوّل و منشأه هو حجّية قوله امّا لأنّه ثقة و خبر الثقة في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 342

..........

______________________________

الموضوعات الخارجية حجّة، و أمّا لأنّه ذو اليد و قوله حجّة. و كيف كان فلا وجه للحكم بعدم وجوب الإعادة و القضاء فيما إذا اعتقد الطهارة ثمّ انكشف الخلاف بعد الصلاة. هذا تمام الكلام في الجاهل بالموضوع.

بقي الكلام في هذا الفرع فيما إذا كانت الصلاة في النجاسة عن جهل بها من حيث الحكم بأن لم يعلم انّ الشي ء الفلاني مثل عرق الجنب من الحرام نجس أو عن جهل بشرطية الطهارة للصلاة و الجامع كون الشبهة حكمية و له صورتان:

إحداهما: ما إذا كان الجهل عذراً للمكلّف حال جهله كما في الجاهل القاصر و من مصاديقه الظاهرة المجتهد المخطئ في اجتهاده.

ثانيتهما: ما إذا لم يكن الجهل عذراً له لاستناده إلى تقصيره في السؤال مع التمكّن منه أو عدم فحصة

عن الدليل كذلك و يعبّر عنه بالجاهل المقصّر.

أمّا الصورة الأُولى فالظاهر انّ الحكم فيها عدم وجوب الإعادة و صحّة الصلاة لقاعدة «الأجزاء» التي تقدّم البحث عنها و لحديث «لا تعاد» المقتضي لعدم وجوب الإعادة في غير الخمسة المستثناة و قد عرفت اختصاص «الطهور» منها بالطهارة الحدثية كما عليه الأصحاب.

و ربّما يناقش في شمول حديث لا تعاد للمقام بوجوه عمدتها وجهان:

الأوّل: إنّ حديث «لا تعاد» انّما تنفي الإعادة عن كل مورد قابل لها في نفسه بحيث لولا ذلك الحديث لحكم بوجوب الإعادة فيه إلّا انّ الشارع رفع الإلزام عنها امتناناً على المكلّفين، و من البديهي انّ الأمر بالإعادة إنّما يتصوّر فيما إذا لم يكن هناك أمر بإتيان المركّب نفسه كما في الناسي و نحوه حيث لا يجب عليه الإتيان بما نسيه، ففي مثله لا مانع من الحكم بوجوب الإعادة عليه لولا ذلك الحديث، و أمّا إذا بقي المكلّف على حاله من تكليفه و أمره بالمركب الواقعي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 343

..........

______________________________

فلا معنى في مثله للأمر بالإعادة لأنّه مأمور بإتيان نفس المأمور به، و حيث إنّ الجاهل القاصر مكلّف بنفس الواقع و لم يسقط عنه الأمر بالعمل فلا معنى لأمره بالإعادة فإذا لم يكن المورد قابلًا لإيجاب الإعادة لم يكن قابلًا لنفيها عنه و عليه فالحديث انّما يختصّ بالناسي و نحوه دون العامد و الجاهل مقصّراً كان أم قاصراً فلا بدّ من الرجوع إلى المطلقات المانعة عن الصلاة في النجس و هي تقتضي وجوب الإعادة في حقّهم.

و أُجيب عنه بأنّ الجاهل و إن كان مكلّفاً بالإتيان بالمركّب واقعاً إلّا انّه محدود بما أمكنه التدارك و لم يتجاوز عن محلّه،

و أمّا إذا تجاوز عن محلّه فأي مانع من الأمر بالإعادة عليه مثلًا إذا كان بانياً على عدم وجوب السورة في الصلاة أخلّا انّه علم بالوجوب في أثناء الصلاة فبنى على وجوبها فإنّه إن كان لم يدخل في الركوع فهو مكلّف بإتيان نفس المأمور به تعني السورة في المثال و لا مجال معه لإيجاب الإعادة في حقّه، و أمّا إذا علم به بعد الركوع فلا يمكنه تداركها لتجاوزه عن محلّها و حينئذٍ امّا أن تبطل صلاته فتجب عليه إعادتها، و أمّا أن تصحّ فلا تجب إعادتها، و بهذا ظهر انّ الجاهل بعد ما لم يتمكّن من تدارك العمل قابل لإيجاب الإعادة في حقّه و نفيها كما هو الحال في الناسي بعينه.

و الحق في الجواب أن يقال إنّ ترتّب الحكم الشرعي نفياً أو إثباتاً على عنوان الإعادة و معناها الحقيقي، زائداً على ثبوت التكليف الأوّلي و الأمر بالمركّب لا معنى له أصلًا ضرورة أنّ المتصور به بالأمر الأوّلي امّا أن يكون متحقّقاً في الخارج بجميع خصوصياته و أجزائه و شرائطه و أمّا أن لا يكون كذلك، فعلى الأوّل لا وجه لإيجاب الإعادة عليه أصلًا و على الثاني لا معنى لثبوت أمر ثانوي من الشارع متعلّق بالإعادة بل غاية الأمر انّ المأمور به لم يتحقّق في الخارج و يجب على المكلّف عقلًا إيجاده و الإتيان به ففي كلتا الصورتين لا مجال للحكم الشرعي زائداً على التكليف الأوّلي، و عليه فلا بدّ من حمل الأمر بالإعادة في مورد

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 344

..........

______________________________

الإخلال ببعض الأجزاء و الشرائط على كونه إرشاداً إلى ثبوت الجزئية و الشرطية في ذلك الحال أيضاً، كما

انّ نفي الإعادة إرشاد و اخبار بعدم الجزئية و الشرطية في ذلك الحال.

فانقدح انّه لم يوجد و لا بدّ و أن لا يوجد مورد قابل لإيجاب الإعادة عليه شرعاً و نفيها عنه و حينئذٍ نقول: حديث لا تعاد مفاده التصرّف في أدلّة الاجزاء و الشرائط الظاهرة في الجزئية المطلقة لتمام الأجزاء و الشرطية المطلقة لجميع الشرائط و مبيّن انّها على قسمين: قسم له الشرطية و الجزئية المطلقة و هو الخمسة المذكورة فيه بعنوان المستثنى و قسم لا يكون كذلك و هو ما عدا الخمسة و عليه فلا وجه لدعوى اختصاصه بالناسي و نحوه لعدم الفرق بينه و بين الجاهل بل ربّما يقال كما عن بعض الأعاظم بشموله للعالم أيضاً و لكنّه لا يمكن المساعدة عليه لأنّ الأخبار بعدم الجزئية و الشرطية المطلقة لغير الخمسة المذكورة حيث كان بنحو التعبير بعدم الإعادة، و من المعلوم لزوم وجود المصحّح لهذه العبارة و العامل العامد التارك لبعض الأجزاء و الشرائط لا يكون في الحقيقة قاصداً للامتثال مريداً لتحصيل المأمور به و لا يكون الداعي له إلى الإتيان بما أتى به هو أمر المولى فلا يناسبه هذا التعبير أصلًا بل التعبير الملائم له هو تحريكه إلى أصل الإتيان بالمأمور به و إرشاده إليه و منه يظهر انّ الجاهل المقصر الذي يكون متردّداً و باب التعلّم له مفتوحاً لا تناسبه هذه العبارة أيضاً بل المناسب له تحريكه إلى تعلّم المأمور به و عدم المسامحة في ذلك، و أمّا الجاهل القاصر الذي هو محطّ البحث في المقام فلا مانع من شمول الحديث له لمناسبة التعبير بالإعادة له قطعاً و كون المراد من الحديث ما ذكرنا من الأخبار بعدم الجزئية و الشرطية

المطلقة لغير الخمسة المستثناة بلسان نفي الإعادة.

الثاني من وجهي المناقشة ما ربّما يقال من انّ «الطهور» الذي هو من الخمسة المستثناة امّا أن يكون أعمّ من الطهارة الحدثية و الخبثية، و أمّا أن يكون مجملًا لا يدرى انّه يختص بالأُولى أو يعمّ الثانية أيضاً، و على كلا التقديرين لا مجال

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 345

..........

______________________________

للتمسّك به لعدم وجوب الإعادة في المقام امّا على التقدير الأوّل فواضح و أمّا على التقدير الثاني فلأنّ إجمال المخصّص المتّصل يسري إلى العام و يسقطه عن الحجّية في مورد الإجمال و عليه فلا دليل على عدم وجوب الإعادة في مقابل إطلاقات مانعية النجاسة المقتضية للبطلان في المقام.

و الجواب عنه ما مرّ من اختصاص الطهور بخصوص الطهارة الحدثية و يعضده فهم الأصحاب و حملهم الحديث على ذلك و يؤيّده ظهوره في لزوم الإعادة من ناحية الخمسة مطلقاً مع انّ الصلاة في النجاسة مع الجهل بالموضوع قد فرغنا عن صحّتها و تماميتها و من الظاهر إباء مثله عن التخصيص إلّا أن يقال بعدم ثبوت كون الحديث بصدد إفادة الإعادة في موارد الخمسة بل الظاهر كونه في مقام بيان نفي الإعادة في غير موارد الخمسة و التحقيق في محلّه.

فانقدح انّ الحكم في هذه الصورة هو عدم وجوب الإعادة كالجاهل بالموضوع.

و أمّا الصورة الثانية و هو الجاهل المقصّر فالظاهر وجوب الإعادة عليه لاقتضاء أدلّة مانعية النجاسة و شرطية الطهارة له و عدم ما يقتضي الصحّة و نفي وجوب الإعادة لعدم ثبوت الأمر الظاهري بالإضافة أخليه حتّى يقتضي الإجزاء و عدم شمول حديث لا تعاد له لما مرَّ آنفاً من خروج العالم و الجاهل المقصّر عن مورده

مضافاً إلى ما ربّما يقال من انّ شموله له يستلزم تخصيص أدلّة المانعية بمن صلّى في النجس عن علم و عمد و هو من التخصيص بالفرد النادر بل غير المتحقّق و إن كان هذا القول مخدوشاً من جهة لزوم الإعادة على الناسي أيضاً كما مرَّ البحث عنه، و من جهة عدم كون المقام من باب التخصيص لأنّ حديث لا تعاد حاكم على أدلّة الاجزاء و الشرائط و لا مجال لملاحظة الأفراد في باب الحكومة مع انّ كونه نادراً بل غير متحقّق لا وجه له لأنّ العالم العامد انّما يكون عدم إقدامه على الصلاة في النجاسة مستنداً إلى نفس هذه الأدلّة المانعة فتدبّر.

و كيف كان فلا دليل على الصحّة في المقام و مقتضى أدلّة المانعية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 346

..........

______________________________

البطلان. هذا تمام الكلام في الفرع الثالث.

الفرع الرابع: صورة العلم بالنجاسة في أثناء الصلاة و لها فرضان:

الفرض الأوّل: ما لو لم يعلم سبقها و الظاهر انّ المراد هو السبق على الآن الذي علم فيه بالنجاسة و التفت إليها و عليه فالمراد بالفرض الثاني الآتي إن شاء اللّٰه و هو ما لو علم سبقها هو السبق على ذلك الآن الذي هو أعمّ من وقوع جميع الأجزاء الماضية من الصلاة في النجاسة أو وقوع بعضها فيها فالفرض الثاني له فرضان أيضاً.

و قد حكم في المتن في الفرض الأوّل الذي هو محلّ البحث فعلًا بأنّه إن أمكنه إزالتها بنزع أو غيره على وجه لا ينافي الصلاة مع بقاء الستر فعل و مضى في صلاته و إن لم يمكنه فإن كان الوقت واسعاً استأنفها و إلّا فإن أمكن طرح الثوب و الصلاة عرياناً

يصلّي كذلك و إن لم يمكن صلّى بها.

و يستفاد من ذلك صحّة الصلاة بالإضافة إلى الأجزاء الماضية و الآنات التي علم فيها بعروض النجاسة و لا بدّ من العلاج بالإضافة إلى ما بقي من الصلاة و الدليل على الصحّة بالنسبة إلى الأجزاء الماضية هو جريان استصحاب الطهارة فيها لعدم العلم بسبقها كما هو المفروض بل و العلم بوقوعها مع الطهارة كما فيما لو علم بعروض النجاسة في الأثناء الذي تعرّض له الماتن دام ظلّه بقوله: «و كذا لو عرضت له في الأثناء» فلا إشكال في تلك الأجزاء من هذه الجهة.

و أمّا بالنسبة إلى الآنات المتخلّلة بين الأجزاء، التي علم بمقارنتها مع النجاسة فالدليل على الصحّة هي الأخبار المتكثّرة الواردة فيمن رعف في أثناء الصلاة الدالّة على عدم بطلانها بذلك فيما إذا تمكّن من إزالته من دون استلزام المنافي كالتكلّم على ما ورد في بعضها أو استدبار القبلة على ما ورد في بعضها الآخر. و من المعلوم انّه لا خصوصية للرعاف و لا للدم من بين النجاسات كما انّه لا خصوصية للتكلّم و الاستدبار

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 347

..........

______________________________

من بين المنافيات، و من جملة هذه الأخبار صحيحة زرارة الطويلة المعروفة المتقدّمة ببعض فقرأتها المشتملة على قوله (عليه السّلام): و إن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت و غسلته ثمّ بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. «1» فإنّ المستفاد منه انّ توهّم البطلان انّما ينشأ من احتمال وقوع الأجزاء الماضية في النجاسة و هو مدفوع بالاستصحاب، و أمّا نفس وقوع الآنات المتخلّلة فيها فلا منشأ لتوهّم البطلان

من جهته أصلًا، فأصل صحّة الصلاة إلى الحال لا إشكال فيه و أمّا العلاج بالنسبة إلى الأجزاء الباقية فطريقه انّه إن أمكن إزالة النجاسة بنزع أو غسل من دون استلزام شي ء من المنافيات أو الإخلال بمثل الستر فعل و مضى في صلاته و أتمّها، و إن لم يمكن ذلك و كان الوقت واسعاً للإزالة ثمّ الاشتغال بالصلاة من رأس فلا مناص من الاستيناف لأنّه لا دليل على سقوط النجاسة عن المانعية بالإضافة إلى الاجزاء الباقية و المفروض سعة الوقت لرفع المانع و إيجاد الصلاة بدونه فاللازم الإزالة و الاستئناف، و إن لم يكن الوقت واسعاً فتارة يضطرّ إلى لبس الثوب النجس لبرد أو مرض أو غيرهما، و أُخرى لا يكون له اضطرار إليه بوجه. ففي الصورة الثاني يصلّي عرياناً لما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى من تقدّم الصلاة عرياناً على الصلاة في الثوب النجس، و في الصورة الاولى لا محيص عن الصلاة في الثوب النجس لعدم سعة الوقت للإزالة و الاستئناف و وجود الاضطرار إلى لبس الثوب النجس.

و أمّا الفرض الثاني و هو ما لو علم بسبق النجاسة فقد حكم فيه في المتن بوجوب الاستئناف مع سعة الوقت مطلقاً و مرجعه إلى بطلان الصلاة في سعة الوقت كذلك و قد نسب إلى المشهور الصحّة إذا تمكّن من الإزالة في أثناء الصلاة، و الوجه فيه انّ منشأ البطلان إن كان هو وقوع الأجزاء الباقية مع النجاسة فالمفروض التمكّن من الإزالة بحيث لا يلزم الإخلال بشي ء أصلًا، و إن كان

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع و الأربعون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 348

..........

______________________________

هو وقوع الآنات المتخلّلة بين الطائفتين

من الاجزاء السابقة و اللاحقة في النجاسة فقد مر انّه لا يكاد يقدح في الصحّة للأخبار المتقدّمة الواردة في الرعاف، و إن كان هو وقوع الأجزاء الماضية في النجاسة بتمامها أو ببعضها فهو أيضاً لا يضرّ بالأولوية القطعية لأنّه إذا كانت الصلاة الواقعة بتمامها في النجاسة مع الجهل بها صحيحة تامّة كما مرّ البحث عنه فالصلاة الواقعة ببعض أجزائها فيها كذلك تكون صحيحة بطريق أولى فلا مناص من الحكم بالصحّة مع التمكّن من الإزالة.

و لكن هذا الوجه لا يقاوم الأخبار الواردة في المسألة الدالّة على البطلان و قد جمع في بعضها بل في جميعها بين الحكم بالصحّة إذا انكشف الخلاف بعد الفراغ و بين الحكم بالبطلان إذا انكشف في الأثناء كصحيحة زرارة المتقدّمة المستدلّ بها في تلك المسألة المشتملة على قوله: قلت: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة قال: تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته «الحديث» فإنّ دلالتها على لزوم الإعادة مع رؤية النجاسة المشكوكة في أثناء الصلاة ممّا لا مجال للخدشة فيها مع انّك عرفت دلالتها على عدم لزوم الإعادة فيما إذا تبيّن بعد الفراغ وقوع الصلاة في النجاسة و لأجل اشتمال الصحيحة على الحكمين المذكورين ربّما يمكن أن يتوهّم لزوم طرح الرواية للقطع بعدم الفرق بين الصورتين بل بأولوية عدم وجوب الإعادة فيما إذا تبيّن في الأثناء بالإضافة إلى ما إذا تبيّن بعد الفراغ خصوصاً بعد اشتراكهما في العلّة التي علّل الإمام (عليه السّلام) عدم وجوب الإعادة في الصورة الثانية بها و هي جريان الاستصحاب، و اقتضاء دليله الاجزاء مضافاً إلى انّه من البعيد أن لا يسأل زرارة بعد سؤاله عن علّة الحكم في تلك الصورة

عن علّة حكم هذه الصورة خصوصاً بعد اشتراكهما في تلك العلّة كما عرفت.

هذا، و لكن ما ذكر لا يوجب طرح الرواية خصوصاً بعد كونها صحيحة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 349

..........

______________________________

و الإضمار لا يضرّها بل لا تكون مضمرة على ما رواه الصدوق في العلل، و مجرّد الاستبعاد لا يوجب ذلك و اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء و دلالته على توسعة المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي انّما هو مقتضى ظاهر دليله فلا ينافي ورود دليل خاص على خلافه كما قام في الطهارة الحدثية على وجوب الإعادة فيما إذا تبيّن كونه فاقداً لها و لو بعد الفراغ، و حصول القطع بالأولوية ممنوع خصوصاً مع احتمال أن يكون وقوع الآنات المتخلّلة بين الأجزاء في النجاسة مانعاً إذا اتّصفت بسبقها عليها و خصوصاً مع انّه لو كانت الأولوية محقّقة لم يكن مجال لسؤال زرارة عن حكم هذه الصورة بعد سؤاله عن حكم تلك الصورة و الجواب بعدم وجوب الإعادة كما لا يخفى. نعم يبقى إشكال الاشتراك في العلّة و هو لا يقاوم التصريح بالخلاف. و كيف كان فالظاهر لزوم الأخذ بمقتضى الرواية و جعلها دليلًا على التفصيل في المسألة و إن كان خلاف القاعدة.

و من الروايا الدالّة على وجوب الإعادة في المقام رواية أبي بصير المتقدّمة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثمّ علم به؟ قال: عليه أن يبتدئ الصلاة، قال: و سألته عن رجل يصلّي و في ثوبه جنابة أو دم حتّى فرغ من صلاته ثمّ علم؟ قال: مضت صلاته و لا شي ء عليه. «1» ثمّ إنّ هنا روايات ربما تتوهّم دلالتها على وجوب

الإعادة في صورة التبين في الأثناء:

إحداها: صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً و هو يصلّي؟ قال: لا يؤذنه (لا يؤذيه) حتّى ينصرف. «2» نظراً إلى دلالتها على انّ العلم بالنجاسة الحاصل

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الأربعون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 350

..........

______________________________

بإعلام الغير في أثناء الصلاة يوجب البطلان.

و الظاهر انّه لا دلالة لها على ذلك فإنّ غاية مفادها انّ العلم بالنجاسة بعد الفراغ لا يؤثّر في البطلان، و أمّا كون العلم بها في الأثناء مؤثِّراً فيه فلا يستفاد من الصحيحة بوجه و النهي عن الإعلام أو عن الإيذاء انّما هو لأجل انّه مع العلم بها في الأثناء يصير مكلّفاً بالإزالة بالإضافة إلى الأجزاء الباقية و رعاية هذا التكليف في أثناء الصلاة ليس بسهل نوعاً و يؤيّده انّ الإعلام ربّما لا يصير موجباً للعلم بوقوع الأجزاء الماضية في النجاسة فتدبّر.

ثانيتهما: صحيحة أُخرى لمحمّد بن مسلم المتقدّمة أيضاً عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: ذكر المني فشدّده فجعله أشدّ من البول ثمّ قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد فلا إعادة عليك فكذلك البول «1». نظراً إلى دلالتها على بطلان الصلاة في النجاسة الواقعة قبلها مع رؤيتها في الأثناء لأنّ ذكر المني قرينة على حدوثه قبل الصلاة لبعد ملاقاة الثوب في أثنائها.

و لا يخفى انّ ظاهرها التفصيل بين ما إذا كان مسبوقاً بالعلم و ما إذا لم

يكن كذلك لا الفرق في خصوص الثاني بين الأثناء و بعد الفراغ كما هو مفروض المسألة لأنّ المراد بقوله (عليه السّلام): إن رأيت .. انّه إن رأيت المني قبل الشروع في الصلاة أو بعد الدخول فيها و نسيت إزالته و صلّيت ثمّ ذكرت فعليك الإعادة. فصدر الرواية متعرّض لحكم ما إذا سبق العلم قبل إتمام الصلاة مع فرض وقوع باقي الأجزاء فيها. غاية الأمر انّ ذلك لا يتحقّق من القاصد للامتثال الملتفت إلى شرطية الطهارة إلّا مع نسيان الإزالة، و يؤيّد ذلك عطف قوله: بعد ما تدخل، على قوله: قبل، الدال على انّ الفرض هو ما إذا وقعت الصلاة بتمامها أو ببعض

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الأربعون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 351

..........

______________________________

أجزائها مسبوقة بالعلم بالنجاسة، كما يؤيّده أيضاً قوله: فعليك إعادة الصلاة، الظاهر في انّ المكلّف أتمّ الصلاة الأُولى و إلّا فالتعبير المناسب أن يقال: تنقض الصلاة كما في صحيحة زرارة.

ثالثتها: صحيحة ثالثة أو حسنة لمحمد بن مسلم مروية في الكافي قال: قلت له: الدم يكون في الثوب عليَّ و أنا في الصلاة؟ قال: إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه و صلِّ في غيره، و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك و لا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، و ما كان أقلّ من ذلك فليس بشي ء، رأيته قبل أو لم تره، و إذا كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار الدرهم، فضيّعت غسله و صلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه. «1». و رواه الشيخ في التهذيب بزيادة لفظة «واو» قبل قوله «ما لم

يزد» و إسقاط قوله «و ما كان أقلّ من ذلك» و عليه تكون جملة «ما لم يزد» جملة مستأنفة خبرها قوله «فليس بشي ء» و حيث إنّ الشيخ رواه فيه عن كتاب الكافي فيدلّ ذلك على انّ النسخة الموجودة عنده منه كانت مطابقة لما في التهذيب فلا مجال للقول بأنّ ما في الكافي أضبط ممّا في غيره. و رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) مع زيادة «و ليس ذلك بمنزلة المني و البول».

و كيف كان فلا بدّ من توضيح معنى الرواية و بيان مقدار دلالتها ليظهر حال التوهّم المذكور فنقول: الظاهر إطلاق السؤال و شموله لما إذا علم بوقوع بعض أجزاء الصلاة في الدم المرئي في الأثناء و لما إذا احتمل حدوثه في الأثناء كما انّ الظاهر عدم شموله لما إذا صلّى في الدم عالماً لأنّه مضافاً إلى انّه لا يتحقّق ذلك من المكلّف القاصد للامتثال الملتفت إلى شرطية الطهارة مخالف لما هو المتفاهم من السؤال المتبادر منه فانّ ظاهره انّه لو كانت الرؤية قبل الشروع في

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 352

..........

______________________________

الصلاة لما كان يشتغل بها قبل الإزالة. و أمّا الجواب فهو متضمّن لأربع جملات:

إحداها: قوله (عليه السّلام): «إن رأيته و عليك ثوب ..» و المراد انّه لو رأيته في الأثناء و أمكن لك الإزالة و تحصيل الطهارة بحيث لا تبقى مكشوف العورة يجب عليك ذلك و لو بإلقاء الثوب و طرحه إذ من المعلوم انّه لا خصوصية لطرح الثوب كما انّه لا خصوصية لأن يكون على المصلّي ثوب غير ما فيه الدم بل المراد إمكان

إزالة الدم عمّا تعتبر طهارته في الصلاة و لو كان له ثوب واحد، و حكم هذه الصورة وجوب الإزالة و إتمام العبادة و عدم وجوب الإعادة و هو إن كان مطلقاً شاملًا لما إذا كان الدم أقلّ من الدرهم إلّا انّه بقرينة قوله (عليه السّلام) فيما بعد: «و ما كان أقلّ ..» يجب تقييده بغير هذه الصورة.

و من المعلوم انّه لا دلالة لهذه الجملة على التفصيل الذي دلّ عليه مثل صحيحة زرارة المتقدّمة لأنّ مقتضى إطلاقها صحّة الصلاة فيما لو ع لم بوقوع بعض الصلاة في الدم أيضاً فتكون معارضة لها بالإطلاق و التقييد فيجب تقييدها بها، و لو حمل مورد السؤال على خصوص ما إذا احتمل حدوث الدم في الأثناء فلا تعارض بينهما بوجه و لا حاجة إلى التقييد أيضاً.

ثانيتها: قوله (عليه السّلام): «و إن لم يكن عليك ثوب غيره ..» و ظاهرها انّه لو لم تتمكّن من الإزالة بحيث تبقى مستور العورة فإن لم يكن الدم زائداً على مقدار الدرهم فامض في صلاتك و لا إعادة عليك، و مفهومها انّه لو كان الدم زائداً على المقدار المذكور فلا يجب عليك المضي بل تجب عليك الإعادة، و لا يخفى انّه لا يجوز أن يكون قوله (عليه السّلام) «ما لم يزد ..» قيداً للجملة الأُولى أيضاً إذ ينافيه الأمر بالطرح الدال على وجوبه كما انّه بناءً عليه يكون التفصيل بين ما إذا كان عليه ثوب غيره و بين ما إذا لم يكن عليه بلا فائدة إذ يكون المدار حينئذٍ على الزيادة على مقدار الدرهم و عدمها ففي الصورة الأُولى تجب عليه الإعادة في الفرضين و في الثانية بالعكس، فوجب أن تكون قيداً لخصوص الجملة الثانية

كما هو ظاهر الرواية أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 353

..........

______________________________

ثالثتها: قوله (عليه السّلام): «و ما كان أقلّ من ذلك ..» و ظاهرها انّ الدم إذا كان أقلّ من مقدار الدرهم لا يترتّب عليه أثر، سواء فيه الرواية و عدمها و هذه الجملة كالتأكيد للجملة الثانية المقيّدة بالقيد المذكور و كالتقييد بالنسبة إلى الجملة الأُولى الدالّة على وجوب الطرح حيث إنّها تقيّدها بما إذا كان الدم أكثر من مقدار الدرهم كما تقدّمت الإشارة إليه.

رابعتها: قوله (عليه السّلام): «و إذا كنت قد رأيته ..» و المراد انّه لو كان الدم أكثر من مقدار الدرهم و قد رأيته قبل الشروع في الصلاة و ضيّعت غسله و المقصود من تضييع الغسل امّا عدم الغسل أصلًا أو الغسل مع عدم المبالاة في إزالة الدم و الالتفات إليه و صلّيت فيه صلاة كثيرة تجب عليك الإعادة و قد عرفت انّ الصلاة في هذه الصورة لا تكاد تتحقّق من المكلّف القاصد للامتثال، العالم بالاشتراط إلّا مع نسيان نجاسة الثوب فهذه الجملة متعرّضة لحكم النسيان و لا دلالة لها على حكم صورة الجهل بالنجاسة أصلًا. و من الواضح انّه لا دلالة لهذه الجمل الثلاثة الأخيرة على التفصيل المتقدّم. هذا كلّه بناءً على ما هو الموجود في نسخ الكافي التي بأيدينا.

و أمّا بناءً على ما رواه الشيخ (قدّس سرّه) في التهذيب ممّا تقدّم فالرواية أشبه بكونها صادرة من الإمام (عليه السّلام) لخلوّها حينئذٍ عن التكرار. نعم مدلول الجملة الثانية الواردة فيما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم يصير مخالفاً لما عليه المشهور من بطلان الصلاة مع عدم التمكّن من إزالة النجاسة كما هو مقتضى أدلّة شرطية

الطهارة.

و ربّما يقال: بأنّ الجملة الثانية على رواية الشيخ مطلقة و مقتضى إطلاقها عدم الفرق في المضي على الصلاة بين صورة التمكّن من إزالة النجاسة و لو بإلقاء ثوبه و بين صورة العجز عن إزالتها و هو على خلاف الإجماع و غيره من الأدلّة القائمة على بطلان الصلاة في النجس متعمّداً و ليس الأمر كذلك على رواية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 354

..........

______________________________

الكليني حيث انّ الجملة الثانية مقيّدة بما إذا كان الدم أقلّ من الدرهم على كل حال سواء أرجعناه إلى الجملة السابقة أيضاً أم خصصناه بالأخيرة و هذا يدلّنا على وقوع الاشتباه فيما نقله الشيخ.

و قد ظهر ممّا ذكرنا بطلان هذا القول فإنّ دعوى الإطلاق في الجملة الثانية ممنوعة جدّاً ضرورة انّ المراد من عدم وجود ثوب غيره عدم التمكّن من الإزالة فهو كناية عنه. نعم مراده من الإزالة هي الإزالة بحيث لا يبقى المصلّي مكشوف العورة فغاية مفاد الرواية تقدّم الصلاة في النجس مع عدم التمكّن من الإزالة في الأثناء على الصلاة عارياً و أين هذا من دعوى الشمول لصورة التمكّن من الإزالة مطلقاً.

و قد انقدح ممّا ذكرنا عدم نهوض الرواية للدلالة على التفصيل كما انّ الاستدلال بها على ما نسب إلى المشهور في المقام من عدم وجوب الإعادة عند التبيّن في الأثناء يبتني على دعوى إطلاق السؤال في الرواية و شموله لما إذا علم بوقوع بعض الصلاة في الدم مع انّ هذه الدعوى على تقدير تماميتها لا تثبت إلّا مجرّد الإطلاق و صحيحة زرارة الدالّة على التفصيل و غيرها صالحة للتقييد فلا مجال للاستدلال بها للمشهور.

نعم ربّما يستدلّ لهم ببعض الروايات الأُخر:

كرواية داود بن سرحان

عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الرجل يصلّي فأبصر في ثوبه دماً؟ قال: يتمّ. «1» نظراً إلى انّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كان الدم المرئي في الأثناء محتمل الحدوث فيه أو معلوم الحدوث قبل الصلاة فالرواية تدلّ على عدم وجوب الإعادة في كلتا الصورتين.

و الجواب عنه قد ظهر ممّا مرّ آنفاً من صلاحية أدلّة التفصيل لتقييد مثل هذه

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع و الأربعون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 355

..........

______________________________

الرواية و الحكم باختصاص موردها بما إذا كان محتمل الحدوث في الأثناء مع انّه لا بدّ من تصرّف آخر في الرواية ضرورة انّ الحكم بالإتمام الظاهر في الإتمام مع الدم لا يجتمع مع التمكّن من الإزالة و القدرة على تحصيل الطهارة فلا بدّ امّا من حملها على الدم المعفوّ عنه في الصلاة و عليه فثبوت الإطلاق المذكور في تقريب الاستدلال لا يكاد ينفع للمستدلّ و لا حاجة إلى التقييد، و أمّا من حملها على صورة عدم التمكّن من الإزالة و هو أيضاً مخالف لما عليه المشهور من بطلان الصلاة مع عدم التمكّن من الإزالة كما مرّت الإشارة إليه فالرواية على فرض لا تصلح للاستدلال و على فرض آخر مخالف لفتوى المشهور من تلك الجهة و على أي حال غير قابلة للتمسّك بها في المقام.

و رواية عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إن رأيت في ثوبك دماً و أنت تصلّي و لم تكن رأيته قبل ذلك فأتمّ صلاتك فإذا انصرفت فاغسله قال: و إن كنت رأيته قبل أن تصلّي فلم تغسله ثمّ رأيته بعد و أنت في صلاتك

فانصرف فاغسله و أعد صلاتك «1». و لا يخفى انّ موردها الدم غير المعفوّ عنه في الصلاة بقرينة الأمر بالغسل بعد الانصراف في الفقرة الأُولى و الأمر بالانصراف و الغسل و الإعادة في الفقرة الثانية و لكن يرد على الاستدلال بها انّه يبتني على إطلاق مورد الفقرة الأُولى لما إذا علم بوقوع بعض الصلاة في الدم و عدم اختصاصه بما إذا احتمل الحدوث في الأثناء و هو و إن كان تامّاً إلّا انّ الأخذ بالإطلاق يتوقّف على فقدان الدليل الصالح للتقييد و قد عرفت انّ مثل صحيحة زرارة صالح للتقييد فتحمل الرواية على خصوص صورة احتمال الحدوث في الأثناء و إن كانت الرواية غير خالية عن الإشعار بالاختصاص بغير هذه الصورة إلّا انّ الإشعار لا يقاوم مع ظهور الصحيحة بل صراحتها كما أنّه لا بدّ من حمل الرواية على صورة عدم

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع و الأربعون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 356

..........

______________________________

التمكّن من الإزالة و على تقديره فيلزم مخالفة فتوى المشهور من جهة أُخرى كما عرفت.

فانقدح انّه لا محيص من الالتزام بالتفصيل و الحكم بوجوب الإعادة مع التبيّن في الأثناء نظراً إلى الصحيحة و غيرها من الروايات المفصّلة.

بقي في هذا الفرض أمران يجب التنبيه عليهما:

الأوّل: انّك عرفت عدم اختصاص هذا الفرض بما إذا علم سبق النجاسة على الشروع في الصلاة و شموله لما إذا علم وقوع بعض الأجزاء الماضية من الصلاة مع النجاسة و لكنّه ربّما يقال كما قال بعض الأعلام في الشرح باختصاص وجوب الإعادة بالصورة الأُولى و انّه لا تجب في الصورة الثانية نظراً إلى انّ مقتضى حسنة محمد بن مسلم و

موثقة داود بن سرحان و رواية عبد اللّٰه بن سنان صحّة الصلاة في النجس مع العلم به في الأثناء مطلقاً سواء كان محتمل الحدوث في الأثناء أو معلوم الحدوث قبل الشروع في الصلاة أو بعده قبل الالتفات و التوجّه و قد خرجنا عن إطلاقها في خصوص الصورة الثانية للأخبار المصرّحة بالبطلان فيها، و أمّا الصورتان الآخرتان فهما باقيتان تحت الإطلاق على انّ التعليل الوارد في صحيحة زرارة بقوله (عليه السّلام): «و لعلّه شي ء أوقع عليك» يشمل الصورة الثالثة أيضاً لأنّ معناه انّ النجاسة المرئية لعلّها شي ء أوقع عليك و أنت تصلّي لا و أنت في زمان الانكشاف أعني الآنات المتخلّلة التي التفت فيها إلى النجس.

و هذا القول إنّما نشأ من توهّم كون الدليل على التفصيل المتقدّم هو هذا التعليل الوارد في الصحيحة كما صرّح به في مقام بيان أدلّة التفصيل مع انّ الدليل عليه كما عرفت هو الفقرة الواقعة قبل هذه الفقرة المشتملة على التعليل و هو قوله (عليه السّلام): «تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته» و من الظاهر انّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كان الشكّ قبل الشروع و ما إذا كان بعده قبل الرؤية و قد تقرّر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 357

[مسألة 7 لو انحصر الساتر في النجس فإن لم يقدر على نزعه لبرد و نحوه صلّى فيه]

مسألة 7 لو انحصر الساتر في النجس فإن لم يقدر على نزعه لبرد و نحوه صلّى فيه إن ضاق الوقت، أو لم يحتمل احتمالًا ع قلائياً زوال العذر، و لا إعادة عليه، و إن تمكّن من نزعه فالأقوى إتيان الصلاة عارياً مع ضيق الوقت، بل و مع سعته لو لم يحتمل زوال العذر، و لا قضاء

عليه (1).

______________________________

في محلّه تقدّم إطلاق الدليل المقيّد على دليل الإطلاق كما انّه لا خفاء في انّ العلّة ظاهرة في كون المراد: لعلّها شي ء أوقع عليك في هذه الحال التي هي حال الانكشاف و الروية لا في حال الصلاة فهذا القول لا يمكن المساعدة عليه بوجه.

الثاني: انّ تعليق الحكم بلزوم الإعادة و الاستئناف فيما لو علم في الأثناء بسبق النجاسة على سعة الوقت ظاهر في انّه مع ضيق الوقت تكون الصلاة صحيحة و الدليل عليه مضافاً إلى ظهور الروايات الدالّة عليه في كون موردها صورة السعة و هو انّ مقتضى التتبّع و الاستقراء في موارد معارضة الوقت مع سائر الشروط ترجيح مراعاة الوقت على مراعاة سائر الشروط و مرجع ذلك إلى سقوط شرطيتها عند المعارضة مع الوقت.

نعم يقع الكلام بعد ذلك في انّ المراد بسعة الوقت هل هو سعته لأن يقع فيه تمام الصلاة أو تكفي السعة لوقوع ركعة منها فيه لا يبعد أن يقال بالثاني نظراً إلى قاعدة «من أدرك» المستفادة من النصوص الدالّة على انّ إدراك ركعة من الوقت بمنزلة إدراك جميع الوقت فبملاحظتها نحكم بوجوب الإعادة في الفرض إذا كان الزمان واسعاً لإدراك ركعة فقط أيضاً فتدبّر. هذا تمام الكلام في الصلاة في النجاسة.

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين:

المقام الأوّل: فيما إذا لم يتمكّن من نزع الساتر النجس لبرد و نحوه و الحكم فيه جواز الصلاة فيه مع ضيق الوقت أو عدم احتمال زوال العذر إلى آخر الوقت احتمالًا عقلائياً و الدليل على الجواز مضافاً إلى قيام الإجماع بل الضرورة على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 358

..........

______________________________

انّ الصلاة لا تسقط بحال و انّ المكلّف

معذور فيما هو خارج عن قدرته و اللّٰه تعالى أولى بالعذر في مثل ذلك، و إلى إمكان دعوى اختصاص أدلّة مانعية النجاسة بصورة عدم الاضطرار إلى لبس الثوب المتنجّس خصوصاً بعد كون الدليل هو الإنفاق و الإجماع القائم في المسألة و إن كانت هناك أدلّة لفظية واردة في بعض أنواع النجاسات و قلنا بإمكان استفادة العموم من صحيحة زرارة المعروفة أو مثلها إلّا انّك عرفت انّ العمدة كون المسألة اتفاقية و القدر المتيقّن صورة عدم الاضطرار فلا يقاس بسائر الموارد التي يكون مقتضى إطلاق أدلّتها اللفظية الشمول لكلتا الصورتين الأخبار الآتية الآمرة بالصلاة في الثوب المتنجّس و هي و إن كانت مطلقة إلّا انّ القدر المتيقّن منها صورة الاضطرار المفروضة في هذا المقام و قد أفتى جماعة بالجواز مع عدم الاضطرار أيضاً نظراً إلى إطلاق هذه الأخبار و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّٰه تعالى و كيف كان فلا ينبغي الارتياب في دلالتها على حكم المقام، مضافاً إلى ورود بعض الروايات في خصوصه كما سيأتي.

و أمّا عدم وجوب القضاء و الإعادة عليه بعد الوقت فلأنّ موضوع القضاء فوات الفريضة و هو غير متحقّق لأنّ المفروض الإتيان بها مع جميع الخصوصيات المعتبرة فيها وجوداً و عدماً فلا مجال لتوهّم تحقّق الفوت أصلًا خصوصاً لو قلنا بأنّ الوجه في جواز الصلاة اختصاص أدلّة المانعية بصورة عدم الاضطرار و إن كان الاستدلال لذلك بالأخبار الآتية الآمرة بالصلاة في الثوب المتنجّس أيضاً يرجع إلى ذلك ضرورة أنّ حكومتها على أدلّة المانعية تقتضي اختصاصها بتلك الصورة إلّا انّه على ذلك الوجه تصير المسألة أوضح.

و أمّا عدم وجوب الإعادة عليه في الوقت فهو المعروف بين الأصحاب و عن الشيخ (قدّس سرّه)

في بعض كتبه وجوب الإعادة و عن المدارك و الرياض نسبة القول بوجوب الإعادة في الوقت إلى جماعة و قد استدلّ لهم بموثقة عمّار الساباطي عن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 359

..........

______________________________

أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) انّه سُئل عن رجل ليس عليه إلّا ثوب و لا تحلّ الصلاة فيه، و ليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟ قال: يتيمّم و يصلّي فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة. «1» و ربّما يجاب عن الاستدلال بها بكونها أجنبية عن المقام حيث انّ موردها تيمّم المكلّف للصلاة بدلًا عن الجنابة أو الوضوء مع عدم اضطراره إليه واقعاً لفرض انّه وجد الماء قبل انقضاء وقت الصلاة و مقتضى القاعدة فيه البطلان و لا دليل على كون ما أتى به مجزياً عن المأمور به و حديث لا تعاد لا ينفي الإعادة من ناحية الإخلال بالطهارة الحدثية فوجوب الإعادة في مورد الرواية للإخلال بتلك الطهارة لا الطهارة الخبثية المفروضة في المقام.

هذا و الظاهر انّ ظهور الرواية في كون منشأ وجوب الإعادة هو فقدان الطهارة الخبثية لا ينبغي أن ينكر فانّ قوله (عليه السّلام): فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة ظاهر في ذلك من جهة الحكم بلزوم الإعادة عقيب لزوم الغسل و من جهة عدم التعرّض للوضوء أو غسل الجنابة أصلًا.

نعم يرد على الرواية اضطرابها من جهة انّ خلوّ الرجل من الطهارة الحدثية لم يكن مفروضاً في مورد السؤال فإنّ عدم وجدان الماء لغسل الثوب الذي لا تحلّ الصلاة فيه لا يلازم وجود حدث الجنابة أو الأحداث الموجبة للوضوء في الرجل فمن الممكن ثبوت الطهارة له من هذه الناحية مع انّ عدم التعرّض للوضوء

أو الغسل بعد ما إذا أصاب ماء على تقدير كون المفروض ما ذكر أيضاً يوجب الاضطراب فيها، مع انّ وجوب الإعادة على المتيمّم محل كلام و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّٰه تعالى.

و كيف كان فالدليل على عدم وجوب الإعادة في المقام مضافاً إلى حديث «لا تعاد» الدالّ على عدم وجوب الإعادة من جهة الإخلال بالطهارة الخبثية بضميمة مشروعية البدار مع اعتقاد بقاء الاضطرار و عدم

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 360

..........

______________________________

احتمال زوال العذر إلى آخر الوقت الأخبار الآتية الآمرة بالصلاة في الثوب المتنجّس الخالية عن الأمر بالإعادة مع كونها في مقام البيان من هذه الجهة أيضاً و لأجلها تحمل الموثقة على الاستحباب مع وجود الاضطراب فيها و مخالفتها لفتوى المشهور و إن كان إعراضهم عنها الموجب للسقوط عن الحجّية ممّا لم يثبت و مع ذلك فالمسألة غير صافية عن الإشكال و الاحتياط بالإعادة لا يترك.

المقام الثاني: فيما إذا كان متمكّناً من النزع و الصلاة عارياً و فيه أقوال:

أحدها: انّه تجب عليه الصلاة عرياناً و هو محكي عن الشيخ في كتبه كالنهاية و المبسوط و الخلاف، و عن الحلّي في السرائر، و المحقّق في الشرائع و النافع، و العلّامة في بعض كتبه، و الشهيد قدّس اللّٰه أسرارهم.

ثانيها: إنّه تجب عليه الصلاة في الثوب المتنجّس و هو محكي عن كاشف اللثام.

ثالثها: انّه يتخيّر المصلّي بين الأمرين: الصلاة عارياً و الصلاة في الثوب المتنجّس و هو محكي عن المحقّق في المعتبر، و العلّامة في بعض كتبه.

و منشأ الاختلاف بينهم وجود الأخبار المتعارضة في هذا المقام و هي على طائفتين:

الطائفة الأُولى: ما

تدلّ على وجوب الصلاة عارياً مع انّه لا يكون اضطرار في البين و هي:

رواية سماعة المضمرة المروية في الكافي قال: سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض و ليس عليه إلّا ثوب واحد و أجنب فيه، و ليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال: يتيمّم و يصلّي عرياناً قاعداً يومي إيماء. «1». و رواه الشيخ عن الكافي أيضاً.

و مضمرته الأُخرى قال: سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس و الأربعون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 361

..........

______________________________

فأجنب و ليس عليه إلّا ثوب فأجنب فيه و ليس يجد الماء؟ قال: يتيمّم و يصلّي عرياناً قائماً يومي إيماء «1». و الظاهر عدم كونها رواية أُخرى بل هي بعينها الرواية الأُولى و الاختلاف بينهما من جهة القيام و القعود لا يوجب تعدّدها فإنّه من الواضح انّ سماعة إنّما سأل عن حكم المسألة المفروضة في كلامه مرّة واحدة و أُجيب بجواب واحد و الاختلاف انّما نشأ من اختلاف بعض الرواة الواقعة في السند.

و رواية محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رجل أصابته جنابة و هو بالفلاة، و ليس عليه إلّا ثوب واحد، و أصاب ثوبه مني؟ قال: يتيمّم و يطرح ثوبه و يجلس مجتمعاً فيصلّي و يومي إيماء «2». و غير ذلك من الروايات الدالّة على ذلك.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على وجوب الصلاة في الثوب المتنجّس و هي كثيرة و ربّما ادّعى فيها التواتر الإجمالي الذي يرجع إلى القطع بصدور بعضها و لكنّها غير ثابتة، لأنّ أكثرها ينتهي إلى الحلبي و لم يثبت كونها روايات متعدّدة.

منها: ما رواه الصدوق بإسناده

عن محمّد بن علي الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره (آخر)؟ قال: يصلّي فيه فإذا وجد الماء غسله «3». قال الصدوق: و في خبر آخر: و أعاد الصلاة. «4» و منها: رواية أُخرى له و فيها انّه سُئل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله؟ قال: يصلّي فيه. «5»

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس و الأربعون ح 3.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس و الأربعون ح 4.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 1.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 2.

(5) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 362

..........

______________________________

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه انّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب في ثوبه ليس معه غيره و لا يقدر على غسله؟ قال: يصلّي فيه. «1» و منها: ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن رجل عريان و حضرت الصلاة، فأصاب ثوباً نصفه دم أو كلّه دم يصلّي فيه أو يصلّي عرياناً؟ قال: إن وجد ماء غسله، و إن لم يجد ماء صلّى فيه و لم يصلِّ عرياناً «2». و رواه الصدوق و الحميري عنه أيضاً.

و منها: رواية ثالثة لمحمّد بن علي الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره؟ قال: يصلّي فيه إذا اضطرّ إليه. «3» و منها:

موثقة سماعة المتقدّمة في المقام الأول «4». و الظاهر انّها هي المراد بالخبر الذي ذكر الصدوق بعد نقل رواية الحلبي. و في خبر آخر: و أعاد الصلاة.

ثمّ إنّ الشيخ (قدّس سرّه) حمل هذه الطائفة على صورة الاضطرار إلى لبس الثوب المتنجّس لضرر أو حرج. و تنظر فيه في المعتبر قال في محكيه: «إنّ هذا التأويل محلّ نظر و لو قيل بالتخيير بينهما لكان حسناً» و مراده التخيير بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في الثوب المتنجّس و هو تخيير عقلي لأنّ المكلّف لا يخلو امّا أن يصلّي في الثوب المتنجّس و أمّا أن يصلّي عرياناً و ليس تخييراً شرعياً كما في الواجبات التخييرية كما انّه ليس تخييراً في المسألة الأُصولية من جهة ثبوت التخيير من ناحية الأخذ بكل واحدة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 4.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 5.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 7.

(4) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الأربعون ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 363

..........

______________________________

من الطائفتين بل منشأه امّا طرح الطائفتين لثبوت المعارضة بينهما و عدم إمكان الجمع بينهما و عدم وجود المرجّح أو تعارضه أيضاً، و أمّا الجمع بينهما بهذا النحو.

و أمّا القول بوجوب الصلاة عرياناً فمنشأه تقديم الطائفة الدالّة عليه لكونها موافقة للشهرة بينهم، كما انّ القول بوجوب الصلاة في الثوب المتنجّس يكون مستنداً إلى ترجيح الطائفة الدالّة عليه لأجل صحّتها و كونها أكثر عدداً و صاحب المدارك ذهب إلى عدم حجّية الطائفة الأُولى أصلًا بناءً على مسلكه من عدم حجّية غير الخبر الصحيح.

و الحق انّه لا محيص عن الجمع

بين الطائفتين بما عرفت من الشيخ (قدّس سرّه) من حمل الأخبار الدالّة على وجوب الصلاة في الثوب النجس على ما إذا اضطرّ إلى لبسه أو وجود ناظر أو غيرهما، و حمل ما يدلّ على الصلاة عارياً على صورة عدم الاضطرار.

توضيح ذلك انّ السند في بعض الروايات المتقدّمة الدالّة على وجوب الصلاة عارياً ينتهي إلى محمد بن علي الحلبي، كما انّ السند في بعض الروايات الدالّة على وجوب الصلاة في الثوب النجس ينتهي إليه أيضاً، و من البعيد انّه كان قد سُئل عن حكم المسألة مرّتين أو مرّات بل الظاهر انّه سئل عن الإمام (عليه السّلام) مرّة واحدة و أجابه (عليه السّلام) بجواب واحد فالتعدّد انّما نشأ من تعدّد من روى عنه من الرواة و حينئذٍ فالرواية المشتملة على حكم من أصاب ثوبه الجنابة مع عدم كونه واجداً لغيره لا تكون مغايرة للرواية المشتملة على حكم من أصاب ثوبه المنفرد البول بل الظاهر أنّهما رواية واحدة كما يدلّ على ذلك روايته الأخيرة المشتملة على حكم من أصاب ثوبه المنفرد جنابة أو بول، و لا يخفى انّ وجوب الصلاة في الثوب النجس قد قيّد في هذه الرواية بما إذا كان المصلّي مضطرّاً إلى لبسه لبرد أو غيره ضرورة انّه ليس المراد من الاضطرار و هو الاضطرار الحاصل من قبل الصلاة لأجل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 364

..........

______________________________

كونها مشروطة بستر العورة لأنّه كان ذلك مفروض السؤال فلا يحتاج إلى التكرار فالمراد منه هو الاضطرار الطارئ مع قطع النظر عن اعتبار الستر في صحّة الصلاة و حينئذٍ فهذه الرواية تكون شاهدة للجمع بين الروايات التي رواها محمد بن علي الحلبي التي قد

عرفت انّها رواية واحدة، و لعلّ الوجه في إطلاق الحكم بوجوب الصلاة عارياً في روايته الدالّة عليه هو انّ مفروض السؤال فيها كون الرجل في فلاة من الأرض. و من المعلوم انّه لا يضطرّ الرجل إلى لبس الثوب غالباً في الفلاة لعدم وجود ناظر فيها كذلك، فإذا ثبت الجمع بين الروايات التي رواها محمّد بن علي الحلبي بهذا النحو يظهر وجه الجمع بين سائر الروايات المتعارضة إذ موثقة سماعة المتقدّمة التي حكم فيها بوجوب الصلاة عرياناً انّما هي واردة فيما إذا كان الرجل في فلاة من الأرض و قد مرّ انّه في هذه الصورة لا يتحقّق الاضطرار غالباً، فانقدح انّ طريق الجمع بين الروايات المتقدّمة المتعارضة بعد التأمّل فيها هو ما اختاره الشيخ في مقام الجمع من وجوب الصلاة عارياً فيما إذا لم يتحقّق الاضطرار إلى لبسه لبرد أو ناظر أو غيرهما.

ثمّ إنّه لو فرضنا عدم إمكان الجمع بين تلك الأخبار المتعارضة بنحو يخرجها عن التعارض و وصلت النوبة إلى إعمال المرجحات فاللازم أيضاً الأخذ بالروايات الدالّة على وجوب الصلاة عارياً لأنّا قد قرّرنا في محلّه انّ أوّل المرجّحات هي الشهرة في الفتوى و لا ريب في انّها موافقة لهذه الروايات كما يدلّ عليه فتوى الشيخ (قدّس سرّه) و من بعده إلى زمان المحقّق (قدّس سرّه).

و قد ذكر بعض الأعلام على ما في تقريراته انّ روايتي سماعة مضمرتان و ليس السماعة في الجلالة و الاعتبار كزرارة و محمد بن مسلم حتّى لا يحتمل سؤاله عن غير الإمام (عليه السّلام) و من المحتمل أن يكون قد سأل شخصين آخرين غير الإمام (عليه السّلام) و يؤكّده اختلاف الروايتين في الجواب حيث ورد في إحداهما: إنّه يصلّي قاعداً

و في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 365

..........

______________________________

الأُخرى: انّه يصلّي قائماً فالروايتان ساقطتان عن الاعتبار، و أمّا رواية الحلبي ففي سندها محمد بن عبد الحميد، و أبوه عبد الحميد و إن كان موثقاً إلّا انّ ابنه لم تثبت وثاقته فإنّ توثيقاته تنتهي إلى النجاشي، و العبارة المحكية عنه لا تفي بتوثيق الرجل حيث قال: «محمد بن عبد الحميد بن سالم العطّار أبو جعفر، روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه السّلام) و كان ثقة من أصحابنا الكوفيين» و هذه العبارة و إن صدرت منه عند ترجمة محمد بن عبد الحميد إلّا انّ ظاهر الضمير في قوله: كان ثقة، انّه راجع إلى أبيه و هو عبد الحميد لا إلى محمد ابنه و لو لم يكن ظاهراً فيه فلا أقلّ من إجماله فلا يثبت بذلك وثاقة الرجل و بهذا تسقط الرواية عن الاعتبار و تبقى الصحاح المتقدّمة الدالّة على وجوب الصلاة في الثوب المتنجّس من غير معارض.

أقول: يرد عليه مضافاً إلى عدم ثبوت التعدّد لرواية سماعة لما عرفت من ظهور كونها رواية واحدة انّ سماعة و إن لم يكن في الجلالة و الاعتبار مثل زرارة و محمّد بن مسلم إلّا انّ ظهور رواياته المضمرة في كون سؤاله انّما هو عن الإمام (عليه السّلام) ممّا لا ينبغي الارتياب فيه خصوصاً بعد ملاحظة منشأ الإضمار فيها و هو الاكتفاء بذكر اسمه المبارك في أوّل كتابه و الإشارة إليه بالضمير في بقية الروايات لعدم الحاجة إلى تكرار الاسم فمجرّد الإضمار فيها لا يوجب سقوط الرواية عن الاعتبار و هل يمكن دعوى السقوط مع عدم ثبوت المعارض لها فعند ثبوته أيضاً لا مجال

لهذه الدعوى كما لا يخفى.

و أمّا اختلاف الروايتين في الجواب فمنشأه اختلاف الرواة عنه لعدم تعدّد الرواية كما عرفت فلا يؤكد ذلك كون السؤال عن غير الإمام (عليه السّلام).

و أمّا محمد بن عبد الحميد فالظاهر دلالة عبارة النجاشي على وثاقته و كون الضمير راجعاً إليه و إن كان العلّامة (قدّس سرّه) قد فهم من هذا الكلام وثاقة أبيه إلّا انّه خلاف الظاهر لأنّه على غير هذا التقدير يلزم التفكيك الركيك و ذلك

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 366

..........

______________________________

لرجوع الضمير في قول النجاشي بعد العبارة المتقدّمة: «له كتاب النوادر» إلى الابن قطعاً لعدم وجود الكتاب للأب لعدم كونه معنوناً في النجاشي أصلًا و لو كان له كتاب لكان المناسب بل اللازم عنوانه فيه و يؤيّده استشهاد النجاشي بقوله في «بيان الجزري»: كان بيان خيّراً فاضلًا. و مكاتبة سهل أبا محمّد العسكري (عليه السّلام) بيده كما ذكره النجاشي أيضاً في «سهل» و بعد ذلك يحتمل قوياً وقوع السقط في العبارة المتقدّمة و انّها كانت في الأصل: روى عن عبد الحميد إلخ. و بالجملة فالظاهر وثاقة الرجل و اعتبار رواية الحلبي فلا مجال لدعوى السقوط عن الاعتبار.

و قد ناقش البعض المذكور في الجمع بين الطائفتين على تقدير الاعتبار و ثبوت التعارض في البين بالنحو الذي ذكرنا في مقام الجمع بما حاصله: «إنّ هذا الجمع و إن كان لا بأس به صورة إلّا انّه بحسب الواقع لا يرجع إلى محصل صحيح:

امّا أوّلًا: فلأنّ الرواية رواية الحلبي التي هي شاهدة الجمع ضعيفة من جهة القاسم بن محمد.

و أمّا ثانياً: فلأنّه لم يثبت انّ الاضطرار في الرواية أُريد به الاضطرار إلى اللبس لاحتمال أن

يراد به الاضطرار إلى الصلاة في الثوب لما قد ارتكز في أذهان المتشرّعة من عدم جواز إيقاع الصلاة من دون ثوب.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ الاضطرار لو سلّمنا انّه بالمعنى المذكور لكنّه لا يمكن حمل الصحاح المتقدّمة على صورة الاضطرار لأنّ فيها روايتين صريحتين في عدم إرادتها إحداهما: صحيحة علي بن جعفر و ثانيتهما: صحيحة الحلبي الثانية باعتبار انّ المفروض فيها انّ الرجل غير قادر على غسله فلا بدّ من قدرته على نزعه و إلّا لكان الأنسب أن يقول و لا يقدر على نزعه فلا مجال لهذا الجمع».

أقول: امّا القاسم بن محمد الذي يكون المراد به هو الجوهري فالظاهر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 367

..........

______________________________

وثاقته باعتبار كثرة روايته و كثرة نقل مشايخ الحديث عنه كما في محكي جامع الرواة و إن كان جماعة من الفقهاء (قدّس سرّهم) قد ردّوا أحاديثه كالمحقّق و الشهيد الثاني و غيرهما لكنّه لا يبعد اعتبارها كما هو معتقد الوحيد (قدّس سرّه) إلّا انّه مع ذلك يحتاج إلى مزيد المراجعة و الدقّة الزائدة.

و أمّا احتمال كون المراد بالاضطرار في رواية الحلبي غير الاضطرار إلى اللبس فقد مرّ اندفاعه في توضيح مفاد الرواية و عرفت انّه على هذا التقدير يلزم التكرار لأنّ الاضطرار الناشئ من ناحية الصلاة باعتبار كونها مشروطة بستر العورة كان مفروضاً في السؤال و لم يكن وجه لتكراره في الجواب فلا موقع لهذا الاحتمال أصلًا.

و أمّا صراحة رواية علي بن جعفر في عدم كون المراد هو الاضطرار إلى اللبس فلم يظهر وجهها أصلًا فإن كون الرجل عرياناً لا يلازم عدم الاضطرار إلى اللبس لبرد أو ناظر فإنّه ربّما يكون الرجل فاقداً للثوب رأساً

فلا مناص له من تحمّل البرد فإذا وجد الثوب يضطرّ إلى لبسه للفرار عنه ففرض كون الرجل كذلك لا يلازم عدم الاضطرار بوجه لعدم كون المفروض تحقّق هذا الوصف باختياره و من الممكن إزالته بإرادته كما هو غير خفي.

و أمّا صحيحة الحلبي فالظاهر عدم صراحتها فيما أفاده أيضاً فإنّ عدم القدرة على الغسل قد يعبّر به كناية عن عدم إمكان النزع ضرورة انّ المنشأ لعدم القدرة على الغسل قد يكون عدم وجدان الماء و قد يكون وجود المانع عن استعماله و قد يكون هو الاضطرار إلى لبسه فما المانع من جعل الرواية الشاهدة للجمع شاهدة على كون المراد هذه الصورة، و كيف يمكن دعوى صراحة الرواية في كون المراد هي القدرة على النزع و عدم القدرة على الغسل من بعض الجهات الأُخر فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 368

[مسألة 8 لو اشتبه الثوب الطاهر بالنجس يكرّر الصلاة فيهما مع الانحصار بهما]

مسألة 8 لو اشتبه الثوب الطاهر بالنجس يكرّر الصلاة فيهما مع الانحصار بهما، و لو لم يسع الوقت فالأحوط أن يصلّي عارياً مع الإمكان، و يقضي خارج الوقت في ثوب طاهر، و مع عدم الإمكان يصلّي في أحدهما و يقضي في ثوب طاهر على الأحوط، و في هذه الصورة لو كان أطراف الشبهة ثلاثة أو أكثر يكرّر الصلاة على نحو يعلم بوقوعها في ثوب طاهر (1).

______________________________

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا انّ مقتضى التحقيق هو الجمع بين الطائفتين بالتفصيل بين صورة الاضطرار إلى اللبس و عدمه و الحكم بتعيّن الصلاة عارياً في الصورة الثانية و انّه على تقدير عدم إمكان الجمع و لزوم الرجوع إلى المرجّحات أيضاً لا يتغيّر الحكم لموافقة الطائفة الدالّة عليه للشهرة الفتوائية التي هي أوّل

المرجّحات و لكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالصلاة في الثوب النجس أيضاً لعدم خلوّ الروايات الدالّة على الاحتمال الآخر عن المناقشة كما عرفت.

بقي الكلام في هذا المقام في حكم وجوب الإعادة أو القضاء عليه و الظاهر انّه لا وجه للحكم بوجوب شي ء منهما بعد الإتيان بالفريضة و عدم تحقّق الفوت و اقتضاء مثل حديث لا تعاد العدم و لا يجري في هذا المقام احتمال الوجوب الناشئ من موثقة عمّار المتقدّمة في المقام الأوّل لعدم جريانها في هذا المقام كما هو ظاهر.

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:

المقام الأوّل: ما إذا كان الوقت متّسعاً لتكرار الصلاة في الثوبين و المعروف بينهم في هذا المقام هو تكرار الصلاة في المشتبهين و لكنّه صرّح الحلّي في محكيّ «السرائر» بوجوب الصلاة عارياً على طريقه صلاة العاري و زعم انّه مقتضى الاحتياط و سيجي ء نقل عبارته و يظهر من الشيخ في «الخلاف» وجود القائل بهذا القول في عصره و قبله، كما انّه يظهر من «المبسوط» وجود

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 369

..........

______________________________

رواية على هذا المضمون و لكنّه (قدّس سرّه) أفتى في الكتابين بوجوب الصلاة فيهما جميعاً.

و يدلّ على القول المعروف أوّلًا انّ مقتضى القاعدة هو وجوب الصلاة في كليهما لأنّه يتمكّن من مراعاة الستر و الطهارة المعتبرة في الثوب بالصلاة في كلّ منهما. غاية الأمر انّه لا يتمكّن من الامتثال التفصيلي و قد حقّقنا في مبحث الاجتهاد و التقليد انّ الامتثال العلمي الإجمالي كاف و لو مع التمكّن من التفصيلي فضلًا عمّا إذا لم يتمكّن و انّ الاحتياط طريق في مقابل الطريقين لعدم إخلاله بشي ء من الأُمور المعتبرة في صحّة العبادة من

التقرّب و نحوه.

و ثانياً: صحيحة صفوان بن يحيى انّه كتب إلى أبي الحسن (عليه السّلام) يسأله عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بول و لم يدر أيّهما هو، و حضرت الصلاة و خاف فوتها و ليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال: يصلّي فيهما جميعاً. «1» قال الصدوق بعد نقل الرواية: يعني على الانفراد فمقتضى القاعدة و الرواية هو القول المعروف.

و أمّا ابن إدريس فقد قال في محكي السرائر: «و إذا حصل معه ثوبان أحدهما نجس و الآخر طاهر و لم يتميّز له الطاهر و لا يتمكّن من غسل أحدهما قال بعض أصحابنا: يصلّي في كلّ واحد منهما على الانفراد وجوباً، و قال بعض منهم: نزعهما و يصلّي عرياناً و هذا الذي يقوى في نفسي و به أفتى لأنّ المسألة بين أصحابنا فيها خلاف و دليل الإجماع فيه منفي (مفقود خ ل) فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلنا. فإن قال قائل: بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد لأنّه إذا صلّى فيهما جميعاً تبيّن و تيقّن بعد فراغه من الصلاتين معاً انّه قد صلّى في ثوب طاهر. قلنا: المؤثرات في وجوه الأفعال يجب أن تكون مقارنة لها لا متأخّرة عنها، و الواجب عليه عند افتتاح كل فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة، و هذا

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع و الستون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 370

..........

______________________________

يجوز عند افتتاح كل صلاة، من الصلاتين انّه نجس و لا يعلم انّه طاهر عند افتتاح كل صلاة فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلّا بعد العلم بطهارة ثوبه و بدنه لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة و هو شاك

في طهارة ثوبه، و لا يجوز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد، و أيضاً كون الصلاة واجبة على وجه تقع عليه الصلاة فكيف يؤثّر في هذا الوجه ما يأتي بعده، و من شأن المؤثِّر في وجوه الأفعال أن يكون مقارناً لها، لا يتأخّر عنها على ما بيّناه».

و لا يخفى ما فيه:

امّا أوّلًا: فلأنّ الظاهر من قوله: و دليل الإجماع فيه منفي، انّ الدليل المتصوّر في المقام منحصر بالإجماع و هو غير موجود فيه، مع انّه من الواضح عدم الانحصار لما عرفت من دلالة الرواية الصحيحة المتقدّمة على وجوب الصلاة في الثوبين.

و أمّا ثانياً: فلأنّه لو سلّمنا انحصار الدليل بالإجماع المفقود لعدم حجّية خبر الواحد مطلقاً كما هو مرامه فلا نسلم انّه بعد فقد الإجماع يكون الواجب هو الرجوع إلى أصالة الاحتياط فمن الممكن أن يكون الجائز هو الرجوع إلى أصالة البراءة و لم يقم دليلًا على عدم جواز الرجوع إليها أصلًا.

و أمّا ثالثاً: فلأنّه لو سلّمنا الأمرين لكن لا نسلم إيجاب الاحتياط لما ذكره من الصلاة عارياً بل الظاهر انّ مقتضى الاحتياط تكرار الصلاة في المشتبهين كما عرفت لأنّ ما أجاب به عن قول القائل بأنّ الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد من انّ المؤثرات في وجوه الأفعال .. لا يخلو من الإشكال لأنّه:

إن أراد بذلك انّ المؤثر في صيرورة الصلاة واجدة للمصلحة الموجبة لتعلّق الأمر هي طهارة المصلّي بما يلابسه، فهو و إن كان مسلماً إلّا انّه من الواضح عدم كونها متأخّرة عنها بل مقارنة لها غاية الأمر انّ العلم بوقوعها مع الطهارة متأخّر عنها كما لا يخفىٰ.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 371

..........

______________________________

و إن

أراد انّ المؤثر في ذلك هو العلم بوقوع الصلاة مع الطهارة المعتبرة فيها كما يدلّ عليه قوله: و الواجب عليه عند افتتاح كلّ فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة .. فهو و إن كان تحقّقه متوقّفاً على الصلاة في كليهما فيتأخّر تحقّقه عنها إلّا انّ الظاهر انّه لا دليل على اعتبار العلم بالطهارة بل المعتبر هي نفسها.

و إن أراد انّ المؤثر هو قصد امتثال الأمر المتعلّق بالصلاة مع الطهارة لأنّها من الأُمور العبادية التي يشترط في صحّتها قصد الأمر المتعلّق بها و بدونه تكون فاقدة لجهة الحسن و حيثية المصلحة، و حينئذٍ فمع الشكّ في طهارة الثوب عند الشروع لا يتمشّى منه قصد الامتثال لعدم العلم بتعلّق الأمر بالصلاة في هذا الثوب، ففيه انّه من الواضح انّ الداعي له إلى الإتيان بهما جميعاً ليس إلّا الأمر المتعلّق بالصلاة لأنّ المفروض عدم كونه مرائياً في فعلهما غاية الأمر انّه لا يعلم بأنّ الامتثال هل يتحقّق بالصلاة التي يصلّيها أوّلًا أو بما يصلّيها ثانياً و لا دليل على اعتبار هذا العلم في تحقّق الامتثال و مزيد التحقيق في محلّه.

و أمّا مرسلة الشيخ الدالّة على انّه يتركهما و يصلّي عرياناً فهي ضعيفة بإرسالها و عدم اعتناء المشهور بها حتّى نفس الشيخ في الكتابين كما عرفت فلا يمكن الاعتماد عليها بوجه خصوصاً في مقابل الصحيحة المتقدّمة المعتضدة بموافقة القاعدة و الشهرة الفتوائية.

المقام الثاني: فيما إذا لم يسع الوقت للتكرار و أمكن للمصلّي الصلاة عارياً و قد احتاط الماتن دام ظلّه فيه بالصلاة عارياً.

و الظاهر انّ هذه المسألة مبتنية على المسألة السابقة و هي ما لو انحصر ثوبه بالنجس فإن قلنا بأنّ الواجب في تلك المسألة هي الصلاة في الثوب

النجس كما اختاره كاشف اللثام و تبعه جمع من مقاربي عصرنا منهم السيّد (قدّس سرّه)

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 372

..........

______________________________

في «العروة» فالواجب عليه هنا الصلاة في أحد الثوبين الذي لا يعلم بنجاسته بطريق أولى لوضوح انّه إذا كانت الصلاة في الثوب النجس واجبة مع العلم بمقارنتها لوجود النجاسة فلا محالة تكون واجبة مع احتمال المقارنة بطريق أولى كما هو ظاهر.

و إن قلنا بأنّ الواجب في تلك المسألة هي الصلاة عارياً كما عرفت انّه المعروف بين الأصحاب فهل اللازم عليه هنا أيضاً كذلك أو انّه لا بدّ في المقام من الحكم بوجوب الصلاة في أحد الثوبين؟

ربّما يقال بالثاني نظراً إلى ثبوت الفرق بين المقامين فإنّ الأمر هناك دائر بين الصلاة فاقدة للستر و للمانع و بين الصلاة واجدة لهما معاً قطعاً للعلم بنجاسة الثوب المنحصر، و هنا دائر بين الصلاة فاقدة للشرط قطعاً و بينها واجدة للمانع احتمالًا. و بعبارة اخرى الأمر في المسألة السابقة كان دائراً بين المخالفة القطعية للأمر المنجز المعلوم بترك ما هو شرط للمأمور به يقيناً و بين المخالفة له بإتيانه واجداً للمانع كذلك، و هنا دائر بين المخالفة القطعية له بترك ما هو شرط له و بين المخالفة الاحتمالية بإيقاع الصلاة في الثوب الذي يشكّ في طهارته و لا ريب انّ الترجيح مع الثاني على ما يحكم به العقل قطعاً.

و الظاهر انّ هذا القول يتمّ على تقدير الجمود على طبق الروايات الدالّة على تعيّن الصلاة عارياً مع انحصار الثوب بالنجس من دون استفادة المناط منها أصلًا فإنّه على هذا التقدير لا مجال لدعوى شمول الروايات للمقام لكون موردها صورة الانحصار فاللازم الرجوع إلى العقل

و هو يحكم بمثل ما ذكر.

و أمّا إن استفدنا من تلك الروايات انّ الملاك في تعيّن الصلاة عارياً مع انحصار الثوب في اقوائية مانعية النجاسة بالإضافة إلى شرطية الستر كما لا يبعد هذه الاستفادة فالظاهر اقتضاء المناط لأن يصلّي عارياً في المقام أيضاً لأنّ القول

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 373

..........

______________________________

بوجوب الصلاة في الثوب هنا مرجعه إلى الاكتفاء بمحتمل الصلاتية إذ على تقدير نجاسة الثوب واقعاً لا تتحقّق الصلاة أصلًا و حينئذٍ فاللازم أن يقال بكفاية الشكّ في تحقّق الامتثال مع عدم وجود ما يحرزه كما هو المفروض و هو ممّا يحكم العقل ببداهة خلافه و إن شئت قلت: الصلاة في الثوب الذي يشكّ في طهارته مع عدم إحرازها بالأصل لفرض كونه من أطراف العلم الإجمالي كالصلاة فيما علم نجاسته من حيث عدم تحقّق الامتثال المعتبر في سقوط الأمر، و حيث إنّه قد علم من الأخبار المتقدّمة ترجيح جانب المانع على جانب الشرط فالواجب عليه هنا أيضاً الصلاة عارياً.

و بعبارة اخرى الصلاة عارياً تشتمل على رعاية جانب المانع قطعاً و الصلاة في أحد الثوبين تتضمّن رعاية جانب الشرط كذلك. و من الواضح انّ الأقوائية تقتضي تعين الأوّل مع انّه لو لم يكن هناك اقوائية فرضاً لما كان وجه لتعين الثاني بل كان مخيّراً بينه و بين الأوّل، و عليه فدوران الأمر بين الكيفيتين انّما هو من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير و مقتضى الاحتياط العقلي فيه هو الأخذ بما يحتمل تعيّنه و بما ذكرنا يظهر وجه ما أُفيد في المتن من انّ الاحتياط يقتضي الصلاة عارياً فتدبّر.

بقي الكلام: في هذا المقام في وجه وجوب القضاء خارج

الوقت في ثوب طاهر و هو يتضمّن أمرين أحدهما أصل وجوب القضاء و الثاني كونه في ثوب طاهر و مرجعه إلى عدم الاكتفاء بالقضاء في أحد الثوبين.

امّا الأمر الثاني فالوجه فيه واضح لأنّه بعد ثبوت وجوب القضاء لا بدّ من الإتيان بها في ثوب طاهر لأنّ المفروض كونه محرزاً بعد خروج الوقت. نعم على تقدير بقاء الاشتباه يكفي التكرار في الثوبين بعنوان القضاء لعدم الفرق بينها و بين الأداء من هذه الحيثية أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 374

..........

______________________________

و أمّا الأمر الأوّل فيشكل وجهه نظراً إلى انّ القضاء انّما هو بأمر جديد و موضوعه فوت الفريضة في وقتها، و من المعلوم عدم تحقّق الموضوع في المقام لأنّ الواجب على المكلّف في الوقت انّما هو الإتيان بها عارياً لما قد عرفت من اقتضاء الاحتياط له كذلك، و مع الإتيان بما هو الواجب لا يبقى مجال لتحقّق الفوت كما في صورة انحصار الساتر بالنجس و الصلاة عارياً و قد حكم في المتن فيها بعدم ثبوت القضاء عليه و معه يبقى سؤال الفرق بينه و بين المقام من جهة نفي وجوب القضاء عليه هناك و إيجابه هنا.

و دعوى انّ الفرق بين المقامين هو عدم كون الصلاة في الثوب الطاهر مقدورة له هناك و ثبوت المقدورية في المقام لأنّه يمكن له الصلاة في الثوب الطاهر في الوقت. غاية الأمر انّ العلم بها كان متوقّفاً على تكرار الصلاة و المفروض عدم سعة الوقت له فأصل الصلاة فيه مقدور.

مدفوعة بأنّ مجرّد المقدورة لا يصلح فارقاً بين المقامين فانّ اللازم في باب القضاء ملاحظة ما هو الواجب في الوقت مع فوته. و من المعلوم انّ الواجب

في الوقت في المقامين هي الصلاة عارياً و لم يتحقّق الفوت أصلًا. إلّا أن يقال إنّ الواجب عليه في المقام أوّلًا هي الصلاة في الثوب الطاهر المتوقّفة على التكرار و الاكتفاء بصلاة واحدة عارياً انّما نشأ من ضيق الوقت و عدم سعته للتكرار، فالواجب أوّلًا قد فات في وقته قطعاً و اللازم الإتيان به بعد خروج الوقت.

و أمّا في المقام السابق فالواجب من الابتداء هي الصلاة عارياً لفرض الانحصار و هي لم تفت في وقتها و عليه فاللازم التفصيل في ذلك المقام بين ما إذا كانت الصلاة في الثوب الطاهر مقدورة له في بعض الوقت و بين ما إذا لم تكن كذلك و هو مع انّه مخالف لإطلاق عنوان المقام لعدم استشمام رائحة من التفصيل فيه مخالف لالتزامهم ظاهراً، مع انّ الملاك في القضاء ليس ما هو الواجب أوّلًا بل الملاك ما هو الواجب في الوقت في ظرف الإتيان به و تحقّق الامتثال من المكلّف. و كيف كان فالحكم بوجوب القضاء هنا مشكل جدّاً.

[القول في كيفية التنجيس بها]

اشارة

القول في كيفية التنجيس بها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 375

[مسألة 1 لا ينجس الملاقي لها مع اليبوسة]

مسألة 1 لا ينجس الملاقي لها مع اليبوسة، و لا مع النداوة التي لم ينتقل منها أجزاء بالملاقاة، نعم ينجس الملاقي مع بلة في أحدهما على وجه تصل منه إلى الآخر، فلا يكفي مجرّد الميعان كالزيبق بل و الذهب و الفضّة الذائبين ما لم تكن رطوبة سارية من الخارج، فالذهب الذائب في البوتقة النجسة لا يتنجّس ما لم تكن رطوبة سارية فيها أو فيه، و لو كانت لا تنجّس إلّا ظاهره كالجامد (1).

______________________________

المقام الثالث: فيما إذا لم يسع الوقت للتكرار و لم يمكن الصلاة عارياً. و من المعلوم انّ الحكم فيه هي الصلاة في أحد الثوبين لأنّ المفروض عدم القدرة على التكرار مع رعاية الوقت و عدم إمكان الصلاة عارياً و قد احتاط فيه في المتن بوجوب القضاء في ثوب طاهر و الكلام فيه هو الكلام في المقام السابق.

(1) أقول: الوجه في عدم تأثّر الملاقي مع اليبوسة و الجفاف هو الارتكاز العرفي حيث إنّ المتفاهم عند العرف من دليل منجسية النجس و تأثيره في نجاسة الملاقي تحقّق ذلك عند سراية النجس إليه و السراية غير متحقّقة مع اليبوسة و فقدان الرطوبة.

و أمّا الأخبار الواردة في نجاسة ملاقي النجس أو المتنجّس من غير تقييد بما إذا كانت هناك رطوبة فطائفة منها واردة في مثل ملاقي البول أو الماء المتنجّس و نحوهما ممّا فيه الميعان و الرطوبة و الأمر في هذه الطائفة واضح لأنّه لا حاجة إلى التقييد بعد عدم انفكاك المورد عن القيد أصلًا، و أمّا الطائفة الأُخرى الواردة فيما لا رطوبة فيه بالذات و لا يكون فيها تقييد

أصلًا فاللازم بمقتضى الارتكاز و الفهم العرفي رفع اليد عن إطلاقها لأنّ ملاقاة اليابس مع مثله لا أثر لها عند العرف أصلًا.

نعم ربّما يقال: إنّ الأوامر المطلقة بغسل ما أصابه النجس ظاهرة في أنفسها في اعتبار الرطوبة في أحد المتلاقيين نظراً إلى انّ الغسل عبارة عن إزالة الأثر،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 376

..........

______________________________

و الأثر انّما يتحقّق بملاقاة النجس مع الرطوبة المسرية حيث لا تأثير في الملاقاة مع الجفاف فهذه الأخبار أيضاً شاهدة على انّ الرطوبة المسرية معتبرة في نجاسة ملاقي النجس أو المتنجّس.

و يرد عليه انّ الغسل قد استعمل فيها في مقابل المسح، و معنى الغسل هو الذي يعبّر عنه في الفارسية ب «شستن» و ليس معناه إزالة الأثر حتّى كان وجود الأثر معتبراً في تحقّقه كيف و قد ورد في آية الوضوء فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ و لم يعتبر وجود شي ء أي أثر في الأعضاء التي يجب غسلها فاستفادة اعتبار الرطوبة من التعبير بالغسل ممّا لا يتمّ أصلًا.

ثمّ إنّه ورد في المقام روايتان يظهر منهما ذلك أي اعتبار الرطوبة في التأثير إحداهما حسنة محمد بن مسلم في حديث انّ أبا جعفر (عليه السّلام) وطئ على عذرة يابسة فأصاب ثوبه فلمّا أخبره قال: أ ليس هي يابسة؟ فقال: بلى، فقال: لا بأس، «1» و ثانيتهما رواية محمد بن خالد عن عبد اللّٰه بن بكير قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يبول و لا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط قال: كلّ شي ء يابس ذكي. «2» و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ الرطوبة بمجرّدها لا تكفي في نجاسة الملاقي بل لا بدّ و أن تكون

مسرية موجبة لسراية النجاسة إلى الملاقي و انتقال بعض الأجزاء المائية في النجس إليه، فالرطوبة التي لا تعدّ ماء بالنظر العرفي غير كافية في الحكم بنجاسة الملاقي و قد قرّر انّ الأحكام الشرعية جارية على الموضوعات العرفية لا العقلية، و من هنا يحكم بطهارة الثوب الذي صبغ بالدم النجس بعد غسله و إن كان لونه باقياً في الثوب لأنّ الدم لا يكون باقياً عرفاً بعد غسل الثوب

______________________________

(1) الوسائل أبواب أحكام الخلوة الباب الواحد و الثلاثون ح 5.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس و العشرون ح 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 377

[مسألة 2 مع الشكّ في الرطوبة أو السراية يحكم بعدم التنجيس]

مسألة 2 مع الشكّ في الرطوبة أو السراية يحكم بعدم التنجيس، فإذا وقع الذباب على النجس ثمّ على الثوب لا يحكم به لاحتمال عدم تبلّل رجله ببلة تسري إلى ملاقيه (1).

______________________________

بالماء و إن كان زواله مع بقاء لونه مستحيلًا عند العقل. و ممّا ذكرنا يظهر وجه عدم سراية النجاسة في الأمثلة المذكورة في المتن.

(1) بعد اعتبار الرطوبة المسرية في تأثّر الملاقي و نجاسته لو شكّ في أصل الرطوبة أو وصفها يرجع ذلك إلى الشكّ في نجاسة الملاقي و عدمها و المرجع فيه قاعدة الطهارة.

نعم فيما إذا علم سبق وجود المسرية و شكّ في بقائها ربّما يحتاط بالاجتناب نظراً إلى استصحاب بقاء الرطوبة المسرية فيه، و لكن الحقّ انّه لا بدّ من ملاحظة انّ الموضوع للنجاسة في الملاقي للنجس هل يكون أمراً مركّباً و هو الملاقاة و الرطوبة المسرية أو أمراً مقيّداً و هو الملاقاة المؤثّرة؟ فعلى الأوّل لا مانع من جريان استصحاب بقاء الرطوبة المسرية و بضميمة الملاقاة المحرزة بالوجدان يتمّ الموضوع فيحكم بالنجاسة، و على

الثاني لا مجال لإحراز الموضوع بالاستصحاب لأنّ أصالة بقاء الرطوبة المسرية لا يثبت وجود الموضوع إلّا على القول بالأُصول المثبتة و هو على خلاف التحقيق فلا مناص من الرجوع إلى قاعدة الطهارة. كما انّه لو شكّ في ذلك و لم يعلم انّ الموضوع هو الأمر المركّب أو المقيّد لا مجال أيضاً لإجراء الاستصحاب للشكّ في انّ بقاء الرطوبة هل يكون مترتّباً عليه أثر شرعي أم لا فلا يجوز الرجوع إلّا إلى أصالة الطهارة.

و أمّا وقوع الذباب على النجس فالظاهر انّ المفروض في المتن منه ما إذا كان النجس الواقع عليه الذباب رطباً و الثوب خالياً عن الرطوبة و البلل المحتمل في رجل الذباب هي البلة المكتسبة من النجس الرطب بالملاقاة.

و لكنّا نتعرّض لأكثر فروضه مع حفظ كون النجس رطباً فنقول: في هذه المسألة صورتان: الاولى: ما لو وقع الذباب على النجس مع اكتسابه الرطوبة منه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 378

..........

______________________________

الثانية: ما لو وقع عليه مع مصاحبته لعين النجس.

امّا الصورة الأُولى: فامّا أن يعلم فيها بجفاف الرطوبة المصاحبة له قبل وقوعه على الثوب فلا وجه للحكم بالنجاسة و إن كان في الثوب رطوبة مسرية لأنّ زوال عين النجس مطهر لبدن الحيوان كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى، و أمّا أن يشكّ في ذلك و فيه أيضاً لا يحكم بالنجاسة لكون الموضوع كما ذكرنا هي الملاقاة المؤثّرة و هي لا تثبت باستصحاب بقاء الرطوبة إلّا على القول بالأصل المثبت.

و أمّا الصورة الثانية: و هي ما إذا علمنا مصاحبته لبعض أجزاء النجس ففيها أيضاً؛ امّا أن يعلم بقاء ذلك الجزء حال الملاقاة فيحكم بالنجاسة مع رطوبته أو رطوبة الثوب، و أمّا

أن يعلم عدم بقائه فلا يحكم بها، و أمّا أن يشكّ في البقاء و عدمه و اللازم أن يفصل فيه بين ما إذا قلنا بتنجّس بدن الحيوان و طهارته بزوال العين عنه و بين ما إذا قلنا بعدم تنجّسه من الابتداء، فعلى الأوّل قد علمنا بنجاسة رجل الذباب و قد فرضنا انّه لاقى الثوب و فيه رطوبة مسرية و لا شكّ لنا إلّا في بقاء نجاسة رجل الذباب فنستصحبها و أثره الشرعي نجاسة ملاقية.

و على الثاني: لا مجال للحكم بالنجاسة و لا يجري استصحاب بقائها لأنّه لا يثبت كون الملاقاة المؤثّرة متّصفة بوقوعها مع النجاسة.

و بعبارة اخرى: الموضوع المعلوم في الخارج و هو ملاقاة الثوب لرجل الذاب لا أثر له لعدم تنجّس بدن الحيوان على ما هو المفروض، و ما هو موضوع الأثر و هي ملاقاة الثوب مع العين المصاحبة لرجل الذباب لا يحرز باستصحاب بقاء العين إلّا على القول بالأصل المثبت فإنّ استصحاب بقاء العين على رجل الذبابة لا يثبت تحقّق الملاقاة المؤثِّرة معه إلّا على القول به و قد مرّ انّه خلاف التحقيق.

و قد يقال: بعدم جريان الاستصحاب حتّى على القول بتنجّس بدن الحيوان لأنّ زوال العين مطهّر لبدن الحيوان على الفرض فنجاسة بدنه انّما هي ما دام لم تزل عنه عين النجس.

و بالجملة: نجاسة بدن الحيوان تساوق بقاء العين عليه فكيف

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 379

..........

______________________________

لا يجري الاستصحاب فيما إذا لم نقل بنجاسة بدنه و يجري فيما إذا قلنا بذلك؟! و الجواب عنه: انّه على القول بتنجّس بدن الحيوان يتحقّق كلا ركني الاستصحاب و هما اليقين بنجاسة هذا العضو في السابق الملاقي للثوب مع

الرطوبة و الشكّ في نجاسته الفعلية فتستصحب نجاسته و يترتّب عليه الأثر الشرعي و هو نجاسة ملاقية الواجد للرطوبة وجداناً، و أمّا على القول بالعدم فاللازم إثبات كون الملاقاة المؤثّرة مع عين النجس و الأصل قاصر عنه، هذا كلّه حسبما تقتضيه القاعدة.

و أمّا النصوص الواردة في مثل المقام:

فمنها: موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضّأ منه و لا تشرب. «1» و منها: صحيحة علي بن جعفر (عليه السّلام) عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن الدود يقع من الكنيف على الثوب أ يُصلّى فيه؟ قال: لا بأس إلّا أن ترى فيه أثراً فتغسله. «2» و قد زعم بعض الأعلام في الشرح انّ هاتين الروايتين تمنعان عن جريان الاستصحاب على كلا المسلكين فيصير مفاد النص مخالفاً لمقتضى القاعدة نظراً إلى انّ الموثّقة مطلقة تشمل ما لو لم يرَ الدم في منقار الطير مع العلم بحالته السابقة و وجود الدم في منقاره في السابق و كون مورد الصحيحة بعينه ما نحن بصدده للقطع بنجاسة الدود قبل خروجه من الكنيف و مع ذلك قد حكم (عليه السّلام) بطهارته ما دام لم يرَ فيها عين النجس، فالحكم بالنجاسة منوط برؤية العين فيه، و أمّا مع الشكّ في بقائها على الحيوان و عدمه فلا بدّ من الحكم بطهارته لأنّ الاستصحاب انّما يقوم مقام العلم الطريقي لا العلم الموضوعي الذي هو الظاهر منها بعد القطع

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الثمانون ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثمانون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 380

..........

______________________________

بعدم مدخلية خصوص الرؤية في الحكم بالنجاسة إلى أن قال: «و حيث إنّه قد أخذ في موضوع الحكم بما انّه صفة وجدانية فلا يقوم الاستصحاب مقامه و معه لا بدّ من الحكم بطهارة الحيوان عند الشكّ في بقاء العين على بدنه و زوالها عنه بلا فرق في ذلك بين القول بعدم تنجّس الحيوان من الابتداء و بين القول بتنجّسه و طهارته بزوال العين عنه».

و فيه أوّلًا: انّه لا دليل على كون العلم المستفاد من الرؤية في الروايتين هو العلم الموضوعي إذ لا فرق بينه و بين العلم في مثل قوله (عليه السّلام): كلّ شي ء لك طاهر حتّى تعلم انّه قذر. و قوله (عليه السّلام): كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم انّه حرام. و لو كان العلم المذكور في الروايتين في المقام موضوعياً لكان اللازم الالتزام بأنّه لو شرب من الماء مع تلوّث المنقار بالدم واقعاً. غاية الأمر انّه لم يرَ في منقاره الدم فقد شرب من الماء الطاهر في الواقع لأنّ المفروض انّ جواز التوضّي و الشرب واقعاً موضوعه عدم الرؤية و الظاهر انّه لا يلتزم به.

و ثانياً: إنّ مورد الموثّقة الطير المشكوك حاله ابتداء و لا إطلاق لها يشمل ما لو علم حالته السابقة فلو لاقى منقاره ماء و لم ترَ الدم فيه و لكنّه كان مسبوقاً بالنجاسة لا مانع من إجراء استصحاب بقاء العين فيه و الحكم بنجاسة الماء.

و أمّا الصحيحة فلا دليل على القطع بنجاسة الدودة في موردها قبل خروجها من الكنيف لعدم العلم بنجاسة جميع مواضع الكنيف، مع انّه في الصحيحة قال (عليه السّلام): أخلّا أن ترى فيه أثراً فتغسله، و من الظاهر

انّ الضمير يرجع إلى الثوب و من المعلوم انّه لو لم ير الأثر في الثوب فلا علم لنا بوجود الرطوبة المسرية و تحقّق الملاقاة المؤثّرة و مع عدم العلم بذلك لا يجري الاستصحاب أيضاً كما عرفت مفصّلًا هاتان الروايتان غير مخالفتين للقواعد بوجه فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 381

[مسألة 3 لا يحكم بنجاسة شي ء و لا بطهارة ما ثبت نجاسته إلّا باليقين]

مسألة 3 لا يحكم بنجاسة شي ء و لا بطهارة ما ثبت نجاسته إلّا باليقين أو بإخبار ذي اليد، أو بشهادة عدلين، و في الاكتفاء بعدل واحد إشكال فلا يترك مراعاة الاحتياط في الصورتين، و لا يثبت الحكم في المقامين بالظنّ و إن كان قويّاً: و لا بالشكّ أخلّا الخارج قبل الاستبراء كما عرفته سابقاً (1).

______________________________

(1) قد ذكر في المتن لثبوت النجاسة و كذا طهارة ما ثبت نجاسته عدّة طرق:

أحدها: اليقين الذي هو حجّة بلا ريب و حجّية جميع الحجج ترجع إليه و لا يرى فيها أقوى منه و قد تقرّر في محلّه انّ حجّيته لا تحتاج إلى الجعل أصلًا.

ثانيها: اخبار ذي اليد و الظاهر انّ الملاك فيه مجرّد كون صاحب اليد من دون فرق بين من كان عادلًا أو ثقة و بين من لم يكن كذلك.

و قد استدلّ على حجّية قوله و اخباره بعد ثبوت الاتفاق و عدم وجود المخالف فيها بالسيرة العقلائية بضميمة عدم الردع عنها من ناحية الشريعة و الظاهر انّ المنشأ انّ من استولى على شي ء فهو أدرى بما في يده و أعرف بكيفياته و أعلم بأحكامه.

و يمكن أن يستدلّ عليها أيضاً بما ورد في حجّية اليد في الملكية و أماريتها عليها من انّه لولا ذلك لما بقي للمسلمين سوق بتقريب انّ نفس عدم بقاء

السوق بعنوانه لا يكون علّة للمنع عن عدم ترتّب الأثر على اليد، بل العلّة في الحقيقة هي اختلال النظام، فكل ما يوجب اختلال النظام فهو محظور في الشريعة و منه عدم ترتيب الأثر على قول ذي اليد لأنّ من المعلوم ثبوت العلم التفصيلي لنا بنجاسة أشياء كثيرة من الذبائح و الفرش و الثياب و الأواني حتّى أيدي المسلمين في زمان و لا علم لنا بعد ذلك بطروّ مطهر عليها بوجه، فلولا اعتبار قول صاحب اليد و اخباره عن طهارتها لكان استصحاب النجاسة حاكماً بنجاستها جميعاً و هو ممّا يوجب الوقوع في العسر و الحرج و يلزم اختلال النظام كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 382

..........

______________________________

و استدلّ عليها بعض الأعلام مضافاً إلى ما ذكر بالأخبار الواردة في بيع الدهن المتنجّس الآمرة باعلام المشتري بنجاسته حتّى يستصبح به فإنّه يدل على اعتبار قول صاحب اليد لدلالته على وجوب الاستصباح على المشتري عقيب اخبار البائع بالنجاسة.

و فيه: أوّلًا انّ إخبار البائع بنجاسة الدهن يحصل منه عادة العلم للمشتري حيث إنّ إخباره بتنجّسه الملازم لفوات منفعته الغالبية موجب لتنزّل قيمته و نقصانها ضرورة انّ الدهن المتنجّس قيمته أقلّ من الدهن الطاهر بمراتب و العاقل لا يخبر بنقصان قيمة ماله مع عدم كونه كذلك في الواقع فأخبار البائع في تلك الروايات موجب لثبوت العلم للمشتري عادةً.

و ثانياً: انّه لا يستفاد من تلك الروايات وجوب ترتيب الأثر للمشتري على قول البائع و اخباره مطلقاً إذ من المحتمل وجوب الاخبار على البائع و وجوب ترتيب الأثر على المشتري على تقدير حصول العلم له من إخباره لا مطلقاً فتدبّر.

و بعبارة اخرىٰ: محطّ النظر في الروايات

وجوب الإعلام مطلقاً لا وجوب ترتيب الأثر كذلك، و يؤيّده انّه ربما يكون المشتري عالماً بالطهارة و بأنّ البائع قد خطأ في اعتقاد النجاسة و اخباره بها.

و بما ورد في رواية ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل أعار رجلًا ثوباً فصلّى فيه و هو لا يصلّي فيه؟ قال: لا يعلمه، قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: يعيد. «1» فإنّ ظاهر قوله: و هو لا يصلّي فيه انّه لا يصلّي فيه لنجاسته، و عليه فالرواية تدلّ على اعتبار خبر المعير بنجاسة الثوب المستعار بحيث لو أخبر بها يجب على المستعير أن يعيد صلاته.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السابع و الأربعون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 383

..........

______________________________

و فيه أوّلًا: انّها ضعيفة من حيث السند.

و ثانياً: انّها متضمّنة لما لم يقل به أحد ظاهراً و هو وجوب الإعادة على من صلّى في ثوب لم يعلم انّه نجس مع انّ ظهور قول السائل: و هو لا يصلّي فيه في انّه لا يصلّي فيه لنجاسته محلّ نظر إلّا أن يقال بشموله لباب النجاسة من طريق ترك الاستفصال في الجواب فتدبّر.

و كيف كان فالعمدة في حجّية خبر صاحب اليد ما ذكرنا من استمرار السيرة العقلائية على ترتيب الأثر عليه و عدم ثبوت الردع عنها في الشريعة.

ثالثها: شهادة عدلين المعبّر عنها بالبيّنة و لا بدّ من ملاحظة انّ البيّنة هل هي حجّة معتبرة في إثبات جميع الموضوعات الشرعية إلّا ما خرج بالدليل كالزنا فإنّه لا يكاد يثبت بالبيّنة بمعنى شهادة عدلين بل يعتبر في ثبوته شهادة أربعة عدول أو هي حجّة معتبرة مختصّة بباب القضاء؟

و ليعلم انّ البيّنة في الكتاب

و السنّة لم تستعمل إلّا بمعنى مطلق ما به البيان و ما يثبت به الشي ء كما هو معناها لغةً فإنّ البيّنة بمعنى شهادة عدلين اصطلاح جديد حدث بين الفقهاء رضوان اللّٰه تعالى عليهم.

و إليك بعض الآيات من الكتاب الكريم و الروايات من السنّة المستعملة فيهما لفظة «البيّنة»:

فمن الآيات قوله تعالى قُلْ إِنِّي عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي «1» و قوله عزّ من قائل فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنٰاتِ وَ الزُّبُرِ «2» و قوله عزّ و جلّ- لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «3» و مثلها من الآيات الكثيرة المستعملة فيها هذه اللفظة و لا يكون المراد منها إلّا ما به البيان و الدليل و الحجّة.

______________________________

(1) الأنعام: 75.

(2) النحل: 44.

(3) الأنفال: 42.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 384

..........

______________________________

و من الروايات قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الإيمان» «1». فإنّها فيه بمعنى الدليل و الحجّة.

إن قلت: لو كانت البيّنة في الرواية بمعنى مطلق الدليل و الحجّة فما وجه ذكر الايمان بعدها و لا يعلم له خصوصية موجبة لذلك؟

قلت: اليمين لا تكون من الأدلّة و الحجج الشرعية بل هي بعد عدم الدليل و الحجّة قاطعة للخصومة و رافعة للمرافعة.

و قوله (عليه السّلام) في حديث مسعدة بن صدقة الآتي إن شاء اللّٰه تعالى بعد الحكم بحلّية الأشياء المشكوك فيها: و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة فإنّ البيّنة فيها أيضاً لا تكون بمعنى شهادة عدلين لعدم انحصار الطريق بها في ثبوت حرمة الأشياء و كون المراد من الاستبانة العلم كما لا يخفى.

إن قلت: على

ما ذكرت لا يكون هناك دليل على حجّية البيّنة بمعنى شهادة العدلين في الموضوعات الخارجية المترتّبة عليها بعض الآثار الشرعية.

قلت: قد أفاد بعض الأعلام في مقام الاستدلال على ذلك ما مرجعه إلى انّ النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) لمّا طبّق البيّنة بهذا المعنى اللغوي على شهادة العدلين في باب القضاء يستكشف من ذلك اعتبار شهادتهما و انّها مصداق الدليل و البيّنة و هذا يقتضي اعتبارها في جميع الموارد إلّا فيما قام الدليل على عدم اعتبارها فيه و حيث لم يرد دليل يمنع عن اعتبارها في النجاسة كما منع عنه في الزنا لا يبقى شبهة في ثبوت النجاسة بشهادة عدلين.

و يمكن الإيراد عليه بأنّ غرض الشارع في باب القضاء إنّما تعلّق بفصل الخصومة و قطع المنازعة المنافية للاخوة الثابتة بين أفراد المؤمنين و عليه يجوز أن يكون الشي ء حجّة في باب القضاء من دون أن يكون كذلك في غير ذلك الباب

______________________________

(1) الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب الثاني ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 385

..........

______________________________

كاليمين فإنّه حجّة في باب القضاء فقط.

لا يقال: البيّنة في النبوي المتقدّم بمعنى ما به البيان و الدليل و الحجّة و لكنّه يستفاد من تطبيقها على شهادة العدلين انّها أيضاً حجّة و دليل معتبر مطلقاً.

لأنّه يقال: هذا التطبيق هل هو شرعي تعبّدي أو عرفي؟ فعلى الأوّل لا مجال للاسراء إلى غير باب القضاء لعدم وقوع التطبيق الشرعي في غيره و على الثاني يتوجّه السؤال عن انّه ما وجه التطبيق على شهادة العدلين فقط لعدم انحصار ما به البيان فيها عرفاً و ثبوت المصاديق الأُخر أيضاً من كتابة و نحوها، فيستكشف من ذلك انّ البيّنة

في النبوي بمعنى شهادة العدلين فقط و يشهد لذلك انحصار الحجّة بها في باب القضاء و قبح أن يقول الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات، بحيث كان المراد الاستعمالي مطلق ما به البيان و المراد الجدّي الذي يبتني عليه العمل خصوص شهادة العدلين. فالأولى أن يقال: إنّ المراد من البيّنة في النبوي خصوص شهادة العدلين و لا يمكن الاستدلال به على حجّيها في سائر الأبواب.

نعم يمكن أن يستدل على حجّية البيّنة المصطلحة مطلقاً بوجهين:

الأوّل: الإجماع.

و قد يناقش فيه أوّلًا بأنّه غير مسلم لمخالفة ابن البراج و إفتائه بأنّ النجاسة انّما تثبت بالعلم فقط.

و الجواب عنه انّ العلم في كلام ابن البرّاج هو ما يقابل الظنّ المطلق الذي اعتقد الحلبي (قدّس سرّه) ثبوت النجاسة به و فتوى ابن البراج تكون في مقابل فتوى الحلبي فمراده من ثبوت النجاسة بالعلم فقط نفي ثبوتها بمطلق الظنّ و لا يكون المراد انحصار طريق الثبوت بالعلم في مقابل الظنّ مطلقاً.

و ثانياً: إنّه من المحتمل بل الظاهر استناد المجمعين في إجماعهم إلى النبوي المذكور بضميمة إلغاء الخصوصية من باب القضاء أو إلى رواية مسعدة بن صدقة،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 386

..........

______________________________

فالإجماع لا يكون تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السّلام) و بعبارة اخرى ليس له أصالة أصلًا.

و الجواب عنه انّ مستند المجمعين ليس الروايتين المذكورتين لوضوح عدم تمامية إلغاء الخصوصية من النبوي الوارد في باب القضاء و مناقشة بعض المجمعين في رواية مسعدة فالإجماع سليم عن المناقشة.

الثاني: ما رواه الشيخ و الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه

(عليه السّلام) قال: سمعته يقول: كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك: و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي أُختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة «1». فإنّ الظاهر انّ المراد من البيّنة فيها هي شهادة العدلين.

و قد استشكل على الاستدلال بالرواية بوجهين:

أحدهما: إنّها ضعيفة من حيث السند لوجود «مسعدة» فيه و قد ضعفه العلّامة و المجلسي (قدّس سرّهما).

و يدفعه انّه قد ورد هنا تعبيرات يستفاد منها وثاقته؛ منها تعبير الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) عن هذه الرواية بالموثقة في رسالة البراءة و الاشتغال و هو يدلّ على اعتبارها عنده.

و منها: ما عن الأستاذ الوحيد البهبهاني (قدّس سرّه) من انّ روايات مسعدة متينة غير مضطربة توجد مضامينها في الروايات المعتبرة.

و العمدة في تصحيح رواية مسعدة هو وقوعه في سند بعض روايات «كامل الزيارات» الذي التزم مؤلِّفه و هو محمد بن قولويه أستاذ الشيخ المفيد (قدّس سرّه)-

______________________________

(1) الوسائل أبواب ما يكتسب به الباب الرابع ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 387

..........

______________________________

في ديباجته بأنّه لا ينقل فيه إلّا عن ثقات الأصحاب. و من المعلوم انّه توثيق إجمالي لجميع رواة روايات الكتاب، و من العجيب بعد ذلك انّ بعض الأعلام مع تصريحه بأنّ وقوع الراوي في سند بعض روايات الكتاب المذكور يكفي في وثاقته و جواز الاعتماد على خبره قد ضعف رواية مسعدة في المقام مع وقوعه في سند بعض تلك الروايات، فالمناقشة

من حيث السند مدفوعة جدّاً.

ثانيهما: انّ البيّنة في هذه الرواية لم يرد منها معناها المصطلح عليه بل أُريد بهذا المعنى اللغوي و هو الدليل و ما به البيان، و يدلّ عليه مضافاً إلى انّه معناه لغةً انّ المثبت في الموضوعات الخارجية غير منحصر بالعلم و البيّنة المصطلح عليها لأنّها كما تثبت بهما كذلك تثبت بالاستصحاب و الإقرار. و قد استشكل بهذا الوجه أيضاً بعض الأعلام على ما في تقريرات بحثه.

و الجواب عنه انّ المراد من البيّنة في الرواية لو كان هو مطلق الدليل و الحجّة لم يكن وجه لذكر الاستبانة التي قد أُريد منها العلم قبل ذكر مطلق الدليل و الحجّة لشمول المطلق له أيضاً فيكون من ذكر العام بعد الخاص و لا يعلم له وجه أصلًا.

نعم ذكر الخاص بعد العام ربّما يتداول إشعاراً بعناية خاصّة بالإضافة إلى الخاص، و أمّا العكس كما في المقام فلا وجه له أصلًا إلّا الترقي و إفادة عدم الانحصار و هو خلاف ظاهر العبارة.

و إن كان المراد منها هو الدليل غير القطعي و الحجّة غير القاطعة بشهادة وقوعها في مقابل الاستبانة فما المانع من أن تكون البيّنة المصطلحة من مصاديقها بل هي مصداق واضح لها.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، در يك جلد، مؤلف، قم - ايران، اول، 1409 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها؛ ص: 387

فالأولى أن يقال: إنّ البيّنة في الرواية بمعنى شهادة العدلين كما كان كذلك في النبوي المتقدّم، و على ما ذكرنا يتحقّق الاختلاف بين الكتاب و السنّة من جهة استعمالها فيه في المعنى اللغوي مطلقاً و استعمالها فيها في المعنى

الاصطلاحي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 388

..........

______________________________

كما في الروايتين.

و أمّا ما استدلّ به لإثبات مرامه من عدم انحصار المثبت في الموضوعات الخارجية بالعلم و البيّنة المصطلح عليها و ثبوتها بالاستصحاب و الإقرار و نحوهما ففيه انّا لا نضائق من ذلك لكن رواية مسعدة لا تكون في مقام حصر الحجّة في البيّنة و العلم و لا منافاة بينها و بين ما يدلّ على الثبوت بالاستصحاب و الإقرار و على تقدير كونها ظاهرة في ذلك نرفع اليد عن هذا الظهور بمقتضى أدلّة المثبتات الأُخر.

نعم يبقى شي ء و هو انّ الرواية واردة في مورد الحلّية و الحرمة و الكلام في باب الطهارة و النجاسة و الجواب وضوح عدم الفرق بين الحكمين من هذه الجهة. فانقدح انّ رواية مسعدة تدلّ على حجّية شهادة العدلين في جميع الموضوعات الخارجية المترتّبة عليها بعض الآثار الشرعية، و تؤيّدها ما ورد في الجبن من انّه حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك انّ فيه الميتة «1» و هذه الرواية و إن كانت ضعيفة سنداً إلّا انّ صلوحها للتأييد غير قابل للمناقشة.

رابعها: خبر العدل الواحد و قد استشكل في المتن في الاكتفاء به في مقام ثبوت النجاسة و كذا طهارة ما ثبتت نجاسته و نهى عن ترك الاحتياط في الصورتين و لكنّه لا يخفى انّ لنا في الشريعة موضوعات تثبت بخبر العدل الواحد بلا إشكال كاخبار المؤذِّن بدخول الوقت بسبب أذانه إذا كان عادلًا بل و كذلك إذا كان موثّقاً، و كأخبار عدل واحد بعزل الموكّل للوكيل، و كما لو أخبر البائع بوزن المبيع مطلقاً أي و لو لم يكن عادلًا فهو حجّة معتبرة في هذه الموارد بلا

إشكال كما انّه لا إشكال في عدم اعتباره في الدعاوي و الترافع و في مثل الزنا. إنّما الإشكال في سائر الموارد كالقبلة و النجاسة و نحوهما و انّه هل يكون خبر العدل الواحد حجّة فيها كما تكون حجّة في باب الأحكام و الروايات أم لا

______________________________

(1) الوسائل كتاب الأطعمة و الأشربة أبواب الأطعمة المباحة الباب الواحد و الستون.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 389

..........

______________________________

يكون كذلك؟ و قد ذهب المشهور إلى عدم حجّيته في الموضوعات و الفرق بينها و بين الأحكام و الروايات.

و لكنّه قد استدلّ على الحجّية في الموضوعات أيضاً بوجوه ثلاثة:

الأوّل: إلغاء الخصوصية من الموارد التي يكون فيها حجّة بلا كلام و إثبات حجّيته في جميع الموارد إلّا ما خرج بالدليل.

و فيه أوّلًا: انّه لا يصحّ إلغاء الخصوصية من تلك الموارد فإنّ مورد إلغاء الخصوصية ما لا يكاد ينسبق إلى الذهن و لا يحتمل فيه اعتبار الخصوصية و مدخليتها مثل قوله: رجل شكّ بين الثلاث و الأربع حيث لا يخطر بالبال مدخلية الرجولية في الحكم المترتّب على الشكّ بين الثلاث و الأربع بل الموضوع فيه انّما هو نفس الشكّ بينهما، و في المقام لا مجال لهذا الكلام فإنّ الدليل الدال على اعتبار خبر المؤذِّن و أذانه أو اعتبار أخبار العدل بعزل الوكيل لا يفهم منه عرفاً انّ الموضوع للاعتبار انّما هو نفس اخبار العدل و لا تكون خصوصية الأذان و مثله دخيلة في الحكم أصلًا.

و ثانياً: إلغاء الخصوصية من الموارد التي يكون خبر الواحد فيها حجّة و الحكم بثبوتها في جميع الموارد إلّا ما خرج بالدليل ليس بأولى من إلغاء الخصوصية من الموارد التي لا يكون خبر الواحد

فيها حجّة و الحكم بعدم ثبوتها في جميع الموارد إلّا ما خرج بالدليل كما هو واضح.

الوجه الثاني: عموم مفهوم آية النبإ و شموله لخبر العادل في الموضوعات خصوصاً مع ملاحظة نزولها في مورد الأخبار بالموضوع و هو ارتداد بني المصطلق على ما هو المذكور في التفاسير.

و فيه: إنّ هذا الوجه إنّما يتمّ على تقدير تمامية الاستدلال بالآية المذكورة لحجّية خبر الواحد في باب الأحكام و قد حقّقنا في مبحث حجّية خبر الواحد من علم الأُصول عدم التمامية فراجع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 390

..........

______________________________

الوجه الثالث: و هو العمدة استمرار السيرة العقلائية و جريانها على الأخذ بأخبار الموثّقين و الاعتماد عليها فيما يرجع إلى معاشهم و معادهم و قد أمضاها الشارع بعدم الردع عنها مع كونها بمرأى منه و مسمع، و من الظاهر عدم اختصاص هذه السيرة بباب دون باب و إن حال الموضوعات الخارجية و الأحكام عندهم سواء فلا مناص من الإيكال عليها و الحكم بحجّية خبر الواحد في الموضوعات أيضاً.

و الجواب: إنّ رواية مسعدة بن صدقة المتقدّمة الدالّة على اعتبار البيّنة رادعة عن هذه السيرة قطعاً لا لأجل كونها في مقام حصر الحجّة في شهادة العين بعد الاستبانة و العلم حتّى ينتقض بالاستصحاب و الإقرار و حكم الحاكم. و قد عرفت عدم كونها في هذا المقام أصلًا، بل لأجل انّه لو كان خبر العدل الواحد حجّة في الموضوعات يصير اعتبار البيّنة و الحكم بحجّيتها لغواً فإنّ البيّنة على ما مرّ لا تكون في الرواية إلّا بمعنى شهادة العدلين فإذا كان خبر العدل الواحد حجّة يصير ضمّ الآخر إليه لغواً كالحجر في جنب الإنسان ضرورة انّ الاختلاف بينهما إنّما

هو في الوحدة و التعدّد فإذا كانت الوحدة كافية فلا مجال لجعل المتعدّد موضوعاً و ليس الفرق بينهما كالفرق بين البيّنة و بين الاستصحاب مثلًا فإنّهما متخالفان و جعل أحدهما موضوعاً للحجّية لا ينفي كون الآخر أيضاً كذلك و هذا بخلاف المقام، كما انّه لو قيل بتعميم الحكم لخبر الواحد الثقة و لو لم يكن عادلًا تلزم اللغوية من جهتين فإنّ اعتبار العدالة على ما هو معنى البيّنة في الرواية لا يجتمع مع كفاية الوثاقة كما انّ اعتبار التعدّد لا يجتمع مع كفاية الوحدة فالإنصاف انّ رواية مسعدة الدالّة على اعتبار خبر العدلين في ثبوت الموضوعات تدلّ على عدم الاكتفاء بالواحد مقام المتعدّد و بالوثاقة مقام العدالة فهي صالحة للرادعية عن السيرة المذكورة فلم يثبت حجّية خبر العادل الواحد فضلًا عن الثقة، لأجله استشكل في الاكتفاء به في المتن كما عرفت.

بقي الكلام في هذه المسألة فيما أفاده في المتن من عدم ثبوت النجاسة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 391

..........

______________________________

و كذا الطهارة ما ثبتت نجاسته بالظنّ و إن كان قويّاً و كذا بالشكّ إلّا في مورد الاستبراء.

أقول: امّا عدم الثبوت بالشكّ فواضح ضرورة انّه القدر المسلّم من مورد جريان أصالة الطهارة الجارية في المقام الأوّل و استصحاب النجاسة الجاري في المقام الثاني فلا مجال للاكتفاء به في ثبوت النجاسة أو الطهارة. نعم قد مرّ البحث في مورد الاستبراء فراجع.

و أمّا عدم الثبوت بالظنّ فالظاهر أنّه لا بدّ من التفصيل بين الظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان الذي يعبّر عنه بالعلم العادي العقلائي و يكون احتمال خلافه موهوماً عند العقلاء في الغاية بحيث لا يكون مورداً لاعتنائهم بوجه و لذا يعبّر

عنه بالاطمئنان الذي معناه خلوّ الذهن عن الاضطراب الناشئ من الترديد و حصول الطمأنينة و السكون له و بين غيره من الظنون بالقول بحجّية القسم الأوّل فإنّه حجّة عقلائية، و النكتة فيه انّ «العلم» في مثل قوله (عليه السّلام): كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم انّه قذر، لا بدّ و أن يؤخذ من العرف كسائر العناوين و الموضوعات المأخوذة في لسان الأدلّة، و الاطمئنان الذي يكون احتمال خلافه موهوماً عند العقلاء بحيث لا يعتنون به يكون علماً عندهم و إن لم يكن بعلم عندهم، فما ظنّ نجاسته بالظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان نجس بمقتضى قوله (عليه السّلام): فإذا علمت فقد قذر لأنّه من المعلوم نجاسته عرفاً.

و لا فرق فيما ذكرنا من عدم جريان الأصل مع حصول الظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان و جريانه فيما إذا لم يبلغ و إن كان الظنّ قوياً بين الأُصول العملية و إن كانت أدلّتها مختلفة حيث إنّه في بعضها قد أخذ الشكّ في الموضوع كدليل الاستصحاب و في بعضها قد جعل العلم غايته كقوله (عليه السّلام): كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم انّه قذر، و ذلك أي وجه عدم الفرق انّ الشكّ في اللغة بمعنى خلاف اليقين فيشمل الظنّ و الشكّ المصطلح و الوهم.

نعم قد عرفت انّ الظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان داخل عرفاً في العلم و اليقين، و على تقدير عدم كونه كذلك

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 392

[مسألة 4 العلم الإجمالي كالتفصيلي]

مسألة 4 العلم الإجمالي كالتفصيلي فإذا علم بنجاسة أحد الشيئين يجب الاجتناب عنهما إلّا إذا لم يكن أحدهما قبل حصول العلم محلّاً لابتلائه فلا يجب الاجتناب عمّا هو محلّ ابتلائه، و في المسألة إشكال و

إن كان الأرجح بالنظر ذلك، و في حكم العلم الإجمالي الشهادة بالإجمال إذا وقعت على موضوع واحد، و أمّا إذا لم ترد شهادتهما عليه ففيه إشكال فلا يترك الاحتياط فيه و فيما إذا كانت شهادتهما بنحو الإجمال حتّى لديهما (1).

______________________________

لغة يكون مقتضى المقابلة بينه و بين اليقين في أدلّة الاستصحاب هو الحمل على كون المراد به خلاف اليقين.

فانقدح ممّا ذكرنا وجه جريان الأُصول العملية في مورد الظنّ بخلافها و عدم جريانها إذا كان الظنّ علماً عرفاً فتدبّر جيّداً.

(1) أقول: امّا كون العلم الإجمالي الذي يكون المراد به هي الشبهة المحصورة كما يظهر من التفريع كالتفصيلي فلأجل كونه أيضاً منجّزاً عند العقلاء لأنّ التنجيز ليس إلّا مجرّد صحّة احتجاج المولى على العبد و جواز عقوبته على مخالفة التكليف الواقعي كما يظهر بالمراجعة إلى العقلاء الذين هم المرجع في مثل المقام ممّا يرجع إلى الإطاعة و العصيان و ما يترتّب عليهما من استحقاق الجنان و النيران و غيره من الآثار، و من الواضح انّه لا فرق عندهم في تنجّز التكليف المعلوم بين ما إذا كان تعلّق العلم به على سبيل التفصيل أو كان تعلّقه به على نحو الإجمال بأن كان المعلوم مردّداً بين أمرين أو أزيد، فكما انّه يكون العبد عاصياً مستحقّاً للعقوبة فيما لو ارتكب الخمر المعلوم تفصيلًا كذلك يكون مستحقّاً لها فيما لو شرب جميع الأواني التي يكون في أحدها الخمر إجمالًا أو الآنية المشتملة عليها كما لا يخفىٰ.

و امّا استثناء صورة ما إذا لم يكن أحدهما قبل حصول العلم محلّاً لابتلائه فهو يبتني على ما هو المشهور بين من تأخّر عن الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات

و أحكامها، ص: 393

..........

______________________________

انّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كون جميع الأطراف محلّاً للابتلاء حال حدوث العلم و حصوله، و الأصل في هذا الشرط مع انّ القدرة العقلية متحقّقة حكم العرف و العقلاء باستهجان توجّه التكليف بالاجتناب عمّا لا يكون محلّ ابتلائه بأن يقال له: اجتنب عن الخمر الموجودة في الناحية البعيدة من الأرض التي لا تكون محل ابتلاء المكلّف بوجه، أو يقال له: اجتنب عن الخمر الموجودة في القمر مثلًا فمن ذلك يستكشف انّ من شرائط حسن توجّه التكليف و عدم استهجانه أن يكون المكلّف به مورداً لابتلاء المكلّف بحيث لو لم يكن هناك تكليف كان من الممكن تحقّقه منه و ارتكابه له و عليه فلو كان أحد أطراف العلم الإجمالي خارجاً عن الابتلاء قبل حصول العلم و حدوثه لا يتحقّق للمكلّف العلم بالتكليف على كل تقدير لأنّ ثبوته انّما هو على تقدير كون متعلّقه غير الطرف الخارج عن محل الابتلاء و هو غير معلوم، فيصحّ أن يقال: إنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كون جميع أطرافه مورداً للابتلاء.

هذا و لكن الذي حقّقه الماتن دام ظلّه في مباحثه الأُصولية انّ العلم الإجمالي منجّز على أي نحو كان و لو كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء بالإضافة إلى بعض المكلّفين لعدم توجّه الخطاب الشرعي إلى خصوص ذلك المكلّف حتّى تلزم البشاعة و الاستهجان فإنّ الخطابات الشرعية بأجمعها متوجّهة إلى عموم المكلّفين و لا ينحل كلّ واحد منها إلى خطابات متعدّدة حسب تعدّد المكلّفين فانّ الخطاب واحد و المخاطب متعدّد و لا يوجب تعدّد المخاطب تعدّد الخطاب أصلًا، و في هذا النحو من الخطاب لا مجال لملاحظة أحوال آحاد المكلّفين من حيث ثبوت الابتلاء

و عدمه لعدم تحقّق الاستهجان مع عدم الابتلاء بإضافة إلى بعض المكلّفين كما هو ظاهر، و عليه فلا مجال لهذا الاشتراط في باب تنجيز العلم الإجمالي و قد مرّ الكلام في ذلك في بعض المباحث السابقة، و لكنّه يظهر من المتن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 394

..........

______________________________

هنا الميل إلى ما هو المشهور بين الشيخ الأنصاري و من تأخّر عنه من مدخلية الابتلاء بجميع الأطراف في المنجزية و لعل منشأه إنّ الأرجح بالنظر استلزام تعدّد المخاطب لتعدّد الخطاب و انحلال الخطابات الشرعية العامّة إلى الخطابات المتعدّدة حسب تعدّد المكلّفين و التحقيق في محلّه. هذا كلّه فيما يتعلّق بالعلم الإجمالي.

و أمّا الشهادة بالإجمال فتارة يكون المراد بها هو قيام البيّنة على نجاسة أحدهما المعيّن و لكنّه تردّد المكلّف بعده بين أن يكون ما قامت البيّنة على نجاسته هل هو هذا الثوب مثلًا أو ذلك الثوب فالإجمال إنّما نشأ من المكلّف من دون أن يكون في أصل الشهادة إجمال، و أُخرى يكون المراد بها هو قيام البيّنة على نجاسة أحد الثوبين بنحو الإجمال بأن لم يكن الثوب النجس معلوماً للشاهدين إلّا بنحو الإجمال و لم يشهدا إلّا بمثل ذلك.

امّا إذا كان المراد بها المعنى الأوّل فقد فصل فيه في المتن بين ما إذا وقعت الشهادة على موضوع واحد فهي حجّة معتبرة و بين ما إذا لم ترد عليه فاستشكل فيه و الظاهر انّ مراده من الموضوع الواحد هي الوحدة النوعية في النجاسة التي يشهدان بها بأن كان مورد الشهادة هي النجاسة الحاصلة من الدم مثلًا أو من البول كذلك و لم يفترقا من هذه الجهة بأن شهد أحدهما بنجاسة الثوب من

جهة ملاقاته للدم و الأُخرى بنجاسته من ناحية ملاقاة البول، و الوجه في حجّية الشهادة الإجمالية في هذه الصورة إطلاق دليل حجّية البيّنة و شمولها للشهادة الإجمالية بهذه الكيفية فإنّ قيام البيّنة على نجاسة الثوب المعيّن لا يخرج عن وصف الحجّية بمجرّد تردّد المكلّف و زوال وصف التعين بنظره، هذا مع وحدة الموضوع، و أمّا مع تعدّده و عدم ورود الشهادة على الموضوع الواحد بالمعنى المذكور فالوجه في الاستشكال فيه انّ المستفاد من دليل حجّية البيّنة اعتبارها فيما إذا شهدا بشي ء واحد و الدم و البول أمران متعدّدان و إن كانا مشتركين في أصل النجاسة إلّا أنّهما نوعان منهما و لهما آثار مختلفة من تعدّد الغسل و عدمه بل الظاهر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 395

[مسألة 5 لو شهد الشاهدان بالنجاسة السابقة و شكّ في زوالها يجب الاجتناب]

مسألة 5 لو شهد الشاهدان بالنجاسة السابقة و شكّ في زوالها يجب الاجتناب (1).

______________________________

انّه مع عدم اختلاف الآثار أيضاً يشكل الحكم بالحجّية بعد اختلاف الشاهدين في النوع و إن كانا متوافقين في الجنس فتدبّر.

و أمّا إذا كان المراد بها المعنى الثاني الذي يرجع إلى ثبوت الإجمال عند الشاهدين أيضاً فالظاهر انّ مقتضى إطلاق دليل حجّية البيّنة الشمول للشهادة الإجمالية بهذا المعنى أيضاً فإنّ قيام البيّنة على نجاسة أحد الإناءين كالعلم بنجاسة أحدهما، فكما انّه يجب الاجتناب عن كليهما مع العلم الإجمالي بالنجاسة كذلك يجب مع قيام البيّنة على النجاسة بنحو الإجمال.

ثمّ إنّ الحكم بالنهي عن ترك الاحتياط في القسمين الأخيرين و بجريان حكم العلم الإجمالي في الشهادة الإجمالية في القسم الأوّل مع انّ حكم العلم الإجمالي ليس إلّا الاحتياط اللزومي ممّا لا يستقيم فإنّ الاحتياط في جميع الأقسام على هذا احتياط لزومي

عقلي فلا اختلاف بينها من هذه الجهة مع انّ المستفاد من العبارة وجود الاختلاف كما انّ التعبير عن وحدة النوع بالموضوع الواحد أيضاً لا يخلو عن مناقشة فإنّ الظاهر من عنوان «الموضوع الواحد» كون الشي ء الذي تقع الشهادة عليه واحداً بأن شهدا بنجاسة هذا الثوب مثلًا مع انّ المراد منه هو وحدة النوع كما عرفت، إلّا أن يكون مراد العبارة شيئاً آخر غير ظاهر لنا فتدبّر جيّداً. كما انّ التعبير عن القسم الأوّل و الثاني بالشهادة بالإجمال مع انّ الظاهر من هذه العبارة هو القسم الأخير أيضاً غير مستقيم.

(1) الوجه في وجوب الاجتناب هو جريان استصحاب النجاسة الثابتة بقيام البيّنة عليها و قد حقّق في باب الاستصحاب انّ جريانه لا يختصّ بما إذا كانت الحالة السابقة معلومة بالعلم الوجداني بل يجري فيما لو كانت الحجّة قائمة عليها و المراد من اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب المحكوم بحرمة نقضه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 396

[مسألة 6 المراد بذي اليد كل من كان مستولياً عليه]

مسألة 6 المراد بذي اليد كل من كان مستولياً عليه سواء كان لملك أو إجارة أو إعارة أو أمانة، بل أو غصب فإذا أخبرت الزوجة أو الخادمة أو المملوكة بنجاسة ما في يدها من ثياب الزوج أو المولى أو ظروف البيت كفى في الحكم بالنجاسة، بل و كذا إذا أخبرت المربية للطفل بنجاسة ثيابه، نعم يستثني من الكلّية المتقدّمة قول المولى بالنسبة إلى عبده فان في اعتبار قوله بالنسبة إلى نجاسة بدن عبده أو جاريته و لباسهما الذي تحت يديهما إشكالًا، بل عدم اعتباره لا يخلو من قوّة خصوصاً إذا أخبر بالطهارة فإنّ الأقوى اعتبار قولهما لا قوله (1).

______________________________

بالشكّ هي الحجّة القائمة الدالّة على

ثبوت الحكم أو الموضوع، كما انّ المراد من بالشكّ هو عدم قيام الحجّة على نقض الحجّة السابقة فكما انّ قيام البيّنة على طهارة ما كان في السابقة نجساً يمنع عن جريان استصحاب النجاسة كذلك قيام البيّنة على النجاسة السابق موجب لجريان استصحابها كما لا يخفى.

(1) امّا اعتبار أخبار ذي اليد في الموارد المحكومة بالاعتبار في المتن فلأجل ما عرفت من انّ عمدة الدليل على حجّية قول ذي اليد هي السيرة العقلائية على ترتيب الأثر على قوله و الأخذ بخبره و لم يردع عنها في الشريعة و النكتة فيه كونه أعرف بحال ما في يده و خصوصياته، و من الظاهر عدم الفرق في ذلك بين أنحاء الاستيلاء و أنواع الثبوت في اليد حتّى لو أحرز كون الاستيلاء انّما هو على سبيل الغصب لا يقدح ذلك في اعتبار قول الغاصب من جهة ثبوت النجاسة و الطهارة أصلًا، فالملاك هو الاستيلاء الكاشف عن الأعرفية و لأجله يكون أخبار الزوجة و الخادمة و المملوكة بالنسبة إلى ثياب الزوج و المولى و ظروف البيت و كذا اخبار المربية للطفل معتبراً لجريان السيرة في جميعها.

و أمّا استثناء قول المولى بالنسبة إلى نجاسة بدن العبد أو الجارية أو لباسهما الذي تحت يديهما فلأجل انّ المولى لا يكون متصدّياً لطهارة بدن المملوك

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 397

..........

______________________________

و لباسه لكونه مستقلا في الوجود و الإرادة و متصدّياً بنفسه لطهارة نفسه و ما في يده و نجاستهما و إن كان مملوكاً لا يقدر على شي ء.

و بالجملة لم تثبت سيرة من العقلاء على اعتبار قول السيّد في عبده و متعلّقاته التي كانت باختياره و إرادته. نعم لو أخبر

المملوك بنجاسة ثوبه أو غيره ممّا في يده و تحت سلطانه و استيلائه يكون قوله معتبراً، كما انّك عرفت اعتبار قول المملوكة بالإضافة إلى ثياب المولى أيضاً. نعم لو أقرّ المولى بكون العبد أو ثوبه لزيد مثلًا فمقتضى جواز إقرار العقلاء على أنفسهم نفوذ هذا الإقرار و ثبوت العبد أو ثوبه لزيد المقرّ له به، و لكن الإقرار غير الأخبار بالنجاسة و الملاك فيهما مختلف و إن كان يظهر من بعض الأعلام تبعاً للمحقّق الهمداني (قدّس سرّه) فيما لو أخبر ذو اليد بنجاسة ما كان في يده بعد خروجه عن يده المناقشة في ترتيب الأثر عليه حينئذٍ نظراً إلى عدم إحراز سيرة العقلاء على قبول قوله في أمثال المقام و احتمال أن تكون السيرة هي مدرك القاعدة المعروفة: «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» حيث إنّه يكشف عن انّ اعتبار قول ذي اليد يدور مدار ملكه و استيلائه و مع انتفائهما لا ينفذ قوله و لا يعتمد عليه قال: «و قد يدعى قيام السيرة على قبول خبره في المقام و بالأخص فيما إذا كان إخباره قريباً من زمان استيلائه كما إذا باع ثوباً من أحد و بعد تسليمه إليه أخبر عن نجاسته، و لا يمكن المساعدة على هذا المعنى لأنّ سيرة العقلاء و إن جرت على قبول اخبار البائع عن نجاسة المبيع إلّا انّ المستكشف بذلك ليس هو اعتبار قول ذي اليد بعد انقطاع سلطنته و يده و انّما المستكشف هو اعتبار خبر الموثق في الموضوعات الخارجية كما هو معتبر في الأحكام، و الذي يدلّنا على ذلك انّ البائع في مفروض المثال لا يعتمد على إخباره عن نجاسة المبيع فيما إذا لم تثبت وثاقته عند

المشتري لاحتمال انّ البائع يريد أن يصل بذلك إلى غرضه و هو فسخ المعاملة حيث يبدي للمشتري نجاسته حتّى يرغب عن تملّكه و إبقائه، و مع هذا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 398

[مسألة 7 لو كان شي ء بيد شخصين كالشريكين يسمع قول كلّ منهما في نجاسته]

مسألة 7 لو كان شي ء بيد شخصين كالشريكين يسمع قول كلّ منهما في نجاسته، و لو أخبر أحدهما بنجاسته و الآخر بطهارته تساقطا، كما انّ البيّنة تسقط عند التعارض، و تقدّم على قول ذي اليد عند التعارض، هذا كلّه لو لم يكن أخبار أحد الشريكين أو إحدى البيّنتين مستنداً إلى الأصل و الآخر إلى الوجدان، و إلّا فيقدّم ما هو مستند إلى الوجدان، فلو أخبر أحد الشريكين بالطهارة أو النجاسة مستنداً إلى أصل و الآخر أخبر بخلافه مستنداً إلى الوجدان يقدّم الثاني، و كذا الحال في البيّنة، و كذا لا تقدّم البيّنة المستندة إلى الأصل على قول ذي اليد (1).

______________________________

الاحتمال لا يعتمد على إخباره عند العقلاء».

و أنت خبير بعدم ارتباط قاعدة «من ملك» بالمقام أصلًا و ذلك لما عرفت من اعتبار إقرار المولى و نفوذه بالإضافة إلى متعلّقات مملوكه و عدم اعتبار إخباره بنجاستها، كما انّ إقرار المملوكة لا تنفذ بالنسبة إلى ثياب المولى و لكن إخبارها بنجاستها معتبر بلا إشكال فالإقرار لا يرتبط بالاخبار في المقام بوجه فلا مجال لاحتمال كون السيرة هنا هي مدرك القاعدة المعروفة، و أمّا السيرة القائمة على اعتبار قول البائع و اخباره بنجاسة المبيع بعد تحقّق البيع فالظاهر انّها هي السيرة المتحقّقة في المقام التي يكون موضوعها اخبار ذي اليد أعمّ ممّا إذا كان موثقاً لا السيرة القائمة على اعتبار خبر الموثق في الموضوعات الخارجية و الوجه في ذلك

مضافاً إلى ما عرفت من عدم اعتبار تلك السيرة و عدم حجّية قول الواحد في الموضوعات و إن كان عادلًا فضلًا عمّا إذا كان موثقاً وضوح وجود الفرق بين البائع و غيره في الاخبار بنجاسة المبيع و لو كان المدرك ما أفاده لم يكن فرق بينهما أصلًا.

(1) في هذه المسألة فروع:

1 لو كان شي ء بيد شخصين أو أزيد كالشريكين أو الشركاء فهل يسمع قول كلّ واحد منهما أو منهم في نجاسته أم لا؟ الظاهر نعم لاتّصاف الجميع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 399

..........

______________________________

بكونه صاحب اليد و اتّصاف الشي ء بكونه تحت استيلاء الجميع و إن شئت قلت: ثبوت السيرة العقلائية القائمة على ترتيب الأثر على قول ذي اليد في هذه الصورة أيضاً كما يظهر بمراجعة العقلاء في ذلك.

2 لو اختلف الشريكان في الاخبار بالنجاسة فأخبر أحدهما بثبوتها و الآخر بالطهارة فتارة يكون مستند كليهما الأصل و الأُخرى الوجدان و ثالثة يكون الاختلاف في المستند أيضاً ففي الأوّلين يتساقطان لعدم إمكان اتّصاف كلّ منهما بالحجّية بعد ثبوت التضادّ أو التناقض بين مدلولهما و لا مرجح لأحدهما على الآخر فلا مناص من التساقط و في الأخير يكون الترجيح مع ما يكون مستنداً إلى الوجدان لأنّ الوجدان لا يكاد يزاحمه الأصل في الحقيقة لا تعارض في البين لأنّ المخبر الذي يكون مستنده الأصل معترف بكونه شاكّاً. غاية الأمر انّ الحكم الظاهري الثابت في مورد الشكّ كقاعدة الطهارة أوجب الحكم بالطهارة مثلًا، و أمّا المخبر الذي يكون مستنده الوجدان يدعى العلم بكون الواقع مطابقاً لما أخبر به و من الواضح عدم ثبوت المنافاة بين الشكّ من أحد و بين العلم من آخر فتدبّر.

3

لو وقع التعارض بين البيّنتين فقامت واحدة منهما على النجاسة و الأُخرى على الطهارة فتارة يكون مستند كليهما الأصل، و أُخرى الوجدان و ثالثة يكون الاختلاف في المستند أيضاً و الحكم فيه ما ذكر في الفرع الثاني من التساقط في الفرضين و تقدّم ما يكون مستنداً إلى الوجدان في الفرض الأخير.

4 لو وقع التعارض بين البيّنة و بين قول ذي اليد فقد حكم في المتن أولًا بتقدّم البيّنة عليه و استثنى من ذلك في الذيل ما لو كانت البيّنة مستندة إلى الأصل و ظاهره عدم ثبوت التعارض و التساقط حينئذٍ بل يقدّم قول ذي اليد على البيّنة بعكس ما أُفيد أولًا.

أقول: امّا وجه تقدّم البيّنة بنحو الإجمال على قول ذي اليد انّ مستند

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 400

[مسألة 8 لا فرق في ذي اليد بين كونه عادلًا أو فاسقاً]

مسألة 8 لا فرق في ذي اليد بين كونه عادلًا أو فاسقاً، و في اعتبار قول الكافر إشكال و إن كان الأقوى اعتباره، و لا يبعد اعتبار قول الصبي إذا كان مراهقاً، بل يراعى الاحتياط في المميّز غير المراهق أيضاً (1).

______________________________

حجّية قول ذي اليد على ما عرفت هو بناء العقلاء و استمرار سيرتهم على ذلك و من الظاهر انّه لا يكون بناء منهم على ترتيب الأثر على قوله فيما إذا قامت أمارة شرعية على خلافه كما انّ الأمر يكون كذلك في اليد التي هي أمارة على الملكية حيث إنّها أمارة فيما لم تقم بيّنة على خلافها فاليد في المقام حجّة بمقتضى السيرة فيما لا يكون هناك حجّة غيرها من بيّنة و نحوها من الأمارات.

و أمّا الاستثناء الواقع في الذيل فالوجه فيه ما عرفت من انّ البيّنة المستندة إلى الأصل

لا تكاد تعارض قول ذي اليد أصلًا لعدم المنافاة بين جهل الشاهدين بالحكم الواقعي و بين ادّعاء العلم به من ذي اليد فاللازم الأخذ بقوله و ترتيب الأثر عليه.

نعم لو كان قول ذي اليد أيضاً مستنداً إلى الأصل و جوّزنا الاخبار له في هذه الصورة و قلنا بجريان السيرة أيضاً على العمل به فيها لكان اللازم الالتزام بوقوع المعارضة و تحقّق التساقط فتدبّر. و كان اللازم التعرّض لهذه الصورة خصوصاً بعد التصريح بإمكان أن يكون قول ذي اليد مستنداً إلى الأصل كما قد فرض في تعارض خبري الشريكين، إلّا أن يقال: إنّ الذيل مشتمل على التعرّض لكلا الفرضين نظراً إلى انّ المذكور فيه هو نفي التقدّم للبيّنة فيما لو كانت مستندة إلى الأصل و هذا يجتمع مع تقدّم قول ذي اليد في أحد الفرضين و وقوع التساقط في الفرض الآخر فتدبّر جيّداً.

(1) لأنّ ملاك اعتبار قول صاحب اليد عند العقلاء ظاهراً كونه أعرف بحال ما في يده و كيفياته و لا فرق فيه عندهم بين كونه عادلًا أو فاسقاً بل و لا بين كونه مسلًا أو كافراً فلو أخبر كافر بأنّ هذا الشي ء قد لاقى البول كان إخباره معتبراً عند العقلاء مع كونه تحت يده. نعم مع الشكّ في ثبوت السيرة بالإضافة إلى الكافر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 401

[مسألة 9 المتنجّس منجس مع قلّة الواسطة كالاثنين و الثلاثة و فيما زادت على الأحوط]

مسألة 9 المتنجّس منجس مع قلّة الواسطة كالاثنين و الثلاثة و فيما زادت على الأحوط، و إن كان الأقرب مع كثرتها عدم التنجيس، و الأحوط إجراء أحكام النجس على ما تنجّس به فيغسل الملاقي لملاقي البول مرّتين، و يعمل مع الإناء الملاقي للإناء الذي ولغ فيه الكلب في

التطهير مثل ذلك الإناء خصوصاً إذا صبّ ماء الولوغ فيه فيجب تعفيره على الأحوط (1).

______________________________

يكون مقتضى لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن في مثل السيرة من الأدلّة اللبّية الحكم بعدم الاعتبار، و لكن الظاهر عدم وصول النوبة إليه كما انّ الظاهر اعتبار قول الصبي إذا كان مراهقاً بل إذا كان مميّزاً و لو لم يكن مراهقاً لجريان السيرة في الصبي المميّز مطلقاً.

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في انّ المتنجّس هل يكون منجساً لملاقيه في الجملة كالنجس أم لا يكون منجساً أصلًا؟ ذهب المشهور إلى الأوّل و خالفهم في ذلك الحلّي و الكاشاني (قدّس سرّهما) و قد استدلّ لهم على ذلك بأُمور:

الأوّل: انّ منجسية المتنجّس أمر ضروري يعرفه جميع المتشرّعة و عموم المسلمين من علمائهم و عوامّهم، و قديمهم و جديدهم من غير أن يكون مختصّاً بطائفة دون طائفة و فرقة دون فرقة.

و فيه: انّه إن أُريد بذلك ان تنجيس المتنجّس يكون من ضروريات الدين و الشريعة نظير وجوب الصلاة و نحوه من الأحكام التي تثبتت من الدين بالضرورة و يكون إنكارها مستلزماً لإنكار النبوّة و موجباً للكفر ففساده واضح ضرورة انّه لا يكون ضرورياً بهذا المعنى بل يكون من الأُمور النظرية، و كيف يمكن أن يقال بأنّ مثل ابن إدريس و المحدّث الكاشاني المنكرين لمنجسية المتنجّس منكران للضروري بهذا المعنى.

و إن أُريد بذلك كونه من ضروريات الفقه ففيه انّه و إن كان كذلك خصوصاً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 402

..........

______________________________

بين المتأخّرين من الفقهاء إلّا انّ مجرّد كونه كذلك لا يكشف عن ثبوته في الشريعة المقدّسة، و على المجتهد أن يجتهد في مقام الاستنباط عن الدليل و

الحكم على طبقه.

الثاني: ثبوت الإجماع في المسألة حيث أفتى الأصحاب بذلك خلفاً عن سلف و لم ينكر ذلك أحد.

و فيه أوّلًا: ما عرفت من مخالفة الحلّي و الكاشاني فكيف يتحقّق الإجماع بهذا المعنى المدّعى.

و ثانياً: انّه على فرض تحقّق الإجماع في المسألة لا يكون هذا الإجماع تعبّدياً كاشفاً عن موافقة المعصوم (عليه السّلام) بعد احتمال استناد المجمعين إلى الروايات الكثيرة الواردة فيها الظاهرة في منجسية المتنجّس فالإجماع ليس له أصالة أصلًا.

الثالث: الروايات الكثيرة الدالّة عليه:

منها: ما عن حريز عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: اغسل الإناء «1». فإنّه من الواضح انّ الماء الذي يكون في الإناء يصير بسبب شرب الكلب منه متنجّساً فالأمر بغسل الإناء الذي هو إرشاد إلى نجاسته يدلّ على تنجّسه بملاقاة الماء الواقع فيه كما هو ظاهر.

و منها: ما رواه المحقّق في المعتبر و الشهيد في الذكرى عن العيص بن القاسم قال: سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء فقال: إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه «2». فإنّ الأمر بغسل ما أصابه ظاهر في كون الوضوء منجس له مع كونه متنجّساً. و سيأتي البحث في مفاد الرواية مفصّلًا إن شاء اللّٰه تعالى.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأسئار الباب الأول ح 3.

(2) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب التاسع ح 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 403

..........

______________________________

و منها: موثقة عمّار بن موسى الساباطي انّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل يجد في إنائه فأرة و قد توضّأ من ذلك الإناء مراراً، أو اغتسل منه أو غسل ثيابه و قد كانت الفأرة

متسلّخة؟ فقال: إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ثمّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء و يعيد الوضوء و الصلاة، و إن كان انّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله فلا يمسّ من ذلك الماء شيئاً، و ليس عليه شي ء لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه ثمّ قال: لعلّه أن يكون انّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها. «1» و منها: رواية معلّى بن خنيس قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمرّ على الطريق فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافياً؟ فقال: أ ليس ورائه شي ء جاف؟ قلت: بلى، قال: لا بأس انّ الأرض يطهّر بعضه بعضاً. «2» فانّ الماء المتنجّس بملاقاة الخنزير لو لم يكن منجساً للأرض لم يكن موقع لسؤال الإمام (عليه السّلام) عن وجود شي ء جاف ورائه فاستفصاله (عليه السّلام) ظاهر في تنجّس الأرض بالماء المتنجّس الملاقي للخنزير مع انّ قوله (عليه السّلام): الأرض يطهّر بعضها بعضاً، ظاهر في تنجّسها بالبعض في مورد الرواية كما هو غير خفي.

هذا و لكنّه ذكر بعض الأعلام انّ هذه الأخبار أجنبية عمّا هو محلّ الكلام لأنّ المدعي لعدم تنجيس المتنجّس انّما يدّعي ذلك فيما إذا جفّ المتنجّس و زالت عنه عين النجس ثمّ لاقى بعد ذلك شيئاً رطباً، و أمّا المائع المتنجّس أو المتنجّس الجامد الرطب قبل أن يجفّ فلم يقل أحد بعدم منجسيته من المتقدّمين و المتأخّرين و لعلّها ممّا يلتزم به الكلّ كما ربما يلوح من محكي كلام الحلّي (قدّس سرّه) و هذه

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق

الباب الرابع ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الثلاثون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 404

..........

______________________________

الأخبار المستدلّ بها انّما وردت في المائع المتنجس فهي خارجة عمّا نحن بصدده.

و لا يخفى انّ كون تفصيل الحلّي و الكاشاني انّما هو بين المائع المتنجّس أو المائع الجامد الرطب و بين المتنجس الجاف الملاقي للشي ء الرطب غير معلوم لنا فانّ ظاهرهما هو التفصيل بين النجس و المتنجّس مطلقاً مع انّ التفصيل بالكيفية المذكورة في نفسه بعيد فتدبّر.

و قد يستدل للمشهور بموثقة عمّار الساباطي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن البارية يبل قصبها بماء قذر هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال: إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها «1». فإنّ فيها احتمالين:

الأوّل: أن يكون مراد السائل بقوله: هل تجوز الصلاة عليها هو السؤال عن السجدة عليها، و الجفاف المعلّق عليه نفي البأس في الجواب محمول على الجفاف بإصابة الشمس و عليه فيصير محصّل السؤال انّه هل تجوز السجدة على البارية التي بلّ قصبها بماء قذر؟ فأجاب (عليه السّلام) بأنّه إذا جفّت بالشمس و طهرت بذلك فلا بأس. و عليه فلا وجه لاعتبار الجفاف إلّا تنجّس البارية بالماء المتنجّس.

و ما أفاده بعض الأعلام من انّ الموثقة على هذا التقدير أجنبية عمّا نحن فيه لأنّ معناها حينئذٍ انّ القصب المبلّل بماء قذر إذا جفّ بالشمس طهر و لا مانع معه من أن يسجد عليه، و أمّا إذا كان رطباً أو جف بغير الشمس فهو باق على نجاسته و لا يجوز السجود عليه لاعتبار الطهارة فيما يسجد عليه. فغير صحيح لأنّه لو لم يكن الماء المتنجّس منجساً لا يتصوّر مانع عن جواز السجدة عليها

حتّى قبل الجفاف لأنّ موضع السجدة و هي البارية طاهر على الفرض و ما يكون نجساً من البلل لا يسجد عليه كما هو ظاهر و كأنّه توهّم انّ ما يسجد عليه هو نفس الرطوبة و البلل فتأمّل.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثلاثون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 405

..........

______________________________

الثاني: أن يكون السؤال عن الصلاة عليها بأن نجعل موضعاً للصلاة و يحمل الجفاف الواقع في الجواب على مطلق الجفاف كما هو الظاهر فيصير معناها انّ القصب المبلّل بالماء القذر لا مانع من أن يصلّى فوقه إذا يبس لعدم سراية النجاسة منه إلى ما أصابه، و مفهومه انّه لا تجوز الصلاة فوقه إذا لم يكن جافّاً لسرايتها إليه و عليه تكون الرواية ظاهرة في المدعى لأنّ محطّ نظر السائل حينئذٍ انّما هو انّ الحصير حيث كان متنجّساً فتسري نجاسته إلى الثوب فأجاب (عليه السّلام) بأنّه لو جفّ الحصير فلا بأس، و من المعلوم انّه لا وجه لاعتبار الجفاف إلّا مجرّد سراية النجاسة من الماء أو الحصير إلى ثيابه التي يصلّي فيها على ما هو المفروض و على كلا التقديرين يدلّ على المطلوب.

و من جملة الروايات التي استدلّ بها لإثبات مدعى المشهور ما ورد في غسل الأواني و هي كثيرة أيضاً:

منها: موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سُئل عن الكوز و الإناء يكون قذراً كيف يغسل؟ و كم مرّة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرّات يصبّ فيه الماء فيحرّك فيه، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثمّ يفرغ ذلك الماء ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثمّ يفرغ منه ثمّ و قد طهر إلى أن قال:

اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجزر ميتاً سبع مرّات. «1» و منها: موثقته الأُخرى عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال: تغسله ثلاث مرّات، و سُئل أ يجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال: لا يخرجه حتّى يدلكه بيده،

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثالث و الخمسون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 406

..........

______________________________

يغسله ثلاث مرّات «1». و قوله (عليه السّلام): إذا غسل فلا بأس، يفهم منه انّه مع عدم الغسل يكون فيه بأس. و من المعلوم انّه لا يتصوّر فيه بأس إلّا تنجّس الخلّ الواقع فيه و نحوه و إطلاقه يشمل ما إذا كان الدن متنجّساً و لم يكن فيه شي ء من أجزاء الخمر و ذراتها كما هو ظاهر.

نعم يمكن أن يقال بثبوت المعارضة بينها و بين ما عن حفص الأعور قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الدن يكون فيه الخمر ثمّ يجفّف يجعل فيه الخلّ؟ قال: نعم. «2» و لكنّه مضافاً إلى ضعف سنده يمكن أن يكون المراد بالتجفيف فيه هو التجفيف بعد الغسل و منشأ ذكره انّه حيث كانت الخمر فيه سابقاً فمع الغسل و التجفيف الموجب لعدم بقاء شي ء من آثار الخمر هل يكون هناك مانع عن جعل الخل فيه أم لا، و عليه فالتجفيف لا يكون له مدخلية أصلًا بل الملاك هو الغسل.

غاية الأمر أنّه أمر زائد عليه موجب لمحو آثار الخمر بالكلّية.

و منها: رواية حريز عن الفضل أبي العبّاس عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث انّه سأله عن الكلب فقال: رجس نجس لا يتوضّأ بفضله، و أُصيب ذلك الماء و اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء. «3» و الظاهر من هذه الأخبار الواردة في الأواني انّ الأمر بغسلها انّما يكون للإرشاد إلى أنّها منجسة لما يلاقيها برطوبة لأنّه لا يكون غسل الأواني النجسة من الواجبات الشرعية التكليفية، و العجب من المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) حيث قال في مقام الجواب عن هذه الأخبار: «إنّ غاية ما يستفاد من الأمر بغسل الأواني و نحوها انّما هو حرمة استعمالها و مبغوضيته حال كونها قذرة و لا دلالة لها على

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الخمسون ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الخمسون ح 2.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب السبعون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 407

..........

______________________________

انّها منجسة و مؤثّرة في نجاسة ما فيها بوجه.

و ذلك لأنّ استعمال الإناء المتنجّس إذا لم يؤثّر في نجاسة ما فيه من الطعام و الشراب ممّا لا حرمة له بضرورة الفقه فيتعيّن أن يكون الأمر بغسله إرشاداً إلى المنجسية لما يلاقيها.

و أظهر من هذه الأخبار ما ورد في غسل الفراش و نحوه فإنّ الأمر بغسل مثله لا وجه له إلّا مجرّد الإرشاد إلى عدم تنجّس ما يلاقيه من الألبسة التي يصلّى فيها و غيرها و لا مجال لاحتمال المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) فيها أصلًا.

و ما ذكرنا من الروايات كما ترى مطلقة تشمل ما لو كان المتنجّس مائعاً أو غير مائع و

ما إذا كان الرطوبة في المتنجّس أو في الملاقي فما قال به المشهور هو الصحيح.

و يدلّ عليه أيضاً صحيحة محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة؟ قال: يكفي الإناء «1». قال في القاموس كفأه كمنعه كبّه و قلبه كاكفأه. فإنّها صريحة في منجسية المتنجّس و لو كان جافّاً و الملاقى له مائعاً.

و موثقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي ء من المني «2». فإنّ مقتضى إطلاق مفهومها انّه لو كان أصاب يده شي ء من المني ففيه بأس سواء كان المني باقياً في اليد أم لم يكن.

و ما عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الجنب يحمل (يجعل خ ل) الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه؟

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثامن ح 7.

(2) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثامن ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 408

..........

______________________________

قال: إن كانت يده قذرة فأهرقه، و إن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه هذا ممّا قال اللّٰه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» و هذه أيضاً ظاهرة في منجسية المتنجّس في الجملة التي هي المصور في المقام الأوّل.

و قد استدلّ القائل بعدم تنجيس المتنجّس أيضاً بأُمور:

الأوّل: انّ الحكم بمنجسية المتنجّسات غير قابل للامتثال فلا يصدر من الحكيم، و ذلك لاستلزامه القطع بنجاسة جميع الدور و البقاع بل و جميع أهل البلد و ما في أيدي المسلمين و أسواقهم لكون النجاسة مسرية حسب

الفرض فإنّه لو فرض أنّ آنية أو أواني متعدّدة قد وضعت في مكان يساورها أشخاص مختلفة من الصغير و الكبير و المبالين لأُمور دينهم و غير المبالين كالحبات الموضوعة سابقاً و في بعض البلاد فعلًا أيضاً في المساجد و المعابر و نحوهما فنقطع بالضرورة بنجاسة تلك الآنية أو الأواني للقطع بملاقاتها مع المتنجّس من يد أو شفه و نحوهما كما هو الشاهد المحسوس في أوقات الكثرة و الازدحام، و كذلك الحال في أدوات البنائين و آلاتهم حيث لا يزالون يستعملونها في جميع البقاع و الأمكنة مع القطع بنجاسة بعضها كالكنيف و لم تجر عادتهم على غسلها بعد استعمالها في الكنيف فبذلك تتنجّس جميع أبنية البلاد.

و كذلك في المقاهي و المطاعم حيث يدخلها كلّ وارد و خارج من المسلم و الكافر و المؤمن و الفاسق و المبالين لدينهم و غير المبالين له و يشربون فيهما الشاي و الماء و يأكلون الطعام و هذا يوجب القطع بسراية النجاسة إلى جميع البلاد، مع استقرار سيرة المتشرّعة على عدم الاجتناب عن مثل الأواني الموضوعة في أماكن الاجتماع، أو عن الدور و الأبنية و البقاع، أو عن الأواني المستعملة في المقاهي و أمثالها، حيث يعاملون معها معاملة الطهارة بحيث لو تعدّى أحد عن

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المطلق الباب الثامن ح 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 409

..........

______________________________

الطريقة المتعارفة عندهم بأن اجتنب عن مثل هذه الأُمور يطعنه جميع المتشرّعة بالوسواس و عدم الاستواء و الخروج عن جادّة الشرع.

و الجواب عن ذلك أوّلًا: إنّ هذا الدليل أخصّ من المدعى لأنّ ما ذكر من التوالي الفاسدة انّما يثبت إذا قلنا بتنجيس المتنجّس على وجه الإطلاق و

الموجبة الكلّية، و أمّا إذا اكتفينا بمنجّسيته إذا كان بلا واسطة فقط فلا يتحقّق القطع بنجاسة ما ذكر فهذا الدليل لا يثبت السلب الكلّي و إن كان نافياً للإيجاب الكلّي و المقصود في هذا المقام الإثبات بنحو الموجبة الجزئية كما عرفت.

و ثانياً: لو كان المراد من العلم بنجاسة جميع الأبنية و البقاع و الأواني بل جميع ما في العالم ممّا هو محل ابتلاء المكلّف هو العلم الفعلي فهو ممّا يكذبه الوجدان لعدم التفات جميع الناس إلى المقدّمات المذكورة الموجبة للعلم بها كيف و نحن ممّن نقول بمنجسية المتنجّس مطلقاً و مع ذلك لا علم لنا بنجاسة جميع المذكورات خصوصاً مع ملاحظة ثبوت مطهرات في البين من نزول المطر و تطهيره كثيراً من المذكورات و لا سيما في زماننا هذا من كون جميع المياه الموجودة في الأماكن الاجتماعية معتصمة نوعاً لاتصالها بالمخزن المشتمل على مئات من الكر.

و لو كان المراد منه انّه ممّا ينبغي أن يتحقّق القطع به فالجواب انّ ما ينبغي أن يقطع به لا يترتّب عليه الآثار المترتّبة عليه على تقدير تعلّق القطع الفعلي به كوجوب الاجتناب و نحوه، و كثير من الأشياء ممّا ينبغي أن يحصل القطع به كوجود الصانع تعالى و توحيده مثلًا و مع ذلك يترتّب على إنكاره حكم الكفر لعدم تحقّق القطع الفعلي به فتدبّر.

الأمر الثاني: جملة من الروايات الظاهرة في ذلك و هي كثيرة:

منها: موثقة حنان بن سدير قال: سمعت رجلًا سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام)

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 410

..........

______________________________

فقال: إنّي ربّما بلت فلا أقدر على الماء و يشتدّ ذلك عليَّ، فقال: إذا بلت و تمسّحت فامسح ذكرك بريقك فإن

وجدت شيئاً فقل هذا من ذاك «1». بتقريب انّ المنجس لو كان منجساً لما أصابه كان مسح موضع البول المتنجّس به بالريق و نحوه موجباً لاتساع النجاسة و زيادتها لا موجباً لطهارته، فمنه يظهر انّ المتنجّس لا يكون منجساً لما أصابه.

و فيه مضافاً إلى انّه على تقدير كون مفاد الرواية ما ذكر لا وجه للإرشاد إلى مسح الذكر بالريق الظاهر في كون ذلك طريقاً إلى عدم تنجّس مثل الثوب ضرورة انّ ظاهره كون احتمال نجاسة الثوب بعد وجدان الشي ء ناشئاً من احتمال ملاقاته مع الموضع المتنجّس من الذكر لا من احتمال عروض البول مجدّداً فانّ الدافع لهذا الاحتمال و ترتيب الأثر عليه هو التمسّح بعد البول المفروض في الرواية سواء تحقّق بعده مسح الذكر بالريق أم لم يتحقّق، فالرواية على هذا التقدير لا يعلم وجه الحكم المذكور فيها انّ صريح السؤال انّ وقوعه في الاشتداد يكون من جهة عدم قدرته على الماء، و لو لم يكن المتنجّس منجّساً لما كان يقع في الاشتداد من جهته فتأثير المتنجّس في نجاسة ملاقية أمر يكون مفروغاً عنه عند السائل و قد قرّره الإمام (عليه السّلام) و لم ينكره عليه حيث علمه طريقاً يتردّد بسببه في انّ الرطوبة من البلل المتنجّس أو من غيره.

و الظاهر انّ المراد من قوله (عليه السّلام): فامسح ذكرك بريقك ليس هو الأمر بمسح الموضع المتنجّس منه و هو رأسه فإنّه جزء منه بل المراد منه هو مسح موضع آخر منه غير متنجّس حتّى لا يعلم انّ الرطوبة من الموضع المتنجّس أو من غيره، و على تقدير عدم ظهوره في ذلك و إن كان عدم الظهور في خلافه يكفي لسقوط الاستدلال تكون المفروغية و التقرير

قرينة على كون المراد منه ذلك كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) الوسائل أبواب نواقض الوضوء الباب الثالث عشر ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 411

..........

______________________________

و منها: رواية سماعة قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السّلام): إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار فيجي ء مني البلل ما يفسد سراويلي؟ قال: ليس به بأس «1». فإنّ نفي البأس عن البلل مع العلم بملاقاته للموضع المتنجّس بالبول لا يتمّ إلّا على القول بعدم تنجيس المتنجّس.

و فيه أوّلًا: انّها ضعيفة من حيث السند.

و ثانياً: انّه يحتمل أن يكون نظر السائل انّ المسح بالأحجار يوجب حصول الطهارة لمخرج البول كمخرج الغائط كما يقول به العامّة، و عليه فلا بدّ من أن تحمل الرواية على التقية لموافقتها مع مذهب العامّة.

و منها: صحيحة حكم بن حكيم انّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقال له: أبول فلا أصيب الماء و قد أصاب يدي شي ء من البول فأمسحه بالحائط و التراب ثمّ تعرف يدي فأمسح (فأمسّ خ ل) به وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي؟ قال: لا بأس به «2» فإن نفي البأس عن مسح الوجه أو بعض الجسد أو إصابة الثوب باليد المتنجّسة الرطبة لوجود العرق فيها مرجعه إلى عدم صلاحية المتنجّس للتنجيس و لو كان هناك رطوبة متّصفة بالسراية كما هو المفروض في الرواية.

و قد أُجيب عن ذلك بأنّ السائل لم يفرض في كلامه ان مسح وجهه أو بعض جسده أو ما أصاب الثوب انّما كان بما هو الموضع المتنجّس من يده لأنّه بعد ملاحظة انّ مسح الوجه أو بعض الجسد لم يكن بجميع أجزاء اليد حتّى يحصل العلم بملاقاة الموضع المتنجّس من اليد لهما و ملاحظة

انّ اليد لا يتنجس جميعها بسبب تنجّس موضع منها و تعرقها كما عرفت سابقاً نقول: إنّ الموضع المتنجّس من اليد امّا أن يكون معيناً معلوماً بالتفصيل، و أمّا أن لا يكون كذلك، بل يعلم

______________________________

(1) الوسائل أبواب نواقض الوضوء الباب الثالث عشر ح- 4.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 412

..........

______________________________

إجمالًا بنجاسة بعض أجزائها، ففي الصورة الاولى يكون نفي البأس راجعاً إلى عدم العلم بكون الجزء الملاقي من اليد هل كان هو الجزء المتنجّس أو غيره من المواضع الطاهرة من اليد. و من المعلوم انّ مقتضى الأصل في مثل ذلك من موارد الشكّ هي الطهارة، و في الصورة الثانية نقول إنّ ملاقاة بعض أطراف الشبهة المحصورة في باب النجاسة لا يوجب الحكم بنجاسة الملاقي و بوجوب الاجتناب عنه كما قد حقّق في محلّه ففي كلتا الصورتين لم يظهر من الرواية ما ينطبق على نظر المستدلّ.

و يمكن أن يجاب عنه أيضاً بأنّ نفي البأس في الجواب انّما هو في فرض عدم إصابة الماء و انّه في هذا الفرض و إن كانت اليد و الوجه و بعض الجسد متنجّساً جميعها بعضها بالواسطة و بعضها من دونها إلّا انّه مع عدم القدرة على التطهير لفرض فقدان الماء حتّى بالمقدار الذي يكفي في تطهير مخرج البول الذي هو مثلًا ما على الحشفة من البلل كما مرّ لا مناص من الحكم بنفي البأس حتّى فيما إذا أصاب الثوب فإنّ الصلاة عارياً مع انحصار الساتر بالنجس انّما هي فيما إذا كان البدن طاهراً، و أمّا مع نجاسة البدن أيضاً فالحكم بلزوم الصلاة كذلك يبتني على لزوم تقليل النجاسة بالمقدار

الممكن و لا بدّ من البحث فيه.

و بالجملة فالرواية لا دلالة لها على مدعى القائل.

و منها: صحيحة العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر و قد عرق ذكره و فخذاه؟ قال: قال: يغسل ذكره و فخذيه، و سألته عمّن مسح ذكره بيده ثمّ عرقت يده فأصابه ثوبه، يغسل ثوبه؟ قال: لا. «1» حيث حكم (عليه السّلام) بعدم وجوب

______________________________

(1) روى صدرها في الوسائل في الباب الواحد و الثلاثين من أبواب أحكام الخلوة ح 2 و ذيلها في الباب السادس من أبواب النجاسات ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 413

..........

______________________________

غسل الثوب الذي لاقته اليد المتنجّسة بمسح الذكر.

و فيه: انّ صدرها صريح في منجسية المتنجس للأمر بغسل الذكر و الفخذين مع انّهما متنجّسان، و نفي لزوم غسل الثوب في الذيل امّا لعدم العلم بإصابة اليد للموضع المتنجس من الذكر، و أمّا لعدم العلم بإصابة الموضع المتنجّس من اليد للثوب مع انّه لو سلّمنا انّ الذيل مطلق لترك الاستفصال فيه و مقتضى الإطلاق عدم تنجيس المتنجّس إلّا انّه لا مناص من تقييد إطلاقه بما دلّ على منجسية المتنجّس و منه صدر هذه الرواية. و إن شئت قلت: إنّ الجمع بين الصدر و الذيل يقتضي حمل الذيل على صورة عدم العلم لئلا يلزم المنافاة كما هو ظاهر.

و منها: ما رواه علي بن مهزيار قال: كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره انّه بال في ظلمة الليل و انّه أصاب كفّه برد نقطة من البول لم يشكّ أنّه أصابه و لم يره و انّه مسحه بخرقة ثمّ نسي أن يغسله

و تمسّح بدهن فمسح به كفّيه و وجهه و رأسه ثمّ توضّأ وضوء الصلاة فصلّى؟ فأجابه بجواب قرأته بخطّه-: امّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشي ء إلّا ما تحقّق، فإن حقّقت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صلّيتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، و ما فات وقتها فلا إعادة عليك لها من قبل انّ الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلّا ما كان في وقت، و إذا كان جنباً أو صلّى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته لأنّ الثوب خلاف الجسد فاعمل على ذلك إن شاء اللّٰه. «1» حيث إنّ الرواية متضمّنة لبيان أمرين:

أحدهما: انّ الرجل قد تنجّست يده بالبول و انّه لم يغسلها و انّما مسحها بخرقة ثمّ تمسّح بالدهن و مسح به كفّيه و وجهه و رأسه ثمّ توضّأ و صلّى.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الأربعون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 414

..........

______________________________

ثانيهما: إنّ من صلّى في النجس من ثوب أو بدن و التفت بعد ذلك فإنّما يجب عليه إعادتها في الوقت و لا يجب قضائها خارج الوقت، و لكنّه لو صلّى محدثاً ثمّ التفت إلى حدثه بعد الصلاة تجب عليه إعادتها في الوقت، كما انّه يجب عليه القضاء خارجه، و قد علم من تطبيق الأمر الأوّل دون الأمر الثاني على مورد السؤال عدم منجّسية المتنجّس لأنّه لو كان منجساً لتعيّن الحكم ببطلان الوضوء لانفعال الماء المستعمل فيه بملاقاة اليد المتنجّسة و معه تجب إعادة الصلاة في الوقت و قضائها في خارجه، مع انّه (عليه السّلام) لم يحكم ببطلان الوضوء بل عدّ الرجل

ممّن صلّى مع الوضوء.

و توهّم انّ الوضوء في موردها غير صحيح مطلقاً سواء قلنا بمنجسية المتنجّس أم قلنا بعدمها، امّا على الأوّل فواضح، و أمّا على الثاني فلتنجّس عضو الوضوء على ما هو المفروض في موردها.

مندفع: بأنّ اشتراط طهارة الأعضاء في الوضوء ممّا لم يرد به دليل، و انّما اعتبروها شرطاً في صحّته نظراً إلى انّ المتنجّس منجس عندهم حيث إنّه بناءً عليه تسري النجاسة من العضو المتنجّس إلى ماء الوضوء فيصير متنجّساً مع انّ طهارة الماء شرط في صحّة الوضوء بلا إشكال، فلو قلنا بعدم تأثير المتنجّس في تنجّس ملاقيه لا يبقى موقع لاشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء فلا بدّ على هذا التقدير من الحكم بصحّة الوضوء كما حكم (عليه السّلام) بها. نعم يبقى المحلّ على نجاسته فتجب عليه الإعادة في خصوص الوقت.

و قد اعترف بعض الأعلام بظهور الرواية في المدعى و قال: بأنّه يؤكّد ذلك أي الدلالة على عدم التنجيس تقييد الإمام (عليه السّلام) الحكم بالإعادة، بالصلوات اللواتي صلّاها بذلك الوضوء بعينه، و الوجه في ذلك انّه بهذا القيد قد خرجت الصلوات الواقعة بغيره، و لا يتمّ هذا إلّا على القول بعدم تنجيس المنجس و طهارة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 415

..........

______________________________

اليد المتنجّسة في الوضوء الثاني أو الثالث لتعدّد غسلها بتكرار الوضوء، لأنّ يده المتنجّسة لو كانت منجسة لما أصابها لأوجبت تنجّس الماء و جميع أعضاء الوضوء و لا بدّ معه من الحكم ببطلان صلواته مطلقاً سواء كان صلّاها بذلك الوضوء أم بغيره لبقاء أعضاء الوضوء على نجاستها. إلى أن قال: بأنّ الصحيحة غير قابلة للمناقشة في دلالتها.

ثمّ أجاب عنها بأنّ الرواية مضمرة و لا اعتبار

بالمضمرات إلّا إذا ظهر من حال السائل انّه ممّن لا يسأل غير الإمام (عليه السّلام) كما في زرارة و محمد بن مسلم و هكذا علي بن مهزيار و أضرابهم و الكاتب فيما نحن فهي و هو سليمان بن رشيد لم يثبت انّه ممّن لا يسأل غير الإمام (عليه السّلام) حيث لا نعرفه و لا ندري مَنْ هو فلعلّه من أكابر أهل السنّة و قد سئل المسألة عن أحد المفتين في مذهبه، و غاية ما هناك انّ علي بن مهزيار ظنّ بطريق معتبر انّه سأل الإمام (عليه السّلام) أو أطمئن به إلّا انّ ظنّه أو اطمئنانه غير مفيد بالإضافة إلى غيره.

و يرد عليه انّ مثل علي بن مهزيار لا يكاد يروي في مقام نقل الحديث ما عن غير الإمام (عليه السّلام) و من الواضح ظهور الرواية في انّ علي بن مهزيار كان عالماً بالشخص الذي سئل و عدم التصريح باسمه المبارك لعدم الحاجة إليه أو لغرض آخر، و عدم الفائدة بالإضافة إلى غيره لا يختص بصورة الظنّ أو الاطمئنان بل يجري في صورة العلم و التصريح بالاسم أيضاً لأنّ علمه انّما يكون مفيداً له لا لغيره فمثل هذا الاحتمال فيما لو كان الراوي مثل علي بن مهزيار لا وجه له و لا يوجب سقوط الرواية عن الاعتبار.

و التحقيق في مقام الجواب أن يقال: إنّ الرواية مجملة من جهات:

الاولى: عدم وضوح مطابقة الجواب مع سؤال السائل لأنّه سأل فيها عن صورة نجاسة اليد التي هي من أعضاء البدن و أُجيب فيها بأنّ ذلك من قبل أن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 416

..........

______________________________

الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة ما

كان في وقت.

الثانية: انّ قوله (عليه السّلام): كنت حقيقاً أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صليتهنّ بهذا الوضوء بعينه، ظاهر في انّ البطلان يكون لأجل الوضوء مع انّه لو لم يكن المتنجّس منجساً لا يكون نقص في الوضوء أصلًا بل كان البطلان مستنداً إلى تنجّس اليد.

الثالثة: انّه لا يفهم المراد من قوله (عليه السّلام): لأنّ الثوب خلاف الجسد. فإنّ الجسد ظاهر في البدن و لا مغايرة في الحكم بين تنجّس الجسد و الثوب، و لو كان المراد من الجسد، الروح، فمع انّه خلاف الظاهر لكان المناسب أن يقال. و ذلك لأنّ البدن خلاف الجسد أي الروح كما هو ظاهر و قد مرّ الكلام سابقاً.

و منها: ما دلّ على طهارة القطرات المنتضحة من الأرض في الإناء كصحيحة الفضيل قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء؟ فقال: لا بأس هذا ممّا قال اللّٰه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. «1» و رواية شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) انّه قال في الجنب: يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء فينتضح الماء من الأرض فيصير في الإناء، انّه لا بأس بهذا كلّه «2». حيث دلّت على انّ الأرض مطلقاً و لو كانت متنجّسة غير موجبة لتنجّس القطرات المنتضحة منها الواقعة في الإناء، و رواية عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أغتسل في مغتسل يبال فيه و يغتسل من الجنابة فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض؟ فقال: لا بأس به. «3» و قد أجاب بعض الأعلام عن هذه الأخبار بأنّها لا تكون ناظرة إلى عدم

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب

التاسع ح 1.

(2) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب التاسع ح 6.

(3) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب التاسع ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 417

..........

______________________________

تأثير المتنجّس في نجاسة ملاقية، و انّما سيقت لبيان انّ القطرات المنتضحة من غسالة الجنابة في الإناء لا تكون مانعة عن صحّة الاغتسال بالماء الموجود فيه و لا يوجب اتّصاف ذلك الماء بكونه مستعملًا في رفع الحدث الأكبر.

و فيه: انّه لو كان محطّ السؤال فيها ما أفاده و كون النظر إلى القطرات المستعملة في غسل الجنابة من حيث كونها ماءً مستعملًا في رفع الحدث الأكبر لما كان وجه لتقييد القطرات بوقوعها على الأرض و انتضاحها منه إلى الإناء كما لا يخفى و يدفع هذا المقال رواية عمر بن يزيد فتدبّر.

و الصحيح في الجواب أن يقال: أوّلًا: انّه لا إطلاق في الروايات المذكورة لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة حتّى يجوز التمسّك بإطلاقها.

و ثانياً: انّه على تقدير ثبوت الإطلاق لا مانع من تقييدها بما إذا لم يكن الأرض معلوم النجاسة كما هو الغالب في المواضع التي يغتسل فيها بقرينة الأدلّة الدالّة على منجسية المتنجّس و الاستدلال بالآية في الصحيحة إنّما يلائم مع ما ذكرنا من كون المراد صورة الشكّ كما هو ظاهر.

و منها: ما ورد في القطرات المنتضحة من الأرض على الثوب كرواية بريد بن معاوية قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أغتسل من الجنابة، فيقع الماء على الصفا فينزو فيقع على الثوب؟ فقال: لا بأس به. «1» و رواية عمّار بن موسى الساباطي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يغتسل من الجنابة و ثوبه قريب منه فيصيب الثوب من

الماء الذي يغتسل منه؟ قال: نعم لا بأس به. «2» و رواية علي بن جعفر عن أخيه (عليه السّلام) قال: سألته عن الكنيف يصبّ فيه

______________________________

(1) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب التاسع ح 12.

(2) الوسائل أبواب الماء المضاف الباب التاسع ح 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 418

..........

______________________________

الماء فينضح على الثياب ما حاله؟ قال: إذا كان جافّاً فلا بأس به. «1» حيث إنّ ظاهرها نفي البأس عمّا ينضح على الثياب من الأرض الكنيف إذا كان جافّاً مطلقاً سواء كان معلوم النجاسة أم لم يكن كذلك و دعوى انّ التقييد بالجفاف انّما هو لملازمته مع الشكّ في نجاسة المكان و طهارته، كما انّ الرطوبة تلازم العلم بالنجاسة. مدفوعة بأنّ الجفاف لا يكون مستلزماً للشكّ في نجاسة الكنيف كما انّ الرطوبة غير مستلزمة للعلم بها لأنّ كلا منهما قد يقترن مع العلم و قد يقترن مع الشكّ.

و قد اعترف بعض الأعلام بدلالة هذه الطائفة على المدعى و قال: «إنّ المستفاد من الأخبار الواردة في القطرات المنتضحة من الكنيف بعد تقييد مطلقها بمقيّدها عدم تنجيس المتنجّس الجاف للماء الوارد عليه إلّا انّه لا بدّ من الاقتصار فيها على موردها و هو الماء القليل الذي أصابه النجس من غير أن يستقرّ معه و لا يمكننا التعدّي عنه إلى غيره، فإنّ الالتزام بعدم انفعال الماء القليل في مورد الرواية لا يستلزم سوى ارتكاب تقييد المطلقات الواردة في انفعال الماء القليل بملاقاة النجس فيستثنى منها ما إذا لم يستقرّ القليل مع النجس و لا محذور في التقييد أبداً، إلى أن قال: بل يمكن أن يقال: إنّ الحكم بعدم انفعال الماء في مفروض الكلام ممّا لا

يستلزمه أيّ محذور حتّى تقييد المطلقات، و ذلك لأنّ ما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس أمران: أحدهما: مفهوم ما ورد من انّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شي ء، و ثانيهما: الأخبار الواردة في موارد خاصّة كالماء الذي وقعت فيه فأرة ميتة، أو الإناء الذي قطرت فيه قطرة من الدم، و غير ذلك من الموارد المتقدّمة. و لا إطلاق في شي ء من الأمرين: امّا قوله (عليه السّلام): الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شي ء، فلأنّ مفهومه انّ الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجسه

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الستون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 419

..........

______________________________

شي ء لا كلّ شي ء كما حقّق في محلّه و ليكن ذلك هو الأعيان النجسة بل المتنجّسات أيضاً و لو كان الماء وارداً على خلاف السيّد المرتضى (قدّس سرّه) حيث فصل بين الوارد و المورود و لا يستفاد من مفهومه انّ المنجس أو المتنجّس منجس للماء في جميع الأحوال و الكيفيات و إن لم يستقر معه.

و أمّا الروايات الخاصّة فلأنّه لم يرد شي ء منها في انفعال الماء القليل غير المستقرّ مع النجس، و انّما وردت في القليل المستقرّ مع الميتة أو الدم و نحوهما، و عليه فلا إطلاق في شي ء من الدليلين حتّى يشمل المقام و يكون القول بعدم انفعال القليل غير المستقرّ مع النجس تقييداً للمطلقات أو تخصيصاً للعمومات».

و لا يخفى ما في كلامه من وجوه النظر:

امّا أوّلًا: فلأنّ ظاهر رواية علي بن جعفر انّ الأرض لو كان نجساً و صار جافّاً يطهر بمجرّد الجفاف لمكان نفي البأس عن الموضع الجاف من الأرض مطلقاً و يؤيّد ما استظهرنا

منها رواية معلى بن خنيس المذكورة في أوائل المسألة حيث إنّه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الخنزير يخرج من الماء و يمرّ على الطريق فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافياً؟ فقال: أ ليس ورائه شي ء جاف؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس انّ الأرض يطهِّر بعضه بعضاً «1». فإنّ ظاهرها ملازمة الجفاف مع الطهارة.

و أمّا ثانياً: فلأنّ المتفاهم العرفي من قوله (عليه السّلام) إذا كان جافّاً فلا بأس، الملازمة النوعية بين الجفاف و الشكّ في النجاسة، فإنّ الإنسان يشكّ نوعاً في نجاسة الموضع الجاف من الكنيف بخلاف ما لو كان مرطوباً فإنّ الرطوبة امّا أن تكون من نفس البول و العذرة، و أمّا أن تكون من الماء الملاقي لهما أو للموضع المتنجّس بهما، فالجفاف ملازم للشكّ في النجاسة نوعاً.

و أمّا ثالثاً: فلأنّه لو سلم عدم الملازمة بين الجفاف و الشكّ في النجاسة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و الثلاثون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 420

..........

______________________________

و بين الرطوبة و العلم بها نوعاً نقول: إنّ النسبة بين رواية علي بن جعفر المفصلة بين الجفاف و الرطوبة و بين أدلّة تنجيس المتنجّس عموم من وجه و مادّة الاجتماع لهما ما لو كان أرض الكنيف جافّاً معلوم النجاسة و لا وجه لترجيح الرواية على تلك الأدلّة لو لم نقل بترجيح العكس نظراً إلى كثرة الروايات الدالّة عليه و اعتبارها فتدبّر.

و أمّا رابعاً: فلأنّه لو لم يكن في أدلّة انفعال الماء القليل إطلاق يشمل مطلق المياه القليلة الملاقية للنجس فلا محيص من اختيار التفصيل الذي ذهب إليه السيّد (قدّس سرّه) و الحكم بثبوت الفرق بين ما لو ورد النجس

على الماء القليل فينجس و ما لو ورد الماء على النجس فلا ينجس مطلقاً من دون فرق بين صورة الاستقرار و عدمه لورود أدلّة الانفعال في الأوّل فقط و المفروض انّه لا إطلاق في المسألة أصلًا.

و بالجملة: امّا أن يقال بإلغاء الخصوصية من الأدلّة الخاصّة الواردة في انفعال الماء القليل، و أمّا أن يقال بالعدم؟ فعلى الأوّل لا بدّ من الالتزام بأنّ الملاك في الانفعال مجرّد الملاقاة من دون فرق بين ورود النجس على الماء و العكس و بين الاستقرار و عدمه. و عليه فمقتضى الأدلّة الانفعال في مورد رواية علي بن جعفر أيضاً فالأخذ بها يوجب التقييد فيها لا محالة، و على الثاني لا محيص عن الأخذ بفتوى السيّد و التفصيل الذي يقول به كما لا يخفى، فالجمع بين نفي التفصيل و عدم ثبوت الإطلاق في أدلّة الانفعال و إلغاء الخصوصية من الأدلّة الواردة في الموارد الخاصّة و الالتزام بمفاد رواية علي بن جعفر من دون أن يكون مستلزماً للتقييد ممّا لا يستقيم و الحقّ ما عرفت من انّه لا وجه لتقديم الرواية على تلك الأدلّة بعد كون النسبة عموماً من وجه لو لم يكن الترجيح معها لما مرّ. و قد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام كون المتنجّس منجساً في الجملة و انّ أدلّة القائل بالعدم كلّها مندفعة، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 421

..........

______________________________

المقام الثاني: في انّه هل المتنجس منجس في خصوص ما إذا كان تنجّسه بملاقاة النجس بلا واسطة أو يعمّ المتنجّس مع الواسطة أيضاً، و على التقدير الثاني هل يختص الحكم بما إذا كانت الواسطة قليلة كالواحدة

و الاثنتين أو يعمّ ما إذا كانت الواسطة كثيرة أيضاً؟ و الشهرة مع التعميم مطلقاً.

و استدلّ للمشهور بروايات:

و منها: صحيحة البقباق قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن فضل الهرة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع فلم أترك شيئاً إلّا سألته عنه فقال: لا بأس به حتّى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس لا تتوضّأ بفضله و اصبب ذلك الماء، و اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء. «1» و الاستدلال بها يتوقّف:

أوّلًا: على كون قوله (عليه السّلام): رجس نجس، علّة للحكم بعدم جواز شربه و التوضّؤ منه فهي تعمّم الحكم بعدم الجواز من الكلب إلى كل نجس لأنّ العلّة تعمّم الحكم كما انّها قد تخصّصه.

و ثانياً: على صحّة إطلاق الرجس و النجس على المتنجّس و استعمالهما فيه حقيقة كما في النجس، و على ما ذكر فيقال في الملاقي الأوّل للمتنجس هذا الشي ء لاقى النجس و كل ما لاقى النجس لا يجوز شربه و لا التوضّؤ منه و هكذا يقال في الملاقي للمتنجّس الثاني أو الثالث فصاعداً.

و لكن التحقيق يقتضي خلاف ذلك و انّ قوله: رجس نجس لا يكون علّة للحكم بعدم جواز الشرب و التوضؤ كيف و قد ذكر في ذيل الصحيحة حكم لا يمكن أن يكون معلّلًا بهذه العلّة و هو وجوب الغسل بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء و هل ترى من نفسك أن تقول كل نجس لا بدّ أن يغسل بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء لأنّه رجس نجس؟! مع انّ إطلاق الرجس على كل نجس فضلًا عن المتنجّس ممنوع

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأسئار الباب الأول ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة

- النجاسات و أحكامها، ص: 422

..........

______________________________

لما عرفت سابقاً من انّ الرجس بمعنى الخباثة و القذارة المعنوية الثابتة في بعض الأعيان النجسة كالكلب و نحوه و لا يصحّ إطلاقه على المتنجّس بوجه، فالاستدلال بالرواية لمذهب المشهور غير تامّ.

و منها: رواية معاوية بن شريح قال: سأل عذافر أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا عنده عن سؤر السنور و الشاة و البقرة و البعير و الحمار و لا فرس و البغل و السباع يشرب منه أو يتوضّأ منه؟ فقال: نعم اشرب و توضأ منه، قال: قلت له: الكلب؟ قال: لا، قلت: أ ليس هو سبع؟ قال: لا و اللّٰه انّه نجس لا و اللّٰه انّه نجس. «1» فإنّ ظاهرها انّ العلّة في الحكم بعدم جواز الشرب و التوضؤ من سؤر الكلب انّما هي نجاسة ما باشره و هو الكلب فيتعدّى منه إلى كل ما هو نجس أو متنجّس لإطلاق النجس على المتنجس كإطلاقه على الأعيان النجسة و قد عرفت انّ إطلاق المتنجس في مقابل النجس اصطلاح حادث و لا يرى منه في الروايات عين و لا أثر فتدبّر.

هذا و لكن الرواية ضعيفة سنداً بمعاوية مع انّ العلّية فيها لا تكون بواضحة.

و منها: حسنة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام): أ لا أحكي لكم وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله)؟ فقلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شي ء من ماء فوضعه بين يديه ثمّ حسر عن ذراعيه ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى ثمّ قال: هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة الحديث. «2» فإنّ مفهومها انّ الكفّ إذا لم تكن طاهرة فلا يجوز التوضّي بإدخالها في الماء القليل و لا وجه له إلّا تنجّس الماء القليل و انفعاله

بملاقاة اليد المتنجّسة، و إطلاقها يشمل الكفّ المتنجسة مطلقاً سواء كانت متنجّسة بلا واسطة أو معها.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأسئار الباب الأول ح 6.

(2) الوسائل أبواب الوضوء الباب الخامس عشر ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 423

..........

______________________________

و دعوى انّه لا تكون الرواية ظاهرة في انّ عدم جواز إدخال اليد المتنجسة في الماء القليل يكون مستنداً إلى كونها منجسة للماء لاحتمال استناده إلى عدم جواز الغسل و الوضوء من الماء المستعمل في رفع الخبث كالمستعمل في رفع الحدث مع ثبوت الطهارة له في نفسه.

مدفوعة أوّلًا: بأنّه خلاف ما هو المتفاهم من الرواية عرفاً لأنّ الظاهر منها كذلك انّ المنع عن التوضؤ بذلك الماء يكون معلولًا للنجاسة الحاصلة له من ملاقاة اليد المتنجسة و تأثره بها كما لا يخفى.

و ثانياً: بأنّ الماء الذي أدخل فيه اليد المتنجسة لا يطلق عليه كونه مستعملًا في رفع الخبث فإنّ الملاقاة مع الخبث أمر و الاستعمال في رفعه أمر آخر، و مجرّد كون الماء أحد طرفي الملاقاة لا يصحّح هذا الإطلاق بوجه كما يظهر بمراجعة العرف.

و ثالثاً: بأنّه لو كان الاستناد إلى كونه مستعملًا في رفع الخبث لكان اللازم تخصيص الحكم بعدم الجواز بمثل الوضوء فلا يكون حينئذٍ مانع من جواز شربه و لا سائر الانتفاعات به مع انّ صحيحة محمد بن أبي نصر المتقدّمة التي سأل فيها عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة، و أجاب (عليه السّلام) بأنّه يكفي الإناء ظاهر في المنع عن استعماله مطلقاً و هي قرينة على عدم كون الحكم في هذه الرواية له خصوصية بل المراد عدم الجواز كذلك و لا ينطبق ذلك إلّا على حصول الانفعال

له بملاقاة الكفّ المتنجّسة كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ بعض الأعلام في الشرح بعد الاعتراف بدلالة الأخبار على منجسية المتنجّس و لو مع الواسطة و انّها غير قابلة للمناقشة قال ما ملخّصه: «انّا مع هذا كلّه نحتاج من التشبّث بذيل الإجماع و عدم القول بالفصل لأنّ مورد الاخبار انّما هو الماء و هو الذي لا يفرق فيه بين المتنجّس بلا واسطة و المتنجّس معها، و التعدّي عنه إلى الجوامد لا يتمّ إلّا بالإجماع و عدم القول

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 424

..........

______________________________

بالفصل بين الماء و غيره لأنّا نحتمل أن يكون تأثير المتنجّس في الماء مطلقاً من أجل لطافته و تأثّره بما لا يتأثّر به غيره. و من هنا اهتمّ الشارع بحفظه و نظافته و مع هذا الاحتمال لا مسوغ للتعدّي عن الماء إلى غيره، على انّ السراية المعتبرة في نجاسة الملاقي أمر ارتكازي و لا إشكال في عدم تحقّقها عند تعدّد الواسطة و كثرتها إلى أن قال: و لو لا مخافة الإجماع المدعى و الشهرة المحقّقة على تنجيس المتنجس مطلقاً لاقتصرنا في الحكم بتنجيس المتنجس على خصوص الماء أو المائعات».

أقول: البحث معه انّما هو من جهتين فإنّه تارة يبحث في انّ الأدلّة الدالّة على تنجيس المتنجّس هل تعمّ ما إذا كان المتنجّس جامداً أو تختص بخصوص الماء أو مطلق المائعات؟ و أُخرى في انّ تلك الأدلّة هل تشمل ما إذا كانت الواسطة متكثّرة كما إذا زادت على الاثنتين أم لا؟

امّا من الجهة الأُولى فالظاهر شمول الأدلّة للجامد أيضاً و عدم اختصاصها بالمائعات فضلًا عن الماء الذي هو موردها و ذلك لأنّ مثل رواية حريز المتقدّمة التي قد أمر فيها

بغسل الإناء الذي شرب منه الكلب ظاهر في عدم الاختصاص لأنّ الإناء الذي أمر بغسله جامد و الأمر بغسله إرشاد إلى تنجّس ما يلاقي معه سواء كان الملاقي مائعاً أم جامداً. غاية الأمر أنّه في صورة كون الملاقي جامداً لا بدّ من أن يكون هناك رطوبة مسرية في البين امّا في الجامد الملاقي و أمّا في الإناء الذي وقعت الملاقاة معه فالرواية ظاهرة في عدم الاختصاص بالمتنجّس المائع، و مع فرض كون الملاقي للإناء نوعاً هو المائع نقول: ظاهر كلامه عدم استفادة نجاسة نفس الإناء من الروايات و إن كانت الواسطة هي الماء لأنّ مدّعاه اعتبار الميعان في الملاقي للمتنجس لا في نفس المتنجّس كما يظهر من تعليله بلطافة الماء و تأثّره بما لا يتأثّر به غيره فالإنصاف انّ مثل رواية حريز شاهدة على خلافه مع انّه ما يرد عليه انّه على تقدير الاعتراف بكون مورد الاخبار هو الماء السؤال عن انّه الوجه في التعدّي عنه إلى مطلق المائعات خصوصاً مع عدم كونها في اللطافة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 425

..........

______________________________

و التأثر مثل الماء إلّا أن يقال بدلالة مثل صحيحة محمّد بن أبي نصر المتقدّمة الدالّة على انّه يكفي الإناء على عدم الاختصاص بالماء لعدم وضوح كون ما في الإناء ماء كما لا يخفى فترك الاستفصال دليل العموم لسائر المائعات.

و أمّا من الجهة الثانية فالحقّ معه لأنّ غاية ما يستفاد من الأخبار الواردة في تأثير المتنجّس هو التنجيس في المتنجس مع واسطة واحدة أيضاً لأنّ مثل رواية حريز الدالّة على نجاسة الإناء و تأثيرها في تنجس ملاقيه لا يدلّ على أزيد من ذلك ضرورة أنّ الإناء لا يكون

إلّا متنجّساً مع واسطة واحدة و الملاقى له و إن كان متنجّساً مع واسطتين إلّا انّه لم يعلم من الرواية تأثيره في نجاسة ملاقية أيضاً. فغاية ما هو مدلول الرواية التأثير في المتنجّس مع واسطة واحدة و عليه فلا يعلم وجه عطف الواسطتين على الواسطة الواحدة و الحكم بالتنجيس فيهما كالحكم به فيها و يمكن أن يكون مرادهم تعدّد المتنجّس و تكثّره لا تكثر الواسطة. نعم لو كان نجاسة ما في الإناء في مورد رواية حريز مستنداً إلى ملاقاته مع المتنجّس كاليد المتنجّسة لا إلى مثل شرب الكلب الذي هو نجس لتمّت دلالتها على ثبوت الحكم فيما كانت هناك واسطتان أيضاً، لكن المفروض فيها شرب الكلب من الإناء فالماء هو المتنجّس الأوّل كما انّه لو كان مثل صحيحة محمد بن أبي نصر المتقدّمة الدالّ على نجاسة ما في الإناء بإدخال اليد القذرة فيه دالّاً على لزوم غسل الإناء أيضاً الذي هو إرشاد إلى نجاسة ما يلاقيه لكانت دلالتها عليه أيضاً ظاهرة لكنّها خالية عن الدلالة على لزوم غسل الإناء.

و بالجملة: مورد ما يدلّ على غسل الإناء هو الملاقاة مع عين النجس، و ما كان مورده الملاقاة مع المتنجّس يكون خالياً عن الأمر بغسل الإناء إلّا أن يقال بأنّ ملاحظتهما و ضمّ كلّ منهما إلى الآخر يوجب ثبوت الحكم مع تعدّد الواسطة أيضاً بمقتضى الروايات لكن الذي يوهن ذلك انّ ضمّ كلّ منهما إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 426

..........

______________________________

الآخر و استفادة ذلك منهما إن كان مع قطع النظر عن الإجماع و عدم القول بالفصل فهو ممنوع و إن كان مع ملاحظتهما فلا حاجة إلى الضمّ أيضاً.

نعم صحيحة العيص

بن القاسم المتقدّمة يمكن استفادة تعدّد الواسطة منها بناءً على أن يكون المراد من قوله (عليه السّلام): إن كان من بول أو قذر شاملًا لما إذا كان ما في الطشت غسالة لتطهير المتنجّس بالبول أو القذر أيضاً و إن يكون المراد من قوله (عليه السّلام): فيغسل ما أصابه وجوب غسل مطلق ما أصابه و لو نفس الطشت و مثله فإنّها على هذين التقديرين تدلّ على ثبوت الحكم مع تعدّد الواسطة أيضاً فإنّ ما في الطشت ربّما يكون متنجّساً مع واسطة واحدة و الطشت أو مثله المأمور بغسله يكون متنجّساً مع واسطتين كما لا يخفى، و لكن التقديران خصوصاً الأوّل منهما غير ظاهرين فتدبّر.

و الحاصل: انّه لا يستفاد من الروايات أزيد من التنجيس فيما إذا كانت الواسطة واحدة و الظاهر انّه لا يكون هناك إجماع بعد كون أصل المسألة خلافية فإثبات الحكم مع تعدّد الواسطة سواء كانت اثنتين أو أزيد مشكل و لكن الاحتياط لا ينبغي بل لا يجوز تركه في مثل المقام.

المقام الثالث: في انّه هل يجري على المتنجّس بالمتنجّس جميع الأحكام الخاصّة المترتّبة عليه من لزوم تعدّد الغسل فيما إذا تنجّس بالبول أو لزوم التعفير أوّلًا فيما إذا تنجّس بولوغ الكلب فيه، فكما انّه يجب رعاية التعدّد في المتنجّس بالبول كالثوب مثلًا كذلك تجب رعايته في الثوب الآخر المتنجّس بالملاقاة مع الثوب الأوّل، و كما يجب تعفير الإناء الذي ولغ فيه الكلب كذلك يجب تعفير الإناء الثاني الملاقي مع الإناء الأوّل أم لا؟ و احتاط في المتن وجوباً بالجريان خصوصاً فيما إذا صبّ ماء الولوغ في إناء آخر.

و الحقّ أن يقال: إنّه تارة يقال بكفاية الغسل مرّة واحدة في مطلق النجاسات و انّ الزائد

عنها يحتاج إلى الدليل و أُخرى يقال بعدم الاكتفاء به

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 427

..........

______________________________

فيه بل اللازم الغسل إلى أن يحصل القطع بالطهارة أو يقوم الدليل على الكفاية.

فعلى الأوّل فالظاهر انّ المتنجّس الثاني لا يلزم فيه رعاية التعدّد لعدم قيام الدليل على اعتباره فيه فإنّ الدليل انّما دلّ على اعتبار التعدّد فيما أصابه البول و هذه الخصوصية لا تتجاوز عن المتنجس الأوّل بداهة أنّ المتنجس الثاني لم يصبه البول و انّما أصابه المتنجس بالبول فلا مجال للالتزام به.

و على الثاني الذي يبتني على جريان استصحاب النجاسة و بقائها إلى أن يحصل المزيل حقيقة أو تعبّداً فلا مناص من رعاية التعدّد في المتنجّس الثاني و الثالث و هكذا أيضاً لعدم حصول القطع بارتفاع النجاسة الحاصلة يقيناً عند الاكتفاء بالمرّة.

و الظاهر انّ المبنى الصحيح هو الأوّل، لأنّ أصل النجاسة في أكثر الأعيان النجسة انّما استفيد من الأمر بغسل ملاقيها و مقتضى إطلاقه الاكتفاء بتحقّق مسمّى الغسل و حقيقته الحاصلة بمرّة واحدة و لو كان التعدّد معتبراً لكان عليهم البيان خصوصاً مع ملاحظة عدم اعتبار التعدّد عند العقلاء بوجه.

نعم يمكن أن يقال مع البناء على هذا المبنى: إنّ المستفاد ممّا دلّ على اعتبار التعدّد في البول و نحوه عدم الاختصاص بالمتنجس الملاقي له من دون واسطة بل يسري الحكم إلى المتنجّس مع الواسطة أيضاً لأنّ نجاسته إنّما نشأت من البول أيضاً كنجاسة المتنجّس الأوّل، فالدليل يدلّ على اعتبار التعدّد فيه أيضاً، لكنّه يرد على هذا القول انّ تنجّس المتنجّس الثاني لو كان مستفاداً من أصل دليل نجاسة البول لكان لهذا الاستفادة مجال و لكنّه لا يكون كذلك فإنّ نجاسة البول

انّما استفيدت من الأمر بغسل ملاقيه مرّتين و نجاسة المتنجّس الثاني انّما استفيدت من دليل آخر مفاده لزوم غسله من دون اعتبار التعدّد و لا ملازمة بينهما في الحكم من هذه الجهة.

و هكذا الكلام بالإضافة إلى التعفير الثابت في ولوغ الكلب فإنّ الدليل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 428

..........

______________________________

الدالّ على اعتبار التعفير انّما دلّ على اعتباره في الإناء الذي ولغ الكلب فيه و لا دلالة له على اعتباره في الإناء الآخر الذي لم يتحقّق فيه ولوغ الكلب. غاية الأمر أنّه تنجّس بالملاقاة مع الإناء الأوّل الذي ولغ الكلب فيه بل لو لم يكن في البين دليل على أصل تنجّس الإناء الآخر لم نكن نلتزم بذلك فاللازم ملاحظة ذلك الدليل و هو خال عن اعتبار التعفير.

نعم ربّما يقال فيما إذا ولغ الكلب في إناء و صبّ مائه في إناء آخر من غير أن يصيب الكلب نفسه شيئاً من الإناءين بلزوم تعفير الإناء الثاني أيضاً لاشتراكه مع الإناء الأوّل فيما هو العلّة في تنجيسه و هو شرب الكلب من الماء المظروف مع فرض عدم إصابة نفسه و قد يوجه الاشتراك بأنّ لزوم التعفير انّما نشأ من انتقال بعض الميكروبات المضرّة إلى ما ولغ فيه الكلب و بعد الانتقال لا فرق بين بقائه في الإناء الأوّل أو صبّه بأجمعه أو ببعضه في الإناء الثاني و هكذا.

و لكنّه أُجيب عنه بأنّ العمدة في دليل التعفير هي صحيحة البقباق المتقدّمة الدالّة على انّ الكلب رجس نجس لا تتوضّأ بفضله و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء، و مرجع الضمير في قوله (عليه السّلام): و اغسله، غير مذكور فيها و

لكنّه يستفاد من القرينة الخارجية انّ المراد به هو الإناء الذي ولغ الكلب فيه و بقي فيه فضله و يلزم صبّه، و من المعلوم انّ الإناء الذي ولغ الكلب فيه هو الإناء الأوّل دون الثاني و الثالث، و أمّا حديث انتقال بعض الميكربات فالظاهر انّ النجاسة و وجوب التعفير لا يدوران مداره و إلّا لزم الحكم بوجوب تعفير الثوب و البدن و غيرهما ممّا افرغ فيه شي ء من الماء الذي ولغ الكلب فيه مع انّه لم يقل بذلك أحد لأنّ اعتباره مختصّ بالآنية.

هذا و لكنّه مع ذلك كلّه يشكل الحكم بالفرق بين الإناءين فإنّ منشأ الحكم بالتعفير على ما هو المتفاهم عند العرف هو مجرّد ملاقاة الماء الذي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 429

[مسألة 10 ملاقاة ما في الباطن بالنجاسة التي في الباطن لا ينجسه]

مسألة 10 ملاقاة ما في الباطن بالنجاسة التي في الباطن لا ينجسه، فالنخامة إذا لاقت الدم في الباطن، و خرجت غير متلطّخة به طاهرة. نعم لو أُدخل شي ء من الخارج و لاقى النجاسة في الباطن فالأحوط الاجتناب عنه و إن كان الأقوى عدم لزومه (1).

______________________________

ولغ فيه الكلب مع الإناء المفروض عدم إصابة الكلب نفسه شيئاً من الإناءين فالإناء الأوّل لا وجه للزوم تعفيره إلّا مجرّد الملاقاة مع الماء الكذائي و لا فرق بينه و بين الإناء الثاني من هذه الجهة أصلًا و احتمال مدخلية المظروفية حال الولوغ بعيد عن الأذهان إذ ليس للظرف خصوصية بل الخصوصية انّما هي في المظروف من ناحية الولوغ و شبهه كاللطع باللسان و هذه الخصوصية لا تنعدم مع تبدّل الظرف و الإناء بوجه فالأحوط لو لم يكن أقوى رعاية التعفير في هذه الصورة.

(1) أقول: لهذه المسألة صور أربع:

الأُولى: ما

إذا كانت النجاسة و الملاقى كلاهما من الباطن كالدم الملاقي لمحلّه، و الغائط الملاقي لظرفه، و الملاقي في هذه الصورة محكوم بالطهارة بلا إشكال كالنخامة الملاقية للدم في الباطن الخارجة غير المتلطّخة به و النوى الخارج من الإنسان إذا لم يكن معه شي ء من الغائط، و الوجه في عدم النجاسة قصور الأدلّة الدالّة على نجاسة الملاقي للنجس عن الشمول لهذه الصورة مع إمكان الاستدلال عليه بما دلّ على طهارة البلل الخارج من فرج المرأة كما في رواية ابن أبي محمود «1» مع ملاقاته لمجرى البول و الدم و المني، و بما دلّ على طهارة المذي فإنّه أيضاً قد لاقى موضع البول و المني، و بما دلّ على وجوب غسل الظاهر في الاستنجاء دون الباطن مع ملاقاته الغائط.

و بالجملة: لا دليل على نجاسة الباطن بوجه لأنّ النجاسة إنّما تستفاد من الأمر بغسلها، و لم يرد أمر بغسل الباطن أصلًا فتستكشف طهارته، و لو قلنا بنجاسته

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخامس و الخمسون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 430

..........

______________________________

فرضاً فلا بدّ من الالتزام بطهارته بمجرّد زوال العين.

الثانية: ما إذا كانت النجاسة خارجية و الملاقى من الأجزاء الداخلية كما إذا شرب مائعاً متنجّساً فإنّه لا محالة يلاقي الفم و الحلق و سائر الأجزاء الداخلية و الملاقى في هذه الصورة أيضاً محكوم بالطهارة من دون أن يكون هناك فرق في الأجزاء الداخلية بين أن تكون محسوسة كداخل الفم و الأنف، و بين أن تكون غير محسوسة.

و وجهه كما عرفت في الصورة الأُولى قصور الأدلّة الدالّة على نجاسة الملاقي عن الشمول لهذه الصورة، و لو قلنا بالنجاسة فرضاً بدعوى إطلاق الأدلّة

فلا محيص عن الالتزام بطهارته بمجرّد زوال العين، مضافاً إلى ما رواه عبد الحميد بن أبي الديلم قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه؟ قال: ليس بشي ء. «1» فإنّ داخل الفم لو كان يتنجس بالخمر لكان بصاق شارب الخمر أيضاً متنجّساً لا محالة.

الثالثة: ما إذا كانت النجاسة باطنية و الملاقى خارجياً كما في الأسنان الصناعية الملاقية للدم المتكوّن في الفم أو الإبرة النافذة في الجوف كما في التزريقات المتعارفة في زماننا هذا و هذه الصورة على قسمين:

أحدهما: ما إذا كانت النجاسة الداخلية في الجوف بحيث لم تكن قابلة للحسّ بإحدى الحواس كالنجاسة التي لاقيها شيشة الاحتقان أو الإبرة و نحوهما.

ثانيهما: ما إذا كانت قبلة للحسّ كالدم المتكوّن في الفم أو في داخل الأنف أو غيره.

امّا القسم الأوّل: فالجسم الخارجي الملاقي له محكوم بالطهارة لأنّه لا دليل على نجاسة الدم في العروق، أو البول و الغائط في محلّهما فضلًا عن أن يكون

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب التاسع و الثلاثون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 431

..........

______________________________

منجساً لملاقيه، و ذلك لأنّ الأدلّة الدالّة على نجاسة المذكورات مختصّة بالدم الخارجي و البول و الغائط الخارجيين لأنّ النجاسة فيها قد استفيدت من الروايات الآمرة بغسل ما أصابه شي ء منها، و الإصابة بنظر العرف انّما تتحقّق فيما إذا كانت المذكورات محسوسة، و إن شئت قلت: إنّه لا إطلاق لهذه الروايات يشمل هذا النحو من الإصابة على تقدير صدق الإصابة عليه فتدبّر.

و قد استدلّ بعض الأعلام على الطهارة في هذا القسم بالأخبار الواردة في طهارة القي ء كموثّقة عمّار قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام)

عن الرجل يتقيّأ في ثوبه أ يجوز أن يصلّي فيه و لا يغسله؟ قال: لا بأس «1». و نظيرها روايته الأُخرى «2». نظراً إلى انّ ملاقاة النجس الداخلي لو كانت موجبة للنجاسة لم يكن وجه للحكم بطهارة القي ء لاتّصاله في المعدة بشي ء من النجاسات لا محالة.

و أنت خبير بأنّ الاستدلال بها يتمّ لو ثبت اتّحاد محل الغائط مع ما لم يتحلّل من الغذاء أوّلًا و الظاهر خلافه، و لم يشترط تساوي سطح النجس مع غيره أو علوّ سطح النجس عليه في انفعاله ثانياً، مع انّ الظاهر أيضاً الاشتراط كما قرّر في محلّه.

و أمّا القسم الثاني: و هو ما إذا كانت النجاسة قابلة للحس كالدم المتكوّن في الفم فالظاهر عدم نجاسته أيضاً لحكم العرف بكونه باطنياً و انّ الأدلّة قاصرة عن الدلالة على نجاسته، و مجرّد كونه محسوساً لا يوجب الاتّصاف بها و إلّا فلا بدّ من الالتزام بوجوب الغسل في تطهيره مع انّهم لا يلتزمون به فما أفاده البعض المتقدّم من انّ الملاقي فيه محكوم بالنجاسة لكون ما دلّ على نجاسة ملاقي الدم شاملًا له غير واضح لنا.

الرابعة: ما إذا كانت النجاسة و الملاقى كلاهما من الخارج و يكون

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الأربعون ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثامن و الأربعون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 432

[القول فيما يعفىٰ عنه في الصلاة]

اشارة

القول فيما يعفىٰ عنه في الصلاة

[مسألة 1 ما يعفى عنه من النجاسة في الصلاة أُمور]

اشارة

مسألة 1 ما يعفى عنه من النجاسة في الصلاة أُمور:

[الأوّل: دم الجروح و القروح في البدن و اللباس حتّى تبرء]

الأوّل: دم الجروح و القروح في البدن و اللباس حتّى تبرء، و الأحوط إزالته أو تبديل ثوبه إذا لم يكن مشقّة في ذلك على النوع إلّا أن يكون حرجاً عليه فلا يجب بمقدار الخروج عنه فالميزان في العفو أحد الأمرين، امّا أن يكون في التطهير و التبديل مشقّة على النوع فلا يجب مطلقاً أو يكون ذلك حرجياً عليه مع عدم المشقّة النوعية فلا يجب بمقدار التخلّص عنه، و كون دم البواسير منها و إن لم تكن قرحة في الخارج، و كذا كلّ قرح أو جرح، باطني خرج دمه إلى الخارج لا يخلو من قوّة (1).

______________________________

الباطن ظرف الملاقاة فقط كما إذا ابتلع درهماً و شرب مائعاً متنجساً فتلاقيا في الفم ثمّ أخرج الدرهم نقياً، و في هذه الصورة لا يمكن الحكم بطهارة الملاقي لشمول الأدلّة الدالّة على وجوب غسل ما أصابه الدم أو غيره من النجاسات للدرهم المذكور بلا إشكال لأنّه جسم خارجي لاقى نجساً خارجياً و مجرّد كون الملاقاة في الباطن لا يوجب الحكم بعدم النجاسة لعدم مدخلية لموضع الملاقاة في حصول الانفعال و التنجس و الفرق بين هذه الصورة و بين القسم الأوّل من الصورة الثالثة واضح فإنّه في تلك الصورة لا تكون العين النجس أو المتنجّس بها محسوسة أصلًا و معه لا تتحقّق الإصابة المفروضة في دليل النجاسة، و أمّا هذه الصورة التي تكون العين النجس أو المتنجّس فيها محسوسة فالإصابة متحقّقة و إن كان ظرفها انّما هو الباطن فتدبّر.

(1) العفو في الصلاة عن دم الجروح و القروح في الجملة ممّا لا خلاف فيه و لا إشكال، و الخلاف انّما هو فيما اعتبر

فيه، ظاهر المحقّق في الشرائع اعتبار قيد المشقّة الظاهرة في المشقّة الفعلية و السيلان فيه و المراد من السيلان أن لا يكون في البين فترة يمكن وقوع الصلاة فيها من دون الدم. و عن كاشف الغطاء نسبته اعتبار كلا القيدين تارة إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 433

..........

______________________________

الأكثر و أُخرى إلى المشهور. و عن مفتاح الكرامة أيضاً ما يقرب من ذلك قال: «إنّ الظاهر من كلام الأكثر انّ المدار على المشقّة و الحرج و كلامهم يعطي لزوم الاستمرار على وجه لا يتيسّر الصلاة بدون الدم فيكون حالهما حال صاحب السلس و المبطون و المستحاضة و دائم النجاسة».

لكن عن ظاهر الصدوق و صريح جملة من المتأخّرين بل أكثرهم عدم اعتبار شي ء من القيدين و العفو عنه مطلقاً حتّى يتحقّق البرء، و عن جملة من الأصحاب اعتبار أحد القيدين.

و ربّما يورد على من اعتبر القيدين معاً بأنّه على هذا التقدير لا تبقى خصوصية للدمين لأنّ كلّ دم بل كل نجاسة يكون معفوّاً عنها مع وجود هذين القيدين مع انّ ظاهرهم ثبوت الخصوصية لهما و إن أفرادهما بالذكر لأجل هذه الخصوصية لا بمجرّد متابعة الرواية في التعرّض لهما و من هنا يحتمل بل يغلب على الظنّ أن لا يكون مرادهم من المشقّة ما هو ظاهرها من المشقّة الفعلية بل المشقّة النوعية كما انّه ربّما يحتمل أن يكون مرادهم بالسيلان و مثله من التعابير المختلفة الواردة في الكلمات هو ما كان له استعداد الجريان لا ما كان جارياً بالفعل.

و كيف كان فالمتبع هي الروايات الواردة في الباب و ما يفهم منها فنقول:

منها: رواية أبي بصير قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السّلام)

و هو يصلّي فقال لي قائدي: إنّ في ثوبه دماً فلمّا انصرف قلت له: إنّ قائدي أخبرني أنّ بثوبك دماً، فقال لي: إنّ بي دماً ميل و لست أغسل ثوبي حتّى تبرء «1». و هذه الرواية مطلقة من جهة القيدين فإنّه و إن كان من المحتمل وجود كلا القيدين في الدماميل التي كانت بالإمام (عليه السّلام) إلّا انّ بيان الحكم بصورة الإطلاق و عدم التقييد بشي ء منهما ظاهر في عدم مدخليته مع انّ وجود القيد الثاني مظنون العدم

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و العشرون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 434

..........

______________________________

لأنّه من المستبعد أن تكون إزالة الدم من الثوب أو تبديله مشقّة مشقّة على الإمام (عليه السّلام). و بالجملة فالرواية خالية عن اعتبار شي ء من القيدين بل جعلت الغاية فهيأ البرء.

و منها: صحيحة ليث المرادي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل تكون به الدماميل و القروح فجلده و ثيابه مملوّة دماً و قيحاً و ثيابه بمنزلة جلده فقال: يصلّي في ثيابه و لا يغسلها و لا شي ء عليه «1». و دلالتها على الإطلاق كالرواية المتقدّمة.

و منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمى كيف يصلّي؟ فقال: يصلّي و إن كانت الدماء تسيل «2». فإنّ المفروض في كلام الراوي و إن كان هو استمرار الإدماء إلّا انّ تعميم الحكم في الجواب بكلمة «إن» الوصلية ينفي اعتباره بل مقتضى الكلمة انّ جواز الصلاة مع عدم الاستمرار يكون أظهر و بنحو أولى مع انّ الظاهر انّه ليس المراد من القيد هو استمراره بنحو لا يكون في

البين فترة بمقدار الصلاة أيضاً، بل المتفاهم عند العرف هو تكرّر الخروج و شيوعه في مقابل انقطاعه بالمرّة.

و منها: موثقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدمل يكون بالرجل فينفجر و هو في الصلاة، قال: يمسحه و يمسح يده بالحائط أو بالأرض و لا يقطع الصلاة «3». و الأمر بمسحه كذا مسح يده بالحائط أو بالأرض ليس لأجل مدخليتهما في الصلاة بل انّما هو لأجل انّه لا مانع من مسحه ليزول ألمه بخروج القيح و الدم مضافاً إلى عدم تلوث الثوب به لأنّه لا داعي إليه كما انّه الوجه في الأمر بمسح اليد فتدبّر.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و العشرون ح 5.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و العشرون ح 4.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و العشرون ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 435

..........

______________________________

و منها: موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتّى يبرء و ينقطع الدم. «1» و قد استشهد بهذه الرواية للقول باعتبار السيلان نظراً إلى توصيف الجرح بالسائل في موضوع القضية الشرطية و إلى عطف انقطاع الدم على البرء الظاهر في كونه من قبيل عطف الخاصّ على العامّ فالمراد بالبرء حينئذٍ وقوف الدم عن السَّيلان و إمساكه الصادق على الفترات الحاصلة في الأثناء.

و الجواب انّ توصيف الجرح بالسائل انّما هو لكون المراد من الرواية نفي وجوب غسل الثوب و من المعلوم انّه مع عدم السيلان لا يصيب الثوب قهراً فالشرطية مسوقة لبيان الموضوع و لا مفهوم لها حينئذٍ و إن قلنا بثبوت المفهوم لها

في غير هذه الصورة مع انّ جعل الغاية هو البرء الظاهر في انقطاع الدم من أصل و عدم جريانه و لو مع فترة ظاهر في عدم مدخلية السيلان و إلّا لكان المناسب جعل الغاية غير البرء، و منه يظهر انّ العطف يوجب حمل الانقطاع على الانقطاع الكلّي المساوق للبرء لا الانقطاع الموقّت الصادق مع الفترة أيضاً.

و بالجملة: لا مجال للاستشهاد بظهور الرواية على مدخلية قيد السيلان في العفو كما انّه لا دلالة على ذلك لرواية إسماعيل الجعفي قال: رأيت أبا جعفر (عليه السّلام) يصلّي و الدم يسيل من ساقه «2». ضرورة أنّها حكاية فعل و لا تنافي الإطلاق بوجه.

و منها: موثقة سماعة المضمرة قال: سألته عن الرجل به الجرح و القرح فلا يستطيع أن يربطه و لا يغسل دمه قال: يصلّي و لا يغسل ثوبه كل يوم إلّا

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و العشرون ح 7.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و العشرون ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 436

..........

______________________________

مرّة فإنّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة. «1» و مثلها المضمر المرويّ في مستطرفات السرائر عن البزنطي عن العلاء عن محمد بن مسلم، قال: قال: إنّ صاحب القرحة التي لا يستطيع ربطها و لا حبس دمها يصلّي و لا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرّة. «2» و قد استدلّ بقوله (عليه السّلام) في مضمرة سماعة: فإنّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة، تارة على اعتبار السّيلان نظراً إلى انّ الغسل كل ساعة انّما يكون مع السيلان و عدم الفترة في البين إذ مع وجودها لا حاجة إلى الغسل كلّ ساعة، و أُخرى على

اعتبار المشقّة و عدم الاستطاعة لظهوره في كونه علّة للعفو و عدم وجوب الغسل فيدلّ على انّ الملاك هو المشقّة و هي الموجبة للعفو.

و الجواب عن الأوّل وضوح عدم كونه بظاهره علّة للحكم ضرورة انّه مع الاستطاعة و عدم ثبوت المشقّة أيضاً لا يجب عليه الغسل كلّ ساعة لعدم وجوب الصلاة التي تكون طهارة الثوب شرطاً لها واجبة في كلّ ساعة فاللازم أن يكون المراد امّا ساعات وجوب الصلاة و أمّا حمله على كونه تعبيراً عرفياً كناية عن التكرّر و التعدّد كما هو المتداول في تعبيراتنا العرفية في هذه الأزمنة أيضاً و على التقديرين لا دلالة له على اعتبار السيلان المدعى في المقام.

و أُجيب عن الثاني تارة كما في شرح بعض الأعلام على العروة بأنّ الإمام (عليه السّلام) انّما ذكر ذلك لأجل أنّه مفروض السؤال فإنّ سماعة إنّما سأله عمّن به جرح أو قرح لا يستطيع أن يغسله و يربطه فكأنّه (عليه السّلام) قال: و حيث انّ مفروض المسألة عدم تمكّن الرجل من الغسل فلا يغسله إلّا مرّة في كلّ يوم لا

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الثاني و العشرون ح 2.

(2) ذكرها في هامش الطبعة الأخيرة من الوسائل معترضا على المتن الذي يظهر منه ان المذكور في المستطرفات هي رواية ابن مسلم المتقدمة بعينها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 437

..........

______________________________

لأجل اعتباره في العفوّ.

و أُخرى كما في المستمسك بأنّ الظاهر من قوله: و لا يغسل دمه انّه معطوف على «يربطه» و يكون التقدير و لا يستطيع أن يغسل دمه و لكنّه ينافيه الأمر بغسل الثوب في كلّ يوم مرّة لامتناع التكلف بغير المستطاع فلا بدّ أن يحمل إرادة نفي

الاستطاعة على الغسل في كلّ يوم مرّة و يشهد به التعليل بقوله (عليه السّلام): فإنّه لا يستطيع إلخ. فتدلّ الرواية على العفو عن الدم إذا كان التطهير في مجموع المدّة غير مستطاع و هذا أجنبي عن اعتبار المشقّة في كلامهم حتّى لو حمل نفي الاستطاعة على المشقّة لأنّ المشقّة في تمام المدّة غير ما يظهر من المشقّة في كلامهم التي هي المشقّة في كلّ وقت من أوقات الابتلاء مع قطع النظر عن غيره.

و أنت خبير بأنّ الاستطاعة المنفية في السؤال غير الاستطاعة المنفية في الجواب، فإنّ المراد منها في السؤال هي الاستطاعة على غسل الدم عن محلّه الذي هو البدن و بتعبير آخر هو حبس الدم و قطعه كما وقع التعبير به في رواية محمد بن مسلم و الاستطاعة المذكورة في الجواب راجعة إلى استطاعة غسل الثوب و تطهيره عن الدم. و من المعلوم انّه لا ملازمة بين الاستطاعتين و عليه فلا يبقى مجال لشي ء من الجوابين.

و الإنصاف ظهور المضمرة بعد حملها التعليل فيها على ما ذكرنا و بعد وضوح كون المراد من الاستطاعة هي الاستطاعة العرفية التي تكون نقيضاً للمشقّة العرفية و بعد عدم كون المفروض في السؤال عدم ثبوت هذه الاستطاعة للرجل و هو يدلّ على كون المراد هي الاستطاعة النوعية لا الشخصية كما لا يخفىٰ في انّ الملاك للعفو هي المشقّة العرفية في غسل الثوب متعدّداً و بالإضافة إلى كلّ صلاة و لا يقدح في الاستدلال بها الإضمار بعد كون منشأه ذكر الإمام

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 438

..........

______________________________

(عليه السّلام) المروي عنه في أوّل الكتاب ثمّ الإشارة بالضمير إليه في باقي الكتاب و يؤيّده تكثّر

مضمراته. نعم هي دالّة على وجوب غسل كلّ يوم مرّة. و من المعلوم انّ المراد باليوم فيه هو اليوم و الليلة و لم يلتزم به الأصحاب و سيأتي البحث فيه.

و ممّا ذكرنا ظهر حال صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة المروية في السرائر و انّه لا دلالة لقوله (عليه السّلام): و لا حبس دمها على استمرار السيلان و دوام الجريان فانّ الظاهر انّ المراد منه هو الحبس بنحو الانقطاع الكلّي المساوق للبرء لا حبسه و لو في ساعة أو لحظة مثلًا و قد عرفت انّ عطف الانقطاع على البرء في بعض الروايات عطف تفسير و توضيح. نعم يبقى الدلالة على وجوب غسل الثوب في كل يوم مرّة و لا مانع من الحمل على الاستحباب لصراحة بعض الروايات المتقدّمة في عدم الوجوب كرواية أبي بصير المشتملة على قوله (عليه السّلام): و لست أغسل ثوبي حتّى تبرء و غيرها ممّا يأبى عن تقييده بالغسل مرّة في كلّ يوم مع انّ ظهورهما في الوجوب في نفسه ضعيف لأنّهما مسوقتان لنفي وجوب الزائد على المرّة لا لإفادة وجوبها كما لا يخفى.

و قد انقدح ممّا ذكرنا صحّة ما أفاده الماتن دام ظلّه من انّ الميزان في العفو أحد الأمرين؛ امّا أن يكون في التطهير و التبديل مشقّة على النوع فلا يجب مطلقاً أو يكون ذ لك حرجياً عليه مع عدم المشقّة النوعية فلا يجب بمقدار التخلّص عنه. فإنّ الأمر الأوّل هو الذي يستفاد من المضمرة بالتقريب الذي ذكرنا و الأمر الثاني هو الذي يدلّ عليه دليل نفي الحرج الظاهر في الحرج الشخصي. نعم ظاهر المتن انّ ذلك مقتضى الاحتياط و انّ الفتوى هو كون دم الجروح و القروح معفوّاً عنه مطلقاً

حتّى يتحقّق البرء و لعل منشأه إمكان المناقشة في حجّية المضمرة من جهة الإضمار أو استبعاد حمل المطلقات على صورة وجود المشقّة و قد عرفت انّ الإضمار في الرواية لا يقدح في اعتبارها لأنّ منشأه ما ذكرنا و الاستبعاد في غير

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 439

..........

______________________________

محلّه لما عرفت من انّه مع عدم فرض وجود المشقّة العرفية النوعية في مورد رواية سماعة قد جعله الإمام (عليه السّلام) في الجواب علّة للعفو و عدم وجوب غسل الزائد على المرّة فيستفاد من ذلك وجود هذه المشقّة نوعاً و عليه فلا استبعاد في حمل المطلقات على صورة وجودها فالأحوط الوجوبي رعايتها كما لا يخفى.

بقي الكلام في حكم دم البواسير التي هي علّة و قروح باطنية في أطراف المقعدة قد تنفجر و تسيل دمها في مقابل النواسير التي هي قروح خارجية حوالي المقعدة أو غيرها و كذا حكم سائر القروح و الجروح الباطنية الخارج دمها إلى الظاهر و قد نفى في المتن خلوّ كونه كسائر القروح و الجروح عن القوّة و لكنّه ربّما يشكل بأنّ عموم الحكم للباطني من القروح و الجروح غير ظاهر لأنّ إطلاق اللفظين ظاهر في الظاهر و الباطن يحتاج إلى التقييد و لا يفهم من قول القائل زيد فيه جرح أو قرح إلّا الجرح و القرح الظاهران.

و يندفع الإشكال بمنع الظهور في الظاهر ضرورة أنه يصحّ أن يقال للمبتلى بدم البواسير انّ به قرحة من دون تقييد الباطن. نعم لا ملازمة بينه و بين سائر القروح الباطنية كقرح الصدر أو المعدة أو نحوهما لأنّها و إن كان يصدق عليها الفرج حقيقة و لا حاجة فيها إلى التقييد أيضاً

إلّا انّ الظاهر انصراف القرح الوارد في الفتاوى و النصوص عن مثلها لأنّ المتفاهم منه عرفاً هو القرح الذي يصيب دمه الثوب و البدن عادة و من الواضح عدم ثبوت هذا الوصف فيها فلا مجال لتوهّم شمول الأدلّة لها خصوصاً إذا كان مثل دم الاستحاضة.

و يمكن أن يكون إطلاق المتن أيضاً ناظراً إلى هذه الصورة و لم يكن المراد كل قرح باطني خرج دمه إلى الظاهر حتّى يشمل مثل قرح الصدر و المعدة بل المراد القروح الباطنية التي يخرج دمها إلى الظاهر و يصيب الثوب أو البدن عادة مثل دم البواسير فتدبّر، كما انّه لا تبعد دعوى انّ العفو في القروح و الجروح

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 440

[الثاني: الدم في البدن و اللباس إن كانت سعته أقلّ من الدرهم البغلي]

اشارة

الثاني: الدم في البدن و اللباس إن كانت سعته أقلّ من الدرهم البغلي و لم يكن من الدماء الثلاثة: الحيض و النفاس و الاستحاضة، و نجس العين و الميتة على الأحوط في الاستحاضة و ما بعدها و إن كان العفو عمّا بعدها لا يخلو عن وجه، بل الأولى الاجتناب عمّا كان من غير مأكول اللحم، و لما كانت سعة الدرهم البغلي غير معلومة يقتصر على القدر المتيقّن و هو سعة عقد السبابة (1).

______________________________

الظاهرية انّما هو بالإضافة إلى الدم الواقع في المحل الذي يصيبه عادة من الثوب و البدن، و أمّا إذا أصاب ما يكون أجنبياً بالإضافة إليه كما لو أصاب دم القرحة التي في رجله رأسه أو عمامته فلا يتحقّق العفو بالنسبة إليه.

(1) في هذا الأمر جهات من الكلام:

الاولى: لا إشكال و لا خلاف في ثبوت العفو عمّا دون الدرهم من الدم، بل عن جمع من الأصحاب دعوى الإجماع

بالنسبة إلى الثوب و يأتي البحث في مشاركة البدن للثوب في الجهة الثانية إن شاء اللّٰه تعالى كما انّه لا شبهة في عدم ثبوت العفو فيما زاد على الدرهم و انّما الإشكال و الخلاف فيما إذا كان بقدره من غير زيادة و لا نقصان و إن كان هذا الفرض نادر التحقّق و إحرازه صعباً فالمستفاد من مثل المتن ممّا علق فيه الحكم بالعفو على ما إذا كانت سعته أقلّ من الدرهم أو ما إذا كان دونه أو مثلهما من التعبيرات عدم ثبوت العفو في المساوي كما ربّما نسب إلى المشهور بل عن الخلاف الإجماع عليه و عن كشف الحقّ نسبته إلى الإمامية.

و لا بدّ من ملاحظة الروايات فنقول:

منها: صحيحة عبد اللّٰه بن أبي يعفور في حديث قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلّى، أ يعيد صلاته؟ قال: يغسله و لا يعيد صلاته إلّا أن يكون

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 441

..........

______________________________

مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله و يعيد الصلاة «1». و دلالتها على عدم ثبوت العفو في المساوي ظاهرة.

و منها: مرسلة جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه (عليهما السّلام) انّهما قالا: لا بأس أن يصلّي الرجل في الثوب و فيه الدم متفرّقاً شبه النضح و إن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدرهم. «2» و هي أيضاً تدلّ على ذلك لكنها بالمفهوم.

و منها: مصحّحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال في الدم يكون

في الثوب إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، و إن كان أكثر من قدر الدرهم و كان رآه فلم يغسل حتّى صلّى فليعد صلاته، و إن لم يكن رآه حتّى صلّى فلا يعيد الصلاة. «3» و الاحتمالات الجارية في الرواية ثلاثة:

أحدها: أن تكون مهملة غير متعرّضة لفرض المساوي بلا زيادة و لا نقصان نظراً إلى ندرة تحقّقه و صعوبة إحرازه كما مرّ فلا دلالة لها على حكمه بوجه.

ثانيها: أن تكون متعرّضة لبيان حكمه أيضاً، غاية الأمر بالمفهوم و هو مفهوم الجملة الأُولى الدال على وجوب الإعادة فيما إذا لم يكن أقلّ من قدر الدرهم، و عليه فالجملة الثانية يكون تصريحاً بحكم أحد فردي المفهوم للجملة الاولى و الوجه في التصريح به كون الفرد الظاهر غير نادر التحقّق.

ثالثها: عكس الثاني و هو أن تكون الرواية دالّة على بيان حكم المساوي بمفهوم الجملة الثانية الدالّة على وجوب الإعادة فيما إذا كان أكثر من قدر

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 4.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 442

..........

______________________________

الدرهم و كان رآه فلم يغسل حتّى صلّى و تكون الجملة الأُولى تصريحاً بحكم أحد فردي المفهوم للجملة الثانية و الوجه في التصريح به ما مرّ.

ثمّ انّ الاحتمال الأوّل مخالف لظاهر الرواية حيث إنّها ظاهرة في التعرّض لحكم جميع فروض المسألة و الإهمال بالنسبة إلى بعض الفروض ينافي ذلك و الاحتمال الثالث بعيد لأنّ التصريح بالمفهوم قبل المنطوق خصوصاً مع كون المفهوم المصرّح به بعض الأفراد لإتمامه خلاف ما هو المتفاهم عند العرف في مثل هذا النحو

من التعبيرات و هذا بخلاف التصريح به بعد المنطوق فإنّه أمر شائع، و عليه فالرواية أيضاً تدلّ على عدم العفو في المساوي و لا أقلّ من كون الرواية مجملة محتملة لأحد الاحتمالين الأخيرين من دون أن يكون هناك ترجيح في البين و حينئذٍ فمثل صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة تصلح لرفع الإجمال و إن تصير قرينة على تعين الاحتمال المطابق لها كما لا يخفى.

و منها: صحيحة محمد بن مسلم قال: قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ و أنا في الصلاة؟ قال: إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه و صلِّ في غيره، و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك و لا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم و ما كان أقلّ من ذلك فليس بشي ء رأيته قبل أو لم تره، و إذا كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله و صلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه. «1» و عن التهذيب زيادة لفظة «واو» قبل قوله: «ما لم يزد» و إسقاط قوله: «و ما كان أقلّ من ذلك» و عليه تكون جملة: «ما لم يزد إلخ» جملة مستأنفة خبرها قوله فليس بشي ء، و حيث إنّ الشيخ (قدّس سرّه) رواها في «التهذيب» عن كتاب «الكافي» فيدلّ ذلك على انّ النسخة الموجودة عنده منه كانت مطابقة لما في التهذيب فلا مجال للقول بأنّ ما في الكافي أضبط ممّا في غيره.

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 443

..........

______________________________

و كيف كان فالرواية على نقل الشيخ أشبه بكونها صادرة من الإمام (عليه السّلام) لخلوّها حينئذٍ عن التكرار

كما لا يخفى و مقتضاها على هذا التقدير ثبوت العفو عن المساوي و إن الحكم بوجوب الإعادة انّما هو فيما إذا كان أكثر من الدرهم، كما انّه على التقدير الآخر يكون مقتضاها ذلك لأنّ المشار إليه بقوله: و ما كان أقلّ من ذلك ليس هو الدرهم بل الزائد عليه المدلول عليه بقوله ما لم يزد على مقدار الدرهم و من المعلوم انّ المساوي يكون أقلّ من الزائد عليه فالرواية تدلّ على العفو عنه. نعم لو كان المشار إليه هو نفس الدرهم يتحقّق التعارض بين مفهومه و بين الجملة اللاحقة و يجري فيه ما ذكرناه في الرواية السابقة و مقتضى تقديم الجملة الاولى عدم ثبوت العفو في المساوي أيضاً.

و حيث إنّ ظهور الرواية في العفو قابل للمناقشة كما عرفت مع عدم خلوّها عن الاضطراب أيضاً من جهة إطلاق الحكم بوجوب طرح الثوب الذي يكون المراد به إزالة الدم لوضوح عدم خصوصية فيه و رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة ظاهرة في عدم العفو فلا مجال للأخذ بهذه الرواية بل اللازم الفتوى على طبق تلك الرواية و الحكم بلحوق المساوي بالزائد كما هو مقتضى إطلاق أدلّة مانعية الدم.

الجهة الثانية: في عدم اختصاص الحكم بالعفو الذي عرفت بخصوص الثوب بل يجري في البدن أيضاً كما ادّعى عليه الإجماع في كتب متعدّدة و يشمله إطلاق معقد الإجماع في كتب أُخر و الاقتصار على الثوب في النصوص و في جملة من الكتب تبعاً لها ليس لإفادة الانحصار بل لعلّه لأجل كون البدن مستوراً به غالباً و انّه لا يصيب البدن الدم نوعاً غير دم القروح و الجروح مع انّ العرف لا يفهم منها الاختصاص بوجه، و أمّا رواية مثنّى بن عبد

السلام عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: إنّي حككت جلدي فخرج منه دم فقال: إن اجتمع قدر حمّصة فاغسله و إلّا فلا. «1»

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 444

..........

______________________________

فهي ظاهرة في عدم نجاسة ما دون الحمصة لأنّ الأمر بالغسل إرشاد إليها و نفي وجوبه إرشاد إلى عدمها و هذا ممّا لم يقل به أحد عدا الصدوق و قد تقدّم نقله و جوابه مع انّ الرواية ضعيفة سنداً لعدم ثبوت وثاقة مثنى و إن كان رواية صفوان و البزنطي عنه في بعض الموارد أمارة على وثاقته كما اعترف به جماعة من أجلّاء هذا الفن كالشيخ الطوسي و الوحيد البهبهاني (قدّس سرّهما) و التحقيق في محلّه.

الجهة الثالثة: في انّ الحكم بالعفو عمّا دون الدرهم من الدم لا يكون مطلقاً شاملًا لجميع الدماء بل هنا دماء خارجة عن هذا الحكم:

منها: دم الحيض و الظاهر عدم الخلاف في عدم العفو عنه بل عن جملة من الأصحاب دعوى الإجماع عليه و يدلّ عليه رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أو أبي جعفر (عليه السّلام) قال: لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض فإنّ قليله و كثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء «1». و ضعفها مجبور بالعمل كما انّ روايتها مقطوعة و غير مسندة إلى الإمام (عليه السّلام) في بعض نسخ التهذيب لا تقدح بعد كونها مروية مسندة في الكافي و في بعض آخر من نسخه و ظهورها في عدم استثناء الأقلّ من الدرهم في دم الحيض لا خفاء فيه لدلالتها على خصوصية لدم الحيض غير

موجودة في غيره.

و بعد ملاحظة ما ذكر لا حاجة إلى الاستدلال لعدم العفو في دم الحيض بإطلاق بعض الأخبار الخاصّة الدالّة على وجوب غسل دم الحيض بدعوى انّ النسبة بينها و بين ما دلّ على العفو عمّا دون الدرهم عموم من وجه و بعد التعارض في مورد الاجتماع يرجع إلى أدلّة المانعية، و كذا لا حاجة إلى الاستدلال بعموم ما دلّ على وجوب الاجتناب عن الدم أو مطلق النجس بعد دعوى قصور أدلّة العفو عن الشمول لدم الحيض لأنّ المفروض في موردها هو الرجل الذي لا يصيبه

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و العشرون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 445

..........

______________________________

مثل دم الحيض إلّا نادراً.

مضافاً إلى ضعف كلا الدليلين لأنّ ما يدلّ على وجوب غسل دم الحيض ليس إلّا مثل ما يدل على وجوب غسل مطلق الدم في انّ مفاده مجرّد النجاسة و هو لا ينافي أدلّة العفو بوجه بل تكون هذه الأدلّة حاكمة عليها كما لا يخفى. كما انّ دعوى قصور أدلّة العفو ممنوعة لظهور كون الرجل مذكوراً فيها بعنوان المثال ضرورة انّه لا تنبغي المناقشة في استفادة حكم النساء من هذه الأدلّة و انّ الدم غير الحيض إذا كان أقلّ من الدرهم يكون معفوّاً عنه بالإضافة إليهن أيضاً، فالعمدة في عدم العفو في دم الحيض ما ذكرنا.

و منها: دم النفاس و قد حكى عن جماعة دعوى الإجماع على عدم العفو عنه و عن دم الاستحاضة أيضاً، و لكن المحقّق في المعتبر و النافع نسب إلحاقهما بدم الحيض إلى الشيخ (قدّس سرّه) و هو يشعر بكون المسألة خلافية و اختار صاحب الحدائق عدم الإلحاق بل قال:

إنّ الإلحاق لا يخرج عن القياس.

و كيف كان فالعمدة في الإلحاق كونه كدم الحيض حكماً بل موضوعاً و قد ورد انّ النفاس حيض و المراد منه امّا كونه منه موضوعاً نظراً إلى انّه حيض محتبس، و أمّا كونه مثله في جميع الآثار التي منها عدم العفو في المقام، و لكن الظاهر عدم كونه رواية معتبرة و على تقديره فكونه منه موضوعاً لا يقتضي اشتراكه معه في عدم العفو لأنّ امتيازه بوصف الاحتباس يوجب أن يكون موضوعاً آخر عرفاً و لا يشمله أدلّة عدم العفو في الحيض و لا أقلّ من الشكّ في الشمول و كونه مثله في جميع الآثار غير ظاهر من الرواية فالإلحاق مشكل و الاستدلال عليه بكون نجاسته مغلظة لأنّه يوجب الغسل فاختصاصه بهذه المزية يدلّ على قوّة نجاسته على باقي الدماء فغلظ حكمه في الإزالة لا يخفى ما فيه من انّه مجرّد اعتبار لا يصلح دليلًا لإثبات حكم شرعي، و عليه فالعمدة هو الإجماع المحكي المتقدّم لو كان له أصالة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 446

..........

______________________________

و كان الإجماع المنقول حجّة.

و منها: دم الاستحاضة و استدل على الإلحاق فيه بما دلّ على لزوم تبديل القطنة و بأنّ الاستحاضة مشتقّة من الحيض و بتساويهما في إيجاب الغسل و هو يشعر بالتغليظ و في كلّ منها ما لا يخفى و العمدة فيه أيضاً هو الإجماع المحكي المتقدّم.

و منها: دم نجس العين كالكلب و الخنزير بل الكافر كما هو صريح عبارة المتأخّرين، قال المحقّق في محكي المعتبر: «و ألحق أي بدم الحيض بعض فقهاء قم دم الكلب و الخنزير و لم يعطنا العلّة و لعلّه نظر إلى ملاقاته جسدهما

و نجاسة جسدهما غير معفو عنها» و لكن قال الحلّي في محكي السرائر: «و قد ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين من الأعاجم و هو الراوندي المكنّى بالقطب انّ دم الكلب و الخنزير لا تجوز الصلاة في قليله و كثيره مثل دم الحيض قال لأنّه دم نجس العين و هذا خطأ عظيم و زلل فاحش لأنّ هذا هدم و خرق لإجماع أصحابنا».

أقول: إنّ دم نجس العين فيه جهات:

إحداها: النجاسة من حيث كونه من أفراد طبيعة الدم.

ثانيتها: النجاسة من جهة كونه دماً لنجس العين فانّ اتصافه بوصف الجزئية له يوجب ثبوت النجاسة له و احتمال ثبوت النجاسة العرضية له بسبب الملاقاة للاجزاء ممّا لا مجال له أصلًا، و إن كانت عبارة المحقّق المتقدّمة ظاهرة في ذلك فانّ ملاك النجاسة فيه و في سائر الأجزاء و هي الجزئية لنجس العين واحد و لا يعقل بعد الاشتراك في ملاك النجاسة عروض النجاسة العرضية لأجل الملاقاة مع سائر الأجزاء كما لا يخفى.

ثالثتها: كونه من أجزاء غير المأكول فإنّ كلّ نجس العين غير مأكول اللحم لعدم إمكان اجتماع نجاستها مع المأكولية و بعد ثبوت هذه الجهات الثلاث يقع الكلام في انّ المستفاد من أدلّة العفو عمّا دون الدرهم من الدم هل هو العفو عن المانعية من حيث مطلق الدم أو العفو عن المانعية مطلقاً و لو كان فيه جهات أُخر من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 447

..........

______________________________

المانعية؟ يظهر من المصباح الثاني حيث إنّه أورد على نفسه بما حاصله: انّ دم نجس العين تصادق عليه عنوانان من النجاسة و أخبار العفو انّما دلّت على العفو عنه من حيث كونه دماً لا من حيث كونه جزء من

كلب أو كافر فوجوب إزالته من هذه الجهة لا ينافي ثبوت العفو عنه من حيث كونه دماً كما انّه لا منافاة بين ثبوت العفو عن دم من حيث كونه دماً و وجوب إزالته من حيث ملاقاته للبول و كون العنوانين متلازمين لا يصلح مانعاً. فأجاب: بأنّه لا يخفى على المتأمّل في أخبار العفو انّها ليست مسوقة لبيان قضية طبيعية نظير قولنا: الغنم حلال و الخنزير حرام حتّى يكون موضوعها صرف الطبيعة من حيث هي مع قطع النظر عن عوارضها المشخصة بحيث لا ينافيها خروج بعض الأفراد بواسطة تلك العوارض بل هي مسوقة لبيان الحكم الفعلي الثابت لمصاديق الدم و جزئياته المتحقّقة في الخارج. و كيف لا مع انّ رواية أبي بصير التي استثنى فيها دم الحيض ظاهرها إرادة العموم و كذا أغلب الأخبار المتقدّمة الدالّة على العفو صدرت جواباً عن السؤال عن حكم من رأى بثوبه دماً فكيف يجوز في مثل الفرض تنزيل إطلاق الجواب من غير استفصال على إرادة بيان حكم الطبيعة من حيث هي دون افرادها مع انّ السائل إنّما سأل عن حكم الدم الخارجي الذي أصاب الثوب لا عن الحكم المتعلّق بطبيعة الدم من حيث هي فأخبار الباب بظاهرها تعمّ دم الكلب و الكافر أيضاً.

و يرد عليه انّه بعد تسليم ثبوت النجاسة من جهتين و الالتزام باجتماع نجاستين لا يبقى مجال لما ذكر من عموم أخبار الباب و شمولها لدم نجس العين ضرورة انّ الموضوع للحكم بالعفو في أدلّته هي نفس الدم من دون فرق بين رواية أبي بصير الظاهرة في العموم و بين غيرها الذي يستفاد العموم فيه من ترك الاستفصال فانّ الموضوع في جميعها هو عنوان الدم و لا يعقل

أن يكون لشي ء آخر فيه مدخلية لعدم حكاية عنوان الدم عن ذلك الشي ء بوجه فإذا قيل يجب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 448

..........

______________________________

إكرام كل عالم يكون المتعلّق هو إكرام كلّ من كان ثابتاً له وصف العالمية و لا يعقل بلحاظ نفس هذا الدليل مدخلية شي ء آخر زائد كالعدالة مثلًا في الوجوب لعدم حكاية عنوان العالم عن ذلك الشي ء أصلًا فأخبار العفو موضوعها الدم، و أمّا دم نجس العين فإضافته إليها لها مدخلية في ثبوت عنوان آخر من النجاسة و هي الجزئية لها فكيف يعقل أن تكون أخبار العفو ناظرة إليها أيضاً مع انّ الالتزام بكون بصاق الكلب مانعاً و دمه القليل غير مانع ممّا لا سبيل إليه هذا و لو قطعنا النظر عن ذلك فعنوان غير المأكولية الذي هو من العناوين المانعة في قبال النجاسة لا يصير في المقام معفوّاً عنه باخبار العفو عن الدم بوجه كما لا يخفى. و لكن هذا العنوان لا يكون مانعاً بنحو الإطلاق لعدم كون أجزاء الآدمي مانعاً من هذه الجهة كما سيأتي البحث فيه في محلّه فالمشرك و اليهودي و النصراني بناء على نجاستهم خارجون عن هذا العنوان بخلاف الكلب و الخنزير فالظاهر بمقتضى ما ذكر عدم العفو في دم نجس العين.

و منها: دم الميتة، و الكلام فيه هو الكلام في دم نجس العين.

الجهة الرابعة: في انّه بعد وضوح كون المراد من الدرهم في الأخبار الواردة في هذا الباب هو سعته دون وزنه ماذا يكون حدّه و مقدار سعته.

فنقول: المحكي عن المتقدّمين تفسير الدرهم المعفوّ عمّا دونه بالوافي و عن الانتصار و الخلاف و بعض آخر الإجماع عليه. و عن كثير تفسيره

بالبغلي و عن بعض الأساطين انّ كون الدرهم هو البغلي من العمليات و الإجماعات عليه لا تحصر و الظاهر رجوع التفسيرين إلى أمر واحد لخلوّ الروايات عن هذا الوصف و ادّعاء كلا الطرفين الإجماع على مدعاه مع عدم إشعار كلامهما بثبوت الخلاف في هذه الجهة و شهادة المحقّقين الباحثين في النقود الإسلامية بكون الوافي هو البغلي كما انّه له اسماً ثالثاً و هو السود، فدعوى انّه من البعيد جدّاً أن يعبّروا عن شي ء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 449

..........

______________________________

واحد بتعبيرين مختلفين كما في كلام بعض الأعلام في شرح العروة ساقطة جدّاً.

ثمّ إنّه يظهر من المقريزي انّ أوّل من أمر بضرب السكّة في الإسلام هو عمر بن الخطّاب قال في محكيه: «قد تقدّم ما فرضه رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) في نقود الجاهلية من الزكاة و انّه أقرّ النقود في الإسلام على ما كانت عليه فلمّا استخلف أبو بكر عمل في ذلك بسنّة رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و لم يغيّر منه شي ء حتّى إذا استخلف أبو حفص عمر بن الخطّاب و فتح اللّٰه على يديه مصر و الشام و العراق لم يعرض لشي ء من النقود بل أقرّها على حالها فلمّا كانت سنة ثماني عشرة من الهجرة و هي السنة الثامنة (السادسة ظ) من خلافته أتته الوفود منهم وفد البصرة و فيهم الأحنف بن قيس فكلّم عمر بن الخطاب في مصالح أهل البصرة فبعث معقل بن يسار فاحتفر نهر معقل الذي قيل فيه: إذا جاء نهر اللّٰه بطل نهر معقل. و وضع الجريب و الدرهمين في الشهر فضرب حينئذٍ الدراهم على نقش الكسروية و شكلها

بأعيانها غير انّه زاد في بعضها: الحمد للّٰه، و في بعضها: محمّد رسول اللّٰه، و في بعضها: لا إله إلّا اللّٰه وحده، و في آخر مدّة عمر وزن كل عشرة دراهم ستّة مثاقيل.

و نقل الدميري عن كتاب «المحاسن و المساوئ» انّه كانت الدراهم في ذلك الوقت يعني قبل سكة عبد الملك انّما هي الكسروية التي يقال لها اليوم يعني أيّام خلافة هارون الرشيد «البغلية» لأنّ رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك و تحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خر» أي كُلْ هنيئاً.

و رأس البغل اسم يهودي، قال صاحب البرهان القاطع في مادة «درخش» درخش اسم بيت نار بناه رأس اليهود المسمّى برأس البغل و هو الذي ضرب بعد ذلك الدراهم البغلية فسمّيت باسمه و ذلك في مدينة ارمنية التي بنى فيها ذلك البيت، بيت النار و هو الذي بنى شيراز أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 450

..........

______________________________

و في مجمع البحرين بعد بيان وجه التسمية بمثل ما ذكر بناء على سكون الغين و تخفيف اللام قال: و قيل هو بفتح الغين و تشديد الياء أي بغليّ بلدة قريبة من الحلّة و هي بلدة مشهورة بالعراق و الأوّل أشهر على ما ذكره بعض العارفين».

و هذا الوجه هو الذي ذكره الحلّي في السرائر، قال في محكيها: «البغلي نسبة إلى مدينة قديمة يقال لها: بغل قريبة من بابل بينهما قرب من فرسخ متّصلة ببلد الجامعين تجد فيها الحفرة و الغسّالون و النباشون دراهم واسعة شاهدت درهماً من تلك الدراهم، و هذه الدراهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام و المعتاد يقرب سعته من أخمص الراحة.

و قال

فيها أيضاً: «انّه قال لي بعض من عاصرته ممّن له علم بأخبار الناس و الأنساب انّ المدينة و الدراهم منسوبة إلى ابن أبي بغل رجل من كبار أهل الكوفة اتّخذ هذا الموضع قديماً و ضرب هذا الدرهم الواسع فنسب إليه الدرهم البغلي و هذا غير صحيح لأنّ الدراهم البغلية كانت في زمن رسول اللّٰه و قبل الكوفة».

و قد عرفت انّها كانت تسمّى قبل الإسلام بكسروية و حدث لها اسم البغلية في الإسلام و ظهر انّ الأشهر في وجه التسمية هو الأمر الأوّل و حكى السيّد العلم الحجّة صاحب أعيان الشيعة فيها و المحدِّث الخبير المرحوم الشيخ عباس القمّي في هدية الأحباب عن الفاضل المتتبّع الشيخ حيدر قلي خان المعروف بسردار الكابلي في رسالة «غاية التعديل في الأوزان و المكائيل» قال: رأيت في دائرة المعارف البريطانية انّ أوّل من أمر بضرب السكة الإسلامية هو الخليفة عليّ بالبصرة سنة 40 من الهجرة الموافقة لسنة 660 مسيحية ثمّ أكمل الأمر بعده عبد الملك الخليفة سنة 76 من الهجرة الموافقة لسنة 695 مسيحية بل في محكي تاريخ جودت پاشا انّ أقدم سكّة رآها في خلافة عليّ كرّم اللّٰه وجهه كان مكتوباً على دائرتها التي ضربت في سنة 37 للهجرة بالخط الكوفي: «ولي اللّٰه» و انّه رأى على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 451

..........

______________________________

دائرة السكّة التي ضربت في سنة 38 و 39: «بسم اللّٰه ربّي».

فعلى هذا أوّل من أحدث السكة الإسلامية و أبطل النقوش الكسروية و القيصرية المصنوعة بيد رجل يهودي معاند لشوكة الإسلام و المسلمين و ساع في تخريبه و هدمه و في ترويج النار و بيتها، هو علي بن أبي طالب

أمير المؤمنين المتفطّن لذلك الماحي لآثار الشرك و شعائر المجوسية و ما شابهها و لا يترقّب منه إلّا ذلك و لا يتوقّع من غيره ذلك.

و كيف كان فالظاهر انّ الدرهم الشائع في زمن صدور الروايات الواردة عن الصادقين (عليهما السّلام) هو الدرهم المعروف بالبغلي و لا بدّ من حمل الأخبار عليه و الظاهر اختلاف الدراهم المذكورة من حيث السعة و الضيق لأنّها كانت مضروبة بالآلات اليدوية و هي تقتضي وجود الاختلاف لعدم الانضباط لها و مع وجود الاختلاف لا يمكن أن تكون العبرة بأجمعها لأنّ الورود مورد التحديد ينافي ذلك لاستلزامه الحكم بالعفو عن مقدار خاص باعتبار انّه أقلّ من بعض الدراهم و عدم الحكم بالعفو عنه باعتبار انّه مساوٍ لبعض الدراهم الأُخر أو زائد عليه فلا محيص من أن يكون الملاك بعضها.

و أمّا ما أفاده في المصباح من انّه لو كانت الدراهم المتعارف مختلفة المقدار فالعبرة في عدم العفو بالزيادة عن جنسها على الإطلاق فلا تضرّ زيادته عن بعض المصاديق دون بعض و هذا بخلاف ما لو قلنا بالعفو عمّا دون الدرهم لا مقداره فإنّه يعتبر على هذا التقدير نقصانه عن مطلقه فلا يجدي نقصانه عن بعض مصاديقه.

ففيه انّه لا فرق بين التقديرين بعد ما عرفت من انّ الورود مورد التحديد يقتضي أن يكون الملاك درهماً خاصّاً و ليس المقام من قبيل المطلق الصالح للانطباق على كل فرد لامتناع التحديد بما يصلح للانطباق على القليل و الكثير مع انّه على تقديره أيضاً لا فرق بينهما لأنّ الزيادة عن بعض المصاديق تصدق عليه الزيادة قطعاً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 452

..........

______________________________

لكون ذلك البعض تمام الجنس و كمال الطبيعة

كما انّ النقصان عنه يوجب صدق النقيصة كذلك و هذا كما في الوجود و العدم فإنّه كما انّ وجود الطبيعة يتحقّق بوجود الفرد كذلك عدمها أيضاً يتحقّق بعدم الفرد و لا مانع من اجتماع الوجود و العدم المضافين إلى الطبيعة في آن واحد كاجتماع الطول و القصر و سائر الأُمور المتضادّة في آن واحد و عليه فصدق الزيادة لا يتوقّف على الزيادة على تمام الأفراد و كذلك النقيصة و لا مانع من اجتماع الأمرين في آن واحد.

فالإنصاف أنّه لا بدّ من أن يكون الملاك مقداراً معيّناً و سعةً مخصوصة، و قد عرفت انّ الملحوظ في هذا الباب هي السعة و المساحة دون الوزن فالبحث من الجهة الراجعة إلى الوزن لا يجدي في المقام أصلًا، و أمّا من جهة السعة فقد اختلفت الكلمات في تحديدها فعن بعضهم تحديده بأخمص الراحة و هو ما انخفض من باطن الكفّ و ربّما نسب ذلك إلى أكثر عبارات الأصحاب. و عن الإسكافي تقدير الدرهم بعقد الإبهام الأعلى من غير تعرّض لكونه البغلي أو غيره، و عن بعض آخر تقديره بعقد الوسطى، و عن رابع تحديدها بعقد السبابة و هو أقل التحديدات. و عن روض الجنان بعد نقل التقديرات الثلاثة الأُولى قال: إنّه لا تناقض بين التقديرات لجواز اختلاف افراد الدراهم من الضارب الواحد كما هو الواقع و اخبار كلّ واحد عن فرد رآه.

و الظاهر انّ مستند التقدير الأوّل ما تقدّم من الحلّي من شهادته بكون الدرهم الذي شاهده يقرب من سعة أخمص الراحة و يمكن الإيراد عليه مضافاً إلى انّ الشهادة يعتبر فيها التعدّد و لا تكون من قبيل النقل و الرواية و إن أُجيب عن ذلك بأنّ قوله يفيد

الوثوق بل القطع إذ لا يحتمل في حقّه التعمّد في الكذب أو الخطأ في الحسّ. و إلى انّ مقتضى شهادته كونه يقرب من تلك السعة لا انّه نفس تلك السعة و الفرق بين الأمرين واضح بأنّ ما أفاده انّما هو بالإضافة إلى الدرهم البغلي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 453

[مسألة 2 لو كان الدم متفرّقاً في الثياب و البدن لوحظ التقدير على فرض اجتماعه]

مسألة 2 لو كان الدم متفرّقاً في الثياب و البدن لوحظ التقدير على فرض اجتماعه فيدور العفو مداره و لكن الأقوى العفو عن شبه النضح مطلقاً و لو تفشّي الدم من أحد جانبي الثوب إلى الآخر فهو دم واحد و إن كان الاحتياط في الثوب الغليظ لا ينبغي تركه، و أمّا مثل الظهارة و البطانة و الملفوف من طيات عديدة و نحو ذلك فهو متعدّد (1).

______________________________

بالمعنى الذي فسّره به و هو كونه منسوباً إلى مدينة بغل، و أمّا بالمعنى الذي هو الظاهر و المعروف من إضافته إلى ضاربه و هو رأس البغل الذي ضربه بأمر عمر بن الخطّاب فلا دلالة لكلامه على كون سعته ذلك.

و قد أورد على سائر التحديدات بأنّها ليست تحديداً للدرهم البغلي الوافي لعدم التقييد به فيها و انّما تكون تحديداً للدرهم المعفو عن مقداره و يدفع هذا الإيراد وضوح كون الدرهم المعفو عن مقداره هو الدرهم الشائع في زمن صدور الأخبار و لا يكون إلّا الدرهم البغلي الوافي فلا حاجة إلى التصريح به.

و كيف كان فمع وجود هذا الاختلاف في تحديد الدرهم و لعلّ منشأه ما عرفت من الروض من جواز اختلاف أفراد الدرهم من الضارب الواحد لا بدّ من الاقتصار على الأقلّ و هو سعة عقد السبابة كما أفاده في المتن لأنّ مقتضى

القاعدة فيما إذا كان المخصّص مجملًا بحسب المفهوم و دار أمر بين الأقلّ و الأكثر الاقتصار على الأقلّ لأنّه المتيقّن من التخصيص و الرجوع في الزائد عليه إلى العام.

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في فرضين:

الأوّل: ما لو كان الدم متفرّقاً في الثياب أو البدن أو فيهما فهل الملاك لحاظ التقدير على فرض اجتماعه و دوران العفو مداره بمعنى انّه لو كان على تقدير الاجتماع غير متحقّق فيه عنوان العفو و هو الأقل لا يكون معفوّاً عنه و إلّا فيكون كذلك أو انّ الملاك لحاظ التقدير في كلّ من الوجودات المتفرّقة و انّ اللازم ملاحظة كل وجود على حياله و استقلاله فإن كان أقلّ من الدرهم فهو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 454

..........

______________________________

معفو عنه و إن بلغ مجموع الوجودات أضعاف الدراهم و قد وقع الخلاف بينهم في ذلك فذهب إلى كل واحد من الاحتمالين جماعة و نسب قول كلّ إلى المشهور و اللازم ملاحظة الروايات الواردة في الباب فنقول:

منها: صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلّى، أ يعيد صلاته؟ قال: يغسله و لا يعيد صلاته إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله و يعيد الصلاة «1». و قد استدلّ بهذه الرواية كلا الطرفين و يجري فيها احتمالات:

أحدها: أن يكون «مقدار الدرهم» خبراً ليكون و اسمه الضمير الراجع إلى نقط الدم و يكون «مجتمعاً» حالًا و هذا يجري فيه احتمالان أيضاً أحدهما أن يكون حالًا من الدم الذي هو الاسم، فالمعنى حينئذٍ إلّا

أن يكون نقط الدم مجتمعاً مقدار الدرهم فيغسله .. فيصير مفاده انّ البلوغ إلى مقدار الدرهم لا بدّ و أن يلاحظ على الاجتماع فالملاك مجموع الوجودات لا كلّ وجود على حياله و استقلاله، و أمّا ما أفاده بعض الأعلام من انّه على هذا التقدير تكون النتيجة عدم العبرة بالعدم المتفرّق و إن كان بقدر الدرهم لأنّ المعنى حينئذٍ إلّا أن يكون الدم مقدار الدرهم حال كونه أي الدم مجتمعاً فيرد عليه انّ ما هو اسم ليكون ليس هو الدم بل نقط الدم المفروض في السؤال و وصف الاجتماع له لا بدّ و أن يكون تقديرياً بمعنى انّ النقط على فرض الاجتماع يكون مقدار الدرهم فالموصوف لهذا الوصف انّما هو النقط لا الدم. و من الواضح انّه لا يعقل وصف الاجتماع للنقط إلّا على سبيل التقدير و الفرض.

و الاحتمال الثاني أن يكون حالًا من الخبر و هو مقدار الدرهم و المعنى

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 455

..........

______________________________

إلّا أن يكون نقط الدم مقدار الدرهم حال كون مقداره مجتمعاً و نتيجته هي نتيجة الاحتمال الأوّل من دون فرق.

ثانيها: انّ «مقدار الدرهم» خبراً ليكون كما في الاحتمال الأوّل و يكون «مجتمعاً» خبراً بعد خبر و يصير مفاد الجملة الاستثنائية حينئذٍ انّه يعتبر في وجوب الغسل و لزوم الإعادة أمران:

أحدهما: كون الدم مقدار الدرهم. ثانيهما: كونه مجتمعاً، فالدم المشتمل على هذين الأمرين لا يكون معفوّاً عنه و مع انتفاء أحد الأمرين بحيث لم يكن الدم مقدار الدرهم أو كان و لكن لم يكن مجتمعاً لا يترتّب عليه وجوب الغسل و لزوم الإعادة.

ثالثها: أن يكون مقدار الدرهم

اسماً ليكون و مجتمعاً خبراً و مفاده حينئذٍ أيضاً مدخلية الاجتماع و عدم كفاية بلوغ المجموع كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الظاهر و المتفاهم عند العرف من الرواية هو الاحتمال الأوّل و هو كون «مجتمعاً» حالًا من الضمير الراجع إلى نقط الدم الذي يكون اسماً له و قد عرفت انّ مقتضاها حينئذٍ لزوم لحاظ التقدير في فرض الاجتماع و انّ الدم على فرض الاجتماع إذا كان مقدار الدرهم لا يكون معفوّاً عنه.

و الوجه في ظهور هذا الاحتمال انّه بناءً على الاحتمال الثالث يلزم عدم الارتباط بين الجملة الاستثنائية و بين ما قبلها فانّ اجتماع مقدار الدرهم المتحقّق مع غير مورد السؤال كيف يكون له مدخلية في حكم مورده كما انّه بناء على الاحتمال الثاني يلزم أن يكون الاستثناء منقطعاً لأنّ المفروض في مورد السؤال هو النقط الذي يكون ملازماً مع التفرق و عدم الاجتماع فالحمل على الاجتماع الفعلي لا يكاد ينطبق مع مورد السؤال و هذا بخلاف المعنى الذي استظهرناه فانّ فرض النقط و التوصيف بالاجتماع دليل على كون المراد هو الاجتماع التقديري و انّه لا بدّ في العفو عدم بلوغ الدم مقدار الدرهم و لو في فرض الاجتماع. فانقدح انّ مفاد

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 456

..........

______________________________

الرواية مطابق لما في المتن.

و منها: مرسلة جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه (عليهما السّلام) انّهما قالا: لا بأس أن يصلّي الرجل في الثوب و فيه الدم متفرّقاً شبه النضح و إن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدرهم. «1» و يجري فيه الاحتمالان الأوّلان من الاحتمالات

الثلاثة الجارية في الرواية المتقدّمة و الظاهر أيضاً هو الاحتمال الأوّل لعين ما ذكر هناك.

و منها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا و إن كثر فلا بأس أيضاً بشبهه من الرعاف ينضحه و لا يغسله. «2» و ربّما يقال بأنّها تدلّ على انّ الرعاف إذا كان نقطاً و شبيهاً بدم البراغيث لا يمنع ذلك من الصلاة مطلقاً سواء كان النقط على تقدير الاجتماع بمقدار الدرهم أم لم يكن كذلك فمقتضاها انّ الدم المتفرّق لا يكون مانعاً و لو كان على تقدير الاجتماع بمقدار الدرهم.

و أُجيب عنه بأنّ الرواية غير شاملة لما إذا كان النقط على تقدير الاجتماع بمقدار الدرهم لأنّ دم البرغوث لا يكون غالباً بمقدار الدرهم و لو مجتمعاً فمشابهه لا بدّ أن يكون كذلك و إلّا يخرج عن المشابهة فتدبّر.

أقول: يخطر بالبال في الرواية احتمال آخر و هو أن يكون قوله (عليه السّلام): «ينضحه» أمراً استحبابياً بالنضح أي نضح الماء لا تتمة للرعاف و جزء للمخبر به و يؤيّده عطف قوله (عليه السّلام): و لا يغسله فانّ الظاهر كونه عطفاً على ينضحه لا على قوله (عليه السّلام): فلا بأس، و على ما ذكرنا فالظاهر انّ قوله: بشبهه، كانت بشبهة بمعنى الاشتباه

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 4.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 457

..........

______________________________

لا المشابهة و يؤيّده الأمر بالنضح في الروايات الكثيرة في موارد اشتباه النجاسة و عدم ثبوتها. و على ما ذكرنا فالرواية أجنبية عن المقام.

ثمّ إنّه على تقدير كون معنى

الرواية ما ذكروه و كان مقتضى إطلاقها العفو عن الدم المتفرّق و لو بلغ مقدار الدرهم في فرض الاجتماع يتحقّق التعارض بينها و بين صحيحة محمد بن مسلم، قال: قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ و أنا في الصلاة؟ قال: إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه و صلِّ في غيره و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك و لا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم و ما كان أقلّ من ذلك فليس بشي ء رأيته قبل أو لم تره، و إذا كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله و صلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه. «1» لأنّ مقتضى إطلاقها وجوب الإعادة إذا كان الدم أكثر من مقدار الدرهم من دون فرق بين ما إذا كان مجتمعاً أو متفرّقاً ففي الدم المتفرّق يتحقّق التعارض و مقتضى القاعدة بعد التساقط الرجوع إلى عموم دليل مانعية الدم أو النجاسة في الصلاة.

هذا و يمكن أن يقال بأنّ رواية الحلبي لا تكون ناظرة إلى الدم المتفرّق الذي هو محلّ البحث في المقام بل إلى خصوص ما كان بصورة النضح و شبهه فتدلّ على العفو عنه مطلقاً و لعلّه منشأ ما قوّاه في المتن من ثبوت العفو عن الدم شبه النضح مطلقاً من دون فرق بين ما إذا كان في فرض الاجتماع بمقدار الدرهم أو لم يكن و يؤيّده انّه في هذه الصورة يكون التقدير في كمال الصعوبة كما لا يخفى.

بقي في هذا الفرض شي ء و هو انّه لو كان للمصلّي أزيد من ثوب واحد كما هو المتداول في هذه الأزمنة و كان الدم في واحد من الثوبين مثلًا

أقلّ من مقدار الدرهم و لكن كان المجموع بقدره أو أزيد فهل يكون معفوّاً عنه أو لا؟ فيه وجهان اختار أوّلهما بعض الأعلام نظراً إلى انّ الأخبار الواردة في المسألة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب العشرون ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 458

..........

______________________________

انّما يكون موردها الثوب و مقتضاها انّ الدم الكائن فيه إذا كان بمقدار الدرهم فما زاد أو متفرّقاً تجب إزالته و إذا كان أقلّ من ذلك فهو معفوّ عنه فإذا فرضنا وجوده في كلّ واحد من الثوبين فهو موضوع مستقلّ للعفو و تشمله أدلّته إذ يصدق انّه ثوب و الدم فيه أقلّ من الدرهم و كذلك الحال في الثوب الثاني و الثالث و هكذا و لا دليل على انّ مجموع ما في الثوبين إذا كان بقدر الدرهم يكون مانعاً عن الصلاة.

و الظاهر هو الوجه الثاني و ذلك لأنّ المستفاد من دليل العفو انّ هذا المقدار من النجاسة الدمية الكائنة في لباس المصلّي أو ثوبه لا يمنع عن صلاته فالملاك هو تحقّق هذا المقدار فيما له إضافة إلى المصلّي و يوجب الإسناد إليه كما سنتعرّض له في بحث اعتبار الطهارة في لباس المصلّي و بدنه من انّ المستفاد من بعض الروايات الصحيحة انّ الطهارة المعتبرة هو طهارة المصلّي و إنّ طهارة الثوب من مراتب طهارته و عليه فدليل العفو مفاده عدم مانعية هذا المقدار فيما له إضافة إلى المصلّي من البدن أو اللباس و اللازم ملاحظته بالنسبة إلى المجموع، و العجب منه حيث يصرّح في ذيل كلامه بالفرق بين البدن و الثوب و بين الثياب المتعدّدة مع انّه من الواضح عدم الفرق من هذه الجهة أصلًا خصوصاً

بعد عدم تعرّض دليل العفو لحكم البدن و استفادة حكمه منه بمعونة إلغاء الخصوصية و عدم ثبوتها على ما هو المتفاهم عند العرف فتدبّر.

الفرض الثاني: فيما لو تفشّي الدم من أحد جانبي الثوب إلى الآخر و قد حكم فيه في المتن بأنّه دم واحد كما هو المنسوب إلى الأشهر و عن الذكرى و البيان انّه اثنان و ليس المراد من كونه اثنين هو تعدّد الوجود لعدم كون الدم من الاعراض بل من الجواهر و لها أبعاد ثلاثة من الطول و العرض و العمق فالتفشي لا يوجب تعدّد الوجوب و ثبوت الدمين بل المراد انّ ظاهر النصوص ملاحظة السطح الظاهر المرئي فإذا تفشّي كان له سطحان ظاهران، فاللازم ملاحظة المجموع في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 459

[مسألة 3 لو اشتبه الدم الذي يكون أقلّ من الدرهم انّه من المستثنيات]

مسألة 3 لو اشتبه الدم الذي يكون أقلّ من الدرهم انّه من المستثنيات كالدماء الثلاثة أو لا حكم بالعفو عنه حتّى يعلم انّه منها، و لو بان بعد ذلك انّه منها فهو من الجاهل بالنجاسة على إشكال و إن لا يخلو من وجه. و لو علم انّه من غيرها و شكّ في انّه أقلّ من الدراهم أم لا فالأقوى العفو عنه إلّا إذا كان مسبوقاً بكونه أكثر من مقدار العفو و شكّ في صيرورته بمقداره (1).

______________________________

مقام التقدير و لكن هذا الاستظهار في غير محلّه خصوصاً بالإضافة إلى الثوب الرقيق. نعم يمكن أن يقال في الثوب الغليظ بثبوت التعدّد العرفي و كون كلّ واحد من الدمين مستقلا فاللازم حينئذٍ ملاحظة المجموع و لكن الظاهر انّ الغلظة أيضاً لا يوجب التعدّد و إن كان الاحتياط فيه ممّا لا ينبغي تركه. نعم في مثل الظهارة

و البطانة الظاهر هو التعدّد كما انّه إذا تفشي من أحد الثوبين و وصل إلى الثوب الآخر فإنّه لا إشكال في ثبوت التعدّد و قد عرفت من بعض الأعلام انّ دم كل ثوب يكون الملحوظ في التقدير لا دم مجموع الأثواب و مرّ ما فيه أيضاً.

(1) في هذه المسألة فرعان:

الفرع الأوّل: ما إذا علم كون الدم أقلّ من الدرهم و شكّ في انّه من المستثنيات كالدماء الثلاثة أم لا و قد حكم فيه في المتن بالعفو ما دام كونه مشكوكاً و حكى ذلك عن الدروس و الموجز و شرحه و غيرها بل قيل إنّ عليه بناء الفقهاء و ما يمكن أن يكون وجهاً له أحد أُمور:

الأوّل: انّه من موارد التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص فانّ عموم دليل العفو عمّا دون الدرهم قد خرج منه مثل دم الحيض و الدم المفروض يحتمل أن يكون دم الحيض فيتمسّك مع الشكّ بالعموم و هذا الأمر و إن كان يحتمل أن يكون مستنداً لمثل صاحب العروة ممّن يجوز التمسّك المزبور إلّا انّه حيث كان مقتضى التحقيق عدم الجواز فلا يصلح للاستناد إليه.

الثاني: ما اختاره المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) من استصحاب جواز الصلاة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 460

..........

______________________________

في الثوب لأنّ الصلاة فيه قبل أن يطرأ عليه الدم المردّد كانت جائزة يقيناً و مقتضى الاستصحاب بقاء الثوب على ما كان عليه من جواز الصلاة فيه.

و أورد عليه بأنّ جواز الصلاة في الثوب قبل أن يطرأ عليه الدم المردّد انّما كان مستنداً إلى طهارته و هي قد ارتفعت لتنجّس الثوب على الفرض و لا حالة سابقة لجواز الصلاة في الثوب المتنجّس حتّى تستصحبه.

و

يدفعه انّ ارتفاع الطهارة لا يستلزم ارتفاع الجواز لاحتمال كونه دماً معفوّاً عنه و وصف الطهارة الزائل قطعاً لا يوجب الخلل في اتّحاد القضية المتيقّنة و المشكوكة المعتبر في جريان الاستصحاب فانّ هذا الثوب بعينه كانت الصلاة فيه جائزة و الآن تكون مشكوكة فلا مانع من الاستصحاب.

نعم يمكن الإيراد عليه بناءً على كون النجاسة مانعاً لا كون الطهارة شرطاً بأنّ الموضوع للحكم الشرعي و هي المانعية هو الدم و ليس للدم المردّد في المقام حالة سابقة متيقّنة من جهة المانعية و عدمها و استصحاب عدم وجود المانع في الثوب لا يثبت وصف عدم المانعية للدم كما لا يخفى.

الثالث: ما اختاره القائلون بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية نظراً إلى انّ الدم قبل أن يتحقّق في الخارج كان معدوماً يقيناً و غير متّصف بالحيض كذلك و بعد تبدّله إلى الوجود و زوال العدم عنه يشكّ في عروض الاتّصاف بالحيض له فيبنى على عدم تحقّقه بالاستصحاب لأنّ الاتّصاف أمر حادث مسبوق بالعدم و الأصل بقائه بحاله فهو دم أقل من مقدار الدرهم بالوجدان و ليس بدم الحيض بالاستصحاب فبذلك يحرز دخوله تحت العموم.

و الجواب: ما حقّقناه في محلّه من عدم جريان هذا النحو من الاستصحاب و انّه لا يجوز إبقاء القضية السالبة المتيقّنة المنتفية بانتفاء الموضوع و استفادة السالبة بانتفاء المحمول المشكوكة كما في استصحاب عدم قرشية المرأة و عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 461

..........

______________________________

قابلية الحيوان للتذكية و نحوهما فهذا الأمر غير صحيح.

الرابع: إنّ هذا المقام من صغريات مسألة اللباس المشكوك فيه و قد تكلّمنا فيه مفصّلًا و اخترنا الجواز لجريان أصالة البراءة العقلية بل النقلية و أصالة الحلية على

بعض التقريبات و هذا هو العمدة في وجه الجواز في المقام و معه لا يبقى مجال لقاعدة الاشتغال بوجه.

ثمّ إنّه لو بان بعد ذلك انّ الدم المردّد كان غير معفوّ عنه و انّه دم الحيض مثلًا فيمكن أن يقال بأنّه من موارد الجهل بالنجاسة و انّه لا يجب عليه الإعادة و القضاء نظراً إلى انّ الجهل بالنجاسة إنّما يوجب الاجزاء من جهة مانعيتها بمعنى انّ مانعية النجاسة انّما هي مع العلم بالنجاسة و إحرازها، و أمّا في صورة الجهل فلا يكون هناك مانعية من هذه الجهة و المفروض في المقام احتمال كون الدم معفوّاً عنه غير مانع من تحقّق الصلاة و يمكن أن يقال بالعدم نظراً إلى انّ المجهول في المقام هو كونه معفوّاً عنه بعد الفراغ عن أصل النجاسة و إحرازها و لا دليل على إجراء حكم الجهل بالنجاسة على الجهل بالمعفوية كما لا يخفى.

الفرع الثاني: لو شكّ في كون الدم غير المستثنى أقلّ من الدرهم حتّى يكون معفوّاً عنه أم لا حتّى لا يكون كذلك و يجري فيه الوجه الرابع من الوجوه المتقدّمة في الفرع السابق و كان ذلك الوجه هي العمدة في الحكم بالعفو هناك و هكذا في المقام.

و لكنّه ربّما يقال و القائل هو بعض الأعلام بأنّ العفو و عدمه في مورد الكلام يبتنيان على ملاحظة انّ الدم المانع هل يكون مقيّداً بعنوان وجودي و هو كونه بمقدار الدرهم فما زاد أو بعنوان عدمي و هو عدم كونه أقل من الدرهم، فعلى الأوّل يجري استصحاب عدم كون الدم بقدر الدرهم فما زاد لجريان استصحاب العدم الأزلي فهو دم بالوجدان و ليس بمقدار الدرهم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات

و أحكامها، ص: 462

..........

______________________________

بالاستصحاب فيدخل بذلك تحت العموم و يعفى عنه في الصلاة.

و على الثاني مقتضى الاستصحاب الجاري في العدم الأزلي عدم اتّصافه بالقلّة فيدخل تحت العموم و يكون مانعاً تجب إزالته و الأخبار الواردة في المقام و إن كانت مختلفة حيث إنّه يستفاد من بعضها انّ المانع هو الدم بمقدار الدرهم فما زاد كما في رواية الجعفي «و إن كان أكثر من قدر الدرهم» و يستفاد من بعضها الآخر انّ المانع هو الدم الذي لا يكون أقلّ من قدر الدرهم كما في رواية محمد بن مسلم «و ما كان أقلّ من ذل فليس بشي ء» و رواية الجعفي في قوله «إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة إلّا انّ المستفاد من كلماتهم هو الأخير حيث ذكروا: انّ ما دون الدرهم يعفى عنه، و عليه فيكون المانع هو الدم المقيّد بأن لا يكون أقلّ من ذلك و هو وصف عدمي و هذا غير بعيد.

و لكن قد عرفت عدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي بهذه الكيفية لعدم كون الاتصاف وجودياً كان أو عدميا له حالة سابقة متيقّنة لأنّ ثبوت شي ء وجودي أو عدمي لشي ء فرع ثبوت المثبت له و السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع تغاير المنتفية بانتفاء المحمول و لا مجال لإبقاء الاولى و إثبات الثانية بوجه.

ثمّ إنّه أفاد في «المستمسك» انّه على تقدير جريان هذا الاستصحاب لا مجال له في المقام لأنّ زيادة الدم ليست من قبيل عوارض الوجود المسبوقة بالعدم الأزلي بل هي منتزعة من نفس تكثّر حصص الماهية فهذه الكثرة كثرة قبل وجودها و بعده لا انّها قبل الوجود لا كثرة و بعد الوجود صارت كثرة.

أقول لا تنبغي المناقشة في انّ الكثرة

وصف إضافي يحتاج إلى موضوع و قبل وجود الماهية و تحقّقها لا يكون هناك طرف الإضافة حتّى يتحقّق هذا الوصف و لا مجال لدعوى كونها من لوازم الماهية كالزوجية بالإضافة إلى الأربعة فيمكن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 463

[مسألة 4 المتنجّس بالدم ليس كالدم في العفو عنه إذا كان أقلّ من الدرهم]

مسألة 4 المتنجّس بالدم ليس كالدم في العفو عنه إذا كان أقلّ من الدرهم، و لكن الدم الأقلّ إذا أزيل عينه يبقى حكمه (1).

______________________________

أن يقال على تقدير جريان الاستصحاب المذكور بأنّه قبل الوجود لا وجود و لا كثرة و بعد الوجود تكون الكثرة مشكوكة يستصحب عدمها.

و كيف كان فقد عرفت انّ مقتضى التحقيق في هذا الفرع أيضاً هو العفو إلّا أن يكون الدم مسبوقاً بالزيادة المتيقّنة فتستصحب زيادتها و يحكم بثبوت المانع و عدم العفو كما أُفيد في المتن.

(1) امّا عدم كون المتنجّس بالدم كالدم كما في المتن، و عن المنتهي و البيان و بعض آخر فلاختصاص الأدلّة بالدم و من الظاهر انّ المتنجّس بالدم لا يكون دماً. نعم قد يقال كما عن الذكرى و الروض و المعالم و المدارك بأنّه كالدم لأنّ الفرع لا يزيد على أصله و المتنجّس بالدم انّما تستند نجاسته إليه فإذا لم يكن المستند إليه مقتضياً للبطلان فكيف يقتضيه المستند إليه و لكن هذه القواعد الاستحسانية خارجة عن الأدلّة التي يرجع إليها في الأحكام التعبّدية فالأقوى ما في المتن.

و أمّا الدم الأقلّ الذي أُزيلت عينه فالظاهر كما في المتن و جمع من الكتب بقاء حكمه الذي هو العفو و عدم وجوب الإزالة للصلاة و ما يمكن أن يكون وجهاً له أحد أُمور:

الأوّل: استصحاب العفو الثابت حال بقاء العين و عدم زوالها.

و أورد عليه بأنّه

من الاستصحاب التعليقي الذي هو عبارة عن انّه لو وقعت الصلاة فيه حال بقاء العين كانت صحيحة جائزة و الآن كما كان.

و الجواب عدم كونه من الاستصحاب المذكور لأنّ المستصحب هو عدم مانعية الدم بعد زوال عينه فكان الدم في السابق غير مانع و الآن كما كان و زوال العين لا يوجب انتفاء الموضوع و يمكن أن يكون المستصحب عدم مانعية الثوب المشتمل على الدم من الصلاة فيه و انّه الآن كما كان، و من الظاهر انّ ثبوت المانعية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 464

..........

______________________________

و عدمها لا يتوقّف على تحقّق الصلاة و وجودها كيف و المانع يمنع عن تحقّقها فكيف يتوقّف على وجودها. نعم يمكن أن يقال: إنّ المانعية و عدمها وصفان للدم لا للثوب و من المعلوم انّ الدم بعد زوال عينه لا يكون باقياً عرفاً و بقاء الموضوع المعتبر في الاستصحاب لا بدّ و أن يكون متحقّقاً بنظر العرف و عليه فلا يبقى مجال لغير الاستصحاب التعليقي فتدبّر.

الثاني: الأولوية القطعية عند العرف نظراً إلى انّه لا يكاد يشكّ في انّ الدم مع بقاء عينه إذا لم يكن مانعاً عن الصلاة فبعد زواله لا يكون مانعاً بطريق أولى لوضوح انّ أدلّة العفو لا دلالة لها عرفاً على شرطية وجود الدم في الحكم بصحّة الصلاة فإنّها وردت تخصيصاً في أدلّة المانعية فتدلّ على عدم مانعية الدم الأقل لا على شرطية وجوده فإذاً فالأولوية القطعية ثابتة.

و يمكن الإيراد عليه بعدم وضوح الأولوية بعد ما عرفت في المتنجّس بالدم من انّه لا سبيل في الأحكام التعبّدية إلى غير ما هو المتفاهم من ظواهر الأدلّة و المفروض في المقام انّ الدم

قبل زوال العين كان دماً معفواً عنه لكونه أقلّ من مقدار الدرهم على ما هو المفروض و الآن ليس في البين دم بل متنجّس بالدم و مجرّد ثبوت الدم في السابق لا يوجب الفرق.

و بعبارة اخرى الفرق بين المقام و بين الفرض السابق و هو المتنجّس بالدم ليس إلّا في مجرّد وجود الدم في السابق هنا دونه و هل هذا يصير فارقاً بين الفرضين و موجباً للحكم بالعفو هنا دونه و من الظاهر انّ مرجع الفرق إلى مدخلية وجود الدم في السابق في الحكم بالعفو و لا يمكن الالتزام به.

الثالث: إطلاق بعض أدلّة العفو الشامل لما إذا زالت العين أيضاً فإنّها على قسمين لأنّ منها ما فرض انّ الثوب مشتمل على وجود الدم حال الصلاة و هذا القسم خارج عن مورد الاستدلال.

و منها: ما فرض اشتمال الثوب على الدم في مدّة قبل الصلاة حتّى انّه نسيه فصلّى كما في صحيحة ابن أبي يعفور «عن الرجل يكون في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 465

[الثالث: كلّ ما لا تتمّ الصلاة فيه منفرداً كالتكة و الجورب و نحوهما]

الثالث: كلّ ما لا تتمّ الصلاة فيه منفرداً كالتكة و الجورب و نحوهما فإنّه معفو عنه لو كان متنجساً و لو بنجاسة من غير مأكول اللحم، نعم لا يعفى عمّا كان متّخذاً من النجس كجزء ميتة أو شعر كلب أو خنزير أو كافر (1).

______________________________

ثوبه نقط الدم فينسى أن يغسله فيصلّي ..» فإنّه قد فرض في مورد السؤال وجود النقط في الثوب قبل الصلاة و لم يستفصل الإمام (عليه السّلام) في الجواب بين بقاء العين حال الصلاة و عدمه و ترك الاستفصال دليل العموم على انّ مقتضى الطبع زوال العين باستمرار الزمان و لو ببعضها بل

ظاهر الصحيحة زوالها بأجمعها لظهورها في انّ النقط انّما كانت في ثوبه بمدّة قبل الصلاة حتّى نسيها.

و هذا الوجه يمكن الاعتماد عليه و إن أمكن أن يقال إنّ ظاهر الصحيحة وجود النقط من دون زوال العين خصوصاً إذا كان الضمير في قوله «يغسله» أو «فيغسله» راجعاً إلى نقط الدم لا إلى الثوب الذي يكون النقط موجوداً فيه و خصوصاً مع استثناء صورة كون المقدار درهماً مجتمعاً فانّ احتمال شمول صورة بقاء اللون و ملاحظته في التقدير دون بقاء العين في غاية البعد و مع ذلك فيقوى في النظر عدم كون زوال العين مغيّراً للحكم و إن كان الاحتياط لا ينبغي أن يُترك.

(1) العفو في الصلاة عمّا لا تتمّ فيه الصلاة منفرداً في الجملة ممّا لا خلاف فيه بل ادّعى عليه الإجماع صريحاً و ظاهراً في كلمات غير واحد من الأصحاب و يدلّ عليه النصوص المستفيضة و قد تعرّضنا لأصل المسألة في كتاب الصلاة في شرح المسألة الثامنة من مسائل الستر و الساتر فراجع، و الذي ينبغي التعرّض له هنا عدم ثبوت العفو فيما إذا كان متّخذاً من الميتة أو من نجس العين كالكلب و الخنزير.

امّا إذا كان متّخذاً من الميتة فلأنّ مورد النصوص الدالّة على العفو هو المتنجّس دون النجس و ذلك مثل موثقة زرارة عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: كلّ ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشي ء مثل القلنسوة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 466

..........

______________________________

و التكة و الجورب. «1» و روايته الأُخرى قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّ قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثمّ صلّيت، فقال:

لا بأس «2». فإنّ عدم شمولهما لما إذا كان ما لا تتمّ متّخذاً من النجس بالذات واضح و لا دليل على التعدّي. هذا مضافاً إلى الروايات الواردة في المنع عن الصلاة في الخفّ إذا كان من الميتة، و في السيف إذا كان فيه الميتة، و قد ورد في صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الميتة قال: لا تصلِّ في شي ء منه و لا شسع. «3» نعم في مقابل ما ذكر روايتان:

إحداهما: رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكة الإبريسم و القلنسوة و الخف و الزنار يكون في السراويل و يصلّى فيه «4». لظهورها في انّ الاتصاف بعدم جواز الصلاة فيه وحده يوجب رفع المانعية مطلقاً سواء كانت لأجل كونه متّخذاً من الحرير و الإبريسم أو كانت لأجل كونه مأخوذاً من الميتة كما هو مقتضى إطلاق نفي البأس عن الصلاة في الخف أو لأجل عروض النجاسة و حصول التنجّس أو لغيرها من الجهات.

ثانيتهما: موثقة إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن لباس الجلود و الخفاف و النعال و الصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلّين. فقال: امّا النعال و الخفاف فلا بأس بهما. «5» فإنّ ترك الاستفصال بين ما إذا كانت النعال

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الثلاثون ح 1.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الثلاثون ح 3.

(3) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الأول ح 2.

(4) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الرابع عشر ح 2.

(5) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الثامن و الثلاثون ح 3.

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 467

..........

______________________________

و الخفاف نجسة بالعرض و بين ما إذا كانت نجسة بالذات دليل العموم بل الظاهر و ورود الرواية سؤالًا و جواباً في خصوص الثاني لأنّ تخصيص مورد السؤال بما يكون من جنس الجلد و تقييده بما إذا لم يكن من أرض المصلّين ظاهر في كون محطّ السؤال حيثية النجاسة الذاتية المحتملة الثابتة لأجل كونها ميتة فالتفصيل في الجواب بين اللباس و بين النعال و الخفاف اللذين لا تتمّ الصلاة فيهما منفرداً دليل على ان ما لا تتمّ إذا كانت ميتة أيضاً لا مانع من الصلاة فيه و احتمال شمول السؤال للنجاسة العرضية من جهة انّ عملها في أرض الكفّار التي هي مقابل أرض المصلّين الظاهرة في أرض المسلمين يلازم غالباً نجاستها عرضاً لأجل الملاقاة مع أيديهم و مع الآلات الملاقية لها في غاية البعد.

لكن عرفت انّ في مقابلهما صحيحة ابن أبي عمير المتقدّمة الظاهرة في عدم جواز الصلاة في جزء من أجزاء الميتة بوجه و كذا تخالفهما صحيحة محمّد ابن أبي نصر عن الرضا (عليه السّلام) قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف، لا يدري أذكي هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه و هو لا يدري، أ يُصلّي فيه؟ قال: نعم أنا أشتري الخفّ من السوق و يصنع لي و أُصلّي فيه و ليس عليكم المسألة «1». حيث تدلّ على انّ الوجه في جواز الصلاة في الخف المشكوك هو اشترائه من سوق المسلمين الذي هو امارة على التذكية و على عدم وجوب السؤال و انّه لو سأل فظهر كونه غير مذكّى لا تجوز الصلاة فيه. و من الواضح انّه لو كان

الخف من الميتة ممّا تجوز الصلاة فيه لأجل كونه ممّا لا تتمّ لما كان لذلك وجه أصلًا فلا فرق بين الاشتراء من سوق المسلمين و بين غيره و كذا بين المسألة و عدمها كما لا يخفى فقد تحقّق التعارض في بادئ النظر بين هاتين الصحيحتين و بين الروايتين المتقدّمتين و لكنّه عند التأمّل يظهر انّه لا معارضة في البين و ذلك لأنّ رواية الحلبي دلالتها

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 468

..........

______________________________

على الجواز انّما تكون بالإطلاق و مقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد أن يقيّد بالمتنجّس و يحمل على خصوصه هذا مع انّه ربّما يناقش في سندها أيضاً باعتبار اشتماله على أحمد بن هلال المرمي بالغلوّ تارة و بالنصب اخرى.

و أمّا الموثقة فربّما يقال كما مرّت الإشارة إليه بأنّ دلالتها على الجواز انّما هي بالإطلاق و لكن قد عرفت ظهورها في خصوص بيان حكم الميتة المحتملة بل ربّما يقال بصراحتها في ذلك نظراً إلى انّ مقتضى الجواب التفصيل بين النعال و الخفاف و بين لباس الجلود بالترخيص فيهما دونها و لو كان النظر إلى النجاسة العرضية أيضاً لما كان وجه لهذا التفصيل لأنّه مع الشكّ في النجاسة الذي هو مفروض السؤال يجوز الصلاة في جميع فروض السؤال لجريان قاعدة الطهارة فيها جميعاً فالتفصيل أوضح قرينة على انّ السؤال انّما كان من جهة الشكّ في التذكية الموجب للحكم بعدمها ما لم يكن هناك أمارة عليها كما لا يخفى و مع ذلك فكيف يمكن حمل الموثقة على النجاسة العرضية.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، در يك

جلد، مؤلف، قم - ايران، اول، 1409 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها؛ ص: 468

و قد يقال و القائل بعض الأعلام باختلاف مورد الموثقة مع مورد صحيحة البزنطي لأنّ الموثقة إنّما سيقت بظاهرها لبيان جواز الصلاة فيما شكّ في تذكيته إذا لم تتمّ فيه الصلاة فلا تنافي عدم جوازها فيما أُحرز أنّه ميتة و غير مذكّى لأنّ غير المذكّى و إن كان بهذا العنوان مأخوذاً في موضوع الحكم بعدم جواز الصلاة فيه إلّا انّ ذلك فيما تتمّ فيه الصلاة و مع الشكّ في التذكية يجري استصحاب عدمها و يحكم ببطلان الصلاة فيه، و أمّا ما لا تتمّ فلم يؤخذ في موضوع الحكم بعدم جواز الصلاة فيه إلّا كونه ميتة الذي هو عنوان وجودي و مع الشكّ فلا مانع من الحكم بصحّة الصلاة فيه كما هو مفاد الموثقة لأنّ استصحاب عدم التذكية لا يثبت به عنوان الميتة و إن كان مصداقهما حقيقة شيئاً واحداً.

و يرد عليه ما عرفت من ظهور صحيحة البزنطي في كون الامارة على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 469

..........

______________________________

التذكية و هو الاشتراء من السوق الظاهر في سوق المسلمين موجبة لجواز الصلاة فيما شكّ في تذكيته مع انّه ممّا لا تتمّ فيه الصلاة فلو كان المأخوذ في الموضوع فيه عنوان الميتة لكان مجرّد الشكّ كافياً في الحكم بالجواز من دون حاجة إلى وجود الامارة على التذكية، إلّا أن يقال: إنّ ذكر السوق في السؤال و الجواب مع عدم ظهوره في خصوص سوق المسلمين انّما هو لإفادة منشأ الشكّ في التذكية و إن عدم العلم بها انّما هو لأجل اشتراء الخفّ من

السوق و طبعه يقتضي الجهل بحاله.

و يؤيّد هذا القول انّ الروايات الواردة في مشكوك التذكية ممّا لا تتمّ ليس في شي ء منها تقييد السوق بالمسلمين بلى في بعضها جعل الغاية لعدم الجواز العلم بكونه ميتة و لا بأس بنقل جملة منها فنقول:

منها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الخفاف التي تباع في السوق فقال: اشتر و صلِّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه. «1» و منها: رواية الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السّلام): اعترض السوق فأشتري خفّاً لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال: صلِّ فيه، قلت: فالنعل، قال: مثل ذلك، قلت: إنّي أُضيق من هذا، قال: أ ترغب عمّا كان أبو الحسن يفعله. «2» و منها: رواية علي بن أبي حمزة انّ رجلًا سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا عنده عن الرجل يتقلّد السيف و يصلّي فيه؟ فقال: نعم، فقال الرجل إنّ فيه الكيمخت؟ قال: و ما الكيمخت؟ قال: جلود دواب منه ما يكون ذكيا و منه ما يكون ميتة، فقال: ما علمت أنّه ميتة فلا تصلِّ فيه. «3» و منها: رواية سماعة بن مهران انّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن تقليد السيف

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 2.

(2) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 9.

(3) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 470

..........

______________________________

في الصلاة و فيه الفراء و الكيمخت فقال: لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة «1». و هذا بخلاف الروايات الواردة فيما تتمّ الظاهرة في عدم الجواز مع الشكّ في التذكية.

و بذلك يظهر الفرق بين ما تتمّ

و ما لا تتمّ من هذه الجهة و انّه يعتبر في جواز الصلاة في الأوّل مع الشكّ في التذكية إحرازها و لو بالأمارة الشرعية و لا يعتبر في جواز الصلاة في الثاني إلّا عدم العلم بكونها ميتة و الشكّ في التذكية لا يمنع عن الصحّة بوجه.

و قد انقدح ممّا ذكرنا انّ دلالة الموثقة على الجواز مع الشكّ لا تلازم الدلالة عليه مع العلم بكونه ميتة فما لا تتمّ إذا علم بكونه كذلك لا تجوز الصلاة فيه.

ثمّ إنّه على تقدير ثبوت التعارض بين الموثقة و الصحيحة و عدم إمكان الجمع بما ذكر تصل النوبة بعد التساقط إلى عموم ما دلَّ على المنع عن الصلاة في النجس و تصير النتيجة موافقة لما في المتن أيضاً، هذا كلّه بالإضافة إلى الميتة.

و أمّا بالإضافة إلى نجس العين فقد قال في «المستمسك» بعد بيان حكم الميتة: «و من هذا يظهر لك وضوح استثناء ما كان من نجس العين فإنّه مع انّه ميتة لعدم قبول نجس العين للتذكية انّه نجس أيضاً قبل الموت فأولى بالمانعية».

و أورد عليه بعدم اختصاص الكلام باجزاء الميتة بل البحث فيما يعمّ الميتة و غيرها كما إذا صنع قلنسوة من شعر الكلب و هو حي أو من شعر خنزير أو مشرك كذلك فإنّه من أجزاء نجس العين و ليس من الميتة في شي ء لأنّه من الحي بل لو فرض موت الحيوان لا يؤثر ذلك في مثل الشعر من الأجزاء التي لا تحلّها الحياة فكونه مانعاً عن الصلاة انّما هو لكونه ممّا لا يؤكل لحمه و من النجاسات الذاتية لا لأجل كونه ميتة كما هو ظاهر.

فالدليل على عدم العفو حينئذٍ هو قصور دليل العفو عمّا لا تتمّ من

الشمول

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الخمسون ح 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 471

[الرابع: ما صار من البواطن و التوابع]

الرابع: ما صار من البواطن و التوابع كالميتة التي أكلها و الخمر التي شربها، و الدم النجس الذي أدخله تحت جلده، و الخيط النجس الذي خاط به جلده فإنّ ذلك معفو عنه في الصلاة، و أمّا حمل النجس فيها فالأحوط الاجتناب عنه خصوصاً الميتة و كذا المحمول المتنجّس الذي تتمّ فيه الصلاة،

______________________________

لأجزاء نجس العين لأنّ عمدته هي موثقة زرارة المتقدّمة الظاهرة في النجاسة العرضية و قد عرفت المناقشة في سند رواية الحلبي مع انّه على تقدير تمامية السند تكون دلالتها على العفو بالإطلاق و لا محيص عن تقييده لأنّ الحيوانات النجسة بالذات من مصاديق ما لا يؤكل لحمه و هذا العنوان بنفسه جهة مستقلّة في المانعية و لا فرق فيها بين ما تتمّ و ما لا تتمّ أصلًا كما يدلّ عليه موثقة ابن بكير المعروفة التي هي عمدة الدليل في ذلك الباب و قد وقع فيها التصريح بالبطلان إذا وقعت الصلاة في شي ء من أجزائه و لو كان مثل الروث و البول و البصاق و عبّر فيها بكلمة «كلّ» الظاهرة في العموم و الشمول لجميع الأجزاء، و عليه فالموثقة تدلّ بالعموم و رواية الحلبي تدلّ بالإطلاق و لو قيل بأنّ التعبير فيها أيضاً بكلمة «كلّ» ظاهر في العموم فالتعارض بين العامين حينئذٍ نقول بعد حصول التعارض و التساقط يرجع إلى عموم ما دلّ على المنع عن الصلاة في النجس الذي كان دليل العفو على فرض تماميته مخصصاً له فتصير النتيجة أيضاً عدم ثبوت العفو في أجزاء نجس العين.

ثمّ إنّه لا منافاة بين ما ذكرنا

من استفادة البطلان من جهة غير المأكولية و بين ما أفاده الماتن دام ظلّه من التصريح بعموم العفو و لو كان متنجّساً بنجاسة غير المأكول لأنّ صيرورة غير المأكول سبباً لحصول النجاسة العرضية لما لا تتمّ لا يستلزم وجود جزء منه فيه و دليل مانعية غير المأكول انّما يكون ناظراً إلى مانعية نفس الأجزاء و لا دلالة لها على المنع فيها لو تأثّر شي ء آخر بسبب الملاقاة مع الأجزاء كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 472

و امّا ما لا تتمّ فيه الصلاة مثل السكين و الدراهم فالأقوى جواز الصلاة معه (1).

______________________________

(1) و الوجه في صحّة الصلاة في مثل الميتة و الخمر و الدم المذكورات في المتن انّها بعد الدخول في الجوف أو تحت الجلد و إن كان يصدق عليها عنوان المحمول بالنظر الدقيق إلّا انّه لا يكون عند العرف معدوداً من المحمول و لا يتحقّق عنوان الصلاة في النجس أو معه عندهم بوجه لصيرورتها تابعة للبدن و عليه فلا يبقى مجال لاحتمال كونها من المحمول المتنجّس فيترتّب عليه حكمه من البطلان على تقدير القول به فيه فيلزم عليه القي ء و الإخراج ليتمكّن من الصلاة كما حكى نظره عن بعض الفقهاء فيما إذا أكل الإنسان مالًا مغصوباً حيث أوجب عليه القي ء و الإخراج لأنّ كونه في بطنه تصرّف في مال الغير و استيلاء عليه و هو حرام فيجب عليه الإخراج مقدّمة للردّ إلى المالك.

و لكن الظاهر كما عرفت عدم كونه معدوداً من المحمول في المقام لصيرورته تابعاً للبدن كما انّه في مثال الغصب يتحقّق التلف عرفاً و مع التلف لا معنى للتصرّف فيه حتّى يحكم بحرمته و وجوب

ردّه إلى مالكه فلا مجال لوجوب القي ء و الإخراج. نعم ورد في هذا المورد رواية ربّما يستفاد منها ذلك و التحقيق في صلاحية الرواية للاستناد و عدمها في محلّه.

و أمّا الخيط النجس فإن خاط به الثوب فلا إشكال في انّه يصير جزء من اللباس لأنّ من أجزائه الخيط و عليه فلا وجه للعفو عن نجاسته و إن خاط به الجلد فقد حكم في المتن تبعاً للجواهر بعدم كونه من المحمول و بثبوت العفو فيه و لكن صرّح السيّد في «العروة» بكونه يعدّ من المحمول.

و يؤيّده انّه لا فرق ظاهراً بينه و بين العظم النجس الذي جبر به مع انّه لا خلاف ظاهراً كما عن المبسوط في عدم العفو عنه بل عن الذكرى و الدروس

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 473

..........

______________________________

الإجماع عليه. نعم لو اكتسى العظم المزبور اللحم فهو معفوّ عنه كما حكى عن بعض الكتب.

و يمكن الاستشهاد لما في المتن بأنّ الخيط بعد خياطة الجلد به يصير عرفاً تابعاً للبدن فإنّ البدن و إن لم يكن مركّباً من مثل الخيط بل له أجزاء خاصّة إلّا انّه بعد خياطة جلده بالخيط يصير الخيط جزءً له عرفاً. و إن شئت قلت: إنّه لا يتحقّق عند العرف الصلاة في النجس أو معه في هذه الصورة فتدبّر.

و أمّا المحمول ففيه فروض ثلاثة:

الأوّل: المحمول النجس و قد احتاط فيه وجوباً في المتن بالاجتناب خصوصاً إذا كان النجس من أجزاء الميتة أو نفسها و عن جماعة من أعلام الفقهاء (رض) المنع و قد استدلّ له بعدّة أخبار:

منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ بالمكان فيه العذرة فتهب

الريح فتسفي عليه من العذرة فيصيب ثوبه و رأسه يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال: نعم ينفضه و يصلّي فلا بأس «1». نظراً إلى دلالتها على المنع عن الصلاة مع حمل أجزاء العذرة في الثوب إلّا أن ينفضه.

و أورد عليه بأنّ الرواية أجنبية عمّا نحن فيه لأنّ الكلام في حمل العين النجسة في الصلاة لا في الصلاة في النجس و مورد الرواية هو الثاني لأنّ العذرة إذا وقعت على الثوب سواء نفذت في سطحه الداخل أم لم تنفذ فيه يعدّ جزء من الثوب و معه تصدق الصلاة في النجس كما إذا كان متنجساً.

و يدفعه مضافاً إلى صدق الصلاة في النجس إذا كان المحمول نجساً أيضاً كما يأتي انّ الظاهر كون العذرة في مورد السؤال يابسة غير ملتصقة بالثوب أو اللباس على نحو تعدّ جزء لهما لأنّ كلمة «النفض» ظاهرة في انّه بالتحريك تزول

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب السادس و العشرون ح 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 474

..........

______________________________

مع انّها لو كانت رطبة لا تزول بجميع أجزائها بالنفض مع انّ هبوب الريح الموجب للإصابة انّما يكون في العذرة اليابسة دون الرطبة فتدبّر. و عليه فالرواية واردة في مورد المحمول.

و منها: صحيحة عبد اللّٰه بن جعفر الحميري قال: كتبت إليه يعني أبا محمّد (عليه السّلام) يجوز للرجل أن يصلّي و معه فأرة المسك؟ فكتب: لا بأس به إذا كان ذكيا. «1» بدعوى انّ ظاهرها رجوع الضمير إلى الفأرة لا إلى المسك لأنّها مورد السؤال فتدلّ بمفهومها على انّ الفأرة إذا لم تكن ذكية ففي الصلاة معها بأس.

و أورد عليه مضافاً إلى انّ ظاهرها اعتبار ذكاة المسك لا ذكاة الفأرة في

مقابل المأخوذة من الضبي الميت بأنّه أخصّ من المدعى لاقتضائها عدم جواز حمل الميتة أو غير المذكى في الصلاة و لا يستفاد منها عدم جواز حمل مطلق العين النجسة.

و منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن الرجل يصلّي و معه دبة من جلد الحمار أو بغل؟ قال: لا يصلح أن يصلّي و هي معه إلّا أن يتخوّف عليها ذهابها فلا بأس أن يصلّي و هي معه. الحديث «2». و رواه الحميري في قرب الإسناد عن علي بن جعفر مثله. «3» و لكن رواه الشيخ (قدّس سرّه) عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السّلام) في حديث قال: و سألته عن الرجل صلّى و معه دبة من جلد حمار و عليه نعل من جلد حمار هل تجزيه صلاته أو عليه إعادة؟ قال: لا يصلح له أن يصلّي و هي معه إلّا أن يتخوّف عليها ذهاباً فلا بأس أن يصلّي و هي معه. «4» و قد استدلّ بها على عدم جواز الصلاة مع الدبة المتّخذة من الميتة مع

______________________________

(1) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الواحد و الأربعون ح 2.

(2) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الستون ح 2.

(3) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الستون ح 3.

(4) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الستون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 475

..........

______________________________

انّ الرواية بطرقها الثلاثة خالية عن التقيد بالميتة. نعم وردت في طهارة الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) مشتملة على كلمة «ميت» بعد لفظة «حمار» من دون ذكر الراوي و المروي عنه و لكنّه محمول على الاشتباه.

نعم يمكن دعوى ظهور نفس

السؤال في انّ مورده هو جلد الحمار الميّت لأنّ الحمار المذكّى لا شبهة في جواز الصلاة في أجزائه بعد كونه غير محرم الأكل فلا مجال للسؤال عنه فلا بدّ من حمل السؤال على الميّت و لكنّها مدفوعة بأنّه يمكن أن يكون الوجه فيه ما اشتهر في تلك الأزمنة من نجاسة أبوال الحمير و البغال و حرمة لحمهما كما التزم بذلك معظم العامّة. و من المعلوم انّ حرمة اللحم تمنع عن الصلاة في أجزائه مطلقاً.

هذا مضافاً إلى انّ ظهور كلمة «لا يصلح» في البطلان و الفساد ممنوع بل هي ظاهرة في الكراهة و على تقدير التسليم فغاية مفادها عدم جواز حمل الميتة في الصلاة لا مطلق النجس كما هو المدعى.

هذا و العمدة في دليل المنع انّ المستفاد من الأخبار الواردة في موارد مختلفة انّ الصلاة في النجس غير جائزة و يؤيّده رواية موسى بن أكيل عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الحديد انّه حلية أهل النار إلى أن قال: لا تجوز الصلاة في شي ء من الحديد فإنّه نجس ممسوخ. «1» فإنّ النهي عن ذلك و إن كان محمولًا على الكراهة لجواز الصلاة في الحديد و اختصاص المنع بما كان نجساً بالفعل إلّا انّ تعليلها المنع بأنّه نجس يدلّ على انّ عدم جواز الصلاة في النجس كبرى كلّية لا تختص بمورد دون مورد و كذا رواية خيران الخادم قال: كتبت إلى الرجل (عليه السّلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلّى فيه أم لا؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم صلِّ فيه فإنّ اللّٰه انّما حرّم شربها و قال بعضهم لا تصلِّ فيه، فكتب (عليه السّلام): لا تصلِّ فيه فإنّه رجس. الحديث.

«2»

______________________________

(1) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الثاني و الثلاثون ح 6.

(2) الوسائل أبواب لباس المصلى الباب الثامن و الثلاثون ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 476

..........

______________________________

نعم ربّما يقال و القائل بعض الأعلام بأنّ الصلاة في النجس لا معنى له بظاهره لأنّ الصلاة نظير الأكل و الشرب فعل من أفعال المكلّفين و للأفعال ظرفان ظرف زمان و ظرف مكان و ليست النجاسة شيئاً منهما فإسناد الظرفية إلى النجس في أمثال المقام غير صحيح على وجه الحقيقة. نعم لا بأس باسنادها إليه على وجه العناية و المجاز فيما إذا كان الفاعل لابساً للنجس بأن يكون الفاعل مظروفاً و النجس ظرفاً له، و أمّا إذا لم يكن النجس ظرفاً للمصلّي و إنّما كان موجوداً عنده و معه كما إذا كان في جيبه فإسناد الظرفية إلى النجس ليس بحقيقي و لا مجازي. نعم قد ورد في بعض الأخبار جواز الصلاة في السيف ما لم ترَ فيه دم كما انّه قد ورد في موثقة ابن بكير المعروفة: إنّ الصلاة في وبر كلّ شي ء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شي ء منه فاسدة، مع انّ السيف و البول و الروث و الألبان أُمور مقارنة للصلاة لا انّها ظرف لها و لا للفاعل و لا مناص في مثله من رفع اليد عن ظهور كلمة «في» في الظرفية و حملها على معنى «مع» و المقارنة و هذا لأجل قيام القرينة و هي عدم إمكان إبقائها على ظاهرها، و أمّا مع عدم قيامها كما في المقام فلا مقتضى لرفع اليد عن ظهور لفظة «في» في الظرفية و لازمها

عدم الانطباق على ما إذا كان المحمول نجساً لعدم تحقّق الظرفية للنجس حينئذٍ أصلًا.

و يرد عليه مضافاً إلى وضوح تحقّق الظرفية بنظر العرف مع الحمل أيضاً و ظهور عدم كون الروايتين محمولتين على خلاف ظاهرهما الذي هي الظرفية التعبير بكلمة «في» في المحمول أيضاً في بعض الروايات و هي مرسلة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) انّه قال: كلّ ما كان على الإنسان أو معه ممّا لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلّي فيه و إن كان فيه قذر مثل القلنسوة و التكة و الكمرة و النعل و الخفّين و ما أشبه ذلك «1». فإنّه مع كون المفروض في

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الثلاثون ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 477

..........

______________________________

الموضوع هو كلّ ما كان على الإنسان أو معه و من المعلوم شمول كلمة «مع» للمحمول بل اختصاصها به قد حكم بعدم البأس عن الصلاة فيه بصورة الظرفية فهي تدلّ على انّ دائرة الظرفية عامّة شاملة للمحمول و عليه فلا قصور في أدلّة المنع عن الصلاة في النجس للشمول للمحمول كما لا يخفى.

نعم يمكن أن يقال: بأنّ مرسلة ابن سنان يظهر منها جواز حمل النجس لأنّ قوله: و إن كان فيه قذر ظاهر في وجود عين النجاسة فمقتضى الرواية جواز حمل القذر، و لكن التخصيص بما لا تتمّ يظهر منه انّ المراد هو المتنجّس لا عين النجاسة فالأحوط لو لم يكن أقوى الاجتناب عن حمل النجس في الصلاة.

الفرض الثاني المحمول المتنجّس الذي تتمّ فيه الصلاة مقتضى ما ذكرنا من صدق الصلاة في النجس على المحمول أيضاً المنع كما نسب

إلى ظاهر الأكثر مع انّ مقتضى مفهوم المرسلة المتقدّمة انّه إذا كان ما مع المصلّي ما تتمّ فيه الصلاة ففيه بأس إذا كان فيه قذر كما انّه ربّما يقال و القائل سيّدنا الأستاذ البروجردي (قدّس سرّه) انّه يستفاد من إضافة الطهارة إلى المصلّي كما في قوله (عليه السّلام) في صحيحة زرارة المعروفة في باب الاستصحاب: لأنّك كنت على يقين من طهارتك انّه يعتبر في صحّة الصلاة كون المصلّي طاهراً. غاية الأمر انّ صدقه يتوقّف على طهارة بدنه و ثوبه معاً و لا يتحقّق بمجرّد طهارة بدنه فقط، و إلّا لم يصحّ الاسناد مع نجاسة الثوب و إذا كانت نجاسة الثوب موجبة لعدم كون المصلّي طاهراً فمن المعلوم انّه لا فرق في ذلك بين ما إذا كان ثوبه نجساً أو كان ما استصحبه كذلك لأنّ الوجه في صحّة هذا الإطلاق هو كون المصلّي ملابساً له بلا خصوصية للثوب أصلًا، فلو كان محموله نجساً لا يصحّ إسناد الطهارة إليه أيضاً، هذا مضافاً إلى انّ العرف إذا ألقى إليه هذا المعنى و هو اعتبار الطهارة في الثوب لا يفهم منه الاختصاص و تكون خصوصية الثوبية ملغاة بنظره.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 478

[الخامس: ثوب المربية للطفل امّاً كانت أو غيرها]

الخامس: ثوب المربية للطفل امّاً كانت أو غيرها فإنّه معفوّ عنه إن تنجّس ببوله، و الأحوط أن تغسل كلّ يوم لأوّل صلاة ابتليت بنجاسة الثوب فتصلّي معه الصلاة بطهر ثمّ صلّت فيه بقية الصلوات من غير لزوم التطهير، بل هو لا يخلو عن وجه، و لا يتعدّى من البول إلى غيره، و لا من الثوب إلى البدن، و لا من المربية إلى المربي، و لا من ذات الثوب الواحد

إلى ذات الثياب المتعدّدة مع عدم الحاجة إلى لبسهنّ جميعاً و إلّا كانت كذات الثوب الواحد (1).

______________________________

و ما أفاده (قدّس سرّه) و إن كان قابلًا للمناقشة للفرق بين الملبوس و المحمول من جهة الإضافة إلى المصلّي و الارتباط به و هو يوجب عدم إلغاء العرف خصوصية الثوبية إلّا انّه يكفي في عدم الجواز ما ذكرنا من صدق الصلاة في النجس بضميمة مفهوم المرسلة فالأحوط في هذا الفرض أيضاً لو لم يكن أقوى هو الاجتناب.

الفرض الثالث المحمول المتنجّس الذي لا تتمّ فيه الصلاة و الوجه فيه الجواز لدلالة رواية ابن سنان المتقدّمة على انّ ما مع الإنسان الظاهر في المحمول إذا كان ممّا لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه إذا كان فيه قذر و يمكن الاستدلال له أيضاً بموثقة زرارة عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: كلّ ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشي ء مثل القلنسوة و التكة و الجورب. «1» نظراً إلى انّ إطلاق نفي البأس يشمل ما أخذا كان محمولًا للمصلّي و إن كان من شأنه اللبس و لكنّه لم يتحقّق لبسه فعلًا في الصلاة بل كان محمولًا. و يمكن أن يقال: إنّ ما لا تتمّ إذا كان معفواً عنه في حال لبسه فالعفو عنه في حال حمله بطريق أولى كما لا يخفى و من المعلوم انّه لا فرق بين القلنسوة و بين مثل السكين فتدبّر.

(1) الدليل على العفو عن النجاسة في هذا المقام لا يمكن أن يكون هو الإجماع كما ربما يستظهر من صاحب الحدائق لأنّ ثبوته ممنوع أوّلًا لتوقّف جماعة

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الواحد و الثلاثون ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 479

..........

______________________________

في أصل الحكم كالأردبيلي و أصحاب المعالم و المدارك و الذخيرة، و أصالته ممنوعة ثانياً لأنّه يحتمل قويّاً أن يكون مستند المجمعين في هذا الحكم ما رواه الشيخ (قدّس سرّه) بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن يحيى المعاذي عن محمد بن خالد عن سيف بن عميرة عن أبي حفص عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سُئل عن امرأة ليس لها إلّا قميص واحد و لها مولود فيبول عليها كيف تصنع؟ قال: تغسل القميص في اليوم مرّة. «1» و الإشكال في سند الحديث باعتبار اشتماله على محمّد بن يحيى المعاذي الذي ضعفه العلّامة و استثناه القمّيون من كتاب نوادر الحكمة و باعتبار اشتماله على محمد بن خالد و هو مردّد بين الطيالسي و الأصم و كلاهما غير موثقين في الرجال و ببعض الاعتبارات الأُخر لا يقدح بعد كونه رواية منحصرة في الباب دالّة على حكم مخالف لقاعدة المنع عن الصلاة في النجس و استناد المشهور إليها في هذا الحكم و قد ثبت في محلّه انّ الاستناد المذكور جابر لضعف سند الرواية فهي من جهة السند غير قابلة للمناقشة فأصل الحكم في الجملة لا ينبغي الارتياب فيه و انّما الإشكال و الكلام في خصوصياته فنقول:

______________________________

(1) الوسائل أبواب النجاسات الباب الرابع ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 480

..........

______________________________

منها: انّ العفو هل يختص بالأُمّ أو يعمّ مطلق المربّية؟ ظاهر الرواية باعتبار قوله: و لها مولود، التعرّض للأُمّ لأنّ اللام للاختصاص و معنى اختصاص المولود بها كونه ولداً لها و هي امّه فالرواية ظاهرة في الأُمّ و لكنّه ربّما يقال بانّ

الاختصاص أعمّ من الأُمومة لصدقه في مقام التربية أيضاً، و لكنّه خلاف الظاهر لأنّ اللام ظاهرة في الاختصاص المطلق لا في مطلق الاختصاص حتّى يشمل الاختصاص في مقام التربية و لكنّه لا يبعد أن يقال بأنّ خصوصية الأُمومة ملغاة بنظر العرف فانّ الموجب للعفو على ما يستفاد عندهم هي التربية الموجبة للبول على القميص و يصعب نوعاً غسله و تحصيل الطهارة للصلاة فلا تبعد دعوى التعميم كما أفاده الماتن دام ظلّه.

و منها: انّ العفو هل يختص بما إذا كان الطفل مذكّراً كما عن الشيخ و الأكثر بل نسب إلى فهم الأصحاب أو يعمّ الأُنثى أيضاً كما نسب إلى أكثر المتأخّرين و ظاهر إطلاق المتن أيضاً؟ فيه وجهان و الظاهر هو الوجه الثاني لأنّه لا يستفاد من «المولود» ما يقابل المولودة بل ظاهره بنظر العرف هو طبيعي المولود الشامل للأُنثى أيضاً. نعم لو لم نعتمد على هذا الظهور و وصلت النوبة إلى مقام الشكّ فلا بدّ من الاقتصار على المقدار المتيقّن و هو المذكر لما عرفت من كون أصل الحكم على خلاف القاعدة.

و منها: إنّ مورد الرواية هو البول و لا يجوز التعدّي منه إلى غيره كالغائط و الدم و إلغاء الخصوصية غير ظاهر بعد كون اختصاصه بالتكرّر محتملًا لأن يكون موجباً للعفو فيختصّ الحكم بالبول.

و منها: إنّ مورد الرواية هو نجاسة القميص بالبول و لا يتعدّى عنه إلى البدن الذي تعتبر طهارته في الصلاة أيضاً لما مرّ من كون الحكم على خلاف القاعدة. نعم المراد بالقميص هو الثوب الذي تصلّي فيه المرأة فلو كان لها بدل القميص ملحفة و تنجّست ببوله يكون معفوّاً عنها لعدم استفادة خصوصية للقميص بعنوانه. نعم لو تنجّس خمارها ببوله يشكل

الحكم لعدم كون الخمار مورداً للابتلاء بالنجاسة نوعاً.

و منها: انّه هل المراد باليوم الذي يجب الغسل فيه مرّة هو النهار المقابل للّيل فاللازم وقوع الغسل في النهار أو انّ المراد به ما يشمل الليل بمعنى اليوم و الليلة؟ وجهان ربّما يقال بالأوّل، امّا لأنّ اليوم ظاهر فيه، و لا ينافيه الاكتفاء بالغسل الواحد له و لليل لأنّ ذلك كان بقرينة عدم التعرّض للّيل لا لظهور اليوم فيما يعمّه و الليل، و أمّا لإجمال اليوم الموجب لحملة على النهار لأنّه القدر المتيقّن في جواز الخروج عن القواعد العامة المقتضية لتكرار الغسل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 481

..........

______________________________

و قد جزم صاحب الجواهر (قدّس سرّه) في أوّل كلامه بأنّ المراد باليوم ما يشمل الليل و إن تأمّل فيه بعد ذلك، و للتأمّل مجال بملاحظة أنّ التنجّس الحاصل نوعاً بسبب إصابة بول الصبي إليه انّما هو في اليوم غالباً لأنّ التماسّ الحاصل لأجل التربية يقع فيه دون الليل و عليه فحمل اليوم على ما يعمّ الليل يحتاج إلى مئونة زائدة فالظاهر هو الوجه الأوّل.

و منها: انّ الظاهر انّ الأمر بالغسل ليس أمراً مولوياً تعبّدياً بحيث يترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة بل أمر إرشادي إلى شرطية الطهارة الحاصلة بسبب الغسل للصلاة كما في سائر موارد الأمر بغسل الثوب أو البدن فالغرض منه بقاء شرطية الطهارة و لو في الجملة كما يأتي البحث فيه إن شاء اللّٰه تعالى و منه يظهر انّ ما استظهره جامع المقاصد فيما حكي عنه من اعتبار كونه في وقت الصلاة لأنّ الأمر بالغسل للوجوب و لا وجوب في غير وقت الصلاة ممنوع.

و هل ظاهر الرواية الواردة في الباب انّ الغسل

المذكور ملحوظ من حيث كونه يترتّب عليه الطهارة في الجملة سواء بقيت إلى حال الصلاة أم لا أو انّ المراد شرطية الطهارة حال الصلاة بحيث وقعت الصلاة مع الطهارة؟ ربّما يقال بعد الاعتراف بأنّ الظاهر في سائر الموارد و إن كان هو الثاني إلّا انّه في المقام يكون الظاهر هو الأوّل و الفرق انّ المقام مقام تخفيف و رفع اليد عن اعتبار الطهارة.

هذا و الظاهر هو الثاني لعدم كون الرواية في مقام إلغاء اشتراط الطهارة عن صلوات المربية بالمرّة و الاكتفاء بالغسل و لو مع حصول التنجس بعدل الظاهر انّها ناظرة إلى أدلّة الاشتراط و حاكمة بالاعتبار غاية الأمر لا في جميع صلوات المربية بل في صلاة واحدة منها و الدليل على ما ذكر فهم العرف و ما يستفيده من ضمّ هذه الرواية إلى أدلّة الاشتراط و ملاحظتهما معاً، و عليه فاللّازم غسل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 482

..........

______________________________

القميص بحيث تقدر على إيقاع صلاة فيه مع الطهر. نعم لو لم نقدر على ذلك و الفرض نادر لا يبعد أن يقال بعدم لزوم الغسل أصلًا كما انّه يمكن أن يقال بلزومه تخفيفاً للنجاسة لا تحصيلًا للطهارة.

و كيف كان فالظاهر انّ الغسل المذكور انّما يكون ملحوظاً من جهة وقوع الصلاة و لو صلاة واحدة مع الطهارة الحاصلة بسببه و منه ينقدح انّ الرواية انّما تكون ناظرة إلى استثناء صلوات المربية إلّا صلاة واحدة عن أدلّة الاشتراط و لا يكون مفادها تغيير كيفية الشرطية بحيث كانت أدلّة الاشتراط متعرّضة لإفادة الشرط المقارن و هذه الرواية دالّة على الاعتبار بنحو الشرط المتقدّم فقط أو المتأخّر فقط أو كليهما بحيث كان لازم الأوّل

لزوم الغسل قبل صلاة الصبح ليتحقّق الشرط بالإضافة إلى جميع الصلوات و كان لازم الثاني لزومه بعد صلاة العشاء ليتحقّق الشرط كذلك و كان لازم الثالث لزومه بين الصلوات لذلك و ذلك لظهور عدم كون الرواية مغيرة لكيفية اشتراط الطهارة و صارفة له عن التقارن إلى التقدّم أو التأخّر أو كليهما و منه يظهر ما في «المستمسك» من وجوب تقديم الغسل على صلاة الصبح لأنّ إطلاق الشرطية يقتضي الحمل على كونها بنحو الشرط المتقدّم فيجب تقديمه على جميع صلوات اليوم لكن ذكر بعده: «لا أعرف قائلًا بذلك. نعم في الجواهر مال إلى انّه شرط على نحو الشرط المتقدّم بالنسبة إلى صلوات اليوم في الجملة، امّا بأن يراد من اليوم نفس الزمان فإذا أوقعته في زمان من اليوم يكون شرطاً في جميع الصلوات المشروعة من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الثاني أو يراد من اليوم الصلوات الخمس فإذا أوقعته قبل الصبح كان شرطاً للخمس التي آخرها العشاء و إذا أوقعته بعد الصبح كان شرطاً للخمس التي آخرها الصبح و إذا أوقعته بعد الظهر كان شرطاً للخمس التي آخرها الظهر و هكذا فهو مع التزامه بأنّه على نحو الشرط المتقدّم بالنسبة إلى تمام الخمس اللاحقة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 483

..........

______________________________

التزم بالتخيير بناء منه على انّ المراد بالخمس كلّي الخمس المنطبقة على الخمس في الصور المذكورة و غيرها».

و قد عرفت انّ الرواية لا تكون مغيّرة لكيفية الشرطية بل هي متصرّفة في أدلّة الاشتراط بإخراج ما عدا واحدة من صلوات المربية منها و الحكم ببقائه بالإضافة إلى واحدة، و مقتضى إطلاقها التخيير في إتيان أية صلاة شاءت مع الطهارة.

نعم لا

يبعد أن يقال: بأنّه لا يستفاد من الرواية الترخيص في الصلاة في النجس قبل الغسل مرّة بل غاية مفادها الترخيص فيها بعده، و عليه فاللازم غسل الثوب لأوّل صلاة ابتليت بنجاسته و الإتيان بالصلاة مع الطهارة ثمّ الإتيان ببقية الصلوات من دون غسل كما انّه لا يستفاد منها الترخيص في الإتيان بالصلاة اللاحقة مع النجاسة مع التمكّن من الإتيان بها مع الطهارة الحاصلة بالغسل مرّة فلو تمكّن من الجمع بين صلاتين أو أكثر من فرائضها بالطهارة وجب تحفّظاً على الشرط.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا من انّ الترخيص انّما هو بعد الغسل مرّة انّه لو لم تغسل ثوبها أصلًا لكان اللازم بطلان جميع الصلوات الواقعة فيه مع النجاسة و ذلك لاشتراط الطهارة في الصلاة الأُولى و كون الترخيص مقيّداً بالغسل مرّة و المفروض انّه لم يتحقّق و ليس البطلان في هذا الفرض متوقّفاً على كون الغسل الواحد شرطاً لجميع الصلوات كما ربّما يقال بل يجتمع مع ما ذكرنا.

و منها: انّه يشترط في العفو في هذا المقام امّا أن لا يكون للمربية إلّا ثوب واحد كما هو مورد الرواية حيث قال: ليس لها إلّا قميص واحد، و أمّا أن تكون محتاجة إلى لبس جميع ما عندها من الثياب فإنّه و إن لم يقع التعرّض له في الرواية إلّا انّ المتفاهم العرفي انّ المراد من قوله ليس لها إلّا قميص واحد الحاجة إلى لبس ذلك القميص و عدم التمكّن من الصلاة في غيره، فمع الاحتياج إلى لبس الجميع كأنه لا يكون لها إلّا واحد و منه يظهر الحال فيما إذا كان لها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 484

..........

______________________________

ثوب آخر لا يحتاج

إلى لبسه و لكنّه لا يجوز لها الصلاة فيه لرقّته أو نجاسته أو كونه من غير المأكول أو غير ذلك من الموانع، و أمّا مع وجود أثواب متعدّدة غير محتاجة إلى لبسها و تمكّنت من إيقاع الصلاة فيها فلا إشكال في خروجها عن موضوع العفو في الرواية.

و منها: انّه هل يلحق المربي بالمربية أم لا؟ فيه وجهان من انّ الرواية الواردة في العفو الذي هو حكم على خلاف القاعدة قد وردت في المربية و لا دليل على الإلحاق و من انّ العلّة الموجبة للعفو في المرأة هي المشقة و الحرج و هي متحقّقة في الرجل و لكن ذلك لا يوجب القطع بالاشتراك و الظنّ به لا دليل على اعتباره فالظاهر اختصاص الحكم بالمربية.

بقي الكلام في انّه ذهب جماعة كما حكى إلى إلحاق من كثر و تواتر بوله بالمربية في العفو و عدم لزوم الغسل إلّا مرّة في كل يوم و استدلّ له تارةً بالحرج و المشقّة و اخرى برواية عبد الرحيم القصير قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السّلام) في الخصي يبول فيلقى من ذلك شدّة، و يرى البلل بعد البلل، قال: يتوضّأ و ينتضح في النهار مرّة واحدة «1». و رواه الكليني عن الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد عن أحمد بن إسحاق عن سعدان بن عبد الرحمن قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السّلام) و ذكر مثله، و رواه الصدوق مرسلًا عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السّلام) مثله إلّا انّه قال ثمّ ينضح ثوبه.

أقول: امّا الحرج و المشقّة فمع تحقّقه شخصاً في مورد يوجب العفو نظراً إلى قاعدته و لكن المدعى أعمّ من ذلك، و أمّا الرواية التي ليست إلّا

رواية واحدة و الاختلاف في طريق النقل و كذا في المتن لا يوجب التعدّد بوجه فربّما يشكل في سندها من جهة انّ عبد الرحيم القصير لم يوثق في الرجال و كذا سعدان بن

______________________________

(1) الوسائل أبواب نواقض الوضوء الباب الثالث عشر ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، ص: 485

..........

______________________________

مسلم الراوي عنه، و انّ سعدان بن عبد الرحمن مجهول لعدم ذكره في الرجال و الطريق الأخير مرسل و لكنّه:

ربما يقال: إنّ رواية صفوان و ابن أبي عمير عن سعدان بن مسلم و رواية ابن أبي عمير و غيره عن عبد الرحيم القصير تدلّ على وثاقتهما و الاعتماد على روايتهما.

و أمّا من جهة الدلالة فمضافاً إلى عدم دلالتها على وجوب الغسل كل يوم بل غاية مفادها وجوب النضح و إلى انّ النظر في الرواية إلى جهة الوضوء لا الغسل يرد عليها انّه يحتمل قوياً أن يكون المراد منها وجوب التوضي عقيب البول المعلوم و استحباب النضح عقيب البلل المشتبه بين البول و غيره لعدم ظهورها في كون البلل معلوم البولية بل هو مشتبه مردّد بين البول و غيره و في صورة الاشتباه لا يجب الوضوء لعدم إحراز ناقضة و يستحب نضح الثوب من جهة احتمال نجاسته و يؤيّده استحباب النضح في موارد شبهة النجاسة كما في الأخبار الكثيرة فالرواية لا دلالة لها على حكم المقام أصلًا.

هذا تمام الكلام في أحكام النجاسات و به يتمّ هذا الجزء و قد وقع الفراغ من إتمامه بيد العبد المفتاق إلى رحمة ربه الغني محمد الموحدي اللنكراني الشهير بالفاضل ابن العلّامة الفقيه فاضل اللنكراني حشره اللّٰه مع نبيّه و أوليائه عليه و عليهم أفضل صلوات و

تحيّاته، و من اللّٰه أسأل التوفيق لإتمام باقي الأجزاء من هذا الشرح و كان ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر شعبان المعظّم من شهور سنة 1398 من الهجرة النبوية على هاجرها آلاف الثناء و التحية و السلام خير ختام.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - النجاسات و أحكامها، در يك جلد، مؤلف، قم - ايران، اول، 1409 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.